
هجوم يميني عالمي على حقوق العمّال
«تتعرّض الحرّيات الديمقراطية للعمّال لهجوم من عدد متناقص من الأشخاص يسيطرون على حصّة متزايدة وغير متكافئة من الثروة العالمية. وغالباً يتمّ تدبير هذا الانقلاب على الديمقراطية على أيدي سياسيين من اليمين المتطرّف، بدعم من مليارديرات غير منتخبين، يتحكّمون بصنع السياسات خدمة لمصالحهم الخاصة». هذه الخلاصة أوردها الأمين العام للاتحاد الدولي لنقابات العمّال، لوك تراينغل، في مقدّمة تقرير «مؤشر الحقوق النقابية العالمي لعام 2025».
يُعدّ «مؤشر الحقوق النقابية العالمي» الدراسة الدولية الشاملة الوحيدة التي ترصد حالة حقوق العمّال والحريات النقابية في 151 بلداً. يصدر هذا التقرير سنوياً منذ العام 2014، ويحذر إصدار هذا العام من أزمة عالمية متفاقمة تواجه العمّال والنقابات، خصوصاً أن الحقوق العمّالية والنقابية آخذة في التآكل بفعل صعود اليمين في الكثير من الدول مصحوباً بازدياد القمع الذي تمارسه الدولة والتضييق على التنظيم النقابي.
سواء في الولايات المتّحدة عبر تحالف دونالد ترامب وإيلون ماسك، أو في الأرجنتين من خلال التحالف بين خافيير ميلي وإدواردو أورنيكيان، يعاني العمّال من أوجه الاستبداد واللاعدالة نفسها. فقد سجّل العام 2024 تدهوراً رهيباً في الحقوق العمّالية والنقابية، إذ لم يتمكّن العمّال من الوصول إلى العدالة في 72% من البلدان، فيما سجّلت اعتداءات على حرية التعبير والتجمّع في 45% منها، وانتهك الحق في الإضراب في 87% من البلدان. لا تتوقف الانتهاكات عند هذا الحدّ، إذ سجّل التقرير إعاقة الحق في التسجيل القانوني للنقابات في 74% من البلدان، وتقييد الحق في المفاوضة الجماعية في 80% من البلدان، فيما قامت السلطات في 47% من البلدان باعتقال و/أو سجن العمّال، كما حُرِم العمال في 3 من كل 4 بلدان من حقهم في حرية التنظيم وتشكيل النقابات، وتعرّضوا للعنف في 26% من البلدان كما دفع نقابيون حياتهم ثمناً لنشاطهم في الدفاع عن حقوق العمال.
إلى ذلك، عُدّت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأسوأ عالمياً من حيث حقوق العمال، إذ تم انتهاك الحقوق في التفاوض الجماعي، وتشكيل أو الانضمام إلى نقابة، وتسجيل النقابات في جميع دول المنطقة من دون استثناء. في المقابل، سجّلت الأميركيتان أدنى متوسط تصنيف لهما منذ إطلاق المؤشر، نتيجة تقييد تسجيل النقابات في 92% من البلدان، وقيام السلطات باحتجاز العمال في 6 من كل 10 بلدان. وعلى الرغم من أن أوروبا لا تزال في المتوسط أقل المناطق قمعاً للعمال، إلا أنها تشهد تدهوراً مستمراً منذ 4 سنوات، حيث حُرم العمال في 52% من بلدان أوروبا من الوصول إلى العدالة أو تم تقييده، مقارنة بنسبة 32% في عام 2024.
النتائج صادمة حتماً، وتعكس البيئة المتزايدة العداء التي يواجهها العمّال والنقابيون في شتى أنحاء العالم، وكيف يمنح تمركز السلطة الاقتصادية مجموعة صغيرة من أصحاب المليارات تأثيراً غير متناسب على عملية صنع القرار العالمي المتعلّق بحقوق العمال.
تتفاوت أساليب القمع من بلد إلى آخر، لكنها تتقاطع جميعاً في هدفها: إضعاف قدرة العمال على التنظيم والمطالبة بحقوقهم، في ظل هيمنة متصاعدة للأنظمة السلطوية والاستبدادية. والواقع أن صعود اليمين المتطرف إلى سدة الحكم في عدد متزايد من الدول أدّى إلى إطلاق موجة سريعة من الإجراءات القمعية والرجعية، هدفها الأساسي إسكات الحركة النقابية المستقلة وإضعافها. هؤلاء الفاعلون في «الانقلاب على الديمقراطية»، بحسب وصف التقرير، «يسعون إلى تشكيل السياسات العامة بما يخدم مصالحهم الخاصة على حساب حقوق العمّال ورفاههم. وهذا الهجوم على الحقوق والحريات الأساسية للعمال يُقوّض المؤسسات الديمقراطية ويمهّد الطريق لأنظمة أكثر استبداداً، حيث يُضحى بمصالح الطبقات العاملة لصالح الأثرياء وأصحاب النفوذ. وغالباً ما يدعم أصحاب المليارات والشركات الكبرى سياسيين ينفذون هذه السياسات القمعية».
