أزمة الرأسمالية اللبنانية
شيطان ماكسويل وشبح بريوبراجينسكي

«لقد أثار شيطان ماكسويل محاولات عدّة لطرده عبر السنين، لكن الطرد الكامل لهذا الشيطان لم يتمّ إلّا مؤخّراً»
سيث لويد، في كتابه «برمجة الكَون»


انتهى زمن لبنان المالي، أو أحلام لبنان بأنّ يكون مركزاً مالياً، أو كما أسماه نائبٌ سابق لحاكمية المصرف المركزي عبد الأمير بدر الدين (financial entrepôt)، حيث «البلد كلّه يتصرّف كمصرف». فمن الصعب أن تقوم قيامةٌ لهذا المركز المالي بعد ثاني أزمة نقدية حصلت فيه في أقل من أربعين عاماً؛ الأولى كانت طبعاً أزمة الثمانينيات. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ الأزمة الحالية ليست فقط نقدية بل تعدّتها إلى تعطيل القطاع المصرفي لسنوات حتّى الآن، وهذا ليس له مثيل من قبل في لبنان. كانت المحاولة الأخيرة لبناء هذا المركز المالي بعد العام 1992، ولكن ربّما لحسن وسوء حظّ الطبقة المالية في آنٍ، أن تَرافق بناء هذا المركز المالي مع بناء دولة الطائف، فترافق صعود المصارف مع صعود نظام المحاصصة الطائفي. وبواسطة الاستدانة العامّة واكتتاب المصارف بأدواتها، إن كانت سندات خزينة أو يوروبوندز، وخفض الضرائب على رأس المال تحوّلت الدولة إلى أداة لتراكم رأس المال المالي. وبالتالي ارتبطت الرأسمالية الريعية والأرستقراطية المالية الناشئة آنذاك ارتباطاً وثيقاً بمالية الدولة، كما في فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر، وكما وصفها كارل ماركس في الثامن عشر من برومير، «الأرستقراطية المالية ليست فقط الذين يروِّجون للقروض المرتفعة والمضاربين بمالية الدولة، والذين تتلاقى مصالحهم بوضوح مع سلطة الدولة. كلّ الأسواق النقدية الحديثة، وكلّ أعمال المصارف مُترابطة ومنسوجة بشكل حميم مع الدَّيْن العام... وودائعهم، أي رأس المال الموضوع في تصرّفهم من قِبَل التجّار والصناعيين وموزّعة من قِبَلهم على الأشخاص نفسهم، تنساب جزئياً من عوائد حملة السندات الحكومية».

ارتبطت الرأسمالية الريعية والأرستقراطية المالية الناشئة آنذاك ارتباطاً وثيقاً بمالية الدولة

استمرّت هذه الحلقة طيلة هذا الوقت حتّى انفجارها وتفكّكها في العام 2019، فانهارت دولة الطائف (إن أحد أهمّ مقاييس قوّة الدولة هو الموازنة، فقد كانت موازنتها قبيل الأزمة تبلغ نحو 16 مليار دولار وأصبحت اليوم أقل من 500 مليون دولار)، وانهارت الطبقة المالية الريعية بانهيار قيم ثروتها. إذاً، نحن أمام حطام الرأسمالية اللبنانية، وإذا كان أحدٌ يظن أنّه يمكن إعادة تركيب ما تهدَّم على الشكل الذي كان عليه فهو بأقل تقدير واهم.

إذا أردنا أن نلعب دور، ليسَ محامي الشيطان، بل مهندسه، لنحاول رسم طريق أوتوماتيكية لإعادة النموذج الاقتصادي القديم، فإنّنا سنفشل. لأنّ النموذج الذي اعتمَد على نظام مصرفي يُقرِض الدولة بفوائد مرتفعة بالعملة المحلّية والدولار الأميركي، ويدفع بالتالي فوائد عالية على الودائع في ظلّ نظام صرف ثابت لم يعد فيه فرق بين الليرة والدولار، وإن كان نقداً أو في المصارف، هو اليوم مفكّكٌ. فالليرة مرّت في حالة سقوط شبه حرّ أمام الدولار، ولكن الأهمّ من هذا أن الدولار البنكي انفصلت قيمته عن الدولار النقدي، عدا أن النظام المصرفي في حالة موت-حياة (zombie). وهذه الحالة من التوازن السيء (bad equilibrium) الذي وصل إليه الاقتصاد اللبناني لا تمكّن من إعادته إلى جذوره الأولى، كما لا تعود المياه الدافئة إلى أصلها أي مياه باردة من جهة وساخنة من جهة أخرى. المطلوب هو تدخّل من «شيطان ماكسويل»، كما يُعرف بالفيزياء، الذي يستطيع أن يخالف القانون الحراري الثاني، وهذا ما ثبُتت استحالته. وهذا ينطبق على التفكّك الذي حصل بين الليرة والدولار، وبين الدولار المصرفي والدولار النقدي، وبين الدولة والمصارف، لا يمكن إعادة تركيبهم جميعاً في الحالة التي كانوا عليها من قبل، كما لا يمكن أن يعود حطام الزجاج إلى ما كان عليه تلقائياً. طبعاً، هذا الوضع سيء، لكن ربّما الأسوأ من ذلك أن هذه الديناميكية السيّئة أطاحت أيضاً بالبديل الذي كان بإمكانه إنقاذ الرأسمالية اللبنانية.

