معاينة palestine student protests

مشهد تراجيدي كوميدي للتهرّب من الإبادة الجماعية
سيرك التواطؤ الأكاديمي

  • لقد اختبأت الأكاديميا طويلاً خلف واجهة الحياد، مستخدمة خطاباً متعالياً لتخفي تواطؤها في أنظمة الهيمنة العالمية. لم يعد مقبولاً أن نستمرّ في تقبّل مؤسّسات تتحدّث عن «تفكيك الاستعمار» بينما تحافظ على بُنى استعمارية، أو تحتفي بـ«حرّية أكاديمية» بينما تقمع الأصوات المعارضة. 

  • لا تقتصر استعادة الجامعة على قطع العلاقات مع المؤسّسات المتواطئة في نظام التمييز العنصري، بل تتطلّب أيضاً مواجهة وظيفتها كجهاز استعماري لطالما خدَم السلطة ومصالح النُّخب.

  • ما بات واضحاً، مع ذلك، هو أنّ التضامن مع فلسطين ليس فعلاً معزولاً. إنّه جزء من نضال أوسع، مترابط، ضد الاستعمار ورأس المال العنصري، والعنف البُنيَوي. هذه النضالات لا تجري بشكل متوازٍ، بل تتفاعل وتُشكّل وتغذّي بعضها البعض.

مرحباً بكم في العرض الأكاديمي الكبير - سيركٌ هزليّ مأساوي تُلقَى فيه وعود الحياد والحرية الأكاديمية والمعايير الأخلاقية كالكرات البهلوانية، لتُبهِر وتُلهي! يدعونا عرض الليلة لنشهد أداءً بارعاً من العالم الأكاديمي وهو يتلاعب بمسؤولياته الأخلاقية والقانونية والاجتماعية في مواجهة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني التي تُبثّ على المباشر منذ 18 شهراً. خلالها، حطمت «إسرائيل» أرقاماً قاتمة في القتل المتعمّد للرجال والنساء والأطفال والرُضّع والطلّاب والمعلّمين والأطقم الطبّية والعاملين في الإغاثة والصحافيين.

على المسرح، تقف جامعاتنا «المستنيرة» - هؤلاء الفنانون المتستّرون بالفضيلة وهم يناقشون تعاونهم مع المؤسّسات الإسرائيلية. هؤلاء ليسوا لاعبين عاديين: إنهم نُخبة المجتمع الفكرية وحَمَلة بوصلته الأخلاقية، الموكول إليهم أن يضيئوا لنا الطريق. يَخطون على الخشبة بوقارٍ مزيف، تتدلى أرديتهم الأكاديمية كراياتٍ ترمز إلى حكمتهم ونزاهتهم المزعومتيْن.

تحت الامتداد العاجي الساطع لخيمة السيرك الكبيرة يتجمّع جمهورٌ متنوّع، يُضخّم البياض المحيط قلقهم الصامت. تصطفّ في المدرّجات وجوه الطلاب والأساتذة والباحثين والموظفين الإداريين، تتّجه أعينهم إلى المنصة بتوقّعٍ حارق. سؤالٌ ثقيل مُعلّقٌ في الهواء: هل سيشهد هذا العرض أخيراً لحظة قطع جامعاتنا علاقاتها بالمؤسسات الإسرائيلية؟ أم سيبهروننا مرة أخرى بروتين مصقول من الأعذار، وبحركات بهلوانية أخلاقية وخدع خطابية مُلمّعة للحفاظ على الوضع القائم؟  

خارج الخيمة، تصرخ الحقيقة التي لا تُنكَر في آذان وعيون من يريدون أن يسمعوا ويُبصروا: الجامعات الاسرائيلية تدعم نظام فصل عنصري، واحتلال عسكري، وإبادة جماعية، وجرائم حرب - أفعالٌ تُثبتها الأدلّة الدامغة، وتندّد بها الهيئات الدولية نفسها التي تزعم جامعاتنا أنها تحترمها كحامية للديمقراطية وحقوق الإنسان والحرّية. وفي الأثناء، تمّت مهاجمة وتدمير مدارس غزة وجامعاتها وأساتذتها وطلابها بشكل منهجي. وصفت الأمم المتحدة ذلك بالإبادة التعليميّة، حيث محت الحرب الإسرائيلية على التعليم أيّ مستقبلٍ كانت غزة تحاول بناءَه. وراقب العالم بصمت في الفترة نفسها توسّع الهجمات العسكرية والاحتلال الإسرائيلي، بما في ذلك تدمير الضفة الغربية وضمّها، وتكتيكات «الأرض المحروقة» في لبنان، والتوغّل في سوريا لرسم حدود جديدة لمرتفعات الجولان المحتلّة، والاستهداف المتعمّد لمؤسسات الأمم المتحدة - شريان الحياة الوحيد لأهالي غزة.

لكن دعونا لا نستعجل القفز نحو الاستنتاجات - فنحن موْعُودون بعرض مذهل!

استعدّوا لمشاهدة حركات بهلوانية تخطف الأنفاس مثل: المشي على حبل الحياد المتدلّي فوق الأرضية الأخلاقية! سوف تندهشون من الجمباز القانوني المعقّد، المُبهر والمحيّر في الوقت نفسه للمراقب الغافل! من ذا الذي يستطيع مقاومة خدعة الخيمة الوهميّة، مع دعواتٍ صاخبة للحوار «والانفتاح على العالم»!   تعجّب من الحقائق المتوازية والتنازلات البراغماتية البراقة والتعهدات الأخلاقية المتلألئة، وهي تُلقَى ببراعة في الهواء كَكُراتٍ لا وزن لها!  

إذن، فلنُزح الستار ونرى عن قرب ما ينتظرنا من عروض مدهشة! ما سنشهده قد يبدو مضحكاً... إنْ  لم يكن مأساوياً إلى حدّ البشاعة.

الفصل الأول: فنّ المشي على الحبل المشدود - الحياد، الحرية الأكاديمية، والنزاهة المؤسّسية

بحركة درامية، يزيح مدير السيرك الستار. ينظّف حلقه، يرفع قُبّعته، ويُعلن عن الفصل الأول، موجهاً أنظار الجمهور إلى الأعلى حيث يقف بهلواناتٌ على وشك السير على حبل مشدود. يرتدون عباءات أكاديمية، ويستعدّون للوصول إلى المنصة البعيدة حيث - كما يدّعون تقبع «الحقيقة الموضوعية» بعيداً من التحيّز والأحكام المسبقة.

يُمسك كٌلٌ منهم عصا توازن طويلة تمثّل «الحياد»، بينما يحاولون السير على الخط الرفيع بين دفع الوقائع العلمية وسحب المعايير الأخلاقية. «السعي وراء المعرفة يجب أن يبقى نقياً!» يصرخون بثبات. «لا يتأثر بتشابك الأخلاق والأيديولوجيا في أحكامنا! الجامعات ليست مُسيّسة - نحن لا ننحاز!» فعصيّهم ستحميهم - كما يعتقدون - من قوى الذاتية المزعزعة أثناء عبورهم.

الجامعات ليست محايدة حقاً عند اختيار مشاريع البحث أو الشركاء أو تمويل الدراسات. كُلّ قرار مشبَع بقيم من «الاندماج والتنوع» و«اجتثاث الاستعمار»، إلى تعزيز مصالح الشركات متعددة الجنسيات

لكن التوازن لا يدوم طويلاً. سرعان ما تبدأ العصا بالاهتزاز تحت وطأة الواقع. ففي النهاية، الجامعات ليست محايدة حقاً عند اختيار مشاريع البحث أو الشركاء أو تمويل الدراسات. كُلّ قرار مشبَع بقيم من «الاندماج والتنوع» و«اجتثاث الاستعمار»، إلى تعزيز مصالح الشركات متعددة الجنسيات. هذه الخيارات ليست محايدة البتّة.

إطالة أمد الوهم، خيطاً تلو الآخر

يتوتّر الجمهور حين يلاحظ كيف يتجنّب البهلوانات مواجهة الظُلم البنيوي - العنصرية، الاستغلال، الهيمنة الذكورية، هيمنة الشركات - ما يجعل عرضهم أكثر اهتزازاً. يتساءل الحضور: إلى متى سيستمر هذا التوازن الهش؟

يتسلّل بعض الفضوليين خلف الستار ليكتشفوا السرّ وراء استمرار هذا المشهد. هناك، يرون مشهداً خلف الكواليس: إداريون، فرق قانونية، لجان... جميعهم يشدّون خيوطاً تحافظ على استمرارية العرض. بعضها واضح - اتفاقات تمويل، بيانات علنية، أبحاث مشتركة - وبعضها خفيّ كشبكات العنكبوت، مثل الاتفاقات غير المعلنة والارتباطات التاريخية. من بين هذه الخيوط: تعاونات مع مؤسّسات إسرائيلية - مشاريع بحثية، شراكات تدريسية، روابط متجذرة في عمل الجامعة.

يصاب الجمهور بالذهول حين يكتشف أنّ عصا الحياد التي يرفعها البهلوانات ليست سوى ديكور - أداة لتحويل الأنظار عن القوى الحقيقية. لحظة الكشف هذه تهز المشهد بأكمله. يترنح البهلوانات، ويهتزّ توازنهم.

الحريّة لي، ليست لك

يظهر مدير العرض مجدداً، وفي محاولة يائسة لإنقاذ المشهد، يقذف نحو المؤدّين بدرع «الحرية الأكاديمية». يلتقطونه، ويبدو أنّه يمنحهم بعض التوازن المؤقت. «قطع العلاقات سيهدّد الحرية الأكاديمية! نحن أحرار في التعاون مع من نشاء!» هكذا يهتفون.

لكن الجمهور، وقد اقترب الآن، يبدأ برؤية التفاصيل الدقيقة في نُقوش الدرع. في أيدي المؤدّين، لا يُستخدم هذا الدرع كوسيلة لحماية من تُكتَم أصواتهم في فضاءات القهر أو لنصرة العدالة، بل كمِرآة مصقولة تُعكس بها الأسئلة المزعجة، وتُبهِر الناظرين بما يكفي لتعمية أعينهم لبرهة من الزمن.

فيتساءل الحضور: حريّة من تلك التي تُدافع عنها هذه الجامعات؟ ويزداد الشك في نوايا المؤدّين حين تُقارن شعاراتهم النبيلة بالواقع المرّ خارج خيمة السيرك. لعقود، عطّلت السياسات الإسرائيلية وصول الفلسطينيين إلى التعليم، بوضع الحواجز والقيود العسكرية والإدارية التي تمتدّ من الصفّ الدراسي إلى الساحة الدولية. وتواجه الجامعات الفلسطينية عوائق لا هوادة فيها أمام التعاون، حيث تحدّ من جهودها الضوابط العسكرية والقيود البيروقراطية. أمّا تدمير الجامعات الاثنتي عشرة في غزة العام الماضي فهو أقصى درجات التدمير المُمنهج للمعرفة.

حتى داخل إسرائيل نفسها، يمتدّ قمع حرية التعبير ليشمل الأكاديميين - سواء كانوا إسرائيليين أو فلسطينيين، أو غيرهم - ممّن ينتقدون سياسات الحكومة، إذ يواجهون حملات ترهيب متصاعدة. البحث في مواضيع «حساسة» سياسياً مثل نكبة 1948 يُمنَع ويُمحى من المناهج ومن الخطاب الأكاديمي تحت وطأة السيطرة الصهيونية على التعليم.

في هذا السياق، يتبخّر درع «الحرية الأكاديمية»، ويكشف عن توظيف المؤدّين لهذا المفهوم كأداة لتبرير تواطئهم أكثر منه كوسيلة للتحرير.

الموازنة بين النزاهة والتواطؤ

مع تهاوي درع الحرية الأكاديمية، يتعثّر المؤدّون أكثر، وتتقلّص فرصهم في النجاة من السقوط، فيلجأون إلى آخر دعامة لهم - راية «نزاهة المؤسسة» المُعلّقة في أعلى خيمة العرض. يرفعونها عالياً في محاولة أخيرة ويهتفون: «الحكومة الإسرائيلية قد تضطهد الفلسطينيين، لكن الوضع في الجامعات الإسرائيلية أكثر تعقيداً!».

