
إعادة إنتاج نموذج «الدولة التراكمية» في تونس
القلّة المسيطرة بعد الثورة
ملخَّص تنفيذي
إن تاريخ الانتفاضات الشعبية في تونس المعاصرة ليس سوى تاريخ صراع بين محكومين وقلّة مسيطرة على السلطة والثروة. لطالما شكّل تراكم الثروة مدار الصراع الأساسي بين الطرفين، وشكّل أيضاً مدار صراع داخل «القلّة المسيطرة» التي تتفرّق حيناً إلى أجنحة وتتآلف أحياناً ضدّ المدّ الشعبي. ولكنها تعيد في كلّ مرّة تشكيل نفسها على نحو مختلف، مغيرة كلّ شيء كي لا يتغيّر شيء. وهذه القلة التي ولدت من رحم رأسمالية الدولة، التي سادت بعد الاستقلال، بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي - مع التحوّلات النيوليبرالية الكبرى في العالم - في السيطرة على جهاز الدولة، بعد أن كانت تحتمي به.
لا يمكن فهم نمط تراكم وتركّز الثروة في تونس بعد الثورة من دون فحص الهياكل الاقتصادية التي كانت سائدة قبل العام 2011. ففي عهد زين العابدين بن علي، كان الاقتصاد خاضعاً لهيمنة رأسمالية المحاسيب، حيث تسيطر دائرة صغيرة من النخب، المرتبطة غالباً بعائلة الرئيس وأصهاره، على قطاعات رئيسة. وقد نجحت في جمع ثروات هائلة مستفيدة من الممارسات الاحتكارية واللوائح التنظيمية التي تساهم في وضعها عبر مصادر قوة فوق اقتصادية وقمعية أحياناً. ولد هذا النمط الاحتكاري العائلي بعد سيطرة بن علي على السلطة مطلع تسعينيات القرن الماضي، وقد نجح في تصفية أجنحة نظام الرئيس الحبيب بورقيبة داخل الحزب الحاكم والبرجوازية التقليدية المرتبطة بها. وتزامن ذلك مع التحوّلات النيوليبرالية، التي تميّزت بتطبيق الخصخصة وإلغاء القيود التنظيمية. أما الوجه الثاني لهذا التحوّل فهو الاندماج المتزايد في الاقتصاد العالمي، بداية من الانضمام إلى منظّمة التجارة العالمية ثم توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي كأول شريك في دول الجوار الجنوبي. وقد ساهم ذلك في ربط مصالح البرجوازية الاحتكارية العائلية بالبرجوازية الأوروبية، ما انعكس على تعزيز شرعية النظام السياسي، على الرغم من مستويات القمع الشديدة التي كانت يمارسها. في المقابل حافظ النظام محلياً، على نوع من التوازن الهشّ بين المضي في النيوليبرالية من جهة، وحراسة النمط الاحتكاري العائلي بالسلاح والتشريعات من جهة أخرى، واستدامة المقايضة الطبقية مع الطبقات الوسطى عبر توفير الحد الأدنى من الخدمات الاجتماعية من جهة ثالثة. لكن كان سقوط هذا التوازن المعادي لنظام الأشياء حتمياً.
يمثل هذا النمط الشكل النموذجي لـ«الدولة التراكمية»، كما قدّمها الاقتصادي المجري، غابور شيرينغ. فهي شكل من أشكال الحكم يدمج الاستبداد مع شكل مميّز من الرأسمالية، حيث تؤدّي الدولة دوراً أساسياً في تعزيز تراكم الثروة لمصلحة نخبة مفضّلة. ففي الدولة التراكمية، تصبح الدولة أداة لإعادة توزيع الثروة على مجموعة مخلصة من نخب الأعمال، الذين يدعمون بدورهم الطموحات السياسية للنظام. ونتيجة لذلك، أصبحت الخطوط الفاصلة بين القوة الاقتصادية والسياسية غير واضحة. إذ تتجاوز الدولة التراكمية المحاباة الاقتصادية وقضية التنافسية نحو استقطاب النخب الاقتصادية وربط مصالحها بمصلحة بقاء النظام.
في نهاية العام 2010، وصل التوازن الهشّ، الذي حاول نظام بن علي الحفاظ عليه، إلى طريقٍ مسدودٍ، ودفع توسّع الانتفاضة الشعبية - التي انطلقت من المناطق الداخلية وصولاً إلى المركز، وانضمّت إليها قطاعات واسعة من الحركة الشعبية العمّالية والطالبية - البيروقراطية الأمنية والعسكرية إلى التخلي عن بن علي ودفعه نحو الهروب لضمان استمرارية النظام. وهو ما ظهر على نحو دعائي في الخطاب السائد تحت عناوين «انحياز الجيش للثورة». أدّى القضاء على الاحتكار العائلي المديد للعوائل القريبة من زين العابدين بن علي وزوجته، إلى تحرّر البرجوازية التقليدية من قيودها، والعودة بقوة إلى شغل مواقع الهيمنة التي تركتها في منتصف تسعينيات القرن الماضي. أما الجناح الثاني فهي البرجوازية الإسلاموية الجديدة، التي بدأت بالظهور بعد سيطرة حركة النهضة الإسلامية على السلطة في العام 2011، وتشكّلت نتيجة تحالف موضوعي بين برجوازية الأطراف التي نشأت قبل سنوات، من خلال التراكم خارج أطر الاقتصاد الرسمي على الحدود. وقد وجدت في صعود حركة النهضة للسلطة فرصة تاريخية لوصول أكبر نحو مواقع الهيمنة، من خلال تحويل فوائض كبيرة من التراكم نحو الاقتصاد الرسمي الخدمي في عملية «تبييض رساميل» واضحة. وطرفها الثاني برجوازية صاعدة من القاعدة الاجتماعية المحافظة للحركة الإسلامية، ونجحت الأخيرة بفضل سيطرة الحركة على السلطة في مراكمة رساميل مهمة وارتقت طبقياً. ويمكن وصف روافد هذه البرجوازية الإسلاموية الصاعدة بأنها تحالف «البرجوازي المتأسلم مع الإسلاموي المتبرجز».
تقوم الآليّة الأساسية لتراكم الثروة في تونس بعد العام 2011 على إعادة إنتاج نموذج «رأسمالية المحاسيب» بشكل مقلوب. إذ لم تعد السلطة السياسية هي مركز التراكم، بمعنى لم يعد أصحاب الثروات في خدمة النظام، بل أصبحت القلة المسيطرة هي المركز والنظام السياسي التوافقي هو من يخدمها. وحدث تحوّل جذري في العلاقة بين صاحب السلطة وصاحب المال. وفي غياب السيطرة المركزية التي ميّزت عهد بن علي، استغلت شبكات الأعمال المختلفة المتحالفة مع فصائل سياسية، البيئة السياسية الجديدة لتحقيق تراكم هائل. وقد حدث هذا في كثير من الأحيان من خلال الشبكات غير الرسمية وأنظمة المحسوبية، التي لا تزال تشكّل الطبيعة الأساسية في الاقتصاد السياسي التونسي.
وتحت هذه الآليّة الرئيسة هناك آليّات فرعية لتحقيق التراكم أهمها:
الاستحواذ على الأصول المصادرة: في العام 2011، صادرت الحكومة أصول العائلات المرتبطة بالنظام السابق وأملاكها. وشملت قائمة الأصول غالبية القطاعات الاقتصادية الرئيسة. ومن الناحية الإجرائية القانونية يحتاج التعامل مع الأصول المصادرة أمراً قضائياً لتحديد طريقة إدارتها أو مصيرها النهائي. ولكن نجحت حكومات ما بعد الثورة من خلال سيطرتها على جهاز الدولة في تحديد مصير هذه الأصول – ذات القيمة العالية – من خلال عطاءات لخصخصتها.
الخصخصة: لابد من الإشارة هنا إلى عامل رئيس من العوامل المساهمة في تشكيل تراكم الثروة في تونس ما بعد الثورة، وهو تأثير المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليين. ففي أعقاب الثورة، واجهت البلاد تحدّيات اقتصادية كبيرة، كارتفاع الدين العام واختلال التوازنات المالية لجهاز الدولة. ولمعالجة هذه القضايا، أبرمت الحكومة التونسية اتفاقيات عدّة مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية الأخرى، التي قدّمت قروضاً في مقابل «إصلاحات اقتصادية» تقوم على تدابير التقشف وخفض الإنفاق العام وخصخصة الشركات المملوكة للدولة، ما سمح للنخب ذات العلاقات الوطيدة بالسلطة، بالاستحواذ على أصول قيمة بأسعار أقل من أسعار السوق.
