لمسة مايدس وجُزر الكنز
"خمسة عشر رجلاً ماتوا من أجل صندوق".
القرصان جون سيلفر - جزيرة الكنز"ها نحن ذا على دروب كنزنا...جزيرة عجيبة وكنزنا فيها".
أغنية البداية لـ "جزيرة الكنز" بصوت سامي كلارك
في قديم الزمان، وبحسب أساطير اليونان، تمنّى الملك مايدس أن تمنحه الآلهة القُدرة على تحويل كلّ ما يلمسه إلى ذهب. فكان له ما طلب. لكنّه سرعان ما اكتشف أنّ في رغبته هلاكَه. فقد تحوّل طعامُه إلى ذهبٍ بمجرّد ملامسته، فخاف أن يموت جوعاً. تضرّع مايدس إلى الآلهة كي تحرمه ما وهبته، فأجابت دعواه. عاد الملك إلى صوابه فجانَبَ الجشع وحكم بالعدل. أو هكذا تنتهي الحكاية في بعض المرويّات التي تناقلها العديد من أعلام الإغريق والرومان مثل أفلاطون وأرسطو وهيرودوتس وأوفيد. تعدّدت النُسخ المتواردة عبر العصور لكنّ العبرة الأخلاقية بقيت واحدة: بالذهب وحده يموت الإنسان.
لم تُثنِ أسطورة مايدس الملوك والأباطرة والكهّان والتجّار في العصور القديمة والوسطى عن السعي وراء اقتناء الذهب. مايدس نفسه، بحسب الترجيح التاريخي، كان ملكاً فاحش الثراء حَكَم إقليم فريجيا في وسط الأناضول في القرن الثامن ق.م. لكنّه لم يمُت نتيجة الجوع أو بعد حياةٍ من الزهد والعدل، بل انتحر بعض سقوط مملكته في يد الغزاة القادمين من الشرق. إن كان في الأسطورة خيطاً من الحقيقة التاريخية فهي أنّ نهر بكتوليس، حيث اغتسل مايدس كي يتخلّص من لمسته الذهبية تاركاً وراءه سيل من الذهب في النهر، يقع بالقرب من آثار مملكة ليديا. ويعزو المؤرخون إلى ليديا تطوير أوّل نظام نقدي في حوض المتوسّط يعتمد على سك النقود من معدن الإلكتروم (سبيك من الذهب والفضّة) والموجود بالفعل في النهر. أتاحت النقود المسكوكة لحاكم مملكة ليديا في القرن السابع ق.م.، والمُلقّب بكروسس، مراكمة ثروات طائلة جناها من تمويل التجارة بين الشرق والغرب، قبل أن يسعى إلى التوسّع شرقاً نحو بلاد فارس وبسْط سلطانه بالعسكر بدلاً من المال، فيُهزم شرّ هزيمة على يد الملك الأخميني كورش الكبير.
تعاظم دور الذهب والمال عموماً في العمران البشري حتّى باتت العبرة الأخلاقية السائدة في عصرنا هذا: بالذهب وحده يحيا الإنسانهُزِم كروسس. لكن نظام سكّ النقود من المعادن الثمينة كالذهب والفضّة والنحاس استمرّ. فتناقلته ممالك العالم القديم والأوسط وطوّرته. ومن بين المعادن تلك، بقي الذهب العنصر الأكثر إيثاراً عند الحكّام وإثارة عند عامّة الناس، من دون أن يصبح النقد المعدني - أو حتّى الورقي في الصين مثلاً - الناظم العام للحياة الاقتصادية. فالأسواق التجارية وشبكات التبادل التجاري التي كانت تعتمد على النقد المعدني كانت تُشكِّل نسبة ضئيلة من مُجمل النشاط الاقتصادي مقارنة بالإنتاج الزراعي والحِرفي غير علاقات السوق في أقاليم الحضر من جهة والرعي والصيد والتقاط الثمار عند البدو من جهة ثانية. وبقي اكتناز الذهب والمال مُداناً - ولو بدرجات متفاوتة - في غالبية المنظومات الأخلاقية والدينية التي شكّلت الوعي الحضاري عند هذه المجتمعات على اختلاف مشاربها، من دون أن يفقد وظيفته الطبقية من خلال احتكار السلطات السياسية والدينية له.
