أي نموذج رأسمالي لأي مجتمع؟

ينحصر النقاش الاقتصادي، تاريخياً في لبنان، بين مدافعين عن النموذج الاقتصادي الخدماتي الوسيط وما يعتبرونه نموذجَ اقتصاد السوق، وبين معارضين يعتبرونه اقتصاداً ريعياً واحتكارياً وغير عادل في مخرجاته. تنقسم الفئة الأخيرة إلى قسمين؛ يعتبر القسم الأول أنّ المشكلة في التوزيع والبعد الاحتكاري، من دون أن يطرح تعديلاً جوهرياً في شكل النظام الرأسمالي اللبناني. فيما يقدّم القسم الثاني، وهو أكثر يسارية (في معظمها ماركسية)، تصوّرات عن اقتصاد موجّه حيث يكون للدولة دور التوجيه والضبط، وحيث يحلّ الإنماء المتوازن والاقتصاد المنتج مكان الدور الريعي الوسيط. هذا بالطبع ببساطة شديدة.

تأتي القسمة في أكثرية الأحيان من باحثين في السياسة والتاريخ والاجتماع. لم يذهب النقاش الاقتصادي بعيداً بناءً على أبحاث مُعمّقة، تقوم بدورها على مدارس فكرية قادرة على توطين المنهجيّات ومآلاتها.

بالطبع، لا يدّعي هذا المقال ملئ هذه النواقص، أو تقديم منهجيّة مُتكاملة تساعد في تحليل وفهم الواقع لاجتراح الحلول الأنسب والأمثل للخروج من الأزمة الحالية التي تهدّد الكيان والمجتمع، بل سيكون بمثابة مقدّمة لسلسلة مقالات غير مُحدّدة العدد، تهدف إلى الإضاءة على مقاربات من مدارس فكرية متعدّدة، علَّها تساعد في إغناء النقاش والصراع الفكري. وهذا ما نحن أحوج إليه في هذا المنعطف التاريخي.

هذه المروحة من المدارس، التي تعتمد على المنظومة الكاملة للعلوم الاجتماعية والتاريخ في مقارباتها للظواهر الاقتصادية حسب منهج المقارنة، هي باعتقادي قادرة على تقديم فهم أعمق لبلدان مثل لبنان

تعدّد أشكال الرأسمالية ونماذجها1

تدور مجموعة هذه المقالات حول فكرة محوريّة وهي أن نماذج الرأسمالية متعدّدة ومتنوّعة، ولا يمكن اختصارها بالمؤسّسة الأهمّ فقط أي السوق. فالمدرسة الاقتصادية التي تشكّل التيّار الطاغي في الفكر الاقتصادي المُعاصر منذ عقود (Main Stream Economy)، ويطغى عليها الفكر الأولترا-ليبرالي القائم على نموذج ليون فارلس2 (Leon Walras)، تفترض أن هناك نموذج أفضل للوصول إلى الازدهار والنموّ الاقتصادي الأمثل والأكثر فعالية. وبالتالي، الأسواق هي الحجر الأساس في قياس فعالية أو غياب فعالية أي اقتصاد رأسمالي.

بينما التقليد القائم على التحليل المؤسّساتي التاريخي (Institutional Economics)، الذي بدأ مع ثورستين فبلن (Thorstein Veblen) ووالتن هاميلتون (Walton Hale Hamilton) في الولايات المتّحدة الأميركية، وجون رودجرز كومنز (John Rogers Commons)، 3  أسّس لمدارس ومقاربات مختلفة وغنيّة تلامس أفكار ماركس وصولاً إلى ما بعد جون ماينرد كينز (John Maynard Keynes). 4

هذه المروحة من المدارس، التي تعتمد على المنظومة الكاملة للعلوم الاجتماعية والتاريخ في مقارباتها للظواهر الاقتصادية حسب منهج المقارنة، هي باعتقادي قادرة على تقديم فهم أعمق لبلدان مثل لبنان، وطروحات تأخذ بالحسبان التركيبة الاجتماعية والمؤسّسات والأعراف بين مختلف اللاعبين الاقتصاديين. تحاول هذه المقاربات تصنيف الأنظمة الرأسمالية وفهم خصوصية كلّ نظام وديناميّات نموه وتغيّرها مع الزمن.