التحكّم في التشريعات: تتعلّق بالقوّة فوق الاقتصادية التي تمتلكها القلّة المسيطرة ونفوذها على مؤسسات التشريع (البرلمان والسلطة التنفيذية). وتظهر هذه السيطرة بشكل معلن، بداية من «قانون المصالحة» الذي صدر في العام 2017، ومنح عفواً للمسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال الذين تورّطوا سابقاً في الاستيلاء على أصول الدولة أو الحصول على تسهيلات إدارية ومالية، فضلاً عن عمليات إعادة تخصيص الأراضي الزراعية وتحويلها إلى عقارات سكنية من خلال المجالس البلدية وأجهزة الدولة.
الاحتكار: بفضل السيطرة على أدوات التشريع والسيطرة على السلطة السياسية، نجحت القلة المسيطرة في إغلاق مجال المنافسة وتقاسم القطاعات الأساسية في الاقتصاد ضمن نموذج احتكاري، يحقّق تراكماً هائلاً وآمناً وخالياً من المنافسة ووصولاً سهلاً إلى الائتمان المالي. وهو ما صار يسمى بــ «الريع السياسي»، إذ يعتمد النجاح في الأعمال على العلاقات الوثيقة مع المسؤولين الحكوميين، من خلال تخصيص التصاريح القانونية أو الإعانات الحكومية، أو التخفيضات الضريبية، أو غير ذلك من أشكال التدخل، ويقوم هذا النظام على محسوبية قرابية (عائلية) أو أيديولوجية (حزبية) أو زبائنية (مصالح متبادلة بين الفاعل الاقتصادي والبيروقراطي في الدولة).
الجريمة الاقتصادية: إحدى الآليّات الأساسية لتراكم الثروة في تونس قبل الثورة وبعدها هي الجريمة الاقتصادية. إذ فضلاً عن الانتفاع من العلاقة مع السلطة لتحقيق امتيازات إدارية ومالية، تنتفع القلة المسيطرة أيضاً من تجاوز التشريعات التي تسنّها السلطة لا سيما في ثلاث مستويات أساسية هي التهريب الضريبي والتهرّب الجمركي وخرق لوائح تنظيم النشاط الاقتصادي، وهو ما يحقّق لها فوائض مالية كبيرة.
ساهم التحوّل من نمط تراكم قائم على مركزية السلطة السياسة وحولها حزام من العوائل الاحتكارية قبل الثورة، نحو نمط مركزية الفاعلين الاقتصاديين من خلال السيطرة على السلطة بشكل مباشر، إلى مزيدٍ من تدهور أوضاع الطبقات الوسطى والشعبية، ومزيدٍ من تدهور نوعية وحجم خدمات الدولة العمومية، وكذلك إلى إغلاق مجال النشاط الاقتصادي أمام فاعلين أصغر حجماً وقدرةً من خارج القلة المسيطرة. فضلاً عن تراجع الوضع السيادي للدولة محلياً وخارجياً.
اللامساواة: حتى العام 2019 استحوذ الـ10% الأكثر ثراء في تونس على 50% من صافي إجمالي الثروة في البلاد. وهو تطوّر قياساً لعام 2017، حيث كان أغنى 10% يمتلكون حوالي 40% من الثروة بالمقارنة مع 18% فقط للنصف الأقل ثراءً من السكان. في المقابل بلغت نسبة الفقر 16.6% في العام 2021، في مقابل 15.2% في العام 2015.
اللامساواة المناطقية: يظهر التركزّ المشوّه للثروة في تونس في شكل تفاوتٍ بين المناطق. وتستمر الفجوات بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية في الاتساع، لا سيما في مجالات التعليم والصحة ونسب الفقر والبنية التحتية والحصول على فرص العمل. وتتركز في السواحل والعاصمة أغلب النشاطات الاقتصادية. ومن ناحية أخرى، تعاني المناطق الداخلية من ضعف اقتصادي على الرغم من ثرائها بالموارد الطبيعية. وترتفع معدلات الفقر في المناطق الريفية، وخصوصاً تلك الموجودة في شمال غرب وجنوب غرب البلاد.
تراجع الخدمات الاجتماعية: أدّت عمليات الخصخصة وتراجع مداخيل الدولة الضريبية وضعف الشركات المملوكة للدولة، وخصوصاً الخضوع لبرامج صندوق النقد الدولي التقشّفية، إلى تراجع اتساع وجودة الخدمات الاجتماعية العمومية في قطاعات التعليم والصحة والنقل العمومي.
هجرة القوى العاملة: أدّى تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس إلى موجات هجرة غير مسبوقة شكلاً وكمّاً، شملت العمالة الماهرة المدرّبة والقوى العاملة العادية والنخب التقنية والطبية والعلمية. يغادر البلاد أكثر من 36 ألف شخص سنوياً لأسباب اقتصادية.
توسّع نفوذ الأجهزة القمعية: في مقابل مزيد من تركّز الثروة في يد القلة، ومزيد من تدهور أوضاع الطبقات الشعبية والمتوسطة، ومزيد من تدهور الخدمات العمومية، نشهد ارتفاعاً في ميزانية الأجهزة القمعية للدولة. ارتفعت موازنة الجيش بنسبة 100% بين عامي 2010 و2025. فيما زادت ميزانية وزارة الداخلية نحو 98% بين عامي 2012 و2020. وفي الوقت نفسه توسّع نفوذ هذه الأجهزة في السلطة. وتبدو هذه الزيادة ضرورية لتغطية اللامساواة المتنامية بين الطبقات وبين المناطق، وكذلك لحراسة استئثار الأقلية بالسلطة والثروة بقوة السلاح.
1. مقدمة
إن تاريخ الانتفاضات الشعبية في تونس المعاصرة، ليس سوى تاريخ صراع بين محكومين و«قلّة مسيطرة»، على السلطة والثروة معاً. لذلك شكل تراكم الثروة، آلياته ومصادره وأثاره، مدار الصراع الأساسي دائماً بين الطرفين، وشكل أيضاً مدار صراعٍ داخل تلك «القلّة المسيطرة»، التي تتفرّق حيناً إلى أجنحةٍ وتتآلف أحياناً ضد المدّ الشعبي. وتعيد في كل مرةٍ تشكيل نفسها على نحوٍ مختلفٍ، مغيّرة كلّ شيء، كي لا يتغيّر أيّ شيء. فهذه القلة التي ولدت من رحم رأسمالية الدولة، التي سادت بعد الإستقلال حتى مطالع السبعينيات من القرن الماضي، بدأت منذ الثمانينيات مع التحوّلات النيوليبرالية الكبرى في العالم، في السيطرة على جهاز الدولة بعد أن كانت تحتمي به.
تحاول هذه الورقة البحث في آليات ومصادر تراكم وتركزّ الثروة في أيدي «القلّة المسيطرة» في تونس بعد ثورة 2011، وتحديد طبيعة هذه القلة، وكذلك رصد التداعيات التي خلفها هذا النمط التراكمي على الاقتصاد، وخصوصاً على مجتمع المحكومين.
2. الدولة التراكمية
لا يمكن فهم نمط تراكم وتركز الثروة في تونس بعد الثورة من دون فحص الهياكل الاقتصادية التي كانت سائدةً قبل العام 2011. ففي عهد زين العابدين بن علي، كان الاقتصاد خاضعاً لهيمنة رأسمالية المحاسيب، حيث تسيطر دائرة صغيرة من النخب، المرتبطة غالباً بعائلة الرئيس وأصهاره، على قطاعات رئيسة، نجحت من خلالها في جمع ثروات هائلة، مستفيدة من الممارسات الاحتكارية واللوائح التنظيمية التي تساهم في وضعها عبر مصادر قوة فوق إقتصادية وقمعية أحياناً. استحوذت عائلة بن علي وزوجته ليلى الطرابلسي، على الامتيازات والإيجارات التي خلقتها مجموعة القوانين واللوائح القائمة لصالحها. وبحلول نهاية العام 2010، تمت مصادرة 220 شركة لصالح عائلة بن علي، وهي شركات تمثل أقل من 11% من الوظائف ونحو 0.9% فقط من إجمالي الشركات، ولكنها تستحوذ على 55% من صافي أرباح القطاع الخاص. كما تتفوق على الشركات الأخرى على المستويات كافة (الأرباح، الإنتاج، والحصة السوقية). ولم يكن اختيار القطاعات عشوائياً. فقد اختارت هذه العائلات القطاعات المربحة، حيث كانت المنافسة مقيدة، وذلك من خلال متطلبات الترخيص المسبق لقيود الاستثمار الأجنبي المباشر، مثل النقل الجوي والبحري والاتصالات وتجارة التجزئة والتوزيع والعقارات والفنادق والخدمات المالية. وفي حال لم تحمِِ اللوائح التنظيمية قطاعاً مربحاً تستثمر فيه هذه الشركات، فإن السلطة السياسية كانت تستخدم سلطاتها التنفيذية لتغيير التشريعات لصالحهم. وهو ما ثبت من خلال 25 مرسوماً وقعها بن علي نفسه، وأدخلت متطلبات ترخيص جديدة في 45 قطاعاً مختلفاً، وقيوداً جديدة على الاستثمار الأجنبي المباشر في 28 قطاعاً، ومزايا ضريبية جديدة في 23 قطاعاً.