للحظة وجيزة، يبدو أنهم استعادوا توازنهم. لكن ما إن يدقّق الجمهور في الأمر، حتى تتكشّف الخدعة بسرعة: الجامعات الإسرائيلية متورّطة بعمق في أنظمة القمع التي يتجاهلها المؤدّون. أكاديميون فلسطينيون وإسرائيليون وغيرهم من الباحثين، ومعهم منظمات حقوقية عديدة، كشفوا بوضوح كيف تدعم هذه الجامعات الاستعمار الاستيطاني، والفصل العنصري، والاحتلال العسكري.

خذ مثلاً جامعة تل أبيب: لم تكتفِ بتطوير «عقيدة الضاحية» - وهي استراتيجية عسكرية شرسة تستهدف البنية التحتية المدنية في غزة - بل دعمت بفخر العمليات العسكرية التي تطبّق هذه الاستراتيجية. طلبة الهندسة في الجامعة تفاخروا بتطوير تقنيات مثل «كاميرات الكلاب» التي تُستخدم مباشرة في الهجمات على غزة. في المقابل، يوفّر معهد التخنيون جرّافات مُسلَّحة تُستخدم لهدم منازل الفلسطينيين، وتقنيات مراقبة تُوظَّف في جدار الفصل غير القانوني. أما برنامج «طالبيوت» في الجامعة العبرية، الذي يربط الأبحاث الأكاديمية بالجيش، فيُظهر كيف تتواطؤ هذه المؤسسات في اضطهاد الفلسطينيين. بُنيَ بعض أجزاء حرم هذه الجامعة، كحال جامعات عديدة أخرى، على أراضٍ تُعتَبَر محتلّة بشكل غير قانوني على الصعيد الدولي. وحتى في ظلّ الفظاعات المرتَكَبة في غزّة، أيّد معظم رؤساء الجامعات الإسرائيليين علناً العدوان العسكري، مع رفضهم التنديد بجرائم الحرب وانتهاكات حكومتهم للقانون الدولي.

مع انكشاف هذه الحقائق، تتمزّق راية «النزاهة المؤسّسية» في أيدي السائرين على الحبل المشدود. النظرات الفاحصة من الجمهور تُربكهم، فيسقطون من الحبل. لكن شبكة العلاقات، التي كانت مخفيّة خلف الكواليس، تُرمى فجأة لتخفيف السقوط، فتلتقطهم في اللحظة المناسبة قبل اصطدامهم بالأرض. وفي سعيهم الحثيث لاستعادة رباطة جأشهم، يظلون غافلين عن مدى عمق سقوطهم - متورطين في منظومات القهر ذاتها التي زعموا ذات يوم تحدّيها. ويحتجّون: «لكنّنا لا ندعم المؤسسة بكاملها! تعاوننا مع هذه الجامعات يقتصر على مشاريع غير سياسية، مثل أبحاث السرطان! ما الضير في ذلك؟»

لكن حتى هذه المشاريع التي تبدو بريئة، هي خيوط أساسية في الشبكة التي تُبقي الاحتلال قائماً، وهي مرئية لكلّ من أراد أن يرى، ولا يمكن فصلها عن السياق الأوسع لانتهاكات حقوق الإنسان التي تُمارسها هذه المؤسسات. وكما أشارت هنا آرنت قبل عقود، فإن المسؤولية ليست مجرد مسألة نيّة فردية بل تتعلّق بمشاركتنا في الأنظمة المؤسسية التي تديم القهر، بغض النظر عمّا إذا كنا نتحكم فيها بشكل مباشر. فالباحثون العاملون في هذه الأطر - سواء في مشاريع مرتبطة بالجيش أو حتى في بحوث تبدو «محايدة» - يساهمون في شرعنة مؤسسات تديم الإقصاء والعنف.

إنّ كل شراكة، منحة، أو تبادل، تزيد من توريط جامعاتنا في هذه الشبكة التي تعزّز بُنَى الفصل العنصري تحت ستار الحياد، ما يغذي الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بشكل مباشر أو غير مباشر. 

أصوات تقدمية، ومؤسسات لا تتحرك

يتمسّك المؤدون بعنادهم، رافضين التخلّي عن مبرّراتهم الأنانية، ويهرعون إلى ملاذهم الأخير: «لا يمكننا قطع علاقاتنا مع المؤسسات الإسرائيلية، وإلّا سنُسكت الأصوات التقدمية داخلها!»، لكن هذا الادعاء يسقط أرضاً تحت الأضواء، التي تكشف بوضوح عن عِواره. يدّعي البعض أنّ الأكاديميين التقدميين في إسرائيل سيساهمون في تفكيك نظام التمييز العنصري من الداخل - لكن فقط إذا واصلنا دعم المؤسسات ذاتها التي تُرسّخه.

بيْد أنّ الجمهور بات يرى بوضوح زيف هذه التمثيلية. قبل 30 عاماً، في الخيمة ذاتها - أو خيمة تشبهها - أطلق مؤدون آخرون النداء نفسه. يومها كان التمييز العنصري في جنوب أفريقيا يُحمى تحت ذريعة «الدفاع عن الأصوات المعارضة». واليوم، النتيجة لم تختلف. عقود من استخدام هذا العذر لم تُفلح في تفكيك نظام التمييز العنصري الإسرائيلي ولا الاحتلال، بل استمرّت وتيرة العنف في التصاعد نحو مستويات غير مسبوقة من الفظائع الجماعية التي نشهدها بأمّ أعيننا. أما القلّة القليلة من الأكاديميّين المتمرّدين داخل إسرائيل، فإمّا طُردوا أو همّشتهم المؤسسات نفسها التي يقال إنهم سيُصلحونها، ومع ذلك ما زالوا يشدّدون على دعوتهم إلى المقاطعة وسحب الاستثمارات- الخطوتين اللتين تستميت جامعاتنا في مقاومتهما.

إذا كان التاريخ قد علّمنا شيئاً، فهو أنّ التغيير الجذري لا ينبع من داخل المؤسسات المصمّمة لتكريس القمع، بل من الضغط المفروض عليها من الخارج.

تُعتبر حملات المقاطعة من وسائل المقاومة اللاعُنفيّة ذات السجلّ التاريخي المُثبَت: من النضال ضدّ العبودية، إلى حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، إلى الكفاح ضد التمييز العنصري في جنوب أفريقيا. وكما قال ستوكلي كارمايكل، القيادي في حركة الحقوق المدنية، ذات يوم: «المقاطعة هي أكثر الأفعال السياسية سلبيّة والتي يمكن لأيّ شخص أن يمارسها». هي لا تُنكر حرّية الأكاديميا، بل تُشكّل أداة ضغط على الدول والمؤسسات لحملها على الامتثال للقانون الدولي، بينما تظلّ في الوقت ذاته داعمة لكل من يقف ضدّالاحتلال والفصل العنصري.

إنّ رفض التواطؤ من خلال المقاطعة هو تضخيمٌ لأصوات أولئك الذين يُسكتهم القمع المنهجي، ومواجهة للظلم المستحكم عوضاً عن التعلّق بوهم أنّ قلّة صغيرة، مهمّشة بشكل متزايد، قادرة على إصلاح نظام استعماري صُمّم أصلاً ليقاوم التغيير. وكما كانت المقاطعة حاسمة في تفكيك نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، فإنها تظلّ أداة سِلمية حيوية لمواجهة الميز العنصري والاحتلال الإسرائيلي.

غضب انتقائي

تتحوّل همسات الجمهور في الخيمة إلى مقاطعات صاخبة، فيما يحاول مدير العرض - وقد شعر بتصاعد التوتّر - أن يستعيد زمام الأمور. يلوّح بعصاه المسرحية، ويتقدّم قائلاً: «سيّداتي، سادتي... يا له من عرض لا يُنسى قد شاهدناه! لكن، للأسف، حان وقت إنهاء هذا الفصل... فالعرض يجب أن يستمر!» تتزعزع ابتسامته، وصوته يكاد لا يخترق تعاظم التململ في القاعة. «فلنترك الحديث عن المقاطعة جانباً الآن!» يقترح مازحاً، وهو يغمز بعينه في محاولة لتجنّب الموضوع الحتمي.

لكن قبل أن يُكمل كلمته، يقطع عليه أحدهم بصوت حاد: «ألم نقاطع المؤسسات الروسية بعد غزو أوكرانيا؟» يتردّد صدى الاعتراف في الخيمة، ويزداد الشكّ بين الحاضرين. يتلعثم مدير العرض: «لكن... الأمر كان مختلفاً. كانت الحرب أقرب إلى ديارنا. الهجوم الروسي على أوكرانيا كان انتهاكاً خطيراً للنظام الدولي. بلداننا كانت منخرطة بشكل مباشر بصفتها أعضاء في حلف الناتو، والأزمة الإنسانية هناك مسّت مشاعرنا. ثم إننا كنا ننفذ أوامر من أعلى - حكوماتنا فرضت ذلك».

لكن كلماته تفقد وقعها، والتبريرات تفقد وزنها تحت نظرات الجمهور المتزايدة حدةً وتشكيكاً.

تبدأ شبكة الأمان بالتوتّر، تحت وطأة التناقضات المكشوفة والمعايير المزدوجة. يقترح أحد المؤدين في محاولة أخيرة، هشّة: «ربّما تسرّعنا في مسألة روسيا...» لكن الوقت قد فات. إحدى الحاضرات، وقد طفح بها الكيل، تخلع حذاءها وتلقيه باتجاه الخشبة، فيهبط وسط شبكة الأمان مباشرةً. علاوة على كلّ التناقضات، يُثبت الحذاء الكثير... تنهار الشبكة تحت الضغط، ويسقط المؤدّون على وجوههم على أرضية السيرك .

جامعة تل أبيب: لم تكتفِ بتطوير «عقيدة الضاحية» - وهي استراتيجية عسكرية شرسة تستهدف البنية التحتية المدنية في غزة - بل دعمت بفخر العمليات العسكرية التي تطبّق هذه الاستراتيجية

تخفت الأضواء وتتناثر الدعائم المسرحية في كلّ اتجاه وقد انتهى المشهد إلى حطام. ينهض المؤدون ببطء،  رُسمت على وجوههم علامات الذهول والانكسار، يجمعون بقايا أدواتهم ويتوارون خلف الكواليس.

تسري همهمة في صفوف الجمهور: هل سيتمكّن الفصل التالي من الحفاظ على تماسك هذا العرض؟ أم أنّ الشقوق ستزداد اتساعاً؟

الفصل الثاني: البهلوان الصامت الذي لم يطلبه أحد - الدبلوماسية الصامتة والطريق الهادئ نحو «السلام» 

يتحوّل الضوء مجدّداً إلى مركز الحلبة، حيث تظهر فرقة من البهلوانات الصامتين، وجوههم مكسوّة بالطلاء الأبيض، وأفواههم مغلقة بسحّابات وهمية. الجمهور، الذي ما يزال يحاول التقاط أنفاسه بعد انهيار المشهد السابق، يُفاجأ بصمتٍ مشوّش ومقلق. يقف مدير العرض منتصباً، يُعدّل سترته ويتقدّم إلى الأمام، صوته يجلجل بأسلوبه المسرحي المعتاد: «سيّداتي، سادتي... استعدّوا لأكثر مشاهد العرض هدوءاً - صامتٌ إلى درجة أن صمته يصرخ بصوت أعلى من الكلام!».

يتبادل الحضور النظرات المستغربة، بينما يبدأ البهلوانيون أداءَهم بانسجام متقن. تتحرّك أيديهم بقفّازاتها البيضاء الناصعة لتجسّد مفاوضات معقّدة، تُصاغ حلولٌ وهمية من العدم. تتلوّى وجوههم بتعابير مبالغ فيها من الحزن والتصميم، وكل حركة تبدو عرضاً لـ«العمل الدؤوب»—وكل ذلك من دون التفوّه بكلمة واحدة. كل إيماءة مدروسة، أداءٌ مجتهد هدفه إخفاء غياب أي نتيجة ملموسة.

«أنظروا!» يعلن مدير العرض بفخر. «حتى في صمت، تواصل الجامعة العمل بلا كلل من أجل السلام!».