محاولة تصنيف النظام الرأسمالي اللبناني من خلال مؤسّسات السوق والمجتمع هي بحدّ ذاتها تحدّياً، إنّما ضرورياً، خصوصاً أن معظم هذه الدراسات المُقارنة تناولت الرأسماليّات الغربية الأكثر تطوّراً. في حين، طغت نظريات الرأسمالية الطرفية والعالم ثالثيّة في منطقتنا.

جزء كبير من النظريات غير الأرتوذكسية تعتبر أن المؤسّسات هي شكل من أشكال التوازنات، التي تعبّر عن تسويات سياسية بين مختلف اللاعبين الاقتصاديين

ما هي المقاربة/المقاربات المؤسّساتية ومن أين نبدأ؟

في النظرية الطاغية في الاقتصاد، يُنظَر إلى المؤسّسات، بكل أشكالها المُهيكلة وغير المُهيكلة (Formal and Informal)، على أنها شكل هامشي من أشكال التنسيق والتعاون (Coordination)، وتهدف لحلّ المشاكل. في حين، أن جزءاً كبيراً من النظريات غير الأرتوذكسية تعتبر أن المؤسّسات هي شكل من أشكال التوازنات (Equilibrium)، التي تعبّر عن تسويات سياسية بين مختلف اللاعبين الاقتصاديين وليس بالضرورة انعكاساً لفعالية اقتصادية حسب المفهوم الطاغي لفعالية الأسواق. وتأتي العقلانية الاقتصادية ضمن هذا المفهوم المُحدّد للمؤسّسات، التي تؤثِّر على تركيبة وبنى المصالح المتضاربة5 ، ومنظومة الخيارات (Preferences) لدى اللاعبين.

تسمح دراسة هذه المؤسّسات بالذهاب أبعد من فهم آليّات الأسواق والسياسات المالية والنقدية (Policy mix)، في محاولة لفهم الهندسة المؤسّساتية للدولة (Institutional Architecture)، وبالتالي فهم ديناميّات النمو وأشكاله ومحدّداته (Growth Model) بشكل أعمق. وتتطلّب هذه المقاربات الكثير من التحليل في محاولة فهم عناصر التكامل بين مؤسّسة وأخرى (مثلاً التكامل بين الدولة ونظام الحماية الاجتماعية وأسواق العمل)، وتعارضها في بعض الأحيان ضمن هرمية معيّنة تجعل من بعض المؤسّسات أكثر تأثيراً من غيرها (مثل النقد والمصرف المركزي).

لا يسمح هذا المقال في التطرّق إلى عناصر التماثل (Convergence)، التي أدخلتها العولمة إلى الديناميّات والنماذج الوطنية. لكن، كما سنرى، لا يغيب البعد عن هذه المدرسة غير التقليدية. 

المدرسة الفرنسية مثالاً6

هذه المدرسة غير التقليدية، التي تعدُّ بشكل من الأشكال، امتداداً للمؤسّسين الأميركيين وتتقاطع كثيراً مع الاقتصادي الياباني ماساهيكو أوكي (Masahiko Aoki)، 7  قامت بدراسة النماذج الرأسمالية الغربية خلال السنوات الثلاثين الذهبية ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقدّمت تصنيفات لكلّ نموذج نمو. ما يهمّنا هنا أنها حدّدوا بشكل أساسي خمس مؤسّسات - وتركوا الباب مفتوحاً لتناول اقتصاديات أخرى - التي من خلالها قاموا بخلق تيبولوجيا معيّنة. فالمؤسّسات هي التالية:

أوّلاً؛ شكل المنافسة في الأسواق، خصوصاً أسواق السلع والخدمات وكيفيّة تحديد الأسعار.

ثانياً؛ النقد والسياسات النقدية ومدى ارتباطه بالمؤسّسات الأخرى خصوصاً المالية وكيفيّة تمويل الاقتصاد.

ثالثاً؛ شكل الدولة ومستوى تدخّلها في الاقتصاد.