ولد هذا النمط الاحتكاري العائلي بعد سيطرة بن علي على السلطة بشكل نهائي مطلع تسعينيات القرن الماضي، إذ نجح في تصفية أجنحة نظام الرئيس الحبيب بورقيبة داخل الحزب الحاكم والبرجوازية التقليدية المرتبطة بها. وكذلك نجح في تصفية الحركة الإسلامية التي كانت تنازعه على السلطة. في هذا السياق، بدأ نفوذ العائلات المرتبطة به وبزوجته في الصعود، بالتزامن مع التحولات النيوليبرالية، التي تميزت بزيادة الخصخصة وإلغاء القيود التنظيمية من خلال خصخصة الكثير من الشركات المملوكة للدولة، وخصوصاً في قطاعات مثل الاتصالات السلكية واللاسلكية والخدمات المصرفية والزراعة. وكان الهدف المعلن هو «فتح فرص للاستثمار الخاص»، لكن أغلب هذه الأصول ذهبت لأفراد وعائلات قريبة من النظام. أما الوجه الثاني لهذا التحول فهو الاندماج المتزايد في الاقتصاد العالمي، بدايةً من المصادقة على الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة (GATT) في العام 1990، ثم الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية في العام 1995، وفي تموز/يوليو من العام نفسه، تمّ توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، كأول شريك في دول الجوار الجنوبي. وقد ساهم الاندماج المتزايد في الأسواق العالمية، لا سيما من خلال الصناعات الموجّهة للتصدير مثل المنسوجات والسياحة، في ربط مصالح البرجوازية الاحتكارية العائلية بالبرجوازية الأوروبية، شريكها الأول، وهو ما انعكس على تعزيز شرعية النظام السياسي، على الرغم من مستويات القمع الشديدة التي كان يمارسها ومصادرة الحريات.
في المقابل، حافظ النظام محلياً على نوعٍ من التوازن الهشّ بين المضي في النيوليبرالية من جه، وحراسة النمط الاحتكاري العائلي بالسلاح والتشريعات من جهة أخرى، واستدامة المقايضة الطبقية مع الطبقات الوسطى من خلال النقابات والاتحادات المهنية عبر توفير الحد الأدنى من الخدمات الاجتماعية في التعليم والصحة والنقل. إلا أن هذا التوازن المعادي لنظام الأشياء كان سقوطه حتمياً. وبالقدر الذي كانت فيه الثروة تتركز أكثر في قطب العوائل المقربة من السلطة، وتخسر فيه بقية أجنحة البرجوازية مصالحها، كانت التناقضات تتعمق داخل النظام. وبالقدر الذي تتعمّق فيه هذه التناقضات كانت أوضاع المحكومين تتدهور على نحو واضح من خلال تصاعد مستويات البطالة، خصوصاً في صفوف الخريجين، وكذلك نسبة الفقر، لاسيما في المناطق الداخلية المهمّشة. ولمعادلة هذه الهشاشة، رفع النظام من قدرته القمعية على نحو أشد من خلال السيطرة على الحركة النقابية وقمع أجنحتها غير القابلة للتدجين، وإضعاف نفوذ الاتحاد العام التونسي للشغل. وقد سمح هذا للعوائل الاحتكارية بتعزيز سلطتها من دون تحديات كبيرة من العمل المنظّم، على الرغم من حدوث احتجاجات وإضرابات متفرقة، خصوصاً في المناطق المهمّشة. وتزامنت هذه الهشاشة المحلية لتوازنٍ حاول نظام بن علي أن يديره، مع الأزمة المالية العالمية في العام 2008، حين وجد نفسه يعاني ويلات هذا الارتباط الخارجي. فقد استقرت الدولة منذ التسعينيات على نموذج تنموي قائم على التخصّص في الصناعات التصديرية منخفضة التكنولوجيا. وفضّلت أن تكتسب بشكل أساسي قدرتها التنافسية في الأسواق الدولية من استخدامها الوفير للعمالة الماهرة منخفضة التكلفة. وكان لهذا النمط من الاندماج في الاقتصاد العالمي عواقبه الوخيمة على أوضاع هذه العمالة، إذ تعتمد قدرته التنافسية بشكل أساسي على ضغط الأجور وتآكل الحقوق الاجتماعية بفضل القوة فوق الاقتصادية.
ولتقديم تحليل أكثر دقة من رأسمالية المحاسيب، بوصفها أداةً تعتمدها المؤسّسات المالية الدولية السائدة لتوصيف حدود التنافسية التي تشجّع عليها في الاقتصاديات خارج العالم الغربي، يمكن الاستعانة بنظرية «الدولة التراكمية»1، كما قدّمها الاقتصادي المجري، غابور شيرينغ. فهي شكل من أشكال الحكم يدمج الاستبداد مع شكل مميز من الرأسمالية، حيث تؤدّي الدولة دوراً أساسياً في تعزيز تراكم الثروة لمصلحة نخبة مفضلة. في الدولة التراكمية، تصبح الدولة أداة لإعادة توزيع الثروة على مجموعة مخلصة من نخب الأعمال، الذين يدعمون بدورهم الطموحات السياسية للنظام. وعلى الرغم من أن شيرينغ يعالج من خلال هذه الأداة التحليلية الوضع في المجر، إلا أنها تعكس اتجاهاً أوسع نطاقاً حيث تستخدم الأنظمة الاستبدادية سلطة الدولة للسيطرة على القطاعات الاقتصادية الرئيسة، وقمع المعارضة، والحفاظ على الاستقرار السياسي. يتميّز هذا النظام بالتطبيق الانتقائي للسياسات الاقتصادية، مثل العقود الحكومية والإعفاءات الضريبية والإعفاءات التنظيمية، التي تُستخدم لمكافأة الموالين ومعاقبة المعارضين. ونتيجة لهذا، أصبحت الخطوط الفاصلة بين القوة الاقتصادية والسياسية غير واضحة. إذ تتجاوز الدولة التراكمية المحاباة الاقتصادية وقضية التنافسية نحو استقطاب النخب الاقتصادية وربط مصالحها بمصلحة بقاء النظام، حيث يعمل القادة السلطويون على تعزيز سيطرتهم. ويسمح هذا الاندماج بين القوة السياسية والاقتصادية بقمع المعارضة، والحد من التعددية السياسية، وتقويض أي توجه ديمقراطي. وهو ما كان سائداً في تونس حتى ثورة 2011، إذ اتسم نمط تراكم الثروة بمزيج من الإرث التاريخي، ورأسمالية المحسوبية، والقوة فوق الاقتصادية التي تمارسها الدولة، والتفاوتات المناطقية الشديدة بين سواحل البلاد الأكثر تطوراً واندماجاً في الأسواق العالمية، ودواخلها التي تعاني من ضعف الاستثمار وارتفاع معدلات البطالة ومحدودية الوصول إلى الخدمات العامة للدولة.