فنّ الصمت الصاخب

يميل الجمهور إلى الأمام، يراقب عن كثب بينما يتعثر البهلوانيون في حركتهم فوق الخشبة، وأداؤهم يتكشّف عن درسٍ متقن في فن التملّص. تشير الإيماءات الجامحة إلى أفق خيالي، حيث تحاكي السلام والحوار والتفاهم المتبادل. توقيعات خفية تُرسم بأقلام غير مرئية على اتفاقات غير موجودة، هواتف شبحيّة ترنّ بمحادثات وهمية، وإيماءات جوفاء توحي ببناء جسور لا وجود لها أصلاً. الرسال الضمنية تبدو واضحة - أو هكذا يُراد لها أن تكون: الجامعات تعمل بجدّ في الخفاء من أجل السلام، غير متأثرة بضجيج العنف والسياسة.

«هذا»، يؤكّد مدير العرض، «هو الشكل الحقيقي للدبلوماسية!».

لكن سرعان ما تبدأ الأمور في الظهور بشكل غريب. على الرغم من كل هذا النشاط المحموم، تفتقر إشارات الإيحائيين إلى أي مضمون. الحركات تفتقر إلى السياق، والأيدي تصنع رموزاً جوفاء من حمامات سلام وأغصان زيتون ومفاهيم مفرغة عن التعايش، وكلها منفصلة تماماً عن الحقائق القاسية للاحتلال الذي يرزح تحته الفلسطينيون. لم يشر أيّ من الإيحائيين إلى عقود من القهر المنهجي، ولا إلى الحواجز المُذلّة، ولا المدارس المقصوفة، ولا الأطفال المدفونين تحت الأنقاض. بدلاً من ذلك، يستمرّ العرض في صناعة وهم دبلوماسية عبثية، منفصلة عن الواقع خارج خيمة السيرك.

قد يكون للصمت وقعٌ مدوٍّ، لكن ما يكشفه هذا الصمت لا يُطاق. 

الأخلاق بين التوازن والتهرّب

يلاحظ مدير العرض الحيرة على وجوه الحضور، فيتقدّم هامساً التعليمات في آذان الإيحائيين، فيومئون برؤوسهم ويُخرجون من تحت أرديتهم عدداً من المخطوطات ذات المظهر المهيب: بيانات قلق! تُفرَد المخطوطات ببطء: «نُدين العنف من جميع الأطراف»، يقرأ أحدهم. ويقول ثانٍ: «فقدان كلّ الأرواح أمر مأساوي». وثالثٌ يرفع مخطوطته عالياً، تحمل رسالة أكثر غموضاً: «ندعو إلى الحوار السلمي والتفاهم المتبادل».

يتأوّه الجمهور: هذه التصريحات تُصيب في الصميم، وتهبط بوزن ريشة تسقط أرضاً. مكسوّة بقشرة من «الحياد الأخلاقي»، تفسح هذه البيانات المجال أمام صمتٍ أكثر إزعاجاً - صمتٍ يتجاوز السكون المُتعمّد للإيحائيين. هو صمت الإغفال، إمساكٌ عن الكلام يُفصح ببلاغة تتجاوز الكلمات عن كلّ ما يجري تجاهله عمداً.

لا ذِكر لاسم المعتدي، ولا اعتراف بعقودٍ من العنف الممنهج الذي يخنق حياة الفلسطينيين. لا دعوة، ولو خجولة، لوقف إطلاق النار، على الرغم من النداءات الملحّة من الجامعات الفلسطينية التي حذّرت من أنّ هذا الصمت بالذات هو ما يسهّل تدميرها. لا إشارة إلى جدار الفصل العنصري الذي يشقّ المجتمعات، ولا إلى المستوطنات غير الشرعية التي تنتشر بلا رادع في الضفة الغربية، ولا إلى آلاف الأسرى السياسيين الفلسطينيين، وكثير منهم قيد «الاحتجاز الإداري» بلا محاكمة أو تهم، ولا إلى الحصار الخانق الذي حوّل غزّة إلى سجن بلا سقف وميدان للقتل في آنٍ واحد.

بدلاً من ذلك، يُقدّم البهلوانيون عرضاً يكاد يكون ساخراً من فرط تناظره، يُساوي بين الحَجَر الفلسطيني والدبابة الإسرائيلية، بين الاحتلال وضحيّته، بين المُستعمَر والمُستعمِر.

يتصاعد نفاد صبر الجمهور مع كل إيماءة. وأخيراً، يكسر أحدهم هذا الصمت المُتعمّد ويصرخ: «لماذا لا تقولون الحقيقة كما هي؟».

يحاول مدير العرض، وقد بدأ يفقد السيطرة، أن يستعيد زمام الأمور، يتقدّم وصوته متوتّر: «آه، لكنكم لا تفهمون!» مشيراً إلى صمت الإيحائيين المتعمّد، «هنا تكمن القوة الحقيقية! نحن نعمل بلا كلل خلف الكواليس لجمع الناس، وصياغة سلامٍ يسمو فوق السياسة!».

لكن قبل أن يُكمل جملته، يتعثّر أحد الإيحائيين ويسقط داخل الستار، ليكشف مشهداً مشيناً: شخصيات ترتدي عباءات عمداء الجامعات يتّضح كونها «مُلقّنين» يهمسون التعليمات من وراء الستار، بعضهم يضع شارة صغيرة لعلم إسرائيل. غير مدركين لانكشافهم، يواصلون توجيه كلّ حركات الإيحائيين.

ينهار وهم التفاوض السلمي، وتنكشف الحقيقة الكامنة خلف الأداء: ما يحدث في الكواليس هو وفود تعمل بصمت على توطيد العلاقات الأكاديمية، وضمان استمرار هذه الروابط، بينما يعمل البهلوانيون كستارةٍ لإلهاء الجمهور عن العمل الحقيقي الذي يجري بعيداً عن الركح.

الصمت: أعلى أشكال التأييد صخباً

الصمت، الذي قُدِّم بدايةً على أنّه حياد، ثم كستار دبلوماسي يُخفي «جهود بناء السلام من وراء الكواليس»، يُكشَف مجدّداً على حقيقته: إستراتيجية متعمّدة - للتملّص من المسؤوليّة، وللتمادي في التعاون مع مؤسّسات متورّطة في نظام الفصل العنصري والاحتلال.

ما بدا للوهلة الأولى حواراً وتفهّماً، لم يكن سوى عرضاً منمّقاً للتواطؤ، بما يسمح باستمرار الإلهاء والدمار بلا رادع. يكشف ذلك أنّ صمت جامعاتنا كان دائماً يحمي طرفاً واحداً، بينما تُشاحُ الأنظار عن معاناة الفلسطينيين، ومعها تُطمس حقيقة أنّ مؤسّساتهم تُقصف وتُدمّر.

لم تُعد الحقيقة قابلة للإنكار: الدبلوماسية الصامتة التي تتذرّع بها الجامعات لم تكن جسراً نحو السلام، بل كانت حاجزاً أمام العدالة.

ينسحب الإيحائيون الصامتون نحو الظلال، مدفوعين بهتاف الاستهجان المتزايد من الجمهور - ضجيجٌ متأخّر يملأ الفراغ الذي خلّفه صمتهم. لكن حتى بعد أن تخفت تلك الصيحات، لا يبقى في الأجواء سوى ثقل ما لم يُنجز. يُترك الجمهور وحده في مواجهة آثار هذا الإخفاق، مُجبَراً على إدراك الحقيقة: بينما ينسحب الإيحائيون، يبقى الضرر الذي خلّفه التقاعس عن الفعل.

الفصل الثالث: خدعة الساحر بالدخان والمرايا - النقد بوصفه تجديفاً

تخفت الأضواء داخل الخيمة، وتتحوّل إلى وهجٍ أحمر يلقي بظلالٍ طويلةٍ عبر أرض الحلبة. يتقدّم مدير العرض إلى المركز، يبتسم ابتسامة عريضة ويُلوّح بعصاه باتجاه ساحر يقف بانتظار إشارته. «سيّداتي، سادتي...»، يعلن بعد أن يستجمع أنفاسه، «استعدّوا لمشهدٍ يتجاوز حدود الفهم - بل، يتجاوز الواقع ذاته. نحن على وشك أن نشهد ما يتحدّى المنطق: التحوّل الفوري للصراع إلى توافق. تهيّأوا لمقابلة سيّد الإخفاء - لا، بل سيّد التوحيد - الساحر العظيم: مُنسِّق التناغم!»

ينسحب مدير العرض إلى الخلف، مُفسحاً المجال للساحر ليدخل الحلبة.

يتقدّم الساحر، عباءته تتلألأ برموز الهيبة الأكاديمية، وقبّعته الجامعية تلمع كأنّها تُجسّد الحكمة واليقين. يرفع ذراعيه في حركة درامية ويأمر بالصمت.

«الليلة»، يبدأ، صوته ناعم ومُحسوب، «سأؤدّي أعظم خدعة في هذا العرض. خدعة تُذيب الانقسامات، والكراهية، والارتباك. سأحوّل شيئاً خلافياً، شيئاً خلّف جراحاً عميقة... إلى لا شيء - هكذا!» يضغط أصابعه ببعضها، في فرقعة مسرحية، مُمهِّداً للعرض.

يشير نحو صندوق فولاذي يلمع في وسط الحلبة، تنبعث من قاعدته أدخنة خفيفة. «هذا الجهاز»، يتابع، «يبسّط تعقيدات العالم. يُزيل التناقضات التي لا تُحَلّ، ويُبقي فقط على الانسجام التام». ينحني الحضور إلى الأمام، وقد استبدّ بهم الفضول. «لكن، كي تنجح هذه المعجزة، أحتاج منكم شيئاً واحداً: أن تؤمنوا!».

يُنادي مدير العرض على متطوّعين، لكن قبل أن يخطو أحد إلى الأمام، تُسلَّط كشّافَتا الضوء فجأة على شخصين في الجمهور، وكأنّ القرار قد اُتّخذ سلفاً.

الأوّل: أكاديمي معروف بانتقاداته العلنية للسياسات الصهيونية الإسرائيلية، لطالما عبّر عن قلقه تجاه معاناة الفلسطينيين في منابر متعدّدة. 

الثاني: مدافع صلب عن السياسات الإسرائيلية، يرى أنّ أيّ نقدٍ لتصرّفات الدولة هو في جوهره هجومٌ مُقنّع على الهويّة اليهودية ذاتها.

يُحيّيهم الساحر بحرارة، ويُرافقهم إلى داخل الصندوق.

«والآن»، يصرخ، «راقبوا كيف أحوّل الانقسام إلى وحدة - النقد والطاعة، المعارضة والولاء، الاعتراض والدعم. تتحوّل  في لحظة... إلى الشيء ذاته!»

إعادة تسمية الرفض؛ ومكافأة الطاعة

ينبعث من الصندوق وميضٌ خافت وهمهمة ناعمة. يحرّك الساحر روافعه بمهارة معتادة. بعد فحيح ونقرة، ينفتح الصندوق ببطء كاشفاً عن مخلوق مشوّه - نصفه السفلي للناقد، ملتحم بسلاسة مع النصف العلوي لمناصر إسرائيل.

تغمر سحابة كثيفة من الدخان الخشبة، تحجب تفاصيل الخدعة وتضفي هالة من الغموض. يواجه الجمهور مشهداً غريباً: جسدان متداخلان ولكن غير منسجمان تماماً - ساقا الناقد راسختان، بينما يهيمن وجه وجذع المناصر على الصورة، ساحباً الأنظار إليه بالكامل.

يصرخ الساحر بانتصار: «انظروا! ما كان متمايزاً أصبح واحداً لا يُفصل! النقد والطاعة، الاحتجاج والدعم - امتزجت في واقعٍ واحد لاتشوبه شقوق!».

يتابع الجمهور العرض مأخوذاً بالوهم. تتحدث الشخصيتان كواحدة، تتحركان بتناغم، لكن التنافر الخفيّ في الجسد المركّب يظل ملموساً - صوت واحد يتكلم بثقة، بينما الآخر حبيس الصمت داخل هيكل الخدعة.

ينفّذ الساحر خدعته القديمة بحرفة: إيهام بدمج واقعين مختلفين، فيما الجوهر يكمن في تداخل خفي بينهما. أحد الواقعين هو معاداة السامية، كراهية متجذّرة طاردت اليهود قروناً ولا تزال تظهر بطرق خبيثة وصريحة. والآخر هو نقد شرعي لسياسات الدولة الصهيونية، قائم على العدالة وحقوق الإنسان.

