هل علينا إنقاذ الوهم حقّاً؟ 

بعد ثلاث سنوات من انهيار العملة وإفلاس الجهاز المصرفي في لبنان، لا يزال التيّار السائد يختزل الصراعات كلّها حول مصير الودائع والديون وأسهم البنوك. يحصر الأزمة في الاقتصاد الوهمي، في اقتصاد الكازينو، حيث تراكمت ثروات مالية شخصية ضخمة طيلة الفترة السابقة، ويبحث عن طريقة لإنقاذه وانتشاله. في حين أن الأزمة تقع، في الأساس، في الاقتصاد الحقيقي، في انخفاض ناتج العمل، وتدهور التنافسية، وضعف الاستثمار، وتنامي العجز التجاري الدائم، وتوسّع الاحتكار الداخلي، والتركّز الشديد للثروة والدخل، والنزف البشري المتواصل... وهي أزمة بنيوية اعتملت طويلاً في قلب النموذج الاقتصادي العليل حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. 

لا يعني "الاقتصاد الوهمي" أنه غير موجود أو أنه غير مهمّ، بل أنه ذاك العالم السحري الذي يتمظهر فيه المال المُكدّس في دفاتر البنوك على شكل رأس مال، ولكن من دون أي قاعدة مادية. فهذا الرأسمال يُعدُّ وهمياً لأنه ببساطة لا ينتج بذاته أي دخل، وإنّما يمنح مالكيه حقوقاً قانونية للمطالبة بجزء من الدخل الذي يُنتج ويتحقّق في الاقتصاد الحقيقي، في العمل والإنتاج والاستهلاك، عبر الطريقة التي يعمل بها نظام الائتمان وأدوات التمويل والسياسات النقدية والمالية.

من غير المقبول، لا سياسياً ولا اقتصادياً ولا اجتماعياً، أن يبقى الحديث عن الأزمة بعد ثلاث سنوات من انفجارها يصوّر المصارف على أنها ضحية لا بطلة إفلاسها على مدار العقود الثلاثة الماضية، تضخّمت موجودات (توظيفات) البنوك التجارية لتصبح أكبر بخمس مرّات من مجمل الدخل المُتاح في عام 2019، وأصبح لدينا أكبر بنك مركزي في العالم لناحية حجم ميزانيّته نسبة إلى الناتج المحلّي الإجمالي على ذمّة بنك أوف أميركا ميريل لينش. لقد جرى النظر إلى هذا التراكم بوصفه التعبير عن الثراء اللبناني والدليل على نجاحٍ مصرفيٍ باهرٍ. ولكنّه في الواقع، لم يكن سوى الوجه المقابل لتراكم مديونيات عامّة وخاصّة، أو مطلوبات على الاقتصاد باللغة التقنية، التي لا تزال غير مُحتسبة بدقّة، إذ إن حساباتنا للعام 2019 تفيد أن مجموعها غير الصافي بلغ أكثر من 315 مليار دولار، أي ما يوازي 6 مرّات قيمة الناتج المحلي الإجمالي، وذلك قبل إجراء المقاصة المطلوبة بين الجهات الدائنة والمدينة المختلفة، وبين الموجودات والمطلوبات لجميع الأطراف، في الداخل والخارج. 

إذا أردنا أن نوجز بأرقام إجمالية كيف حصل كلّ هذا التراكم على جانبي الموجودات والمطلوبات، فيكفي أن نشير إلى أنّ المصارف التجارية قبضت فوائد من توظيفاتها في غضون 15 سنة (بين عامي 2004 و2019) تعادل قيمتها نحو 138 مليار دولار، وكان أكثر من 60% (كمتوسط عام) من الفوائد المقبوضة مصدرها المال العام (الحكومة ومصرف لبنان)، وقامت المصارف بدورها بدفع نحو 105 مليارات دولار كفوائد على الودائع لديها، وحقّقت بذلك هامش ربح بين ما قبضته وما دفعته بقيمة 33 مليار دولار، واستخدمت هذا المبلغ في زيادة أموالها الخاصّة وأنصبة الأرباح للمساهمين فيها ومخصّصات مديريها التنفيذيين.

في الوقت نفسه، لم يكن الاقتصاد  اللبناني مولِّداً لفرص العمل والدخل التي يحتاجها السكّان لسدّ حاجاتهم الضرورية والكمالية. فطيلة الفترة الماضية، كانت فاتورة الاستهلاك تتجاوز نسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي، ووصلت إلى 122% في عام 2020، وهذا يعني من جملة ما يعنيه أن الدخل القومي المُتاح (حتى بعد إضافة رصيد تحويلات العاملين في الخارج) لم يكن يكفي وحده لتمويل الاستخدامات الرئيسة الثلاث: الاستهلاك وتكوين رأس المال وتغطية العجز التجاري. وفي ظلّ هذه الوضعية الغريبة، بقي صافي خلق الوظائف ضعيفاً جدّاً، وتحوّل إلى صافٍ سلبي في السنوات الأخيرة. قدّرت الوظائف المطلوبة للوصول إلى التشغيل الكامل بأكثر من نصف عديد القوى العاملة والمُحتملة. وعلى مدى الحقبات السابقة بقيت نسبة مشاركة السكّان في النشاط الاقتصادي متدنّية، ولا سيّما عند النساء، في حين كانت البطالة مرتفعة، ولا سيّما بين الشباب، واضطرت نسبة مرتفعة جدّاً من العمالة إلى الهجرة أو رضخت للعمل اللانظامي (60% من مجمل القوى العاملة)، حيث مستويات الأجور منخفضة جدّاً ولا توجد أي حمايات قانونية أو اجتماعية، وحيث يجري الاستغلال الكثيف للعمالة الأجنبية في الأنشطة المتدنية الإنتاجية والمرتفعة الأرباح. في الحصيلة، انخفضت حصّة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي بوتيرة دراماتيكية، من 55% قبل الحرب إلى 35% بعدها في التسعينيات وصولاً إلى أقل من 25% في الحقبة الأخيرة.