في هذه المناطق الطرفية المهمّشة، كان النشاط الاقتصادي الأساسي، يقع خارج الاقتصاد الرسمي من خلال التهريب، الذي شهد منذ نهاية الثمانينيات، بعد تحسن العلاقات مع الجارتين ليبيا والجزائر، ولاحقاً توقيع اتفاق اتحاد المغرب العربي، توسعاً كبيراً، وأصبحت الدولة تغض الطرف عنه، ثم صار جزءاً من نشاط العائلات المقربة من السلطة. فقد نشأ جناح جديد من البرجوازية الطرفية، التي راكمت ثروة طائلة من التهريب والتجارة غير الرسمية، مستفيدة من الحصار الدولي الذي فرض على ليبيا والحرب الأهلية في الجزائر. ومع بداية القرن، أصبح هذا الجناح يحاول البحث عن نفوذ في السلطة أو علاقة قرب مع أطراف فاعلة داخل السلطة، ووجد ضالته في تحالف مع «دائرة العائلة» مبني على مصالح اقتصادية. ويفسّره مهدي عامل بأن «وعي الطبقات البرجوازية غير المهيمنة في تطلعها لشرعنة الوصول إلى مراكز الهيمنة التي تشغلها أجزاء أخرى من البرجوازية، يزداد إلى مستوى يتم من خلاله تحديد موقعها من المجال السياسي والاقتصادي. وهذا الجزء من البرجوازية غير المهيمن يريد إنهاء جزء من الهيمنة من دون أن يزيل كامل الهيمنة البرجوازية».
3. طبيعة «القلّة المسيطرة» بعد الثورة
في نهاية العام 2010، وصل التوازن الهشّ، الذي حاول نظام بن علي الحفاظ عليه، إلى طريقٍ مسدودٍ. دفع توسّع الانتفاضة الشعبية - التي انطلقت من المناطق الداخلية ووصلت إلى المركز، وانضمّت إليها قطاعات واسعة من الحركة الشعبية العمالية والطالبية - البيروقراطية الأمنية والعسكرية إلى التخلي عن بن علي ودفعه نحو الهروب، لضمان استمرارية النظام. وهو ما ظهر على نحو دعائي في وسائل الإعلام السائدة تحت عناوين «انحياز الجيش للثورة». لكن من الناحية الموضوعية لم يكن سقوط بن علي، ومعه الاحتكار العائلي، ممكناً من دون تفكّك الروابط بينه وبين البيروقراطية القمعية. وما كان مجمّعاً في يد بن علي أصبح مفرّقاً في يد قوى متعدّدة: نخب مالية وسياسية وأمنية وعسكرية وإدارية. دعمت البرجوازية التقليدية – التي فقدت هيمنتها في عهد بن علي بسبب سيطرة العوائل القريبة من السلطة على الثروة بالتحالف مع برجوازية الأطراف – صعود الباجي قائد السبسي إلى رئاسة الحكومة المؤقتة، بدفعٍ قوي من الجيش في آذار/مارس 2011. وكان قائد السبسي الممثل السياسي لتلك البرجوازية الباحثة عن الثأر. وقد نجح في خلال شهور قليلة من حكمه في وضع من تبقى من رموز نظام الاحتكار العائلي في السجن، فضلاً عن مصادرة جميع شركاتهم وأملاكهم. وشملت عملية المصادرة «530 عقاراً و650 شركة و24,739 قطعة منقولة و73 مليار دولار، ومليار ونصف مليار يورو، و173 سيارة فخمة».
أدّى القضاء على الاحتكار العائلي المديد للعوائل القريبة من زين العابدين بن علي وزوجته، إلى تحرّر البرجوازية التقليدية من قيودها، والعودة بقوة إلى شغل مواقع الهيمنة التي تركتها في منتصف تسعينيات القرن الماضي. والمفارقة أن هذه البرجوازية هي الأخرى مجموعة من العائلات، التي لديها جذور تاريخية في النشاط الصناعي والتجاري، وقد شكلت الجناح الأساسي للقلة المسيطرة بعد الثورة.
أما الجناح الثاني فهو البرجوازية الإسلاموية الجديدة، التي بدأت بالظهور بعد سيطرة حركة النهضة الإسلامية على السلطة في العام 2011. وتشكّلت نتيجة تحالف موضوعي بين برجوازية الأطراف التي نشأت قبل سنوات، من خلال التراكم خارج أطر الاقتصاد الرسمي على الحدود. وهذه البرجوازية في جذرها هي تلك التشكيلات الاجتماعية الوسطى المحافظة في الثمانينيات، التي ارتقت طبقياً بفضل تحوّلات جيوسياسية في المنطقة، منها تطبيع العلاقات بين تونس وليبيا وتحسّنها مع الجزائر، الأمر الذي أدى إلى انتعاش التجارة غير القانونية على طرفي الحدود، حيث كانت تونس أحد مصادر التزويد السلعي والمالي للبلدين. وهذا الجناح المهمش من البرجوازية كان يعاني لسنوات من عدم نجاحه في الوصول إلى مواقع متقدمة من الهيمنة، فوجد في صعود حركة النهضة للسلطة فرصة تاريخية لوصول أكبر نحو مواقع الهيمنة، من خلال تحويل فوائض كبيرة من التراكم نحو الاقتصاد الرسمي الخدمي، خارج قطاعات الإنتاج، في عملية «تبييض رساميل» واضحة، لتبرز في خلال هذه الفترة الكثير من المشاريع العقارية والترفيهية كالمطاعم والفنادق، والمشاريع الصحية كالمصحّات الخاصة. بالإضافة إلى ميولها المحافظة، نظراً لانتمائها جغرافياً إلى مناطق ذات بناء اجتماعي قبلي، دُفعت هذه الشريحة من البرجوازية المهمشة، من خلال موقعها الطبقي الهامشي، نحو الحركة الإسلاموية، فيما ساعدتها الحرب الأهلية في ليبيا وسيطرة الميليشيات الإسلاموية على السلطة في تعزيز مواردها المالية على نحو غير مسبوق. وفي هذا السياق، برزت «البرجوازية الإسلاموية الطفيلية»2 وتوسّعت متكوّنة من رافدين أساسيين، أولهما برجوازية الأطراف التي نجحت في إدراج رأسمالها ضمن الاقتصاد الرسمي، وثانيهما برجوازية صاعدة من القاعدة الاجتماعية المحافظة للحركة الإسلامية، ونجحت الأخيرة بفضل سيطرة الحركة على السلطة في مراكمة رساميل مهمة وارتقت طبقياً، وقد حقّق بعض عناصرها ذلك خلال سنوات المنفى، من خلال إدارة أموال الحركة أو تشبيك المصالح مع فاعلين اقتصاديين من الانتماء الأيديولوجي نفسه (الإخوان المسلمون)، خصوصاً من دول الخليج العربي. ويمكن وصف روافد هذه البرجوازية الإسلاموية الصاعدة بأنها تحالف «البرجوازي المتأسلم مع الإسلاموي المتبرجز»، لكن السمة البارزة والموحّدة لكل هذه الروافد هي «الطفيليّة».
انعكس صراع هذين الجناحيين، في خلال المرحلة الانتقالية (2011 – 2014) بوضوح على الصراع السياسي بين المعسكر الإسلاموي والمعسكر الليبرالي، الذي وصل إلى مستويات من التوتر، بلغت الإرهاب والاغتيالات السياسية. ولم تحسم إلا بتسوية بين رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، ورئيس حركة نداء تونس، الباجي قائد السبسي، وكان عراباها كلّ من سليم الرياحي، أحد رموز البرجوازية الجديدة التي راكمت ثروتها خارج المسارات الاقتصادية الرسمية المحلية، ونبيل القروي، أحد رموز البرجوازية التقليدية التي ولدت وانتعشت مستفيدة من فتح الاقتصاد المحلي على الرأسمال الأوروبي. وقد أفرزت هذه التسوية نظام «التوافقية السياسية»، الذي ربط جناحي البرجوازية المتصارعان بمصالح مشتركة.