تُعد الأرجنتين من أبرز الأمثلة على تراجع الحريات المدنية وتصعيد الهجوم على النقابات والعمال في ظل حكومة يمينية متطرفة. فمنذ توليه الحكم في كانون الأول/ديسمبر 2023، سعى الرئيس خافيير ميلي إلى تعديل 366 قانوناً بهدف تحرير شروط العمل والأجور، وتفكيك الحماية النقابية، وخصخصة الشركات العامة. وفي خلال العام 2024، تم إلغاء العقوبات ضد أصحاب العمل الذين لا يسجلون موظفيهم بشكل قانوني. وتعرّضت الحريات المدنية أيضاً لهجوم، حيث أُقرّ «بروتوكول بولريتش» في عام 2023، وهو إجراء مضاد للاحتجاجات، يسمح لقوات الأمن باستخدام القوة ضد المظاهرات التي تتضمن قطع طرق، ويُعرض منظّمي الاحتجاجات لعقوبات صارمة تصل إلى السجن ست سنوات.
في أوروبا، يقدّم الائتلاف اليميني المتطرف بقيادة بيتي ري أوربو في فنلندا مثالاً إضافياً على الإستراتيجية الممنهجة عالمياً لإضعاف النقابات وقمع حقوق العمال. فعلى الرغم من المعارضة الواسعة، بما في ذلك إضرابات عامة قادتها النقابات، مضت حكومة أوربو في تنفيذ أجندة تشريعية قمعية صارمة. ففي أيار/مايو 2024، صادق البرلمان الفنلندي على قوانين تُقيد حق الإضراب. إذ باتت الإضرابات ذات الطابع السياسي محددة بمدة أقصاها 24 ساعة. كما فُرضت قيود مشددة على الإضرابات التضامنية الثانوية. وأُعيد تصنيف قطاعي النقل البحري والمواصلات العامة كـ«خدمات أساسية» لتقييد الإضرابات فيها. إلى ذلك، تواجه النقابات غرامات تصل إلى 150,000 يورو في حال تنظيم إضرابات تُعتبر لاحقاً غير قانونية، أي ما يعادل 5 أضعاف الحد الأقصى السابق. وقد يُغرّم العامل مبلغ 200 يورو – يُدفع مباشرة لصاحب العمل – لمشاركته في إضراب «غير قانوني». اللافت أنه لا توجد مقترحات لزيادة الغرامات على أصحاب العمل الذين ينتهكون الاتفاقات الجماعية.
في الولايات المتحدة، شنّت إدارة دونالد ترامب هجوماً مباشراً على الحقوق النقابية الجماعية، وفتحت الأبواب لأصحاب المليارات المناهضين للنقابات للمشاركة في صنع السياسات العامة. فبعد فترة قصيرة من توليه الرئاسة، أعلن ترامب أن أي اتفاق نقابي يُبرم مع العاملين الفيدراليين في خلال أول 30 يوماً من ولايته لن تتم المصادقة عليه. كما سعت إدارته إلى تجريد نحو 47 ألف موظف في إدارة أمن النقل من حقوقهم النقابية، بما في ذلك الحق في التفاوض الجماعي. وفي وزارة الصحة والخدمات الإنسانية، عُرض على نحو 80 ألف موظف تعويضات إنهاء خدمة في حال وافقوا على الاستقالة بحلول منتصف آذار/مارس 2025. وفي الوقت نفسه، أعلنت وزارة التعليم عن خطط لتسريح 1,300 موظف، أي نحو نصف القوة العاملة لديها. وفي كانون الثاني/يناير 2025، أقال ترامب المستشار العام لمجلس علاقات العمل الوطني وعضواً من أصل ثلاثة في المجلس، ما أدى إلى فقدان النصاب القانوني وشلل المؤسسة المسؤولة عن حماية حق العمال في التنظيم والتفاوض ومعالجة الممارسات غير العادلة.
وفي أماكن أخرى من أوروبا، اقترحت حكومة جورجيا ميلوني اليمينية المتطرفة في إيطاليا تجريم الاحتجاجات والإضرابات التي تتضمن إغلاق طرق أو سكك حديد، مع عقوبات سجن تتراوح بين 6 أشهر وسنتين.
لا يقتصر الأمر على ممارسة القمع المباشر، إذ تُسيء السلطات في عدد متزايد من الدول استخدام صلاحياتها التشريعية بهدف وصم الحركة النقابية المستقلة، ومنظمات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام، وإضعافها والحدّ من مواردها. وتُعدّ هذه الاستراتيجية أداةً شائعة للأنظمة الاستبدادية لقمع حرية التعبير والمعارضة.