الذهب بعد الرأسمالية ليس كالذهب قبلها
تبدّلت الأحوال جذرياً مع ظهور الرأسمالية الأوروبية وانتشارها كنمط إنتاج مُهيمن حول العالم. وقد كان للاستعمار الأثر الكبير في زيادة كمّية الذهب والفضّة في التداول في حوض المتوسط وأوروبا أولاً وثم باقي المعمورة. مع مرور الوقت، أصبح الذهب (والفضّة) ركيزة من ركائز الأنظمة المالية كمعيار لحفظ القيمة أو احتياطاً للعملة المربوطة به أو مخزوناً استراتيجياً تتغنّى به الدول وتسعى إلى اكتنازه في بنوكها المركزية والسيطرة على أسواقه ومنابعه. لقد تعاظم دور الذهب والمال عموماً في العمران البشري حتّى باتت العبرة الأخلاقية السائدة في عصرنا هذا: بالذهب وحده يحيا الإنسان.
لم يقتصر هذا التحوّل على القيمة الوظيفية للذهب في الأنظمة المالية المُسيِّرة لعلاقات الإنتاج الرأسمالية، بل تغلغل في الموروث الثقافي للمجتمعات الرأسمالية. أصبح الذهب مضرباً للأمثال على كلّ لسان (السكوت من ذهب/ فرصة ذهبية/ العصر الذهبي). وبات الذهب الصفة المُفضّلة لوصم كلّ ما هو ثمين (فالنفط هو الذهب الأسود والقطن هو الذهب الأبيض). وتحوّلت أساطير الأوّلين عن مخاطر الجشع المرتبط بتملّك الذهب (كلمسة مايدس) إلى قصص في الأدب الواقعي عن مغامرات الاستحواذ على الذهب بأيّ ثمن كان. هكذا، صُوّرت شخصيات تاريخية لصوصية كأبطال روائية.
من اللافت الغياب شبه التامّ في قصّة "جزيرة الكنز" للسكّان الأصليين أو المُستعبدين الأفارقة الذين تواجدوا بكثرة في جزر الكاريبي مع قدوم الرجل الأبيضمن أشهر هذه الشخصيات القرصان جون سيلفر في رواية "جزيرة الكنز" للكاتب الاسكتلندي روبرت ستيفنسن (صدرت في العام 1825)، والتي تمّ تسويقها من خلال الأفلام السينمائية والصور المتحرّكة في القرن العشرين بلغات عدّة (منها العربية). تدور أحداث "جزيرة الكنز" حول مجموعة من القراصنة والبحّارة "الصالحين" الذين يبحرون من إنكلترا بحثاً عن كنز مدفون في إحدى جزر الكاريبي كان قد تسبّب بموت العشرات الذين حاولوا الوصول إليه قبلهم. تتخلّل الرحلة في البحر وعلى الجزيرة جولات وصولات من المغامرات المحفوفة بالمخاطر والتآمر. تنقسم قوى الخير والشر بين القراصنة الذين يتمرّدوا بقيادة جون سيلفر وفريق البحّارة الصالحين برئاسة طبيب ورجل قانون. تنتهي المغامرة بإيجاد الكنز وانتصار معسكر البحّارة الصالحين بينما يعقد جون سيلفر صفقة شيطانية يقايض فيها رفاقه القراصنة مقابل خلاصه من العقاب.
بعكس النسخة في الصوَر المتحرّكة، لا وجود لنظرة رومانسية للقراصنة في رواية ستيفنز الأصلية، بل صورة مُقزِّزة لإجرامهم وجشعهم. يعكس ذلك المزاج العام السائد في بريطانيا في بداية القرن التاسع عشر، عندما شنّت السلطات البريطانية حملات واسعة للحدّ من القرصنة، بعد أن كانت قد شجّعتها قبل قرنين في وجه أساطيل الإمبراطورية الإسبانية. الموقف إذن من القرصنة والسلب والنهب لم يكن موقفاً مبدئياً، بل كان يتناسب مع وظيفة القراصنة في مرحلة توسّع انكلترا في "العالم الجديد". ففي القرن السابع عشر، كان الهدف تقويض الهيمنة الإسبانية فجعلت من القراصنة المرتزقة حلفاء لها. ومع حلول القرن التاسع عشر وبسط سلطتها عبر المحيطات، سعت إلى تحريم أي منافسة وضبط "الخارجين على القانون"، بل وتحجّجت بالقرصنة لإبرام اتفاقيات إذعان وسيطرة كتلك التي عقدتها مع المشيخات الخليجية.