4. آليّات التراكم
تقوم الآليّة الأساسية لتراكم الثروة في تونس بعد العام 2011، على إعادة إنتاج نموذج «رأسمالية المحاسيب»3، بشكل مقلوب. بمعنى لم تعد السلطة السياسية هي مركز التراكم، أي لم يعد أصحاب الثروات في خدمة النظام، ولكن أصبحت القلة المسيطرة هي المركز والنظام السياسي التوافقي هو من يخدمها. لكن حدث تحوّل جذري في العلاقة بين صاحب السلطة وصاحب المال. وفي غياب السيطرة المركزية التي ميّزت عهد بن علي، استغلت شبكات الأعمال المختلفة المتحالفة مع فصائل سياسية، البيئة السياسية الجديدة لتحقيق تراكم هائل. وقد حدث هذا في كثير من الأحيان من خلال الشبكات غير الرسمية وأنظمة المحسوبية، التي لا تزال تشكّل الطبيعة الأساسية في الاقتصاد السياسي التونسي. كما أدّت اللامركزية في السلطة إلى تفتيت دور الدولة في تنظيم الاقتصاد، ما يجعل من السهل على بعض المجموعات استغلال الثغرات وتحقيق مكاسب. ولم يؤدِ صعود هذه النخب الجديدة إلى توزيع أكثر عدالة للثروة. بل أعيد إنتاج الكثير من أنماط المحسوبية والريوع السياسية التي كانت موجودة قبل الثورة. وقد ساهم هذا في تعزيز تصوّر مفاده أن الثورة فشلت في تحقيق تحوّل جذري في نموذج التنمية وتوزيع الثروة، يكون ذي مغزى لغالبية التونسيين، وخصوصاً أولئك الذين ينتمون إلى الطبقتين الدنيا والمتوسطة. وفي هذا السياق، أصبح الفاعلون الاقتصاديون أكثر ظهوراً ومشاركة مباشرة في النشاط السياسي من خلال تشكيل الأحزاب والدخول إلى البرلمان أو دعم أحزاب سياسية بشكل معلن. ويمكن تلخيص طبيعة هذه الآليّة بأنها سيطرة أجنحة البرجوازية الكبيرة على أجنحة التوافق السياسي الحاكم، وبالتالي السيطرة على طريقة تنظيم النشاط الاقتصادي كتشريعات ولوائح ورقابة وتمويل.
لكن تحت هذه الآليّة الرئيسة، هناك آليّات فرعية لتحقيق التراكم أهمها:
الاستحواذ على الأصول المصادرة: في العام 2011، صادرت الحكومة أصول وأملاك العائلات المرتبطة بالنظام السابق. وشملت قائمة الأصول غالبية القطاعات الاقتصادية الرئيسة. ومن الناحية الإجرائية القانونية، يحتاج التعامل مع الأصول المصادرة أمراً قضائياً لتحديد طريقة إدارتها أو مصيرها النهائي. نجحت حكومات ما بعد الثورة من خلال سيطرتها على جهاز الدولة في تحديد مصير هذه الأصول – ذات القيمة العالية – من خلال عطاءات لخصخصتها، وأبرزها: أسهم في شركة أوريدو (شركة اتصالات أجنبية صودرت 30% من أسهمها)، وشركتي النقل، ألفا فورد وسيتي كارز (توزيع السيارات)، وشركة حلق الوادي للشحن (إدارة محطة الرحلات البحرية)، وشركة خدمات في آي بي سيرفيس (إدارة صالة رجال الأعمال)، وبنك تونس وبنك الزيتونة (خدمات المصرفية). والشكل الثاني من التلاعب بالأصول المصادرة، هو إعادتها لأصحابها، بعد أن أعادوا تموضعهم في خريطة المصالح. ولعل أفضل نموذجٍ لهذا الشكل هو قضية مراون مبروك، صهر الرئيس الأسبق بن علي، الذي كان هو وعائلته من رموز نظام الاحتكار العائلي الذي كرّسه نظام بن علي. وتتشكّل محفظتهم الاستثمارية من مساهمات كبيرة في مصارف محلية وشركات صناعات غذائية وقطاع التأمين والاتصالات من خلال وكالة المشغل العالمي أورونج. خضعت كل أصول مبروك وأمواله في الداخل والخارج لقرار المصادرة بعد الثورة، ولكن بفضل إعادة انتشار سياسي قام بها، نجح في تخطّي المصادرة واسترداد كل أصوله. وذلك بفضل دعمه السخي لنظام التوافق السياسي الذي ساد بعد العام 2014. في العام نفسه، عاد إلى رئاسة مجلس إدارة شركة أورنج تونس وشركة غات للتأمين. وفي العام 2015، تم إبطال عمليات المصادرة لعدد من شركاته الأخرى. وأخيراً في العام 2019 نجح بطلب رسمي من رئيس الحكومة يوسف الشاهد، في حذف إسمه من قائمة 48 تونسياً من المعنيين بتجميد أموالهم في الخارج منذ 2011، مستغلاً علاقته بالسلطة السياسية ورأس المال الفرنسي لإنهاء الحظر على أكثر من 7 ملايين يورو في دول الاتحاد الأوروبي.
الخصخصة: الآليّة الثانية والأكثر أهمّية هي الخصخصة. ولا بد من الإشارة هنا إلى عاملٍ رئيس من العوامل المساهمة في تشكيل تراكم الثروة في تونس ما بعد الثورة، وهو تأثير المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليين. ففي أعقاب الثورة، واجهت البلاد تحديات اقتصادية كبيرة، مثل ارتفاع الدين العام واختلال التوازنات المالية لجهاز الدولة. ولمعالجة هذه القضايا، أبرمت الحكومة التونسية اتفاقيات عدة مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية الأخرى، التي قدمت قروضاً في مقابل «إصلاحات اقتصادية» تقوم على تدابير التقشف وخفض الإنفاق العام وخصخصة الشركات المملوكة للدولة، ما سمح للنخب ذات العلاقات الوطيدة بالسلطة الاستحواذ على أصول قيمة بأسعار أقل من أسعار السوق. توجد في تونس 111 شركة مملوكة للدولة، تؤدّي دوراً أساسياً في جميع قطاعات الاقتصاد، لكنها تعاني من مشاكل هيكلية في الحوكمة والإدارة. أما الجانب الثاني للخصخصة فهو فتح القطاعات الأساسي (الصحة، التعليم، النقل) للقطاع الخاص بشكل واسع، بدلاً من فتح قطاعات أخرى ثانوية، ومركزة القطاعات الأساسية بيد الدولة. إذ مازالت الدولة تسيطر على صناعة توزيع السجائر، فيما تشجّع بناء المصحات الخاصة وتهمل الخدمات الصحية العامة. ويشكل القطاع الصحي مثالاً واضحاً على اختلال توازن الخدمات العامة بفعل الخصخصة. لقد ساهمت سيطرة الفاعلين الاقتصاديين على السلطة بعد الثورة في توسيع منح تراخيص المستشفيات الخاصة، التي ارتفع عددها بنسبة 90% منذ العام 2011، بطاقة إشغال إجمالية تبلغ 6.676 سريراً حتى شباط/فبراير 2020، وهو ما يمثل 24% من طاقة الإشغال الوطنية. وبلغ عدد المراكز الخاصة لتصفية الدم حتى شباط/فبراير 2020، والتي تستقطب حوالي 75% من مرضى القصور الكلوي الحادّ، نحو 117 مركزاً في مقابل 49 مركزا عمومياً لتصفية الدم. ووفقاً لتقارير محكمة المحاسبات لم تتولّ السلطات المختصة القيام بأي مهمات رقابة دورية على المستشفيات الخاصة للتثبت من شفافية المعاملات ومراقبة أسعار الخدمات الصحية والفوترة المعتمدة من قبلها، كما لم تراقب شروط السلامة الصحية وطرق التصرف في النفايات الخطيرة.
التحكّم في التشريعات: تتعلّق الآليّة الثالثة لتحقيق التراكم بالقوة فوق الاقتصادية التي تمتلكها القلة المسيطرة، وتقوم على تحكّمها بمؤسسات التشريع (البرلمان والسلطة التنفيذية). تظهر هذه السيطرة بشكل معلن بدايةً من «قانون المصالحة» الذي صدر في العام 2017، ومنح عفواً للمسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال الذين تورّطوا سابقاً في الاستيلاء على أصول الدولة أو الحصول على تسهيلات إدارية ومالية. وفي العام 2018، اقترح نواب المعارضة أن يتم تخصيص 1% من أرباح المصارف كمساهمة استثنائية وقتية في الصناديق الاجتماعية التي تعاني عجزاً كبيراً. وبعد المصادقة على المقترح في الجلسة طلب وزير المالية إعادة التصويت على المقترح بضغط من المصارف والعائلات التسعة الكبيرة المساهمة فيها، وفي خلال إعادة التصويت سقط المقترح. وفي العام التالي، صوّت البرلمان على قانون الموازنة لعام 2019 الذي تضمن مقترحاً بزيادة نسبة الضريبة من 25% إلى 35% على تجّار السيارات والمجمعات التجارية الكبيرة، لكن الضغوط التي مارستها هذه الجهات التجارية أسقطت المقترح. فضلاً عن عمليات إعادة تخصيص الأراضي الزراعية وتحويلها إلى عقارات سكنية من خلال المجالس البلدية وأجهزة الدولة. وفي ظل أزمة كورونا والأزمة العامة التي تعانيها تونس، اقتصادياً واجتماعياً، حققت المصارف أرباحاً كبيرة، في تعارض تامٍ مع منطق الأشياء، إذ سجلت نمواً في أرباحها بنسبة 13% في العام 2022 بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام 2021. وذلك بسبب المساهمة في قروض السندات التي صارت تصدرها الدولة سنوياً لتمويل الموازنة ودفع أجور الموظفين.
