حساب جاري
نهاية الحكم الإنساني
بزغ خطاب جديد في خلال الأسبوعين الماضيين بعد الهجمات الدموية التي شنّتها إسرائيل على بيروت والجنوب والبقاع. سارع جيش من المثّقفين والنشطاء الجُدد من مختلف أنحاء العالم في توصيف الوضع الفوضوي في لبنان، والإشارة إلى عجز حزب الله عن تلبية أبسط احتياجات قاعدته الاجتماعية. قرأت في نشرة إخبارية، تصدرها إحدى المؤسّسات البحثية المموّلة غربياً في بيروت، أن «حزب الله لم يتّخذ أي تدابير لحماية السكّان المدنيين». وتناولت مقالة أخرى في مجلّة أميركية رائدة «غياب حزب الله الفاضح في مواجهة ما قد يكون إحدى أكبر أزمات النزوح في لبنان». ولاحظت أيضاً في تغريدات لعدد من الباحثين والصحافيين المقيمين في واشنطن وبيروت، إصراراً على تسليط الضوء على «فشل المجتمع المدني لحزب الله» وعجزه مجدّداً عن مواجهة النزوح الجماعي.
تنتشر هذه التصريحات التشخيصية بسرعة كبيرة. وفي وقت يحاول كثيرون إقناعنا بأن حزب الله فقد السيطرة الكاملة، ما يهمّني هنا هو الترابط بين هذه السرديات والخطابات الأيديولوجية المُهيمنة والنظام العالمي السائد، الذي يرتكز على ثنائية من التدخّل العسكري والإنساني بدأت تتجذّر في أواخر ثمانينيات القرن الماضي.
بحجّة المسافة التحليلية والحياد التكنوقراطي، يُبرِّر هذا الخطاب المُسيَّس، إلى حدّ المبالغة، العنف الإبادي الذي تأتينا به إسرائيل من الجحيمٍ، ويتجاهل حقيقة أن معظم الحكومات تعجز عن إدارة نزوح أكثر من مليون إنسان في فترة زمنية قصيرة
بحجّة المسافة التحليلية والحياد التكنوقراطي، يُبرِّر هذا الخطاب المُسيَّس، إلى حدّ المبالغة، العنف الإبادي الذي تأتينا به إسرائيل من الجحيمٍ، ويتجاهل حقيقة أن معظم الحكومات تعجز عن إدارة نزوح أكثر من مليون إنسان في فترة زمنية قصيرة. يؤيّد هذا الخطاب استخدام القوّة المُطلقة ضدّ المجتمعات الإنسانية، ويشرّع الهجمات العدوانية القاتلة من البحر والسماء، ويطبِّع مع منطق تدمير الدولة والمجتمع عبر أطنان من القنابل، تسلبنا القدرة على التعبير. أيضاً، يُعزِّز هذا الخطاب مفهوم حالة الاستثناء. وكأن النزوح الهائل، وسط أزمة مالية وحرب استنزاف وقرب الانهيار الكامل للبنية التحتية العامّة، هو أزمة محلّية أو إقليمية وليس تجسيداً محلّياً لديناميات عالمية أوسع.
على مدى عقود، وجّه هذا النظام العالمي المُهيمن انتقادات حادّة إلى العالم العربي لافتقاده مجتمعاً مدنياً قوياً. ومن بين الأمور الأخرى التي تردّد افتقارنا إليها برزت الديمقراطية وثقافة الحقوق وحرّية التعبير. انتقد الكثير من الناس في المنطقة وخارجها هذا التصوّر المُحدّد لمفهوم المجتمع المدني.1 اعتُبِر المجتمع المدني مُتميّزاً عن المجتمع السياسي والمجتمع الأهلي والدولة. وقد شمل، بتعابير البنك الدولي «مجموعة واسعة من المنظّمات تضمّ المجموعات الأهلية المحلّية، والمنظّمات غير الحكومية، والنقابات العمّالية، ومجموعات السكّان الأصليين، والمنظّمات الخيرية، والجمعيات الدينية، والجمعيات المهنية، والمؤسّسات». ويُشير هذا المجتمع المدني إلى نمط من الحكم وطريقة حياة لا تكون الأنشطة الاقتصادية السائدة فيهما المنظِّم الرئيس للعلاقات والسلوك الإنساني بل المنظِّم الوحيد لهما. إنه مجتمع مدني يُحرّكه أفراد يتسمون بالاستقلالية والاندفاع الذاتي والعقلانية، ويشار إليهم بأنهم فاعلون ويتمتّعون بحقوق معيّنة، مثل حريّة المبادرة.
منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، يُصرّ الجهاز العالمي المعني بنشر التنمية النيوليبرالية - بدءاً من المنظّمات المالية الدولية إلى الشركاء المحلّيين من المنظّمات غير الحكومية - على أن المجتمع المدني القوي لا بدّ وأن يلتزم بالقيم الليبرالية، وأن يحمي المجتمع بأكمله من الهيمنة السياسية والانحرافات الاستبدادية لسلطة الدولة. وعلى الرغم من أن المجتمع المدني بمفهومه السائد تبنّى منذ فترة طويلة الحياد السياسي المزعوم، لكنه في الواقع لم يكن مُحايداً على الإطلاق. فمن أجل تأكيد أولوية السوق وشرعنتها، جرى تقويض الدور السياسي الأساسي للأحزاب والنقابات والجمعيات التي تعمل وفق تنظيم هرمي وتتبع المبدأ التمثيلي على اعتبار أن ثمة أكثرية تحكم وأقلية تعارض، بدلاً من اتباع التنظيم الأفقي واعتماد المناصرة والتوافق طريقة في العمل. بمرور أربعين عاماً، وبدلاً من العالم المثالي الذي وعدت به، أعادت الرأسمالية العالمية ومؤسّساتها هيكلة العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بطريقة جذريّة، فأنتجت عالماً يُنظَّم بالكامل بواسطة السوق، وتتنازل الدولة فيه عن واجباتها ومسؤولياتها الخدمية وتجيّرها للمنظّمات غير الحكومية التي تعتمد على التمويل من دول الشمال، كما تُخصخص فيه أبسط الحقوق مثل الصحّة والتعليم أو حتى الكهرباء، وتؤدّي الخطابات التقنية السياسية إلى تآكل السياسات المعارضة واستباقها.
نعيد اكتشاف أن ازدهار المجتمع المدني بالكاد يرتبط بحماية الحقوق والقيم الديمقراطية. ففي بلد مثل لبنان، أدّت النيوليبرالية الاقتصادية والترويج العدواني لمنظّمات المجتمع المدني إلى تدمير إمكانية توفير الخدمات العامّة بطريقة مسؤولة، وهو ما يعتبر أساسياً في زمن الحرب
في دول الشمال وأماكن أخرى من العالم، أعيد ضبط العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الراسخة وعقلنتها عبر مجموعة واسعة من الوسائل والطرق المختلفة كلّياً عمّا اعتمد في البلدان العربية. بعبارة أخرى، لم يستلزم فرض النيوليبرالية، الذي حصل تدريجياً، أي محاولة لإبراز دور منظّمات المجتمع المدني، على الأقل ليس بالطريقة التي حصلت في العالم العربي. ومع ذلك، تسود فكرة في معظم الدول، التي تمتلك تقليداً راسخاً من الجمعيّات المدنية والمنظّمات الخيرية، مفادها أن المجتمع المدني المزدهر يعزّز الممارسات الديمقراطية كالمشاركة المدنية والمساءلة. بدليل إذا سألت شخصاً ما عن دور المجتمع المدني القوي، سوف يخبرك بأنه يساهم بالتأكيد في تحسين الحالة الإنسانية. لكننا منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، نعيد اكتشاف أن ازدهار المجتمع المدني بالكاد يرتبط بحماية الحقوق والقيم الديمقراطية. ففي بلد مثل لبنان، أدّت النيوليبرالية الاقتصادية والترويج العدواني لمنظّمات المجتمع المدني إلى تدمير إمكانية توفير الخدمات العامّة بطريقة مسؤولة، وهو ما يعتبر أساسياً في زمن الحرب. من ناحية أخرى، لم يتمكّن المجتمع المدني في الغرب (وفي بعض الحالات لم يرغب أصلاً) من محاسبة الحكومات عن دورها الرئيس في دعم إسرائيل في حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها ضدّ الفلسطينيين، وشرعنة هذه الإبادة، وها هي الآن تعلن تأييدها لحرب إسرائيل الشاملة والوحشية على لبنان.