لكن ما يراه الجمهور هو مزيج سام، خداع ذكيّ يُربك التمييز بين الواقعين، حتى يصبح من شبه المستحيل انتقاد إسرائيل من دون اتهامٍ بالكراهية. هذا الخلط المدروس يطمس الفروق الجوهرية، يخنق المعارضة ويشلّ النقاش الجاد. بضربة واحدة، يتحوّل النقد إلى تعصّب، وتُطرد الحقائق المزعجة من ساحة الخطاب المقبول.

يتململ الحضور بقلق، الوهم مدهش لكنه يثير الريبة.

تظلّ الشخصية المدمجة واقفة، ولكن شيئاً فشيئاً يتضح: وحده النصف العلوي يُسمح له بالكلام، يحاور الساحر، بينما يظل نصف الناقدمشلولاً، عاجزاً عن الردّ، بلا وجه أو صوت.

يبدأ بعض المتفرجين الواعين بفهم الخدعة: ليست دعوة لوحدة أو مصالحة، بل استخدام لمعاداة السامية كسلاحٍ لإسكات النقد تجاه اسرائيل. عبر الخلط بين المفهوميْن، يستخدم الساحر لغة الضرر لا للحماية، بل للمراوغة - ليجعل من مكافحة الكراهية ستاراً دخانياً لتمرير السياسات الصهيونية.

لا تنبع معاداة الصهيونية من حقد، بل من رفض مبدئي لأيديولوجيا استعمارية وعنصرية قادت إلى قهر الفلسطينيين وتهجيرهم. تدعو للعدالة والمساواة وتفكيك نظام التمييز العنصري من منطلقات مناهضة للاستعمار والاضطهاد، مطالِبةً بحقوق الفلسطينيين وسيادتهم. الدفاع عن معاداة الصهيونية هو موقف ضد تطبيع التراتبيات العرقية والإثنية، ونداء للتضامن مع مقاومي أيديولوجيا تُفضّل جماعة على أخرى، وهي كذلك مطالَبة بالاعتراف بحقوق وكرامة جميع الشعوب.

قلقٌ مُصطَنع، وتعصّب متجذّر

تزداد الخدعة خبثاً مع تبنّي الجامعات، الساعية للظهور بمظهر تقدمي والخائفة من العواقب، للرواية الزائفة التي تروّجها جماعات الضغط الإسرائيلية. تحت غطاء «مناهضة التمييز»، تخلط بين الرفض والكراهية، وتُحوّل النقد المشروع إلى فعل إجرامي.

بامتصاصها منطق الساحر المعيب، لا تكتفي هذه المؤسسات بالتخلي عن التزامها بحرية الفكر والصرامة النقدية، بل تتحوّل إلى شريكة في تعزيز الوهم كأداة للضبط. طوال الثمانية عشر شهراً الماضية (وقبلها بكثير)، قُمعت الاحتجاجات التضامنية، وهُمّشَت الأصوات الناقدة، وكُمّمَت أفواه الناشطين الطلابيين - كل ذلك لحماية المؤسسات من المحاسبة. في المقابل، يُرفض النداء للمقاطعة بدعوى أنه «مقَسِّم»، على الرغم من أن الجامعات تواصل شراكاتها مع مؤسسات متورطة في التمييز العنصري وجرائم الحرب.

لكن خارج المسرح، حيث يُدار العرض بدقة، تعمل قوّة أكثر هدوءاً ودهاءً. إذ لا يكون تأديب الاعتراض دائماً صاخباً أو استعراضياً، بل يظهر في شكل عراقيل إدارية، تهديدات مبطّنة، وتبعات مهنية. يُرهن تمويل الباحثين بالامتثال، ويُقصى الأكاديميون الجريئون من شبكات أساسية، ويتعرّض الطلاب لترهيب ممأسَس، من تغييرات مفاجئة في السياسات إلى تحذيرات غير رسمية تهدّد مستقبلهم. هكذا، تُعاد هندسة الجامعة - لا لتغذية الفكر النقدي، بل لفرض الصمت.

وفي تطوّر أكثر إثارة للقلق، أقدمت جامعات في الولايات المتحدة وكندا على التعاقد مع شركات أمنية خاصة على صلة مباشرة بإسرائيل، وشغّلت جنوداً سابقين في جيش الاحتلال خدموا في غزّة لقمع احتجاجات الطلاب. تقنيات القمع، التي كانت حكراً على الدولة، تغلغلت في الأكاديميا، لتحاصر النقد وتحتويه جسدياً.

في هذه الأثناء، تقف حركات يهودية مناهضة للصهيونية حول العالم في صفّ الاحتجاجات الجامعية ضد القمع والتواطؤ، وتشارك في اعتصامات طلابية تحوّلت إلى رموز قوية للمقاومة. حتى هيئات دولية كالأمم المتحدة أدانت قمع الأصوات المعارضة داخل الجامعات.

لكن تعويذة الساحر لا تزال فعّالة. يستمر الوهم، مدعوماً بجمهور مُدرَّب على ربط نقد إسرائيل بمعاداة السامية، ليحجب بشاعة الاحتلالوالمقاومة خلف واجهة التكافؤ الزائف.

ولا يتوقف الخداع عند إسكات المعارضين - بل يُشتّت، يُربك، ويترك الأحقاد العميقة تتغلغل بلا رادع. وتنتشر الإسلاموفوبيا والعنصرية المعادية للفلسطينيين في الحرم الجامعي، تاركة الطلاب الفلسطينيين والعرب أكثر هشاشة من أي وقت مضى. بتصنيف الفلسطينيين كفئة دونية لا تستحق الاعتبار - إلا ربّما كمتلّقين لإحسان مناسباتي - تُكرّس الأكاديميا تصوراً بأن حياتهم وطموحاتهم وحقوقهم أقل شأناً. ليس هذا تواطؤاً فحسب، بل مشاركة فعّالة في نفي إنسانيتهم.

إنّ كل شراكة، منحة، أو تبادل، تزيد من توريط جامعاتنا في هذه الشبكة التي تعزّز بُنَى الفصل العنصري تحت ستار الحياد، ما يغذي الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بشكل مباشر أو غير مباشر

والأدهى، أنّ الجامعات حين تتبنّى هذه السرديات داخل أسوارها - مردّدة معادلة سياسات إسرائيل مع الهوية اليهودية - فإنّها تخاطر بتكريس معاداة السامية التي تدّعي محاربتها. تُمحى بذلك التعدديّة داخل المجتمعات اليهودية، وتُسكت الأصوات التي تعارض الاحتلال وتدين جرائم الحرب.

هذا النهج الأُحادي يُقصي الجميع: الطلاب والأكاديميين الفلسطينيين واليهود، وكلّ من يطالب بالعدالة. عبر خنق الحوار ومنع ساحات الاحتجاج، تنقلب الجامعات على قيَمها الجوهرية: حرية الفكر والمشاركة الديمقراطية، وتتحوّل تدريجياً من منابر للمعرفة إلى أدوات لتحكّم الدولة.

وهمٌ مهشّم، وخداعٌ دائم

يعلو التوتر في القاعة. الجمهور يتحرّك بقلق والوهم بدأ يتداعى. يستشعر مدير العرض هذا التململ، فيأمر بالمزيد من الدخان، محاولةً منه لتعتيم المشهد وتخفيف التوتر.

ثم - تمرّد مفاجئ. يثور أحد الحاضرين، عاجزاً عن احتمال الكذبة، فيلتقط حبّة طماطم ويرميها بقوّة نحو الخشبة. ترتطم بالمرايا داخل الصندوق وتحطّمها بشرخ حاد، متناثرةً كشظايا وهم على أرض المسرح. ينقشع الدخان، وتنفضح الحقيقة: الأجساد بقيت منفصلة، لم تلتحم قط. انهار الوهم.

يهرب الساحر سريعاً، وعباءته ترفرف في ما تبقى من دخان. لم يكن عرضه عن وحدة أو تحوّل، بل عن طمس الحدود الفكرية، وصرف الانتباه عن الوقائع العاجلة وتغليف الخداع ببريق زائف.

وأثناء فراره، يواجه الجمهور واقعاً محرجاً: انكشفت الخدعة، لكن أثرها باقٍ، يُلوّث النقاش لسنوات قادمة.

يحاول قائد العرض إخفاء الصندوق البصري المكسور، لكنه لا يستطيع حجب عبارة محفورة على ظهره: «الإدراك هو الحقيقة».

لكن حتى هذا الكشف يبدو غير ضروري - فالقوة الحقيقية للوهم لم تكمن يوماً في الخداع وحده، بل في قدرته على تشكيل الواقع نفسه، وخصوصاًعلى تعطيل الفعل الجاد. سواء انكشفت الحيلة أم لا، لا فرق. لم يكن الهدف أن يُصدّقها الناس أصلاً.

الفصل الرابع: البهلوانيات القانونية للفّ والدوران – نظرية النسبية في العدالة والقانون الدولي

تخفت الأضواء مرة أخرى. الهواء يبقى مشحوناً بتوتر لا تبدّده حتى سحب الدخان المتلاشية. يتقدّم مدير العرض بخطى بطيئة، مدروسة، كأنّ كل خطوة منه قد تُظهر هشاشة الأرض تحت قدميه. يرسم ابتسامة مجهدة، تتقلّص تحت وطأة سخط الجمهور المتزايد.

«سيّداتي سادتي»، يبدأ صوته مُتكلّفاً الثقة، «القواعد واضحة، الإطار متين، والعرض التالي سيُبيّن كيف نلعب ضمن القوانين - كما يجب! استعدّوا لمشهد يأسر الأنفاس، عرض تنصهر فيه المبادئ بالواقع بتناغم لا يُضاهى!».

يلوّح بذراعه نحو الحلبة، ونبرته تتصاعد بحماسة مصطنعة.

«راقبوا كيف يُقدّم بهلوانيو القانون رقصتهم الرشيقة بين النزاهة المؤسّسية والقيود القانونية الخانقة! هذه هي اللحظة التي تلتقي فيها المُثُل العليا بالحقائق الصعبة للحوكمة والقانون. شاهدوا عن كثب، فهذه هي اللحظة التي تحتلّ فيها العدالة مركز الصدارة!».

يرتد صدى كلمات مدير العرض في الجوّ المشحون، وينحني الجمهور إلى الأمام على الرغم من الشكّ المتراكم. يدخل المؤدّون دائرة الضوء: ليسوا مهرّجين، بل إداريون جامعيون، خبراء قانون، وأكاديميون رفيعو المستوى - مهندسو السياسات المؤسسية. يتحركون بدقة، كل إيماءة مدروسة لإضفاء السلطة واليقين.

معضلة البهلوان: حين تتصادم المبادئ

في المقدّمة، بهلوان يمسك كرات لامعة نُقشت عليها مُثُلٌ كبيرة: «الشفافية»، «الإدارة الأخلاقية»، «القيادة الديمقراطية» - مبادئ يُفترض أن تهدي الجامعة وسط متاهة الالتزامات والتناقضات. واحدة تلو الأخرى، يقذفها عالياً. تدور بانسيابية مبهرة، توحي بإمكانية التوازن المثالي.

تنجذب أنظار الجمهور إلى الأعلى. وللحظة عابرة، يبدو كما لو أنّ هذا العرض قد يعيد الثقة في المشهد - هل يمكن أن يكون هذا هو الخلاص الذي كان السيرك بانتظاره؟

تشدّ «الشفافية» الأنظار، ترتفع أعلى من البقية، تلمع تحت الضوء وتُبهر للحظة. تتبع الأعين مسارها، وتخفّ حدّة سخريتها لفترة وجيزة بجاذبية الكمال. لكن عند الذروة، تنكسر اللعبة. يمدّ البهلوان يده ليمسك بها، فتنفجر الكرة الهشة بصوت خافت في قبضته. يحاول إخفاء ما انهار، لكن فات الأوان.

يشاهد الجمهور، الذي كان مبهوراً لفترة وجيزة، الآن بوضوح شديد. يبدو أن الشفافية ليست أكثر من مجرد بالون منتفخ، يحافَظ عليه عالياً بخطاب رنّان لكنه ينفجر في اللحظة التي يواجه فيها أحد أشكال الضغط. 

