الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي
التقشّف لمحاربة التضخّم

لم تكن الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين عادية هذه السنة لأسبابٍ عدة. أوّلها أنّها تعقد للمرّة الأولى منذ الجائحة بحضور ممثّلين عن الحكومات والإعلام ومنظّمات المجتمع المدني، بعد أن كانت تُعقد افتراضياً منذ عام 2020، فكان آخر اجتماع سنوي حضورياً في تشرين الأول من عام 2019. أما السبب الثاني فهو استثنائية هذه الاجتماعات كونها تأتي في أعقاب أزمات متعدّدة وعصيّة يشهدها العالم، فهناك الأزمة المناخية المستمرّة، وأزمة الديون حيث تعاني 60% من الدول منخفضة الدخل من أزمة ديون سيادية، وكذلك هناك أزمتيْ التضخّم وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا، ويضاف إليها أزمة العلاقات الدولية وعزل روسيا وفرض عقوبات عليها.

تأتي هذه الاجتماعات في ظل شرذمة على المستوى الدولي، ما يعطّل عمل العديد من المنتديات التي تُعقد خلال فترة انعقاد هذه الاجتماعات مثل مجموعة دول العشرين. مع ذلك، غاب عن هذه الاجتماعات السنوية الحديث عن التعافي الاقتصادي من الجائحة بعد أن كان الشغل الشاغل منذ عام 2020، وعلى الرغم من أن معظم الدول، وخصوصاً النامية، كانت ولا تزال تعاني من أزمات شتّى. في المقابل، أصبح الشاغل الوحيد هو محاربة التضخّم، لقد أعلن صندوق النقد الدولي أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ضدّ التضخّم، وذلك عبر التقشّف مجدّداً.

ما هي الاجتماعات السنوية؟

يعقد الصندوق والبنك الدوليين اجتماعاتهما السنوية في الخريف من كلّ عام، في شهر تشرين الأول/أكتوبر. ولنكون أكثر دقة، هذه المناسبة هي الاجتماع السنوي لمجلس محافظي المنظمتين، الذي يتمثّل فيه جميع الدول الأعضاء من خلال محافظ ورديف عنه، عادة يكون حاكم المصرف المركزي ووزير المالية. يشكّل هذا المجلس أعلى سلطة في الصندوق، ويملك صلاحيّة تعديل الاتفاقية التأسيسيّة للصندوق، عدا أنّه الهيئة المخوّلة إصدار حقوق السحب الخاصة. لتسيير الأعمال اليومية والعادية للصندوق، ينتدب مجلس المحافظين مجلسَ إدارة مكوّناً من 24 عضواً تنتخبهم الدول الأعضاء. يمثّل كل عضوّ في مجلس الإدارة مجموعة دول، باستثناء الدول السبع ذات الحصص الأكبر التي تتمتّع بممثّل حصري لكلّ منها في المجلس، وهي الولايات المتّحدة، وفرنسا، وإنكلترا، وألمانيا، واليابان، والصين وروسيا. يوافق المجلس على القروض والسياسات الداخلية واستراتيجيات الصندوق. خلال الاجتماعات السنوية تعقد اللجنة الدولية للشؤون النقدية والمالية اجتماعها، وهي لجنة تشبه لجهة تمثيلها مجلس الإدارة، وتقدّم المشورة والتقارير إلى مجلس محافظي الصندوق بشأن الإشراف على النظام النقدي والمالي الدولي وإدارته، بما فيه الاستجابة للأحداث الجارية التي قد تعطّل النظام المالي والنقدي الدولي. وعلى الرغم من أن اللجنة لا تتمتّع بصلاحيات رسمية في اتخاذ القرار، إلّا أنها أصبحت عملياً أداة رئيسية لتوفير التوجيه الاستراتيجي لعمل الصندوق وسياساته.