بحجّة وجود تهديدات مُحتملة وخطيرة بالتعطيل، أعلنت الجامعة التي أعمل بها في مونتريال إغلاق حرمها أمام الزوّار والأساتذة والطلاب والموظّفين لمدّة ثلاثة أيام سبقت الذكرى السنوية الأولى من 7 تشرين الأول/أكتوبر. وعقدت البلدية والشرطة مؤتمراً صحافياً للإعلان عن تنفيذ إجراءات خاصّة في جميع أنحاء المدينة بحجّة ضمان سلامة المجتمعات اليهودية وصون مصلحتها. أعرب بعض الأصدقاء عن استيائهم، ولكن لم يُبذل الكثير لمواجهة هذه الإجراءات غير الاعتيادية لإدارة التهديدات وإضفاء الطابع الأمني عليها؛ سوف يعطي زملائي دروسهم عبر الإنترنت، وسوف يعمل آخرون من منازلهم.
ما نعيد اكتشافه أيضاً، منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، هو نظام حكم عالمي يرتكز على مبدأين أساسيين ومترابطين؛ المبدأ الأول هو تعزيز السوق كسلطة أقوى تُحدّد قيمة الأجساد البشرية والشعوب وتنظّمها، متجاوزة، كما رأينا، السلطة التشريعية والقانونية. وفي هذا العالم الذي تهيمن عليه السوق، يتمّ التعدّي على القوانين والأنظمة والقواعد بسهولة بالتوازي مع توسّع الأنشطة الاقتصادية المُهيمنة. على سبيل المثال، لاحظوا/ن استمرار ارتفاع أسهم شركة «لوكهيد مارتن» باطراد بالتوازي مع أسئلة كثيرة تُثار عن مدى أهمّية القانون الإنساني الدولي أو مدى الامتثال لقواعده. ينشأ المبدأ الثاني من تداخل هذا الشكل من الحكم العالمي، الذي يستمر في إنتاج لامساواة مُدمّرة، مع حالة الاستثناء المتواصلة، فيسمح للنظام السائد بتجاوز قواعده الخاصة (مثل القانون الدولي الإنساني) وإدارة التهديدات والأعداء المتغيّرين باسم المصلحة العامّة التي ما تنفك تتغيّر باستمرار.
في الأيام التي تلت اغتيال السيد حسن نصر الله، كنت على اتصال هاتفي مع زميل لي. وعندما عبّرت عن استيائي من الهجمات الإسرائيلية، أجابني بالقول: «لا تقلقي، صحيح أننا نعيش أوقاتاً صعبة لكنها سوف تمضي بسرعة. ما ينتظر لبنان هو تنمية اقتصادية ووفرة وازدهار». ترآت لي إجابته الصادمة أفقاً تختفي فيه جميع العلاقات الاجتماعية والسياسية المُعقّدة بسحر ساحر، وتُرفع الأنقاض بلمحة بصر، وتُزال الروائح الكريهة للجثث غير المُنتشلة والعالقة تحت الأنقاض. بدت طريقته في عرض المسألة بديهية، إذ تُعيد تكرار نغمة مألوفة عن «الصفحة البيضاء» وعقيدة الصدمة وتفترض تدفّق الأموال بعد الحروب المروّعة والمأساوية. ألقيت هاتفي، وكنت غاضبة. وعندما رَويْت هذه الحادثة لصديقة لي، استشاطت غضباً هي الأخرى من الفشل الأخلاقي والسياسي لذلك الشخص ومعارضته الواضحة للمقاومة. أجدُ الفشل الأخلاقي والسياسي الكامن في كلماته مخيفاً. لقد كشفت تلك الكلمات القليلة، أن آلاف الأطنان من القنابل التي رميت على مدار عام، وخلّفت الكثير من الضحايا، فتسبّبت بقتل الآلاف، وإصابة وإعاقة عشرات الآلاف الآخرين، وحفرت جراحاً أليمة داخل الملايين حول العالم، لم تترك حفرة ولو صغيرة لخرق تماسك الأيديولوجيا وتفتيتها. لا تختلف إجابة هذا الشخص بشأن الموعد والوعد المُنتظرين مع إعادة الإعمار والازدهار عن تصريحات الخبراء ومحاولاتهم استعادة الخطابات التنموية المُتجذّرة في مفهوم المجتمع المدني.