يتذكّر الجمهور: لم تفرج الجامعات عن بيانات مجزّأة عن الروابط التي تجمعها بالمؤسسات والشركات الإسرائيلية إلّا بعد احتجاجات الطلاب، والعرائض، وطلبات حرّية النفاذ إلى المعلومة. وحتى حينها، جاءت البيانات متناثرة، مدفونة في تقارير بيروقراطية، ومحمّلة بأعذار جاهزة: «متطلبات السرّية»، «الحساسية السياسية»، «مشاعر عدم الارتياح والخوف» - كلّها ذرائع لحماية الشراكات والاستثمارات من المساءلة الشاملة.

في حركة ارتجالية، يقذف البهلوان بكرة «الإدارة الأخلاقية» في الهواء، ليتبعها بسرعة بـ«القيادة الديمقراطية». يغذي اليأس حركاته وهو يكافح للتوفيق بين المُثُل ، ساحباً أنفاس الجمهور. للحظة، ترتفع الكلمتان بأبّهة، ويبدو وكأنّهما ستعيدان الأمور إلى نصابها. لكن عند بلوغهما ذروة الارتفاع، تصطدم الكرتان بعنف، فتتناثر شظايا المبادئ في أرجاء الحلبة.

يحبس الجمهور أنفاسه. كل شظية تذكير صارخ بوعود كُسرَت ومبادئ خُذلَت. فالإدارة الأخلاقية والقيادة الديمقراطية، اللتان تم التمسك بهما بفخر باعتبارهما ركيزتين متناغمتين لحوكمة الجامعة، أصبحتا الآن في حالة من الخراب، حيث انكشفتا على أنهما غير متوافقتين بشكل أساسي تحت ضغط المساءلة الحقيقية. حين اشتدّ التدقيق، لم تتّحرك الجامعات بشكل حاسم؛ عوض ذلك، شكّلت «لجاناً أخلاقية» - الأوصياء على النزاهة المحايدون ظاهرياً، وقد كان القصد من ذلك طمأنة الجمهور على ديمقراطية صنع القرار. لكن سرعان ما اتضح أن هذه اللجان استُخدمت كأدوات للمماطلة والالتفاف، حيث أسفرت مداولاتها التي استمرت لأشهر في جلسات مغلقة عن توصيات مُعوَّمَة تهدف إلى حماية المؤسسات من إلحاح المسؤولية الأخلاقية والقانونية.

لا ذِكر لاسم المعتدي، ولا اعتراف بعقودٍ من العنف الممنهج الذي يخنق حياة الفلسطينيين. لا دعوة، ولو خجولة، لوقف إطلاق النار، على الرغم من النداءات الملحّة

وعندما وصلت بعض اللجان إلى استنتاجات صريحة - تدين الشراكات مع مؤسسات متورطة في جرائم حرب وميز عنصري - صُدمت بالوجه الحقيقي لـ «القيادة الديمقراطية» لإدارات الجامعات. أفسحت واجهة الحوكمة الجماعية الطريق أمام جوهر استبدادي، إذ تم رفض النصائح غير الملائمة بإجراءات موجزة. وأُبطلت التوصيات بقطع العلاقات بطريقة أحادية، ما أدى إلى تجريد القرارات من الحياد وإسكات أصوات أعضاء اللجنة والطلاب والموظفين. وتم تجاهل الاستنتاجات الأخلاقية الملزمة تحت ستار «الحياد» أو الحاجة إلى«تجنب الجدل السياسي».

وبلغت السخافة ذروتها عندما تم استدعاء العمداء الإسرائيليين - ممثلي المؤسّسات الراسخة في العنف المنهجي - كمُحكّمين نهائيين للمشروعية. منح هذا الانقلاب الصارخ للعدالة المتهمين سلطة تبرئة أنفسهم، مختزلين الرقابة الأخلاقية إلى أداء هزلي تفوّقت فيها لتبرئة الذاتية على الواقع المعاش للمُضطَهَدين.

في الخلفية، يراقب مدير الحلبة بقلق، وتتصدع ثقته المتمرّسة مع ازدياد تذمّر الجمهور الذي بدأ صبره ينفد. على الرغم من أنّهم مازالوا جالسين، إلا أنّ تململهم واضح، والأمل في الخلاص يتبدّد لتحلّ محلّه الرائحة النتنة للوعود المنكوثة. يخيّم اليأس على وجهه وهو يصفق بيديه، متصنّعاً ابتسامة متوترة. «لا داعي للقلق! العرض مستمرّ!»، يهتف مشيراً إلى وسط الحلبة، حيث يبدأ فصلٌ جديد.

الخطاب الشاهق والأُسُس المتداعية

في وسط الحلبة، تبادر مجموعة من البهلوانات إلى تجميع هرَمٍ بشري. مرتدين ثياب القضاة، يتسلقون فوق أكتاف بعضهم البعض، وترتجف أجسادهم تحت ثقل مواقفهم. كل حركة والتواء يكشفان عن الإجهاد، وحركاتهم عبارة عن كوريغرافيا مُعذَّبَة تبدو وكأنّها صدى لأنين القانون نفسه. 

«أنظروا!» يهتف مدير العرض، وصوته يفيض بالحماس الزائف: «صرح شاهق من القانون، كلّ طبقة من طبقاته تقترب خطوة منقمّة العدالة. توازن دقيق بين المبادئ والبراغماتية».

ومع ارتفاع الهرم، تنحرف قمته أكثر من أي وقت مضى عن أساسه. البهلوانيون في القمة مفتونون بالجاذبية المتلألئة للإيماءات الدبلوماسية والوعود الهامسة من أيادٍ خفية - جماعات الضغط الإسرائيلية والإداريون ذوي النفوذ والحلفاء الدوليّون. 

يلقي البريق الخافت للشراكات الأكاديمية والمجاملات الدبلوماسية بظلاله على مؤدّي العرض، فيشدّ تركيزهم إلى الأعلى بينما تنقطع صلتهم بالأرض من تحتهم. وفي حرصهم على الامتثال للمطالب الخارجية، يغفلون عن القاعدة التي تدعمهم : المبادئ العالميّة للقانون الدولي. 

مع كل طبقة جديدة تضاف إلى الهرم، تظهر تشققات جديدة في بنيته الهشة. مع كل بهلوان إضافي، ترتجف القاعدة أكثر، ويهتز البناء كله، في صورة تعكس خيانة أعمق.  ويكمن وراء هذا التصدع رفض المبادئ القانونية الأساسية: اتفاقية الإبادة الجماعية، واتفاقيات جنيف، والمبادئ الأساسية للقانون الإنساني الدولي. هذه الأطر المصممة لمنع الفظائع ومحاسبة الجناة، تتطلب أفعالاً حاسمة لهدم أنظمة القهر - إجراءات لا تترك مجالاً للمساومة أو التأجيل.  

حتى عندما يتأرجح الهرم، يقوم البهلوانيون بالالتفاف والالتواء. وبدلاً من تدعيم القاعدة، يلقون بأثقال مضادة في الهواء أملاً في تفادي الانهيار. إنهم يتذرعون بـ«أوامر من فوق»، مشيرين إلى الإجراء السريع الذي اتخذوه بقطع العلاقات مع الجامعات الروسية بعد غزوها لأوكرانيا، واضعين تقاعسهم الآن في إطار الضرورة في ظلّ غياب توجيهات مماثلة. 

ومع ذلك، فإن هذا العذر يبدو أجوفاً: فهو يكشف التناقضات الصارخة والمعايير المزدوجة التي تعتمدها المؤسسات الغربية، وهو بمثابة إنكار للفاعلية وخيانة للحرية الأكاديمية التي تدّعي الجامعات أنها تدافع عنها. ولكن الأهم من ذلك أنّه دليل على خيار متعمّد لتجاهل التوجيهات العُليَا الصادرة بالفعل. ففي قضيتين منفصلتين، أصدرت محكمة العدل الدولية، وهي السلطة القضائية الأولى في العالم، حكماً يدعو إلى إنهاء التواطؤ مع نظام التمييز العنصري الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ووقف العنف الذي قد يصل إلى حدّ الإبادة الجماعية. وقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال، ما يؤكد خطورة هذه الجرائم. وتمتدّ هذه الالتزامات - التي عززت بعضَها الجمعيةُ العامة للأمم المتحدة - لتشمل جميع المؤسسات العمومية، بما فيها الجامعات، وهي تحثّها على قطع العلاقات مع أي كيانات تديم الاحتلال وانتهاكات حقوق الإنسان.

لم يعد ممكناً إنكار التصدّعات في الأداء. فالقانون الدولي، الذي خذل القضية الفلسطينية تاريخياً، أصبح الآن أكثر وضوحاً من أي وقت مضى. ولكن بدلاً من تبني هذه التوجيهات، يُمعن البهلوانيون في الجمباز القانوني. إن كلّ ثقل مضاد يرمى جانباً هو محاولة لتفادي الانهيار الوشيك لهيكلهم الهشّ. فهم يعلمون في أعماقهم أنه لا يمكن لأي قدر من الترشيد أن يعيد التوازن من دون مواجهة العفن الذي ينخر أساسهم الأخلاقي. إنهم يختبئون وراء الدفاعات البيروقراطية - الحيادية، والحرية الأكاديمية، والمعوقات الإجرائية - للتستر على الحقيقة القانونية التي تحتّم عليهم التوقف عن المساعدة والتحريض على الجرائم بموجب القانون الدولي. 

أصبحت الشقوق، التي كانت خفية في السابق، تتسع، مُهدِّدة بفضح هذه التمثيلية على حقيقتها: مشهد هشّ مبني على الإنكار والجهل المصطنَع، متواطئ في التخلّي عن المبادئ ذاتها التي يدّعي أنه يدعمها.

درع للسلطة، سيف للمعارضة

يبدأ الجمهور في التململ، وتتحوّل همهمات السخط إلى صرخات احتجاج حادّة. «أطيعوا القانون!» يطالب أحدهم بصوت حادّ لا يتزعزع. ويتبعه صوت آخر أعلى وأكثر غضباً: «أنت تلوي المبادئ للتهرب من المسؤولية!».

يتعثر مدير العرض مرة أخرى على المسرح، محاولاً إستعادة السيطرة التي غمرها التحدّي المتزايد للجمهور. تتطاير حبّة طماطم في الهواء وترتطم بأرضية المسرح مخلّفة بقعاً حمراء. ثمّ تصطدم أخرى بالمنصّة تاركة بقعة مُلطَّخة على سطحها المصقول. يضرب بعصاه مرة أخرى على الأرض، ويرتفع صوته مُحبطاً. «صمتاً! لكي يستمر العرض، يجب أن يكون لدينا قانون ونظام!».

تتدلّى السخرية بكلّ ثقلها في الهواء، حادةّ وغير ثابتة كسيف ديموقليس. القوانين نفسها التي يتذرّع بها مدير العرض لقمع المعارضة تفضح فشله في الحفاظ على العدالة. 

يجتاح أفراد الأمن الحشود ويرفعون المعارضين الصاخبين على أقدامهم بدعوى الحفاظ على السلام. ومع ذلك، أدّت عمليات الطرد إلى تأجيج النيران الكاشفة للأصوات المكبوتة التي يعلو صداها على الرغم من غيابها.

أما المؤسسات التي تدّعي مناصرة الحقيقة والإنصاف، فإنها بدلاً من ذلك تستخدم أدواتها ضد من يطالبون بالمساءلة! يقع تجريم الاحتجاجات، وإعادة تصنيف التضامن كخطاب كراهية. الطلاب الذين يقفون مع المظلومين يتم إبعادهم بالقوة، ويُعتبر وجودهم مزعجاً للغاية بالنسبة إلى قاعات الخيمة الأكاديمية المعقَّمة. ويواجه الموظفون الذين يتحدثون علناً تهديدات مبطنة، وترتبط وظائفهم بالولاء المؤسّسي المتنكّر في هيئة «المهنيّة».

يتزايد غضب الجمهور، ويتصاعدُ كمدّ من التحدّي الذي يرتفع بشكل لا يمكن إيقافه. تتردّد في الخيمة أصداء الغضب الجماعي الذي يهزّ أُسُس العرض. 