أعلن صندوق النقد الدولي أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ضدّ التضخّم

تُعقَد ندوات وحلقات نقاش على هامش هذه الاجتماعات، وتجريها إدارة الصندوق مع خبراء ومسؤولين حكوميين حول مواضيع متعدّدة تحاكي أولويات الصندوق، والتطورات الاقتصادية على المستوى العالمي. أيضاً يعقد اجتماعٌ لوزراء مالية دول مجموعة العشرين. وفي سعي مؤسّستي بريتون وودز للانفتاح على النقد والحوار مع منظّمات المجتمع المدني، يقام أيضاً منتدى المجتمع المدني للسياسات، وهو عبارة عن سلسلة ندوات تقوم بها منظّمات المجتمع المدني حول مواضيع عدّة تهم الصندوق والبنك، ويحضرها موظّفو المؤسّستين من أجل محاورة ممثّلي المجتمع المدني والردّ على الانتقادات التي توجّه إلى المؤسّستين. أصبحت الاجتماعات السنوية، وكذلك اجتماعات الربيع، فرصة أساسية لمنظّمات المجتمع المدني للمناصرة، والحوار مع مسؤولي الصندوق، وعقد اجتماعات معهم لا تكون بالضرورة علنية لمناقشة مسائل اقتصادية واجتماعية، بالإضافة إلى مناقشة أوضاع بلدان معيّنة وقروضها. شكّل إنشاء منتدى خاص بالمجتمع المدني إحدى الطرق التي تستخدمها المؤسّستان لاحتواء نقّاد الصندوق وجرِّهم إلى ملعب بريتون وودز، عوضاً عن الاحتجاج والتظاهر خارج مقرّ المؤسّستين في واشنطن أو في بلدان أخرى. في هذا الإطار، تعقد الاجتماعات خارج واشنطن كلّ سنتين، وفي السنة المقبلة ستحتضن مدينة مراكش المغربية الاجتماعات السنوية.

التقشّف هو الحلّ… مجدّداً

طغت مسألة التضخّم على الاجتماعات السنوية في تشرين الأول/أكتوبر من هذا العام. وقد حذّر الصندوق من ارتفاع مستوى التضخّم وصولاً إلى 9.5% هذا العام، قبل أن يبدأ بالانخفاض تدريجياً في خلال السنة المقبلة وصولاً إلى 4.1% في عام 2024.

إلى ذلك، غاب التفاؤل الذي اتسم به الصندوق العام الماضي من ناحية التعافي السريع للدول، إذ انخفض النموّ العالمي بشكل سريع من 6.1% إلى 3.2% بين عامي 2021 و2022، ومن المتوقّع أن يبلغ 2.7% في عام 2023. افتتحت المديرة العامة للصندوق الاجتماعات بصورة قاتمة عن حال الاقتصاد العالمي والآفاق المستقبلية بسبب آثار الحرب على أوكرانيا، وما نتج منها من ارتفاع كبير في أسعار الطاقة والغذاء، وتنامي أزمة الديون، فضلاً عن التشرذم الذي يسود العلاقات الدولية، ما يعطّل عمل المؤسّسات الدولية. في هذا الإطار، حدّد الصندوق أن محاربة التضخّم هو أهم الأولويات في هذه المرحلة، مشدّداً على أن عام 2023 سيكون الأحلك.

يجبر البنك المركزي الأميركي، بدعم من صندوق النقد الدولي، البلدان النامية على الذهاب نحو التقشّف كي تتمكّن هذه الأخيرة من سداد خدمة الدَّيْن وتجنّب التخلّف عن الدفع الذي قد يغلق عليها الأسواق العالمية

ردّد مسؤولو الصندوق الرفيعون الرسائل نفسها خلال الاجتماعات السنوية وبعدها، وشدّدوا على أن المصارف المركزية، وخصوصاً المصرف المركزي الأميركي، عليها ألّا تتراجع عن زيادة معدّلات الفائدة، لأنها قد تعطي رسالة للأسواق المالية بأنها لا تملك الجرأة الكافية لمواجهة التقشّف مهما كانت الكلفة مؤلمة. ولم يتوقّفوا عند هذا الحدّ، بل شدّدوا بشكل حاسم على أن السياسة المالية (أي الإنفاق العام) لا يجب أن تذهب عكس السياسة النقدية بل أن تتبعها، أي أن على الدول أن تتقشّف.