واللافت أيضاً غياب شبه تامّ في قصّة "جزيرة الكنز" للسُكّان الأصليين أو المُستعبدين الأفارقة الذين تواجدوا بكثرة في جزر الكاريبي مع قدوم الرجل الأبيض. حتى عندما يلتقي ركّاب السفينة برجُل على الجزيرة يدلّهم على الكنز، يتبيّن أن لونه الداكن هو نتيجة تعرّضه للشمس، وأنه رجل أبيض مثله مثلهم عَلِق على الجزيرة منذ ثلاث سنوات. الجزيرة إذن أرض بلا شعب والذهب كنز بلا صاحب. لا وجود لغير البيض إلّا في ثلاث إشارات عابرة - ومُعبّرة - عن الصورة التي رسمها الأوروبيون لأنفسهم ومن ثمّ للشعوب الأخرى حول تاريخ الاستعمار. الإشارة الأولى هي إلى زوجة جون سيلفر ذات "البشرة الملوّنة" (وهو ما يفسِّر - بحسب أحد القراصنة - ترحال سيلفر خارج البيت). والثانية هي لابتسامات السود الذين يلتقيهم جون سيلفر بشكل عرضي في أحد المرافئ. أمّا الثالثة، فهي في مخيّلة الشاب جيم هاوكنغ، راوي القصة. قبل الوصول إلى الجزيرة، يحلُم جيم بأن الجزيرة "تعجّ بالمتوحّشين" قبل أن يجدها خالية منهم.
إنّ الغياب الفاقع للشعوب المستعمَرة هذا لا يمنع الكاتب ستيفنسن من التلميح إلى تاريخ الاستعمار من دون أن يسمّيه كذلك. فالسفينة التي يبحرون على متنها اسمها إسبانيولا، وهو الاسم الذي أطلقه الإسبان على ما بات يُعرف اليوم بهاييتي وسانتو دومينغو. وفي الرواية، يقول جون سيلفر للشاب جيم إنّ ببغاؤه، المسمّاة فلينت، تبلغ من العمر قرن أو قرنين من الزمن، وأنها أبحرت مع ذلك القرصان العظيم، القبطان إنكلترا، إلى شواطئ مدغشقر ومالابار وسورينام وبروفيدنس وبورتوبيلو. أمّا الكنز الذي يُعثَر عليه، فهو "يكاد يحتوي على كلّ نوع من النقود الموجود في العالم" بما فيها النقود الإنكليزية والفرنسية والبرتغالية وغيرها من العملات الشرقية، في إشارة واضحة إلى عولمة التجارة وتعدّد القوى الاستعمارية.
إنّ حصر الصيت السيء للجنّات الضريبية بالكاريبي يتماشى مع النظرة الغربية لعالمٍ منقسم بين غرب متحضّر يخضع لسطوة القانون وعالم متخلّف يغرق في وحول الفساد والفوضىوفي القرن الواحد والعشرين، أي بعد قرنين من كتاب ستيفنسن، استعادت هوليوود أمجاد القراصنة في قالب تشويقي عبر سلسلة أفلام "قراصنة الكاريبي". تتخلّل الأفلام بعض الإشارات الغامضة إلى السياق الاستعماري لمغامرات القرصان جاك سبارو (بطولة جوني ديب). منها التمليح إلى شركة الهند الشرقية، من دون إعلام المشاهد أنها سكّت عِمْلتها الخاصة واحتكرت التجارة مع الهند وحكمتها بالحديد والنار حتى منتصف القرن التاسع عشر. هنا أيضاً، يتصدّر الذهب القصّة بينما يغيب السكّان الأصليون عن مجرى الأحداث أو يلعبون دوراً ثانوياً وسلبياً. ففي الجزء الأوّل للسلسلة، تكتسب قلادات الذهب التي يرتديها القراصنة قوّة سحرية نابعة من لعنة ملك الأزتيك موكتيزوما، الذي سرق الإسبان مقتنياته بعد غزوهم لمملكته في وسط المكسيك. وعندما يظهر السكّان الأصليون في الجزء الثاني، يتم تصويرهم كقبائل غبيَّة وآكلي لحوم بشر.
دور الاستعمار وشعوب الجنوب في تشكُّل الرأسمالية
باختصار، لم تتغيّر الصورة النمطية لشعوب الكاريبي في مخيّلة الثقافة الغربية السائدة بعد مرور أكثر من خمسة قرون على اللقاء الأول. أمّا جزر الكاريبي نفسها، فقد تحوّلت من جُزُر الكنز المدفون إلى جنّات ضريبية تختبئ فيها ثروات البورجوازية العالمية؛ مع العلم أنّ "جُزر الكنز" الجديدة هذه، كما يُسمّيها الصحافي نيكولاس شاكسون، لا تقتصر على الكاريبي بل تنتشر في ولايات أميركية مثل ولاية ديلاوير، وفي جزيرتي آيل أوف مان وجيرسي البريطانيتين الواقعتين بين إنكلترا وأيرلندا وفرنسا، وفي دول أوروبية مثل اللوكسومبورغ وسويسرا.