يسقط الهرم البشري في انهيار فرجويّ. تتناثر الأشكال التي كانت في يوم من الأيام مبعثرة في جميع أنحاء الحلبة، في مشهد هزلي للفوضى والفشل. لقد انهارت الواجهة المتلألئة كاشفةً عن خواء العرض - هيكل هشّ مبنيٌّ على الإنكار.

تخفت الأضواء، وتغرق الحلبة في الصمت، ويظهر السيرك عارياً من جديد، مرّة تلو الأخرى ينكشف أمام جمهور يزداد انتباهه باطرّاد، ولم تعد عيونه تنخدع، وباتت ترى ما وراء المهزلة بوضوح شديد.

الفصل الخامس: دوّامة المنعطفات اللانهائية – كوريغرافيا النقاش

خطوط من الجمهور تتشكّل عند مخارج الخيمة، حيث بدأ بعض الحاضرين المغادرة تضامناً مع زملائهم الذين أُخرجوا قسراً لاحتجاجهم على تواطؤ إدارة السيرك.  

في محاولة يائسة لإنقاذ ما تبقّى من العرض، يظهر المدير فجأةً، محاولاً إقناع الجمهور بالبقاء، يعدهم بإرجاع زملائهم بشرط أن تبقى عناصر الحراسة «للحفاظ على الأمن».

يسود صمتٌ ثقيل بينما تُعدّ المنصة من جديد. الأضواء الخافتة تُلقي بظلالها الطويلة على أنقاض المشاهد السابقة. يجلس أفراد الجمهور بقلق، يحملون عبء خيبة الأمل الثقيل. هذه المرة، لا يوجد حماسٌ ولا ترقب... فقط شعور غريب بأنّهم مراقَبون. 

ينفّذ الساحر خدعته القديمة بحرفة: إيهام بدمج واقعين مختلفين، فيما الجوهر يكمن في تداخل خفي بينهما. أحد الواقعين هو معاداة السامية والآخر هو نقد شرعي لسياسات الدولة الصهيونية

يتقدّم مدير العرض إلى الأمام، وخطواته التي كانت واثقة في السابق باتت متردّدة، حيث يجثم انهيار العرض بثقله على كل حركة من حركاته. يتفحص الوجوه التي أمامه مدركاً تماماً أنّه بصدد فرصته الأخيرة لإنقاذ ما تبقى من العرض. أصوات الاحتجاج من الفصل الأخير ترنّ عالياً في أذنيه. لم يعد هذا مجرد أداء. لقد أصبح هذا مسرحاً لخلاصه. وفي محاولة منه لتهدئة أعصابه، يأخذ نفساً عميقاً وبضربة من عصاه يعلن بهدوء عن الفصل الأخير. 

«سيّداتي سادتي»، يبدأ مدير العرض، «لقد وصلنا إلى الخاتمة الكبرى لهذا السيرك الأكاديمي الاستثنائي!». وعلى الرغم من أن كلماته تهدف إلى الإلهام، إلا أنّها تحمل ثقل اليأس. «لقد تحدثتم، واستمعنا. حان الوقت كي يحتلّ الحوار والنقاش والمشاركة الفكرية مركز الصدارة! نظرة فاحصة على الحقائق الاجتماعية الملحّة لعالمنا من خلال نقاش مفتوح وصارم!».

يعدّل قبعته العالية وتزداد نبرة صوته جرأة، «في النهاية، أليس هذا ما يميّزنا؟ إنّ جامعاتنا - منارات المعرفة والفضيلة - تقف كمثل أعلى في «التوعية الاجتماعية» و«الانخراط العالمي» وحتى «إزالة الاستعمار». هذه ليست مجرد شعارات، بل هي أساس رسالتنا الأكاديمية،و المُثُل التي ندافع عنها بفخر في سعينا نحو عالم أفضل».

على الرغم من أن شكوك الحشد محفورة في كلّ نظرة، إلا أن وميضاً من الفضول يثبّتها في مكانها. هدأت همهمات المعارضة الآن، وحلّ محلّها صمت متوتر في انتظار رؤية ماذا سيحدث. يستشعر مدير العرض هذا الاهتمام الهشّ ويغتنم فرصته. تزداد إيماءاته عظَمة، ويعلو صوته بتبجّح مصطنَع بينما يشير بعصاه ليُرفَع الستار للمرّة الأخيرة.

ومع رفع الستائر، يكشف المسرح عن دوّامة كبيرة تتلألأ في روعة مزخرفة. منصّة دوّارة من الحيوانات الملوّنة - خيول مهيبة، وأسود ملكية، وبومة حكيمة، وحتى وحيد القرن الأسطوري، تبدو جميعاً مستعدّة للركوب. تنتظر هذه الحيوانات تحت المرايا المُذهّبة التي تنثُر الأضواء في شظايا مبهرة وكأنّها على وشك الانطلاق.

وجهات نظر متعدّدة، صفر إنزعاج

«أنظروا إلى حلَقة وجهات النظر المتعدّدة!» يعلن مدير العرض وصوته يعلو مع اعتداده بنفسه. «إنها أعجوبة التبادل الفكري، ابتكار«ثوري» بالمعنى الحرفي للكلمة في فنّ النقاش. بمجرد أن تبدأ في الدوران ستضيء كلّ زاوية وتضمن عدم وجود وجهة نظر لم يتمّ فحصها. من خلال تدويرها الرشيق واللانهائي للأفكار، ندفع بأنفسنا إلى الأمام في سعينا لمواجهة أكبر تحدّيات العالم!».

يتراجع إلى الوراء، تاركاً الدوّامة تسيطر على المسرح. «ترمز الدوّامة إلى التزامنا بالحوار الديناميكي - وهو عرض ساحر تدور فيه معضلات العالم بلا نهاية، وبحركة دائمة. ولكن قبل أن نبدأ رحلتنا، يجب أن نقرر: ما هو الموضوع المُلحّ الذي سنستكشفه في هذا العرض الكبير من الالتزام الفكري؟».

ينطلق صوت يصدح بعصبية من آخر الخيمة، مدركاً الأجواء الأمنية: «لقد وَعدَنا هذا السيرك بالنزاهة الفكرية، ولكن كلّ ما فعَله حتى الآن هو الدوران. دعونا نواجه أخيراً كيف تبرّر جامعاتنا التعاون المستمر مع مؤسسات مرتبطة بدولة متهمة بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتمييز العنصري وانتهاكات حقوق الإنسان على نطاق واسع».

يتعثر مدير الحلبة ويختل توازنه للحظات. «آه، حسناً، كما ترى، بعض المواضيع... حساسة، ومليئة بالتعقيدات»، يتلعثم، ويعدّل ربطة عنقه بابتسامة مصطنعة. «يجب أن نتأكد من أن ما نقدمه يبقى بنّاءً ويتجنب أي شيء يمكن أن يعرقل الانسجام في فضائنا. في نهاية المطاف، نحن ننوي أن يكون هذا المكان آمناً للحوار المتحضر، وملاذاً يتم فيه تجنب الانزعاج أو المواجهة من خلال الابتعاد عن المواضيع «الاستقطابية». تتلألأ العجلة الدوارة من خلفه، وتنثر مراياها الضوء مثل ألف ملهاة.

نضالات بالجملة، لكن لا شيء حتى الآن

«بالإضافة إلى ما سبق»، يضيف مدير العرض، رافعاً إصبعه كما لو كان يريد أن يوضح نقطة عميقة، «العالم واسع يا أصدقائي - بحر لا نهاية له من الظلم. لماذا التركيز على موجة واحدة بينما ترتفع موجات أخرى كثيرة في الأفق؟ ويمرّر عصاه على مرايا العجلة الدوارة التي تعكس كلٌ منها صور المعاناة: الأويغور في الصين، والفظائع في السودان، والعنف في شرق الكونغو. بالتأكيد، هذه تستحق اهتمامنا أيضاً. إن التركيز على قضية واحدة سيكون - كيف أقولها - ضيّق الأفق». 

يتذمّر الحشد، ويتبادلون نظرات متشككة. لقد خبروا هذا الأسلوب من «الماذا عن» مرّات عديدة كلّما تطلبت قضايا العدالة الاجتماعية الاهتمام: تحويل التركيز إلى مظالم أوسع نطاقاً يعفي المؤسسة بطريقة ما من مسؤولياتها المباشرة. 

الرسالة الضمنية واضحة لا لبس فيها: «إذا لم نتمكن من إصلاح كل شيء، فلا ينبغي لنا إصلاح أي شيء». ومع ذلك، بالنسبة إلى أولئك الذين سمعوا هذا العذر من قبل كإجراء للتقاعس عن الفعل في مواجهة الظلم، فإنه يبدو أجوفاً - وهو محاولة مكشوفة للغاية للتهرّب من المطالب غير المريحة لتحقيق العدالة. 

أقدمت جامعات في الولايات المتحدة وكندا على التعاقد مع شركات أمنية خاصة على صلة مباشرة بإسرائيل، وشغّلت جنوداً سابقين في جيش الاحتلال خدموا في غزّة لقمع احتجاجات الطلاب

نعم، توجد مآسٍ أخرى، وقضايا ملحّة، ويجب أن تُؤخذ على محمل الجدّ. لكن من يستدعي معاناة جماعة ما ليتستّر بها على معاناة أخرى،لا ينوي التعامل بجدّية مع أيّ منهما. هذه الحجّة هي محاولة كلبيّة مخاتلة للتهرّب من المسؤولية. بل أسوأ، هي تتستّر على الجذور المشتركة لهذه النضالات: الاستعمار، العنصريّة البنيويّة، وإرث الإبادة وسلب الأرض. إنّها تمحو الدرس الذي علّمنا إيّاه التاريخ: التضامن لا يعني المفاضلة بين النضالات، بل وصلها ببعضها. تضامن السود والفلسطينيين مثالٌ حيّ على ذلك. وهو يستمدّ جذوره من الكفاح المشترك ضدّ الاستعمار والاضطهاد، منذ دعم «الفهود السود» لحركة التحرّر الفلسطيني، وصولاً إلى نداءات اليوم من أجل العدالة، التي تؤكّد مدى ارتباط النضالات من أجل الحرّية في كلّ أرجاء المعمورة.

ومع ذلك، لا يزال لزاماً على الطلّاب أن يذكّروا جامعاتهم «المستنيرة» بما تدّعي أنّها تمثّله. على مرّ العقود، كان الطلبة دائماً في طليعة الحركات من أجل العدالة: من المقاطعة ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، إلى الاحتجاجات ضدّ حرب فيتنام. لم تكن تلك انحرافات ولا تجاوزات؛ بل كانت لحظات بصيرة وفهمٌ عميق بأنّ الظلم، أينما كان، مرتبط ببعضه بعضاً.

ولذا قال نيلسون مانديلا قولته الشهيرة: «حريّتنا غير مكتملة من دون حريّة الفلسطينيّين»، مؤكّداً بذلك أن لا تحرّر حقيقياً في ظلّ استمرار اضطهاد الآخرين.

اليوم، تحفظ الحركات الطلّابية من أجل فلسطين هذا الإرث، إذ تربط بين غزّة وشرق الكونغو، حيث يقود الطلب العالمي على المعادن والإرث الكولونيالي المستمرّ صراعات دموية واستغلالاً بشعاً؛ ومع كشمير، حيث يعيد الاحتلال العسكري إنتاج أساليب الاستيطان نفسها؛ وصولاً إلى السودان وأثيوبيا، حيث الصراعات على الأرض والموارد تتواصل في ظلّ تاريخ استعماري، تعمل على إدامته اقتصادات الاستخراج وتجارة السلاح العالميّة. لا تستخف هذه الحركات بالنضالات الأخرى - بل تحتضنها، وتُعرّي كيف تستفيد المؤسّسات من هذه المنظومات وتُعيد إنتاجها، وترفض أن تختبئ الجامعات خلف واجهة الحياد الأدائي.