الاحتكار: بفضل السيطرة على أدوات التشريع، والسيطرة على السلطة السياسية، نجحت القلة المسيطرة في إغلاق مجال المنافسة وتقاسم القطاعات الأساسية في الاقتصاد ضمن نموذج إحتكاري يحقّق تراكماً هائلاً وآمناً وخالياً من المنافسة ووصولاً سهلاً إلى الائتمان المالي. وهو ما صار يسمى بــ «الريع السياسي»،4 إذ يعتمد النجاح في الأعمال على العلاقات الوثيقة مع المسؤولين الحكوميين، من خلال تخصيص التصاريح القانونية أو الإعانات الحكومية، أو التخفيضات الضريبية، أو غير ذلك من أشكال التدخل، ويقوم هذا النظام على محسوبية قرابية (عائلية) أو أيديولوجية (حزبية) أو زبائنية (مصالح متبادلة بين الفاعل الاقتصادي والبيروقراطي في الدولة). وتحت تأثير هائل من المجتمع المدني، تسود في تونس اليوم مقولات وصف النمط الاحتكاري الزبائني السائد بالريعية، ليس بهدف نقد جوهر لاعدالة هذا النظام بقدر ما هو نقد موجّه لبنية لاعدالة هذا النظام تجاه أجنحة مهمّشة داخل البرجوازية نفسها. أي أن هذا النقد موجه أساساً لإغلاق المجال الاقتصادي على شرائح أقلية في حالة من حالات الاحتكار شديدة الشيوع داخل أي بنية رأسمالية، فكلّ النقد الموجّه للنظام القائم مدخله الأساسي غياب التنافسية وتركّز النشاط في أقلية تسمى«أوليغارشية ريعية». وتستمدّ هذه الأوليغارشية امتيازاتها الاحتكارية من علاقتها بالسلطة السياسية، وتقوم بعملية إعادة إنتاج اجتماعي من خلال طبيعتها العائلية عبر توريث هذه الامتيازات. وبشكل ضمني يدافع النقد الليبرالي عن ضرورة كسر هذا الاحتكار، الذي يسميه «ريعية سياسية»، وفتح المجال للتنافس على أساس رأسمالي، بعيداً من أي تأثير للسلطة السياسية. لكن هذه الأطروحة - التي تملك جانباً كبيراً من الوجاهة - هي في الأساس إحدى أطروحات النقد الذاتي داخل مسارات التفكير الرأسمالي، أي أنها جزء من عملية الإصلاح الذاتي للرأسمالية، حيث يعتبر الكثير من الليبراليين أن غياب التنافسية الحرة هو أكبر خطر على النظام الرأسمالي، في نوع من التفكير المثالي الوفي لكلاسيكيات الرأسمالية. ولكن يكشف حيز التجربة العملية أن أي اقتصاد يقوم على علاقات إنتاج رأسمالية ينتهي بالضرورة إلى الريعية والاحتكارية. وتفترض هذه الأطروحة وجود «رأسمالية جيدة» لا احتكار ولا ريع فيها، تقوم على المنافسة الحرة والإنتاج، كما افترضها آدم سميث نظرياً، في مقابل «رأسمالية قذرة» تقوم على الاحتكار والسعي وراء الريع والتراكم الوهمي. وفي حين قد يبدو هذا التقسيم متماسكاً من الناحية النظرية، إلا أنه لا يصمد في الواقع، بل يصدر عن غضب جناح مغبون من البرجوازية التي تريد الدخول إلى السوق ولم تجد غير المحاصرة والمنع من طرف قلة من المحظيين. ولكن في الحقيقة لا يمكن المواصلة في التوسع الرأسمالي من دون التحوّل من الإنتاج إلى الريع، ومن المنافسة الحرة إلى الاحتكار، حيث يبدو هذا التحول شبه حتمي. وحتى أولئك الذين يشتكون اليوم من إغلاق السوق أمامهم سوف يتحولون غداً إلى محتكرين. أما الخلل الثاني في هذه الأطروحة فهو افتراض وجود سلطة سياسية - أي الدولة - محايدة أو غير متأثرة بالفاعلين الاقتصاديين، ذلك أن تداخل السلطة برأس المال شديد التعقيد واضح حتى في أكثر الاقتصاديات الرأسمالية تنافسية وانفتاحاً.
الجريمة الاقتصادية: إحدى الآليّات الأساسية لتراكم الثروة في تونس قبل الثورة وبعدها هي الجريمة الاقتصادية. ففضلاً عن الانتفاع بالعلاقة مع السلطة لتحقيق امتيازات إدارية ومالية، تنتفع القلة المسيطرة أيضاً من تجاوز التشريعات التي تسنّها السلطة، ولوائح تنظيم النشاط ولاسيما في ثلاث مستويات أساسية، وهي التهريب الضريبي والتهرّب الجمركي وخرق لوائح تنظيم النشاط الاقتصادي، وهو ما يحقق لها فوائض مالية كبيرة. تخسر تونس نحو 1.2 مليار دولار أميركي سنوياً بسبب التدفقات المالية غير المشروعة، أي ما يعادل نحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وتتضمّن هذه التدفقات التحويل غير القانوني للأموال أو رؤوس الأموال المكتسبة بشكل غير قانوني من بلد إلى آخر، فضلاً عن خسارة سنوية بمليار دولار بسبب التهرب من دفع المساهمات في الصناديق الاجتماعية (التأمين الصحي والتقاعد)، لاسيما في الاقتصاد الموازي. وحتى نهاية العام 2015، صنّفت اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا تونس في المرتبة الأولى من حيث التدفقات المالية غير المشروعة والثامنة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفي العام 2015، بلغت التدفقات المالية غير المشروعة 2.6 مليار دولار أميركي (11.4%)، وشكلت التدفقات الخارجة 1.28 مليار دولار أميركي (5.6%) من قيمة التجارة التونسية. كما تشكل عائدات التهريب مصدراً كبيراً للدخل غير المشروع والتدفقات المالية في البلاد. وتولد عمليات تهريب السلع - من الوقود والإلكترونيات إلى زيت الطهي والمنسوجات - بين تونس وجارتيها الجزائر وليبيا ما يقدّر بنحو 2.4 مليار دولار أميركي سنوياً. وتمثل حصة الضرائب غير المباشرة، التي تلقي بثقلها بشكل غير متناسب على جميع التونسيين بغض النظر عن دخلهم، حوالي ثلثي الإيرادات الضريبية. كما تعاني البلاد من نزيف ناتج عن الحوافز والإعفاءات والتهرب الضريبي. وكل ذلك يفيد الأشخاص والشركات الأكثر ثراءً ونفوذاً، على حساب الفقراء والخدمات العامة الأساسية وجودتها.
5. التداعيات
ساهم التحوّل من نمط تراكم قائم على مركزية السلطة السياسة وحولها حزام من العوائل الاحتكارية قبل الثورة، نحو نمط مركزية الفاعلين الاقتصاديين من خلال السيطرة على السلطة بشكل مباشر، إلى مزيدٍ من تدهور أوضاع الطبقات الوسطى والشعبية، ومزيدٍ من تدهور نوعية وحجم خدمات الدولة العمومية، وكذلك إلى إغلاق مجال النشاط الاقتصادي أمام فاعلين أصغر حجماً وقدرة من خارج القلة المسيطرة، فضلاً عن تراجع الوضع السيادي للدولة محلياً وخارجياً.