إنّ حصر الصيت السيء للجنّات الضريبية بالكاريبي يتماشى مع النظرة الغربية لعالمٍ منقسم بين غربٍ متحضّر يخضع لسطوة القانون وعالم متخلّف يغرق في وحول الفساد والفوضى. وهي نظرة تكتسب شرعية إضافية من خلال كتابة تاريخ الرأسمالية ونشوء الدولة الحديثة مع تجاهل تامّ لعدّة حقائق تاريخية. الحقيقة الأولى هي التلاصق التام بين تطوّر الرأسمالية وتوسّع الاستعمار، والثانية هي العلاقة الوثيقة والبنيوية لا العرضيّة بين السلطة والمال، والثالثة هي الطبيعة العُنفيّة لمراكمة الثروة خارج إطار السوق والتبادل التجاري. يصبُّ هذا التجاهل في مصلحة ترسيخ الرأسمالية كنظام إنتاج عقلاني ومسالم وملائم للطبع الإنساني وغير خاضع لمتقلّبات التاريخ ويمحو البُعد الجيوسياسي والاجتماعي له.
تحوّل الاقتصاد السياسي إلى ترداد نظريّات جامدة بلا طعمٍ أو لون، وغالباً من دون تفريق بنيوي بين عالم الجنوب وعالم الشمالوإن كانت بعض تيّارات الماركسية تشير إلى هذه الحقائق، وعلى رأسها تطوير مفهوم التراكم الأولي من قِبل روزا لوكسومبورغ، فإنّ أدبيات الماركسية الأوروبية، مع بعض الاستثناءات، لا تعير الاستعمار الحيّز الأساسي الذي يستحقّه. لقد حاول ماركسيّو عالم الجنوب ملأ هذا الفراغ النظري، وخصوصاً في مرحلة التحرّر الوطني في منتصف القرن العشرين. نذكر منهم في المنطقة العربية على سبيل المثال سمير أمين (نظرية التبعية) ومهدي عامل (نمط الإنتاج الكولونيالي). بقيت هذه المحاولات في فضاء التجريد ولم يتمّ تجديدها بعد صعود النيوليبرالية وضمور حركات التحرّر وتمويل شرائح واسعة من الإنتاج الفكري المحسوب على اليسار من قِبَل الرأسمال الخليجي والأوروبي. ومع الوقت، تحوّل الاقتصاد السياسي إلى ترداد نظريّات جامدة بلا طعمٍ أو لون، وغالباً من دون تفريق بنيوي بين عالم الجنوب وعالم الشمال.
رجال رأس المال كفاعلين تاريخيين
تتعزّز المقاربات المُجرّدة هذه أو المتعامية عن آليّات وتفاصيل البُعد الاستعماري والدموي للرأسمالية حين تغيب الأدوار المحورية التي يلعبها رجال رأس المال في تاريخ الرأسمالية وتاريخ التوسّع الأوروبي عموماً. فمَن مِن عموم الناس أو هواة التاريخ لا يعرف الملكة إليزابيث ونابوليون وجورج واشنطن؟ لكن من منهم سمِع بالهولندي جون غريشام مؤسِّس بورصة لندن في عهد إليزابيث لتسهيل أمولة شركة الهند الشرقية؛ وغابريال جوليان أوفرار عرّاب صفقات نابوليون المالية مع التاج الإسباني لنهب الفضّة في خزانة المكسيك؛ وروبرت موريس والبولندي حاييم سولومون مموّليَ حرب استقلال المستعمرات الأميركية عن بريطانيا الانكليزي.
وفي المنطقة العربية، من لم يسمع بعبد القادر الجزائري وأحمد عُرابي؟ لكن من يعي أن فرنسا احتلت الجزائر عام 1830 بعد أن طالبت الأخيرة بديونها المستحقّة على فرنسا (وليس العكس) عبر وساطة كبار البيوتات المالية الجزائرية (بكري وبوشناق)؟ ومن سمِع أن الحاكم الفعلي لمصر في أواخر القرن التاسع عشر، اللورد كرومر، أتى إليها في البداية كمدقّق مالي وأنّه يتحدّر من العائلة المصرفية العريقة بارينغ (اسمه الحقيقي إفلين بارينغ).
الطبقة البورجوازية ليست مجرّد مفهوم. إنّها من شحم ولحم، وأسمَنُها رجالٌ من ذهب. لقد تبدّلت أدوار ووظائف هؤلاء الرجال عبر المراحل المُتتالية لتطوّر الرأسمالية والتوسُّع الاستعماري (الرأسمالية التجارية والرأسمالية الصناعية والرأسمالية المالية). في معظم الأحيان، لعبوا هذه الأدوار خلف الستار لكنهم كانوا دوماً في صلب الحدث. وأوّلهم بحّار مشكوك المنشأ انطلق من إسبانيا قبل خمسة قرون نحو الكاريبي بحثاً عن الذهب.
من هناك بدأت رحلة الرأسمالية. وما زالت مُستمرّة. للقصّة بقيّة.