حقائق عنيفة قائمة على أسس واهية

وهنا يكمن الانزعاج الأعمق لمدير العرض وسيركه. فمواجهة «إسرائيل» لا تعني فحسب مجرّد الاعتراف بأكثر من 75 سنة من المصادرة، والتمييز العنصري، والاحتلال العنيف؛ بل تعني كذلك تحدّي الأساطير التي لطالما دعمت وجودها. تلك الأساطير - التي تصوّر «إسرائيل» كمعقل للديمقراطية، وملاذٍ للمضطهدين، وفاعل بريء في عالم معادٍ - ليست سوى قناع يخفي حقيقة مشروعها الاستيطاني الاستعماري. في قلب هذه الأساطير تكمُن سياسات صهيونية قائمة على الاستيلاء على الأرض، والتطهير الإثني، والإزالة المنهجية للسكان الأصليين، ويُغلَّف كلّ ذلك بخطاب الأمن والدفاع عن النفس. إنّ تحدّي هذه الرواية يعني تحطيم الواجهة المصطنعة وتسليط الضوء مباشرة على الجناة - القوى نفسها التي تُبقي على دوران هذه الدوّامة.

يشلّ انتقاد إسرائيل الأكاديميا الغربية - ليس بسبب الشعور الأوروبي بالذنب تجاه المحرقة فحسب، على الرغم من أنّ هذا الظل التاريخي يخيّم بكثافة على الأمر. فإسرائيل ليست حالة شاذة، بل هي مرآة تعكس المنظومات نفسها من الغزو والاستغلال والطمس التي بُنيت بها الهيمنة الغربية وما تزال تُصان عبرها. تسمية هذا الواقع تعني إجبار الجامعات على مواجهة جذورها وتواطئها المستمر مع أنظمة التمييز العنصري والإمبريالية والإبادة. كما سيؤدّي ذلك إلى تفكيك الأساطير التي تشكّل هوية الغرب - أساطير البراءة والتفوق الأخلاقي التي تمّ بناؤها لضمان استمرار دوران هذا السيرك. فالمأزق لا يكمن فقط في كشف أفعال إسرائيل، بل في تفكيك السردية الأوسع التي تسمح للغرب بالبقاء بمنأى عن المساءلة بينما يواصل جني الأرباح من أنظمة القمع. ولمَ تعطيل هذا النظام طالما أن الدوّامة يمكن أن تستمر في الدوران؟

توثيق حرائق الماضي، والصمت عن الحريق الراهن

محاصَراً بتسارع الحقائق المزعجة، يجيل مدير العرض نظره في القاعة، متظاهراً بالتفكير بُرهةً، قبل أن يرسم على وجهه ابتسامة متكلّفة. «حسناً إذاً!» يعلن بصوت يحاول أن يستعيد هيبته. «اتساقاً مع روح الحرية الأكاديمية، سنفتح الآن المجال لنقاش حول النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي!» تندفع يداه بحركة مسرحية، كما لو أنه يمنح الجمهور تنازلاً عظيماً. «لكن دعونا نمضِ بحذر - فهذه مسائل معقدة، حسّاسة، ومثيرة للانقسام». يتوقف لحظة، يومئ لنفسه كما لو أنه قال شيئاً عميقاً. «ولا بدّ أن يكون الراكبون في هذه الجولة من أهل الاختصاص فقط».

تجول عيناه على الحضور، لتستقرّ على مجموعة من الأكاديميين البارزين في الصف الأول - أسماء لمعت في تحليل النزاعات الدولية ومسارات السلام، وتوثيق الإبادات الجماعية السابقة، ومناصرة النسوية الغربية، ودراسة مسارات التنمية في الجنوب العالمي. وقد قفز البعض منهم في الآونة الأخيرة أيضاً إلى عربة «إزالة الاستعمار». هؤلاء هم الأصوات التي نجدها عادة في الصحف والمجلات الأكاديمية ومدوّنات الرأي، دوماً في أهبة استعداد للتعليق على آخر القضايا الرائجة. ومع ذلك، فقد التزموا صمتاً صارخاً طوال العام الماضي تجاه فظائع إسرائيل.

تتململ أجسادهم تحت نظرات مدير العرض، كأنّ خبراتهم قد تجمّدت بين جدران البرج العاجي فيما العالم من حولهم يشتعل. يحاول الرجل التواصل بعينيه معهم، بحثاً عن أيّ استعداد من أحدهم للمشاركة، أن يخطو إلى الأمام ويركب دوّامة النقاش ويقدّم بعض التوضيح. لكن الصمت سيّد الموقف. يجلسون جامدين، أعينهم شاخصة بثبات إلى الأمام، وكأنّ هذه اللحظة لا تخصّهم. فعندما يتعلّق الأمر بإسرائيل، تتبخّر أصواتهم الواثقة - تلك التي لطالما جلجلت بتحليل الماضي أو التنظير المفاهيمي لـ«إزالة الاستعمار». يستطيعون تفكيك التاريخ من أمان مكاتبهم، لكن حين يطالبهم الحاضر بالفعل، يتوارون إلى الخلف، ربّما على أمل أن يطوي الزمن صمتهم هذا، فيعودوا لاحقاً بلا ضرر ليكتبوا مقالة أخرى عن «كيف سمح العالم للإبادة بأن تقع» بينما هم في تلك اللحظة لم يحرّكوا ساكناً.

يُدرك مدير العرض أن اللحظة تنزلق من بين يديه، فيُعدّل وقفته سريعاً، ويومئ برأسه كأنّه يعترف بشيء لا يريد الإفصاح عنه. «آه،نعم، بالطبع»، يتمتم بنبرة فيها لمحة استخفاف. «ربما لم يحن وقتهم بعد. لكن لا بأس! فهناك دائماً آخرون مستعدون لتولي المهمة!» ثم يستدير نحو الكواليس، منادياً على «البدلاء».

تنظّم من الهامش، وتجاهل في المركز

لكن قبل أن يتمكن من الانسحاب إلى وراء الستار، ينهض عدد من الحضور من المقاعد الخلفية، رافعين أيديهم في تحدٍّ خافت. طلاب وعمّال جامعيون يعملون بعقود هشة - طلبة دكتوراه، باحثون ما بعد الدكتوراه، مدرّسون غير مرسّمين، موظفون إداريون بدوام جزئي - يقفون وهم مدركون تماماً هشاشة مواقعهم. «سنصعد نحن»، يقول أحدهم، متقدّماً بثباتٍ بين الحراس الأمنيين. «لقد تعاملنا مع هذا الموضوع لسنوات - كتبنا، ونظّمنا نقاشات، وعروض أفلام، وورشات تعليمية. دعوْنا أكاديميين فلسطينيين، وباحثين إسرائيليين كشفوا سياسات التمييز العنصري، وخبراء في حقوق الإنسان». تتردّد كلماتهم ثقيلة في الهواء. «حين رفضت الجامعة أن تفتح المساحة، فتحناها نحن. ومع ذلك، أولئك الذين اختبأوا دائماً خلف حجة أنّ «المسألة معقّدة» لم يحضروا أياً من تلك الفعاليات. لذلك فنحن أكثر من مستعدين الآن لاغتنام هذه الفرصة و...».

من يستدعي معاناة جماعة ما ليتستّر بها على معاناة أخرى،لا ينوي التعامل بجدّية مع أيّ منهما. هذه الحجّة هي محاولة كلبيّة مخاتلة للتهرّب من المسؤولية

يُلوّح مدير العرض بعصاه ليقاطعهم قبل أن يُكملوا. «لا، لا»، يصرّح بصوت ناعم لكنه مشبع بالاستخفاف، «نحن بحاجة إلى وجهات نظر جديدة، محايدة - خالية من... التورّط العاطفي». تتدلّى كلماته في الهواء، مصقولة ومتقنة، لكنها لا تخفي الإهانة. يتبادل الطلاب والعاملون النظرات، ويزداد تصميمهم. يعرفون هذا السيناريو جيداً. كانت جهودهم دوماً مرفوضة قبل أن تبدأ. لم تكن المؤسسة تنوي يوماً أن تأخذهم على محمل الجدّ. فقد تركت العمل الثقيل - الكتابة، والتنظيم، والتثقيف - لأهل الهامش، فقط لتُحبط من دون جلبة من التزام ذي تأثير. وعندما بدأت هذه المبادرات القاعدية في جذب الانتباه، كانت الجامعة تراقب من بعيد، حذرة من أي اقتران يضرّ بصورتها، بينما تقوم - في الخفاء - بتقويض تلك المبادرات للمحافظة على وهم السيطرة.

«نقدّر حماستكم»، يُكمل مدير العرض بنبرة أصبحت الآن استعلائية تماماً، «لكن هذا النوع من النقاشات يتطلب توازناً... خالياً من الانحياز أو الأجندات». ثم، بحركة رشيقة اعتاد عليها، يُشير إلى الستار. «والآن، بما أنّ أحداً لم يتقدّم، وبما أننا نفتقر إلى الخبرات اللازمة داخل البيت، دعوني أقدّم لكم الضيوف المدعوّين لهذه المناظرة».

دورانٌ لا ينتهي، وتقدُّمٌ لا يحصل

ينفتح باب الخيمة الخلفي، ويظهر البدلاء - دبلوماسيون متقاعدون، خبراء في صناعة السياسة الخارجية الغربية، وأكاديميون في العلوم السياسية والتاريخ ممّن تربطهم علاقات بمؤسّسات إسرائيلية، وخبراء في فضّ النزاعات من الذين اعتادوا التهرّب ببراعة من التعاطي مع التاريخ الاستعماري.

«آه، ها هم!» يعلن مدير العرض بفخر، «الركّاب المثاليون لدوّامتنا - دوّامة التعدّد في وجهات النظر!».

يصعد المشاركون على دوابهم الملوّنة، كلّ يمتطي حصاناً خشبياً يعكس مواقفه المصقولة بعناية. تبدأ الدوّامة في الدوران ببطء، وتبدأ الكلمات المدروسة في التدفق، تنساب في حوار حي حول الجغرافيا السياسية، وتعقيدات التاريخ، ونداءات السلام العامة. يشاهد الجمهور، بعضهم يومئ بالموافقة، وبعضهم الآخر لا يُخفي تململه، والريبة مرسومة على وجوههم.

تدور الدوّامة وتدور، حججها دائريّة، كلماتها مهذّبة ونبرتها ثابتة، لكنها دوماً تتجنّب الحواف الحادّة. تناقش القضية من ارتفاع شاهق، بعيداً من ثقل الحقائق المعيشة.

ينبعث من الجمهور صوتٌ نسائيّ يقطع الرتابة: «وماذا عن الاحتلال؟ عن المستوطنات غير الشرعية؟ عن انتهاكات حقوق الإنسان؟»

تتعثّر الدوّامة، وتختلّ وتيرتها المنتظمة. يتردّد الفرسان، يتبادلون نظرات حائرة، قبل أن يتدارك أحدهم الأمر بابتسامة تمرّس عليها طويلاً. يردّ باستخدام النغمة المعهودة: «وهل تدينون حماس؟» - مناورة مألوفة تُضع شرطاً للسؤال وتحوّل الانتباه نحو الآخر. يوافقه آخر بهزّة رأسٍ متأنّية: «يجب ألا ننسى أن المعاناة تمسّ الجانبيْن»، محاولة باهتة للموازنة لا تلامس جوهر السؤال.

يتردّد الهمس بين الجمهور. البعض يهزّ رأسه آلياً، منوَّماً بسلوك التهذيب، لكن آخرين يبقون ثابتين، عيونهم حادة، والسؤال لا يزال معلّقاً في الهواء كاتهام لم يُردّ عليه. تعاود الدوّامة الدوران، لكنها لم تعد ناعمة كما كانت؛ فثقل الحقائق المسكوت عنها بدأ يُنهك تروسها.

الضيف المتطفّل الذي يرفض الجميع الاعتراف بوجوده

مع تسارع دوران الدوّامة، تبدأ المشاهد في التلاشي، مموّهة بحركة لا تهدأ. في البداية، يُخفي الدوران السريع خلَلاً مقلقاً في مركز الدائرة. لكن مع تصاعد السرعة، يصبح من المستحيل تجاهل الحقيقة: هناك، في القلب تماماً، يقف فيل. ضخم، عارٍ، لا يتحرّك، لكن حضوره يفرض نفسه بقوّة. على شفتيه ابتسامة ساخرة، كأنما يسخر من الفرسان المتشبّثين بالإنكار، ومن الحضور الذي تظاهر  طويلاً بأن لا شيء غريباً يقف في منتصف هذه الخيمة. لقد كان الفيل هناك منذ البداية - حقيقة ضخمة تم تجاهلها عمداً، إدانة ثقيلة جداً إلى درجة لا تسمح بمواجهتها.