ما حصل في لبنان على المدى الطويل، أن النمو الاقتصادي كان بطيئاً للغاية، أبطأ بكثير من نمو السكّان وحاجاتهم. وهو يسجّل انكماشاً (معدّل نمو سلبي) منذ عام 2018، إذ يُقدّر الناتج المحلي الإجمالي اليوم بأقل من نصف قيمته بالدولار في عام 2018، وتهاوى نصيب الفرد من هذا الناتج السنوي من 8,000 دولار إلى 2,600 دولار في عام 2021، أي عاد إلى مستواه بعد الحرب الأهلية مباشرة. وإذا استثنينا سنوات إعادة الإعمار بعد الحرب (1992-1998) وتأثيرات مؤتمر باريس 1 و2 (2001-2002) وتدفّقات الأزمة العالمية (2007-2010)، فإن المتوسط السنوي لنمو الناتج المحلي الإجمالي حتى عام 2018 لم يتجاوز 1%، في حين أن عدد السكّان تضاعف من 3.4 ملايين نسمة في عام 1994 إلى 6.8 ملايين نسمة.

لسنا بحاجة إلى استعراض المزيد من المؤشّرات من هذا النوع لنفهم أن سبباً رئيساً من أسباب الأزمة القائمة في لبنان يكمن في التفارق السحيق بين الاقتصاد الوهمي والاقتصاد الحقيقي، فالتراكم في الأول جاء على حساب التراكم في الثاني، وكان العائد على التوظيفات المالية (بما فيها الودائع والقروض وسندات الدَّيْن وأسهم البنوك) أعلى بكثير من معدّل النمو الاقتصادي، وبالتالي كان رأس المال الوهمي ينهش الدخل المُتاح على الدوام.

عاش سكان لبنان طويلاً في ظل مفارقة يجب عدم نسيانها، عندما كانت الدفاتر تُخبِرنا باستمرار أن هناك مال كثير وبحر من الثروات، ولكن الاقتصاد يعاني من نقص خطير وفادح ومزمن في الاستثمار الخاص والعام! لقد كانت الحجّة الدائمة لتبرير الأوضاع المزرية على الصعد كلّها أن "العين بصيرة واليد قصيرة"، في حين أن ثلث الإنفاق العام بين عامي 1992 و2019 ذهب لتسديد الفوائد على الدَّيْن العام، وهذا يساوي نصف إيرادات الخزينة العامة، أي أن كل ليرة سدّدتها كل أسرة كضرائب ورسوم على دخلها واستهلاكها، كان نصفها يُخصّص لمراكمة المزيد من هذا المال الوهمي وتركيزه في حسابات عدد ضئيل جدّاً من الأسر المحظية.

لماذا التذكير الآن بكل ذلك؟ لأنه من غير المقبول، لا سياسياً ولا اقتصادياً ولا اجتماعياً ولا معيارياً، أن يبقى الحديث عن الأزمة بعد ثلاث سنوات من انفجارها يصوّر المصارف على أنها ضحية وأنها كانت مجبرة لا بطلة  إفلاسها. وهذا لا يخصّ أكثرية المودعين الذين هم أصحاب حقّ يجب حفظه وصيانته، ولا سيّما الودائع التي تمثّل ادّخارات للأسر والنقابات وصناديق التقاعد والتعاضد، إلّا أن هذا الحق هو دَيْن على المصارف لا على السكّان، الذين بيّنت إدارة الإحصاء المركزي أن 53% منهم على الأقل كانوا عشية انفجار الأزمة في عام 2019 يعانون من الفقر على المقياس المُتعدّد الأبعاد، أي محرومين من العمل والدخل ومعاش التقاعد والضمان الصحّي والتعليم والمستوى المعيشي والسكن والبنية التحتية والخدمات العامة. 

لا شكّ أن الودائع مهمّة وهي ضحية مُخطّط احتيالي موصوف، والديون كانت قاهرة وجائرة وفاسدة... ولكن، علينا أن نعترف أن اختزال الصراعات وحصرها تحت عناوين قدسية الودائع وواجب تسديد الديون وإنقاذ المصارف، لا يؤدّي في النهاية إلّا إلى تحويل الثقب الأسود من ميزانيات المصارف إلى المالية العامّة، ومن رأس المال الوهمي إلى الاقتصاد الحقيقي، وبالتالي تصبح الحلول المطروحة بمثابة دعوات علنية للناس للقبول بالمزيد من التضحيات، ليس من أجل إنقاذهم هم وإنّما من أجل إنقاذ ثروات المصرفيين والدائنين وكبار المودعين.