رابعاً؛ علاقات العمل وأسواق العمل وما يتبعها من أنظمة للحماية الاجتماعية.

خامساً، درجة انخراط الاقتصاد الوطني في الاقتصاد العالمي ومستوى انفتاحه على التجارة العالمية.

لا مجال للتوسّع هنا بنتائج مقارباتهم، ولكن يجدر القول أنّهم استطاعوا وضع تصنيفات مهمّة، وقاموا برصد هذه الرأسماليّات وتطوّر مؤسّساتها على مدار عقود. بالإضافة إلى تقديمهم فهماً معمّقاً لتداخل هذه المؤسّسات وتكاملها وتعارضها، وكيف أنّ التطوّر أحياناً يطيح بالتوازنات ويكسر ديناميّات النمو الاقتصادي.

قد يكون دمار كلّ المؤسّسات التي كانت تمدّ الرأسمالية اللبنانية بنموّها من أهم عوامل انسداد الأفق الحالي، في حين ينصبّ النقاش الاقتصادي على إيجاد السياسات الماكروية الأنسب

لبنان نموذجاً

سأحاول في المقالات اللاحقة فهم الرأسمالية اللبنانية ومراحل تطوّرها، وكيف ولماذا وصلنا إلى هذه الأزمة المُتعدّدة الأبعاد من خلال مقاربات تجمع بين المدرسة الأرثوذوكسية أحياناً والمدارس الإيتيروذوكسية في أحيانٍ أخرى.

تعرّض نموذج النموّ اللبناني، باعتقادي، إلى تحوّلات كبيرة بين فترة تشكّل الكيان في العشرينيات ووقتنا الحالي. قد يكون دمار كلّ المؤسّسات التي كانت تمدّ الرأسمالية اللبنانية بنموّها من أهم عوامل انسداد الأفق الحالي، في حين ينصبّ النقاش الاقتصادي على إيجاد السياسات الماكروية الأنسب8 .

يسعى المستفيدون الأكبر من النموذج السابق، بكلّ قوّتهم، للعودة إليه مع بعض الإصلاحات الثانوية، محاولين حصر النقاش بالودائع وحجم القطاع العام، في حين أن المُتضرِّرين غير متفقين على رؤية اقتصادية وسياسية موحَّدة. هناك بعض الطروحات، التي لا تعطي، برأيي، أهمّية لمسار البلد تاريخياً، أو أنها لا تملك الحاضنة السياسية لمشروعها.

وبين هذا وذاك، يبقى النقاش الاقتصادي أسير انقسامات الماضي، ويستمرّ البلد في الغرق. إذا أردنا تبنّي لائحة المؤسّسات كما عرفتها المدرسة الفرنسيّة من دون أي إضافة (المنافسة، الدولة، النقد، علاقات العمل، ودرجة الانفتاح على العالم)، يمكننا القول أن طريق النموّ سيكون طويلاً وبعيد المنال من دون صياغة رؤية وعقد اجتماعي جديدين يسمحان بإعادة تركيب مؤسّسات قادرة على إطلاق النمو الاقتصادي، والعودة بنا إلى سكّة الازدهار، ومن دون أن يعني ذلك التقليل من شأن السياسات المالية والنقدية وأهمّيتها في الخروج من الأزمة على المديين القصير والمتوسّط.

  • 1Varieties Of Capitalism: The Institutional Foundations of Comparative Advantages, 2001. Peter A. Hall and David Soskice
  • 2General Equilibrium Model (Walrasian Equilibrium) and the model of Arrow-Debreu
  • 3Legal Foundations of Capitalism, 1924. John Rogers Commons.
  • 4The New Institutional Economics, Ronald Coase (Nobel Price, 1991).
  • 5Les institutions reflètent le conflit portant sur la distribution et que les interactions individuelles elles-mêmes conduisent à des équilibres institutionnels reflétant des asymétries de pouvoir et les conflits d’intérêts- Knight, 1992.
  • 6Théorie de la Régulations Française- Michel Aglietta & Robert Boyer.
  • 7Comparative Institutional Analysis. Masahiko Aoki.
  • 8Marco-financial policies or Policy mix