اللامساواة: بسبب غياب دراسات مسحية عن تركز الثروة في تونس، سوف أعتمد على دراسة المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، التي جمعت معطيات متفرقة لتشكيل صورة تقريبية عن هذا التركز، وتشير إلى وجود ما لا يقلّ عن 6,500 مليونيراً في البلاد، ما يجعل تونس في المرتبة الأولى في المغرب العربي، على الرغم من وجودها بين دولتين نفطيتين. وتشير الدراسة إلى تطوّر بـ5% في عدد المليونيرات في تونس في خلال الفترة الممتدّة بين عامي 2019 و2024، مقدرة أنّ الـ10% الأكثر ثراء في تونس يملكون 50% من صافي إجمالي الثروة، وهو تطور قياساً لعام 2017، حيث كان أغنى 10% يمتلكون حوالي 40% من الثروة بالمقارنة مع 18% فقط للنصف الأقل ثراءً من السكان. في المقابل بلغت نسبة الفقر 16.6% في العام 2021، في مقابل 15.2% في العام 2015. ووفقاً لأحدث تقرير لليونيسيف، فإن أكثر من 95% من الأطفال من الطبقة الأكثر ثراء يلتحقون بالمدارس الثانوية، بالمقارنة مع أقل من ثلثي الأطفال من الطبقات الفقيرة. وتتأثر النساء بالبطالة بمقدار الضعف بالمقارنة مع الرجال (21.7% في مقابل 12.1%)، ويقضين في المتوسط وقتاً أطول بثمانية أضعاف في الأعمال المنزلية وأعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر.
اللامساواة المناطقية: يظهر التركزّ المشوه للثروة في تونس في شكل تفاوتٍ بين المناطق. وتستمرّ الفجوات بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية في الاتساع ولا سيما في مجالات التعليم والصحة ونسب الفقر والبنية التحتية والحصول على فرص العمل. وتتركّز في السواحل والعاصمة غالبية النشاطات الاقتصادية، حيث يتم إنشاء 92% من الشركات الخاصة هناك - ومن ناحية أخرى، تعاني المناطق الداخلية من ضعف اقتصادي على الرغم من ثرائها بالموارد الطبيعية. وترتفع معدلات الفقر في المناطق الريفية، وخصوصاً تلك الموجودة في شمال غرب وجنوب غرب البلاد وتتجاوز في كثير من الأحيان 33%. وعلى النقيض من ذلك، تظهر منطقة تونس الكبرى أدنى المعدلات، حيث يبلغ معدل الفقر في تونس 4.6%، وبن عروس 5.6%، وأريانة 7%. بالإضافة إلى ذلك، تظهر المسوح المتعلقة بالبطالة أن المناطق التي ترتفع فيها معدلات الفقر لديها أيضاً أعلى معدّلات البطالة في البلاد، والتي يمكن أن تصل إلى 26% في المناطق الشمالية الغربية و21% في المناطق الجنوبية - وهي فجوة كبيرة بالمقارنة مع المعدل الوطني البالغ 15.2%. وترافق هذه الأرقام زيادة في البطالة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً - بما في ذلك 56% من خريجي الجامعات - الذين مثلوا في العام 2016 أكثر من 70% من إجمالي العاطلين عن العمل.
تراجع الخدمات الاجتماعية: أدّت عمليات الخصخصة وتراجع مداخيل الدولة الضريبية وضعف الشركات المملوكة للدولة، وخصوصاً الخضوع لبرامج صندوق النقد الدولي التقشفية، إلى تراجع اتساع وجودة الخدمات الاجتماعية العمومية في قطاعات التعليم والصحة والنقل العمومي. وتُظهر بيانات البنك الدولي أن نسبة الإنفاق على التعليم من الناتج المحلي الإجمالي في تونس قد انخفضت من 7% في عام 2006 إلى 6.6% في عام 2015. أما في القطاع الصحي، فقد حافظ الإنفاق على استقرار نسبي منذ أوائل التسعينات وحتى العام 2023، تراوحت بين 6.4% و7.0%. لكنه شهد انخفاضاً إلى 5.5% في عامي 2024 و2025. في المقابل نشهد تطور القطاع الخاص الذي يمثل اليوم 42.4% من الخدمات الصحية، في حين يتعرض التعليم العام للإهمال بشكل متزايد لصالح صعود قوي للتعليم الخاص في جميع مستوياته من الحضانة حتى الجامعات.
هجرة القوى العاملة: أدّى تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس إلى موجات هجرة غير مسبوقة شكلاً وكماً من البلاد نحو أوروبا وكندا والخليج العربي، شملت العمالة المهارة المدرّبة والقوى العاملة العادية والنخب التقنية والطبية والعلمية. وضمن أشكالٍ مختلفة بين هجرة منظّمة وهجرة غير نظامية، كانت عواقبها كارثية. وبحسب أرقام نشرها المرصد الوطني للهجرة فإن أكثر من 36 ألف تونسي يغادرون البلاد سنوياً لأسباب اقتصادية. فضلاً عن 65% من فئة الشباب يرغبون في الهجرة، وحوالي 40% من الشباب يفكّرون في الهجرة حتى وإن كانت غير نظامية.
توسّع نفوذ الأجهزة القمعية: في مقابل مزيدٍ من تركز الثروة في يد القلة، ومزيد من تدهور أوضاع الطبقات الشعبية والمتوسطة، ومزيدٍ من تدهور الخدمات العمومية، نشهد ارتفاعاً في ميزانية الأجهزة القمعية للدولة – أجهزة الأمن والجيش – إذ ارتفعت موازنة الجيش بنسبة 100% بين عامي 2010 و2024، وفقاً لبيانات الإنفاق العسكري، التي يصدرها معهد ستوكهولم الدولي. فيما زادت ميزانية وزارة الداخلية نحو 98% بين عامي 2012 و2020. وفي الوقت نفسه، توسّع نفوذ هذه الأجهزة في السلطة. وتبدو هذه الزيادة ضرورية لتغطية اللامساواة المتنامية بين الطبقات وبين المناطق وحراسة استئثار الأقلية بالسلطة والثروة بقوة السلاح.
لكن أبرز التداعيات وأعمقها لتركز الثروة وما خلفه من كوارث على الاقتصاد والمجتمع هو القفزة البونابرتية التي قام بها الرئيس قيس سعيد، في 25 تموز/يوليو 2021، عبر انقلاب قصر (دستوري – عسكري)، وإعادة إنتاج نظام شعبوي استبدادي، تحت شعارات العدالة والمساواة، لم يحقّق منها شئياً بعد ثلاث سنواتٍ، سوى مزيد من تمكين القلة المسيطرة وتحويل بيروقراطية الدولة من مجرد خادمٍ إلى سيد، محاولاً إعادة إنتاج نموذج الدولة التراكمية بإعادة مركزية السلطة السياسية.
المراجع
Freund Caroline, Nucifora Antonio, Rijkers Bob - All in the family : state capture in Tunisia- P 7,8. The World Bank – March 2014 https://documents1.worldbank.org/curated/en/440461468173649062/pdf/WPS6810.pdf
أحمد نظيف – الطبقة الوسطى «تصنع مُخلّصها»: كيف صعد قيس سعيّد وكيف تمكّن؟ - حبر، كانون الثاني 2022، https://www.7iber.com/politics-economics/%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%B5%D8%B9%D8%AF-%D9%82%D9%8A%D8%B3-%D8%B3%D8%B9%D9%8A%D9%91%D8%AF-%D9%88%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%AA%D9%85%D9%83%D9%86%D9%91/
Gábor Scheiring – Dependent development and authoritarian state capitalism: Democratic backsliding and the rise of the accumulative state in Hungary – Geoforum – Volume 124 , August 2021, Pages 267-278. https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0016718519302544 - The Retreat of Liberal Democracy: Authoritarian Capitalism and the Accumulative State in Hungary – Palgrave Macmillan 2020.
مهدي عامل، في الدولة الطائفية، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الثالثة 2003، ص 339.