يحاول الركّاب تجنّب النظر إليه، تتسارع كلماتهم المصقولة، لكن نبرتها تصبح متوتّرة. يحاولون التشبّث بسرديّاتهم المتهاوية. تتفكك حججهم المُنمّقة، ويتحول خطابهم الذي كان يوماً مُتّزناً إلى هرجٍ من المناورات المذعورة.

التضامن لا يعني المفاضلة بين النضالات، بل وصلها ببعضها. تضامن السود والفلسطينيين مثالٌ حيّ على ذلك. وهو يستمدّ جذوره من الكفاح المشترك ضدّ الاستعمار والاضطهاد

يُعيدون تكرار شعاراتهم: المصطلحات العالية التي كانت تُستخدم كدروع لحماية «الصرامة الأكاديمية» تدور الآن في دوائر، تهرب من الحقيقة التي يُجسّدها الفيل: واقع التمييز العنصري بوحشيته، قبضة الاحتلال الخانقة، القمع المنهجي، سجن الأطفال بالجملة، والإلغاء الإبادي لمجموعات بشرية بأكملها. كل تهرّب هو فعل تواطؤ؛ كل التفاف هو قبول ضمني بأنّ حياة الفلسطينيين ثانويّة، لا تستحق سوى أن تُختزل في إزعاجٍ بلاغي.

يبدأ الجمهور بالتحرّك، وقد انجلى عنهم سحر العرض. تتصاعد الهمسات إلى موجة من الاستنكار. واحداً تلو الآخر، ينهض الحاضرون، يشيرون نحو الفيل، وأصواتهم تخترق الضجيج: «كفى مراوغة! واجهوا الحقيقة!». 

من ناب الفيل إلى سقوط البرج

تتحطّم رباطة جأش مدير العرض. صوته، الذي كان يوماً واثقاً ومهيمناً، يرتجف الآن وهو يتوسّل: «سيّداتي، سادتي، لا تتركوا التعمّق والتدقيق! انظروا إلى التوازن! إلى الصرامة الفكرية!» لكن كلماته ترتطم بجدار الحقيقة، يظلّ فراغها صارخاً أمام التحدّي المتصاعد. يتحطم التظاهر بالحوار، ويتحول السيرك إلى فوضى عارمة. يحاول الاستنجاد بالحراس مجدداً، لكن تمسّك الجمهور بالحقيقة باتأمراً غير قابل للكسر.

تدور الدوّامة بجنون الآن: حركاتها تتخبّط، والآلات التي تشغّلها تئنّ تحت ثقل التناقضات التي لم تعد قابلة للمواءمة. تتلوّى الحيوانات المزيّفة بعنف، والركّاب يتشبّثون بيأسٍ بمقاعدهم، بينما تتهاوى واجهاتهم الملمّعة. تتصاعد هتافات الحضور وتتجمّع في صرخة موحّدة: «اكشفوا النفاق! فكّكوا التواطؤ!».

ثمّ يحدث ما لا مفرّ منه. الدوران المستمرّ، والثرثرة التي لا تتوقّف، وادّعاء الموضوعية الفكرية، والثقل الهائل للفيل في المركز - تظافرها سويّة يجعل الانهيار محتوماً. يُسمع صوت صرير عالٍ عندما تنحني العجلة الدوّارة وتنهار تحت وطأة تناقضاتها. يُقذف الركّاب إلى الأرض، وتتحطّم كلماتهم المصقولة فتُمسي مستعصية على الترميم.

تندفع أمواج الصدمة لتغمر خيمة السيرك: الأعمدة تتشقق وتتهشّم، اللافتات التي كانت مرفوعة بفخر تسقط ذليلة على الأرض، ينشقّ القماش ويترهّل تحت الضغط، وتنهار البُنية المركزية بلا رجعة. الأضواء ترتجف، تُلقي بظلال متخبّطة على الفوضى، والغبار يتصاعد في سُحبٍ خانقة بينما ينهار الكيان العظيم، تاركاً وراءه كومةً من الحطام، من آلياتٍ مدمّرة، ومُثُلٍ ممزّقة، وقد انكشفت تحت نور الحقيقة الذي لا يرحم.

عندما ينقشع الغبار، لا يكشف الحطام إلّا ما كان موجوداً دائماً: الفيل غير المعترف به، الذي سقط في الوسط، وأحد أنيابه الضخمة قد اخترق خيمة السيرك الساقطة نحو الأعلى. تلمع قطعة العاج بشكل صارخ أمام الدمار المحيط بها. الناب الذي كان رمزاً للتسلّط المنعزل، يقف الآن كآخر ما تبقى من البرج العاجي الذي تم إسقاطه إلى أسفل، وبياضه اللامع تذكير لا يرحم بتلك النظرة الانتقائية للمُثل العليا المحطّمة والحقائق المدفونة تحت وطأة الصمت والإنكار. 

يتجمّع الحشد في صمت ثقيل،  لا تنفكّ العيون تتجه نحو الناب - صدى قاسٍ للبرج الذي كان منتصباً. بعد أن جُرّد من أوهامه وسلطته، لم يعد يُثير الاحترام، بل المساءلة فحسب. لم يعد بريقه انعكاساً لـ«صرامة فكرية»، بل بات  يعكس حيلة جوفاء لمنظومة تخفي التخاذل عن الفعل وتسمّي التهرّب توازناً فكرياً.

لقد انتهى العرض. انتهى السيرك.

إعادة كتابة النص، واستعادة الجامعة؟

انهيار السيرك ليس مأساة. كان أمراً حتمياً - عرضاً للمتناقضات غير قادرٍ على تأمين استمراره. لقد اختبأت الأكاديميا طويلاً خلف واجهة الحياد، مستخدمة خطاباً متعالياً لتخفي تواطؤها في أنظمة الهيمنة العالمية. لم يعد مقبولاً أن نستمرّ في تقبّل مؤسّسات تتحدّث عن «تفكيك الاستعمار» بينما تحافظ على بُنى استعمارية، أو تحتفي بـ«حرّية أكاديمية» بينما تقمع الأصوات المعارضة. إنّ سقوط الخيمة لا يفضح فقط خواء مظاهر التضامن الاستعراضي، بل يكشف أيضاً عن الحاجة إلى مواجهة أكثر جذرية: أيُّ جامعة سنبنيها بدلاً عن هذه؟

لا تقتصر استعادة الجامعة على قطع العلاقات مع المؤسّسات المتواطئة في نظام التمييز العنصري، بل تتطلّب أيضاً مواجهة وظيفتها كجهاز استعماري لطالما خدَم السلطة ومصالح النُّخب. هذه المعركة ليست جديدة. لطالما تعاطت الحركات الراديكالية مع سؤالٍ محوري: هل يمكن حقاً استعادة هذه الفضاءات وتحويلها من الداخل، أم أنّ التحرّر الحقيقي يقتضي القطع مع بُنَاها المتجذّرة؟ من التقليد الراديكالي الأسود إلى انتفاضات الطلبة حول العالم، تبقى هذه التوتّرات - بين أن نكون «من الجامعة» أو أن نكون «داخلها» - في صميم السياسات الانتفاضية. ما بات واضحاً، مع ذلك، هو أنّ التضامن مع فلسطين ليس فعلاً معزولاً. إنّه جزء من نضال أوسع، مترابط، ضد الاستعمار ورأس المال العنصري، والعنف البُنيَوي. هذه النضالات لا تجري بشكل متوازٍ، بل تتفاعل وتُشكّل وتغذّي بعضها البعض.

لم تكن الرهانات أكثر وضوحاً ممّا هي عليه اليوم. بالنسبة إلى الفلسطينيين، هذه معركة من أجل البقاء في وجه تدمير بلا هوادة. أمّا بالنسبة إلينا نحن، فالصمت تواطؤ، واللافعل تخلٍّ عن المبادئ التي نزعم التمسّك بها. تواطؤ الأوساط الأكاديمية مع نظام التمييز العنصري والاحتلال والإبادة لا يُخفق في حقّ فلسطين فقط، بل يُخفق في حقّ الإنسانيّة جمعاء.

تواطؤ الأوساط الأكاديمية مع نظام التمييز العنصري والاحتلال والإبادة لا يُخفق في حقّ فلسطين فقط، بل يُخفق في حقّ الإنسانيّة جمعاء

ومع ذلك، وسط هذا الركام، يبقى التمرّد حيّاً والأمل حاضراً. في غزّة، يُعيد الطلّاب والمدرّسون بناء ما تهدّم، مصرّين على حقّهم في التعلّم والتعليم، رافضين تسليم المعرفة لآلة المحو. إنّ مقاومتهم تذكير بأنّ التعليم ليس مجرّد وسيلة للبقاء - إنّه فعل تمرّد. إنّه إعلان لا يلين للكرامة في وجه التجريد من الإنسانية.

سقطت الخيمة، لكن المسرح لا يزال قائماً. الجامعة ليست معزولة عن النضالات التي تدور من حولها - إنّها منخرطة فيها أصلاً. إنّها فضاء يُعاد فيه إنتاج السلطة أو تُواجَه. السؤال إذن ليس ما إذا كنّا نلعب دوراً، بل كيف نختار أن نلعبه. يمكننا أن نسمح لها بأن تظلّ نُصباً للسلطة، أو يمكننا أن نحوّلها إلى منصّة تُسخّر فيها المعرفة لخدمة الحركات المطالبة بالعدالة والتحرّر.

هذه ليست مهمّة مؤجّلة إلى المستقبل. إنّها معركة تتطلّب الفعل اليوم. نحن، كطلبة، وعاملين، ومعلّمين، ومنظّمين مجتمعيّين، علينا مسؤولية أن نواجه التواطؤ بلا كَلل، وأن نوجّه مواردنا الفكرية حيث تكون الحاجة إليها أكثر إلحاحاً. ما بدأ كهمسات في الجنبَات والأكناف قد تحوّل بالفعل إلى هتافاتٍ تتردّد في الشوارع وساحات الجامعات. والآن، علينا أن ندفع إلى أبعد من ذلك، أن نحوّل أصواتنا إلى هديرٍ لا يهدأ، يهزّ أركان التواطؤ من جذورها.

المسرح مهيّأ. النصّ لم يُستكمل بعد. ما سيحدث لاحقاً رهين إرادتنا.

الشكر والتقدير

أودّ أن أشكر مجموعة الطلاب والعاملين في الجامعات حول العالم الذين ألهموا الطرق التي نتصاعد بها في العمل ونتنظم من أجل العدالة لفلسطين والشعب الفلسطيني. خصوصاً أود أن أشكر الرفاق في المعهد العابر للقوميات (حمزة حموشان، آبي باي، وجوزيفين سولانكي)، بالإضافة إلى دانيا نادر، مها عبد الله، مريم عواراغ، شيماء نادر، فيجاي كولينجيفادي، كوين بوغايرت، عمر جباري سلامانكا، ديفانشيساكسينا، إيفرت بيترز، بودوين مينا سيبو، فينسنت بيلينكس، باولو فافيرو، أستريد جامار، ريجي جوزيف-ساليسبري، وجويدو فان هيكن على تعليقاتهم واقتراحاتهم القيمة على المسودات السابقة. المسؤولية عن العمل النهائي تقع عليّ وحدي.

نُشِر هذا المقال في 28 آذار/مارس 2025 في موقع «المعهد العابر للقوميات»، وتُرجِم إلى العربية ونشر في موقع «صفر» بموجب اتفاق مع الجهة الناشرة.

    جيرت فان هيكن

    أستاذ مشارك في جامعة أنتويرب، بلجيكا، وباحث مشارك في نيتلا بان، جامعة أميركا الوسطى، نيكاراغوا. يتركّز بحثه وتعليمه حول سياسات المعرفة في السياسات البيئية العالمية، حيث يقوم بتحليل نقدي لعمليات الاستعمار الأخضر والتنمية غير المتكافئة، مع التركيز الخاص على كيفية مقاومة المجتمعات والحركات الاجتماعية للرأسمالية الاستعمارية. هو أيضاً ناشط في تنظيم فعاليات التضامن مع فلسطين، ويعمل جنباً إلى جنب مع الطلبة والعاملين في الجامعات.