بتعابير أبسط، تقول النظرية الاقتصادية السائدة، أي النيوليبرالية، أن محاربة التضخّم هو أمر مركزي من أجل الاستقرار والنمو الاقتصاديين، لا سيما أنّ استقرار الأسعار هو في صلب البنية الاقتصادية. تاريخياً تمّت محاربة التضخّم عبر رفع معدّلات الفائدة، وترافقت أبرز فترات التضخّم، وتحديداً في السبعينيات، مع ارتفاع في الطلب. تقول النظرية أنه حين يرتفع الطلب، أو يكون هناك فائض في الطلب، تخلق هوّة مع العرض، وبالتالي ترتفع الأسعار كون الطلب على السلع يفوق بشكل كبير توفّرها في السوق. لمعالجة ذلك، عمدت المصارف المركزية إلى استخدام سلاح الفائدة من أجل تهذيب الطلب. إن ارتفاع أسعار الفائدة يعني ارتفاع كلفة الاقتراض بالنسبة للأسر، ولا سيما للأغراض الاستهلاكية، ما يساهم بالتالي بتخفيض الطلب على السلع. ويعني كذلك ارتفاع كلفة الاقتراض للشركات التي ستطلب عمّالاً أقل، ما يؤدّي بدوره إلى انخفاض الاستهلاك لدى الأسر. وبموجب هذه العملية ينخفض استهلاك الأسر، ويتمّ ترويض التضخم.

من جهة أخرى، تتقشّف الحكومات بإنفاقها، بحيث ينخفض الطلب الإجمالي (الأسر زائد القطاع العام)، ويُترجَم ذلك بكبح التضخّم. لكن لهذه العملية شوائب عدّة، أولها تحميل عموم الناس، وخصوصاً الطبقات الفقيرة والمتوسّطة كلفة محاربة التضخّم، لا سيّما عبر تخفيض الإنفاق الاجتماعي، وتقليص القدرة المعيشية وزيادة البطالة. وثانياً، لأن الارتفاع في معدّلات التضخّم غير ناتج عن ارتفاع في الطلب، بل جانب العرض: فالحرب الروسية على أوكرانيا وما تبعها من عقوبات غربية أدّت إلى تعطيل إنتاج القمح ومواد غذائية أخرى، وساهمت بارتفاع أسعارها على السوق العالمية. يضاف إلى ذلك، ارتفاع أسعار الطاقة للأسباب نفسها، عدا أن آثار الجائحة لا تزال ترخي بظلالها من ناحية "خربطة" سلاسل التوريد وإصرار الصين على تطبيق سياسة صفر كورونا. فعند ظهور حالات إصابة بالفيروس تُغلق مدناً بأكملها ما يؤثّر على الإنتاج على المستوى العالمي. وأخيرًا، تسمح غلبة الطابع الاحتكاري في الاقتصاد العالمي للشركات برفع الأسعار من دون أن يكون ذلك ناتج عن ارتفاع في الطلب. بالتالي، تتمّ التضحية بالقدرة الشرائية للناس، وتطبّق السياسات التقشّفية، وتزيد هوة اللامساواة لحلّ مشكلة مصدرها في مكان آخر. وهذا ما أكّده مؤتمر الأمم المتّحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) بتقريره الصادر في تشرين الأول/أكتوبر قائلاً إن: "العودة إلى السبعينيات أو العقود اللاحقة التي اتسمت بسياسات التقشّف استجابة لتحدّيات اليوم هي مقامرة خطيرة".

في هذا الإطار، دعا صندوق النقد الدولي إلى التمسّك بمحاربة التضخّم، حتى لو كان الثمن مُكلفاً على المدى القصير والمتوسّط. وبذلك دفن الصندوق كلّ حديث عن التعافي ومحاربة اللامساواة نتيجة الجائحة، ودعا الدول إلى وقف الدعم المُعمّم، والاكتفاء بدعم الفئات الأكثر فقراً عبر الاستهداف، مُشترطاً أن يكون هذا الدعم مؤقتاً إلى حين عودة التضخّم الى مستويات معقولة بنظره. تمثّلت استجابته الوحيدة لهذه الأزمات الطاحنة بفتح نافذة اقتراض طارئ من دون شروط لمساعدة الدول التي تعاني من أزمات غذائية حادّة، رافضًا الدعوات إلى إصدار سلسلة جديدة من حقوق السحب الخاصة على غرار ما حصل عام 2021.