في هذا العالم الناشئ، يخوض الشجعان صراعاً دائماً مع حجم الدمار الهائل والحزن القاتل، ويبحثون عن شتى الوسائل، قديمة وجديدة، للمقاومة. لا مفرّ أمامنا جميعاً إلا أن نشارك في الكفاح
لقد شهدنا، في خلال العام الماضي، تحويل فلسطين ولبنان إلى مختبرين لتقديم «خطوط حمراء جديدة» للإنسانية وتجريبها وتطويرها. انطوى هذا المختبر على استهدافات مدروسة وتدمير مُمنهج لجميع البنى التحتية للرعاية الأساسية - إنها البنى التحتية نفسها التي يعاير المثقفون «التقليديون» المجتمع المدني لحزب الله بفشلها - بالإضافة إلى تسليح الأجهزة التكنولوجية المستخدمة في الحياة اليومية. بعد هجمات أجهزة النداء الآلي والاتصالات اللاسلكية، كتب لي شخص - أثق برأيه - يقول إنه لا يفهم الخوف غير العقلاني للناس من هواتفهم الذكية. بالنسبة إليّ، كانت الإجابة حاضرة سريعاً: هذا الخوف مبرّر للغاية لا سيما بعدما أصبحت هذه الأجهزة امتدادات لشخصيّتنا. وفي حين لا تلقى الدعوات الإنسانية لوقف المجازر سوى أذاناً صمّاء أصبح الكثير منا أكثر إحباطاً، وحتى يأساً، من عدم القدرة على فهم هذه التجارب. وفي الوقت نفسه، يستمرّ نظام عالمي مُهيمِن في إعادة تأكيد حضوره إنّما بشكل جديد. وكما يتمنّى أنتوني بلينكن، ويقصد بنيامين نتنياهو، وتدعمهما الرأسمالية العالمية، فإن «استراتيجية التجديد» تُفرَض علينا بدمائنا. ولا يوجد أدنى شكّ بأن إسرائيل رأس حربة هذه التحوّلات، أقلّه في منطقتنا.
لا يختلف إثنان على أهمّية الأخلاق الإنسانية والإصرار عليها وإعادة تأكيدها. ولكنه غير كافٍ، وقد بات ذلك أكثر وضوحاً الآن من شمس غزّة. إذا كانت الإنسانية ردّاً رحيماً على معاناة الغرباء، فهي أيضاً مُتجذّرة في الأشكال الاجتماعية والسياسية المُهيمنة، ولا يمكن فصلها عنها. لقد تطوّرت الإنسانية جنباً إلى جنب مع النظام العالمي النيوليبرالي منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهي تُعنى بكيفية استخدام العنف بدلاً من اللجوء إلى العنف نفسه. يشمل العنف التفاوتات الصارخة التي تنتج عن السوق، وما يتّصل بها من احتلال وحروب. وهو ما يعني في الممارسة العملية أن الإنسانية تعادل بين التاريخ والأسباب والدروس المُستقاة من جميع الصراعات بغض النظر عن طبيعتها، وأن المبادئ الإنسانية لا تسود إلّا إذا دعمتها قوى أكبر بكثير.
حالياً، لا يمكن أن يكون هناك «حق لإسرائيل في الدفاع عن نفسها» على المستوى الإدراكي نفسه لحماية الفئات الأكثر ضعفاً في العالم. ومع ذلك نجده قائماً. أظهر عالما الأنثروبولوجيا، ديدييه فاسين وماريلا باندولفي، إن التدخّلات الإنسانية والعسكرية للقوى العالمية في القرن الحادي والعشرين تتشارك الكثير من القواسم. وفي حين تعتبر هذه التدخّلات أساساً لقوانين الأقوى، فإنها تشكّل نظاماً سياسياً يعيش من حصد الأرواح، ويحدّد من يمكنه العيش ومن يجب أن يموت. تقود إسرائيل وحلفاؤها في المنطقة العربية إعادة إنتاج هذا النظام الأخلاقي والقانوني والسياسي العالمي، وما نشهده من ممارسات شمولية مُعادية للإنسان تتطلّب منا أن نتخيّل معاً، قولاً وفعلاً، ممارسة جديدة للتضامن السياسي في القرن الحادي والعشرين. ففي هذا العالم الناشئ، يخوض الشجعان صراعاً دائماً مع حجم الدمار الهائل والحزن القاتل، ويبحثون عن شتى الوسائل، قديمة وجديدة، للمقاومة. لا مفرّ أمامنا جميعاً - تحليلياً وأخلاقياً وسياسياً - إلا أن نشارك في الكفاح.
[1] أنظر/ي على سبيل المثال مجلّة بدايات، قاموس النيوليبرالية.