ومن الأساليب التي باتت شائعة: قوانين «التأثير الأجنبي» الجديدة، التي تفرض قيوداً صارمة على المنظمات غير الحكومية التي تُصنّف بأنها تتلقى «تمويلاً أجنبياً» وتمارس «أنشطة سياسية»، وهي مصطلحات تُعرّف بشكل مبهم وفضفاض عمداً، لضمان شمول أي جهة تدافع عن الحقوق والحريات في الدول القمعية. وقد ظهرت هذه الظاهرة المقلقة في بلدان عدة، منها الجزائر وبيلاروس والهند وكازاخستان وكينيا وقيرغيزستان والفلبين وأوغندا، وسط مؤشرات على تبني مزيد من الحكومات مثل هذه القوانين لقمع الحريات الأساسية، بما فيها حرية التعبير، وحرية التجمع، والحق في الإضراب الذي يُعد جزءاً لا يتجزأ من هذه الحريات.
في جورجيا، على سبيل المثال، أقرّ البرلمان في أيار/مايو 2024 قانوناً تحت عنوان «شفافية التأثير الأجنبي»، من دون أي تشاور مع النقابات. وبموجبه، يُطلب من الكيانات القانونية غير الربحية – بما في ذلك النقابات – التسجيل كـ«منظمات تسعى إلى تحقيق مصالح قوة أجنبية» إذا تجاوزت نسبة تمويلها الخارجي 20% من دخلها السنوي، بما في ذلك الدعم من النقابات الدولية. وتُلزم هذه المنظمات بتقديم تصاريح مالية سنوية، وتخضع لرقابة وتدقيق من «شخص مفوّض من وزارة العدل» من دون تعريف واضح لصلاحياته. ويُعاقب من لا يلتزم بغرامات تتراوح بين 1,850 إلى 9,250 دولار أميركي.
إلى ذلك، أصدرت هونغ كونغ في آذار/مارس 2024 «مرسوم الأمن القومي» بذريعة «سد الثغرات الأمنية الكبرى». وقد فرض القانون مزيداً من القيود على الفضاء المدني والعمل النقابي، عبر توسيع نطاق الجرائم المتصلة بالخيانة والتحريض والتآمر والتدخل الخارجي، وكلها مصاغة بشكل واسع وعام بما يكفي لاستهداف المعارضين والنقابيين. وبموجب هذا المرسوم، تُمنح السلطات صلاحيات رقابية أكبر، ما يُعيق قدرة النقابات على تلقي الدعم من النقابات الدولية والمنظمات الحقوقية. كما يعزز الخطاب القمعي الذي يُصوّر الحركة النقابية باعتبارها غير وطنية أو تعمل لصالح جهات أجنبية، ويُسهم في تشويه صورة النقابيين وتعزيز يد السلطات القمعية وأصحاب العمل الاستغلاليين. وواحدة من أخطر الأحكام المستحدثة هي تهمة «التواطؤ مع قوى خارجية»، التي تُجرّم التعاون بين النقابيين المحليين والنقابات الدولية أو منظمات حقوق الإنسان. وهناك أيضاً نصوص تتعلق بالكشف «غير المشروع» عن الأسرار الرسمية والتجسس، تُعاقب بالسجن بين 7 و10 سنوات إذا ثبت ضلوع «قوى خارجية». وتشمل هذه التهم أفعالاً واسعة مثل «الوصول إلى المعلومات أو الحصول عليها أو مشاركتها أو نشرها»، وهي أفعال ضرورية لأي نقابة تمارس حملات أو تحركات سياسية. وفي حزيران/يونيو 2024، وُسّع نطاق تطبيق المرسوم ليشمل خارج الإقليم، حيث اعتُبر الرئيس التنفيذي السابق لاتحاد نقابات هونغ كونغ كريستوفر مونغ و6 نشطاء آخرين في المنفى «هاربين» بعد إصدار مذكرات توقيف بحقهم. وقد وُجهت إلى مونغ تهم على خلفية خطاب ألقاه في اجتماع نقابي دولي، وأُلغيت جوازات سفرهم ومُنع الآخرون من تقديم أي مساعدة لهم.
القوانين المتعلقة بـ«التأثير الأجنبي» لا تُقيّد فقط التمويل أو التعاون الدولي، بل تُجرّم المعارضة، وتُشيطن النشاط النقابي، وتُعمّق السيطرة الاستبدادية على المجال العام. ويهدّد هذا الاتجاه الخطير مستقبل الحريات الديمقراطية عالمياً ويُقوّض الحق المشروع للعمال في التنظيم والدفاع عن حقوقهم.
صورة قاتمة لمستقبل الحقوق النقابية والحريات العمالية يكشف عنها التقرير، تتحوّل فيها الأنظمة السياسية في أنحاء مختلفة من العالم إلى أدوات قمعية تُجرّم العمل النقابي وتُحجّم دوره في الدفاع عن العدالة الاجتماعية.