دفن الصندوق كلّ حديث عن التعافي ومحاربة اللامساواة نتيجة الجائحة، ودعا الدول إلى وقف الدعم المُعمّم، والاكتفاء بدعم الفئات الأكثر فقراً عبر الاستهداف، مُشترطاً أن يكون هذا الدعم مؤقتاً إلى حين عودة التضخّم الى مستويات معقولة بنظره

أزمة ديون تلوح في الأفق

في هذا الإطار، دعم صندوق النقد خطوات المصرف المركزي الأميركي في محاربة التضخّم عبر رفع معدّل الفائدة بشكل متكرّر هذا العام، من 0.25% في آذار/ مارس 2022 وصولاً إلى 4% حالياً، ويُتوقّع أن تصل إلى 5.25% في آذار/مارس في العام المقبل. وبطبيعة الحال، تنطوي هذه الخطوات على تبعات تتجاوز تداعياتها الاقتصاد الأميركي، بحيث تؤثّر على الاقتصاد العالمي، وخصوصاً اقتصادات الدول النامية، على ثلاث مستويات. أولاً، لناحية تدفّق الرساميل من البلدان النامية إلى السوق الأميركية نتيجة ارتفاع الفائدة، وتفضيل المستثمرين توظيف رساميلهم في اقتصاد قوي وآمن، ما يساهم بارتفاع قيمة الدولار الأميركي من جهة، وتقليص احتياطات العملات الأجنبية في بلدان هي بأمس الحاجة إليها من جهة أخرى، وتُرجم ذلك بتدهور سعر الصرف في بلدان عدّة. على سبيل المثال، مع انعقاد الاجتماعات السنوية، كانت قيمة الجنيه المصري قد انخفضت بنحو 20% مقارنة مع بداية السنة، وتدنّت قيمة الباهت التايلندي بنسبة 15%. ثانياً، عندما ترتفع قيمة الدولار مقابل العملات الأخرى، ترتفع أسعار السلع الأساسية المستوردة مثل الطاقة والغذاء التي يسدّد ثمنها بالدولار، بما ينعكس تضخّماً إضافياً في اقتصاديات البلدان النامية من ناحية، واستنزاف احتياطات العملات الأجنبية من ناحية أخرى، إذ ستستخدم مبالغ أكبر لاستيرادها.  تجد هذه الدول نفسها أمام معضلة، إما ترك الأمور كما هي لتتدهور العملة أكثر، أو أن تحذو حذو المصرف المركزي الأميركي، أي رفع معدّلات الفائدة لتحفيز الرساميل للعودة إليها أو عدم الهروب منها. مجدّداً، يخنق رفع الفائدة الاقتصاد، ويعمّق التقشّف كما شرحنا أعلاه. ثالثاً، أدّت خطوات البنك المركزي الأميركي إلى رفع الفائدة على الدَّيْن، ما زاد استنزاف موارد الدول النامية عبر ارتفاع خدمة الدين. ووفق أونكتاد ستؤدّي زيادة أسعار الفائدة في الولايات المتّحدة هذا العام إلى انخفاض بنحو 360 مليار دولار في الدخل المستقبلي للبلدان النامية باستثناء الصين. في المحصّلة، يجبر البنك المركزي الأميركي، بدعم من صندوق النقد الدولي، البلدان النامية على الذهاب نحو التقشّف كي تتمكّن هذه الأخيرة من سداد خدمة الدَّيْن وتجنّب التخلّف عن الدفع الذي قد يغلق عليها الأسواق العالمية.