المصادرة من شعار ثوري الى ملف فساد في تونس – المفكرة القانونية، 2015-04-08، https://legal-agenda.com/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D8%B1%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%B4%D8%B9%D8%A7%D8%B1-%D8%AB%D9%88%D8%B1%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%89-%D9%85%D9%84%D9%81-%D9%81%D8%B3%D8%A7%D8%AF-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D9%88/
أحمد نظيف – الحركة الإسلامية التونسية وتحولاتها الطبقية، حبر، 23 آذار 2022، https://www.7iber.com/politics-economics/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AA%D9%87%D8%A7/
Samih Beji Okkez – Marouen Mabrouk, a story of impunity after the revolution – Nawaat 25 February 2019, https://nawaat.org/2019/02/25/marouen-mabrouk-a-story-of-impunity-after-the-revolution/
التقرير 32 السنوي لمحكمة المحاسبات: الإشراف على المصحات الخاصة ومراقبتها، http://www.courdescomptes.nat.tn/Ar/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B7%D8%A7%D8%B9%D8%A7%D8%AA_58_4_-1_0_0_0000_0000_eeeeeee-eee-eeeeeee-eeeeee-eeeeeeeee__281
كارْتِل البنوك في تونس : أثرياءُ الحرب في زمن البؤس – الكتيبة، 2 فبراير 2022، https://alqatiba.com/2022/02/02/%d8%a7%d9%84%d8%a8%d9%86%d9%88%d9%83-%d9%83%d8%a7%d8%b1%d8%aa%d9%84-%d8%aa%d9%88%d9%86%d8%b3-%d8%a7%d8%ab%d8%b1%d9%8a%d8%a7%d8%a1-%d8%a8%d8%a4%d8%b3/
كيف حققت البنوك التونسية نتائج مالية عالية وسط أزمة اقتصادية خانقة؟، 27 – 01 – 2023، https://www.independentarabia.com/node/415866/%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D9%88%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9/%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%AD%D9%82%D9%82%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%86%D9%88%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%A6%D8%AC-%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%B3%D8%B7-%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9
Hazem el-Beblawi, Giacomo Luciani – The Rentier State – Routledge Library Editions 1987.
أحمد نظيف - اليسار التونسي وسرديته الكبرى: نقد الاقتصاد الريعي ونقد نقده، حبر - 21 حزيران/يونيو 2022، https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%b3%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%88%d9%86%d8%b3%d9%8a-%d9%88%d8%b3%d8%b1%d8%af%d9%8a%d8%aa%d9%87-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%a8%d8%b1%d9%89/?%3E
Tunisia loses $1.09bln each year through tax evasion – report, https://www.zawya.com/en/economy/north-africa/tunisia-loses-109bln-each-year-through-tax-evasion-report-sxu1b261
Abdelkader Abderrahmane - Curbing Tunisia’s crippling illicit financial flows- Published on 06 July 2022 in ISS Today.
Les inégalités en Tunisie - Forum Tunisien pour les Droits Economiques et Sociaux- Mars 2022, https://ftdes.net/rapports/inegalites.fr.pdf
المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك ومستوى عيش الأسر لسنة 2021، https://www.ins.tn/ar/publication/ntayj-almsh-alwtny-hwl-alanfaq-walasthlak-wmstwy-ysh-alasr-lsnt-2021
Le rapport d'Oxfam en Tunisie – 2019 https://oi-files-d8-prod.s3.eu-west-2.amazonaws.com/s3fs-public/2020-05/Oxfam%20in%20Tunisia%20-Annual%20Report%202019%20GVT.pdf
Manel Dridi - Tunisia Facing Increasing Poverty and Regional Inequalities - The Carnegie Endowment - October 26, 2021
Le rapport d'Oxfam en Tunisie – 2019, https://oi-files-d8-prod.s3.eu-west-2.amazonaws.com/s3fs-public/2020-05/Oxfam%20in%20Tunisia%20-Annual%20Report%202019%20GVT.pdf
Oumayma Mehdi - Tunisia’s Ministry of Interior: A Revolution Cannot Be Corrected by the Institution It Rose Against – Legal Agenda- 2021-10-13, https://english.legal-agenda.com/tunisias-ministry-of-interior-a-revolution-cannot-be-corrected-by-the-institution-it-rose-against/
- 1
الدولة التراكمية: هي شكل من أشكال الحكم يدمج الاستبداد مع الرأسمالية، تؤدّي فيه الدولة دوراً أساسياً في تعزيز تراكم الثروة لمصلحة نخبة مفضّلة. في الدولة التراكمية، تصبح الدولة أداة لإعادة توزيع الثروة على مجموعة مخلصة من نخب الأعمال، الذين يدعمون بدورهم الطموحات السياسية للنظام. ونتيجة لذلك، أصبحت الخطوط الفاصلة بين القوة الاقتصادية والسياسية غير واضحة. إذ تتجاوز الدولة التراكمية المحاباة الاقتصادية وقضية التنافسية نحو استقطاب النخب الاقتصادية وربط مصالحها بمصلحة بقاء النظام. ويترافق ذلك مع توظيف النزعة القومية والخطاب المناهض للعولمة والمحافظة الثقافية لتبرير الحكم الاستبدادي والسياسات الاقتصادية التمييزية. وفي الوقت الذي تعمل فيه على تعزيز مبادئ السوق الحرّة لجذب الاستثمار الأجنبي والنمو الاقتصادي، تحتفظ بالسيطرة على القطاعات الحيوية. ويهدف هذا النهج المزدوج إلى تعظيم الفوائد الاقتصادية مع تقليل المخاطر التي تهدّد السيطرة السياسية.
- 2
البرجوازية الإسلاموية الطفيلية: هي طبقة ظهرت في تونس بعد وصول حركة النهضة إلى السلطة، وتظهر دائماً في أعقاب وصول حركات إسلامية للسلطة، كما حدث في السودان بعد انقلاب العام 1989. في تونس، تشكّلت البرجوازية الإسلاموية الطفيلية نتيجة تحالف موضوعي بين برجوازية الأطراف التي نشأت قبل سنوات من خلال التراكم خارج أطر الاقتصاد الرسمي على الحدود، وتضمّ تشكيلات اجتماعية محافظة ارتقت طبقياً بفضل تحوّلات جيوسياسية في المنطقة، منها تطبيع العلاقات بين تونس وليبيا وتحسّنها مع الجزائر، الأمر الذي أدّى إلى انتعاش التجارة غير القانونية على طرفي الحدود. وجدت في صعود حركة النهضة للسلطة فرصة تاريخية لوصول أكبر نحو مواقع الهيمنة، من خلال تحويل فوائض كبيرة من التراكم نحو الاقتصاد الرسمي الخدمي، خارج قطاعات الإنتاج، في عملية «تبييض رساميل» واضحة. وتوسّعت متكوّنة من رافدين أساسيين، أولهما برجوازية الأطراف التي نجحت في إدراج رأسمالها ضمن الاقتصاد الرسمي، وثانيهما برجوازية صاعدة من القاعدة الاجتماعية المحافظة للحركة الإسلامية، ونجحت الأخيرة بفضل سيطرة الحركة على السلطة في مراكمة رساميل مهمة وارتقت طبقياً، وقد حقّق بعض عناصرها ذلك خلال سنوات المنفى، من خلال إدارة أموال الحركة أو تشبيك المصالح مع فاعلين اقتصاديين من الانتماء الأيديولوجي نفسه. ويمكن وصف روافد هذه البرجوازية الإسلاموية الصاعدة بأنها تحالف «البرجوازي المتأسلم مع الإسلاموي المتبرجز»، لكن السمة البارزة والموحدة لكل هذه الروافد هي «الطفيليّة».
- 3
رأسمالية المحاسيب: شكل من أشكال تنظيم الاقتصاد الرأسمالي، يعتمد فيه نجاح الأعمال على العلاقات الوثيقة مع المسؤولين الحكوميين، من خلال تخصيص التصاريح القانونية، أو الإعانات الحكومية، أو التخفيضات الضريبية أو غيرها من أشكال التدخل البيروقراطي في السوق. وتختلف عن الدولة التراكمية في مستويات التدخل، إذ تعمل رأسمالية المحاسيب من داخل إطار السوق وطريقة تنظيمها الإدارية وعلاقتها بالدولة، في حين أن نهج التدخل في الدولة التراكمية هو سلطوي فوق اقتصادي يعتمد على مستويات قمع عالية ومنهجية.
- 4
الريع السياسي: هو أحد الآليّات الرئيسة لتراكم الثروة في تونس، إذ نجحت القلة المسيطرة في إغلاق مجال المنافسة وتقاسم القطاعات الأساسية في الاقتصاد ضمن نموذج إحتكاري يحقّق تراكماً هائلاً وآمناً وخالياً من المنافسة ووصولاً سهلاً إلى الائتمان المالي. وتعمل هذه الآليّة من خلال محسوبيات قرابية (عائلية) أو أيديولوجية (حزبية) أو زبائنية (مصالح متبادلة بين الفاعل الاقتصادي والبيروقراطي في الدولة). وقد أدّى إلى بروز «أوليغارشية» راسخة نجحت في إعادة تشكيل نفسها تحت أنظمة الحكم المتعدّدة والمتناقضة. وهذه الأوليغارشية، التي تستمد امتيازاتها الاحتكارية من علاقتها بالسلطة السياسية، وتقوم بعملية إعادة إنتاج اجتماعي من خلال طبيعتها العائلية، عبر توريث هذه الامتيازات.