أوصلت هذه العوامل والأزمات البلدان النامية إلى شفير أزمة ديون خطيرة بدأت معالمها بالظهور منذ الجائحة. وفشلت المؤسّسات المالية الدولية والبلدان الغنية باتخاذ خطوات جديّة من أجل تجنّب الأسوأ، واقتصرت محاولاتها على مبادرتين أساسيتين: الأولى هي المبادرة الخاصّة بتعليق خدمة الدَّيْن التي أطلقتها دول مجموعة العشرين في عام 2020، حيث علِّقت خدمة الدَّيْن للدول الأكثر فقراً، واستفادت منها 48 دولة من أصل 73 شملتها المبادرة. ولكن كان أثرها محدوداً لأنها انتهت في آخر عام 2021، ولم تقم سوى بتأجيل الأزمة. أمّا المبادرة الثانية فتمثّلت بـ "الإطار المشترك" لمجموعة الدول العشرين من أجل معالجة ديون الدول ذات الدخل المتدنّي، والتي أتت بالاتفاق بين مجموعة العشرين ونادي باريس (نادي أهم الدول المقرضة) من أجل إيجاد حلول للدول متدنّية الدخل التي تقع على شفير التخلّف عن سداد ديونها. في هذا الإطار، تتقدّم الدول بطلب لإطلاق مسار معالجة ديونها، وتمثّل المبادرة مساحة للتفاوض مع المقرضين من أجل إعادة هيكلة الدَّيْن وشطب جزء منه، بالتوازي مع تطبيق برنامج مع صندوق النقد الدولي. منذ إطلاقها لم تسجل المبادرة نجاحات تذكر. تقدّمت ثلاث دول فقط (تشاد وزامبيا وأثيوبيا) للدخول في هذا المسار المتعثّر حتّى الآن لأسباب عدّة، منها البطء في إحراز تقدّم، وصعوبة إقناع الدائنين من القطاع الخاص (أي حاملي السندات) بالجلوس على طاولة المفاوضات في ظل عدم قيام الدول التي تسجّل فيها السندات (إنكلترا والولايات المتّحدة خصوصاً) بأي خطوة لإرغامهم، وعدم شمول الدول ذات الدخل المتوسّط التي تعاني من أزمة ديون حادّة في المبادرة.

وفق برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي هناك أكثر من 50 دولة فقيرة مهدّدة بالإفلاس، ووفق صندوق النقد الدولي فإن 60% من البلدان المتدنّية الدخل، و25% من الاقتصاديات الصاعدة في وضع حرج من ناحية الديون السيادية

بالنتيجة، تجد البلدان النامية نفسها في منحنى خطير: وفق برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي هناك أكثر من 50 دولة فقيرة مهدّدة بالإفلاس، ووفق صندوق النقد الدولي فإن 60% من البلدان المتدنّية الدخل، و25% من الاقتصاديات الصاعدة في وضع حرج من ناحية الديون السيادية. ومن بينها دول مثل مصر وتونس، اللتين وصلتا إلى اتفاق على مستوى الموظّفين حول برامج تقشّفية مع صندوق النقد الدولي (من المتوقّع أن يوافق عليها مجلس الإدارة في منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر 2022). وتشير المعطيات الى أن البرنامج مع البلدين هو لتجنّب الوصول إلى أزمة ديون حادّة في مصر وتونس. لكن لهذه التطوّرات أكلاف باهظة على الدول ولا سيّما في المنطقة، لأن برنامج الصندوق وحده لا يغطّي الحاجات المالية لدول مثل لبنان ومصر وتونس، وبالتالي يفترض بهذه الدول أن تؤمّن التمويل الإضافي الذي سيكمّل قرض الصندوق. في الظرف الراهن، ومع ارتفاع أسعار الفائدة، ستواجه هذه الدول الثلاث، وخصوصاً لبنان، أكلافاً عالية من أجل تأمين الموارد الكافية لتمويل الاقتصاد.

لا داعي للقلق، الأزمة فقط في الدول النامية

أمام هذا الواقع، تقف الدول الغنية مكتوفة الأيدي مشغولة بالحرب، ولا تفعل شيئاً لتجنّب موجة إفلاسات تواجه العديد من الدول. وهذا ما تبيّن من الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي حيث تركّز الكثير من الحديث في الندوات التي تصاحب الاجتماعات على لوم الدول التي تواجه هذه الأزمات، واتهامها بالتهوّر في السابق، فضلاً عن توجيه أصابع الاتهام إلى الصين التي أصبحت أحد اللاعبين الأساسيين في الدَّيْن، من دون البحث عن حلول جديّة لمعالجة الأزمة ومساعدة الدول التي دُفِعت إلى هذا الأوضاع بسبب الحرب على أوكرانيا وسياسات رفع الفائدة في الدول الغنية. إلى ذلك، يشرع صندوق النقد الدولي بإبرام برامج قروض مع دولةٍ تلو الأخرى، حاملًا علانية راية التقشّف بعد أن أمضى سنين في إنكارها. سيستمرّ هذا الوضع الحرج ويتأزّم طالما أن الدول الغنيّة والمؤسّسات المالية الدولية لا تعتبر أننا وصلنا إلى أزمة نظام، أي إلى أزمة قد تطيح بالنظام المالي العالمي كما حصل عام 2008، بل تعتبرها مجرّد أزمة دول نامية.