نحن أمام حطام الرأسمالية اللبنانية، وإذا كان أحدٌ يظن أنّه يمكن إعادة تركيب ما تهدَّم على الشكل الذي كان عليه فهو بأقل تقدير واهم

ما كان مُمكناً قبل الأزمة

في العام 1917 وصل البلاشفة إلى السلطة في روسيا، وبعد فترةٍ وجيزةٍ وبسبب فشل الثورات العمّالية في أوروبا، وجد البلاشفة أنفسهم أمام تحدٍّ، لا بناء الاشتراكية في بلدٍ واحدٍ فحسب، بل في بلد غير متطوِّر اقتصادياً. فحصل ما عُرِف لاحقاً بـ «نقاشات التصنيع»، وكان طرفيها الأساسيين نيكولاي بوخارين من جهة، والاقتصادي يفجيني بريوبراجينسكي. نظّر بريوبراجينسكي أن طريقة بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي بحاجة إلى موارد من أجل حصول التراكم الاشتراكي الأولي، وذلك عبر «استغلال» القطاع الزراعي بواسطة إمّا الضرائب أو قلب مُحدِّدات التجارة بين الصناعة والزراعة لصالح الصناعة، وبهذا يتمّ الحصول على الموارد من أجل البناء الاشتراكي. وأصبحت أفكار بريوبراجينسكي مهمّة في اقتصاديات التنمية، وفي ما تواجهه الدول النامية من تحدّيات إذا أرادت تغيير بنيتها الاقتصادية، والدرس الأساسي أن التصنيع لا يأتي من العدم أو يهبط من السماء، بل هو بحاجة إلى موارد تنتقل إليه من خارجه.

التفكّك الذي حصل بين الليرة والدولار، وبين الدولار المصرفي والدولار النقدي، وبين الدولة والمصارف، لا يمكن إعادة تركيبهم جميعاً في الحالة التي كانوا عليها من قبل

من هنا، ما كان يمكن حصوله قبل الأزمة في لبنان هو «استغلال» القطاعات الريعية عبر نقل الفائض منها عبر استعمال النظام الضريبي بشكل أساسي، من خلال وضع ضرائب ذات معدّلات عالية على المصارف والفوائد والريع العقاري والثروة والتوريث. وكان هذا الأمر أدّى إلى «دفعة كبرى» وتحويل الثروة الريعية إلى تراكم في رأس المال وتقدّم تكنولوجي (أنظر مقالتي قبل الأزمة). وهذا كان ليحقّق هدفين في آنٍ: نزع سيطرة القلّة على الثروة والدخل المتركّزين في الريع (وللمفارقة مع الحفاظ عليه لفترة انتقالية لاستغلال هذه «الوزّة الذهبية») وإقامة اقتصاد مُتقدّم. لو حصل ذلك لكنّا تجنّبنا الأزمة في العام 2019، لأنّنا كنّا كبحنا جماح رأس المال المالي الذي أدّى إلى الأزمة. لكن للأسف، لم يحصل ذلك، وانتهينا إلى ما انتهينا إليه إذ أن نهاية ربط العملة بالدولار، والتضخّم اللاحق، ووقف سداد اليوروبوندز، أدّت كلّها إلى نهاية الدخل الريعي الناتج عن الدَّيْن العام مع ارتفاع معدّلات التضخّم وتراجع الدخل الحقيقي للريع الذي كان يعتمد في السابق على أسعار الفائدة الاسمية المرتفعة والتضخّم المنخفض نسبياً. بالإضافة إلى ذلك انخفضت قيم دولارات ودائع المصارف وقيم سندات الدَّيْن التي لم تقضِ على المداخيل الريعية فحسب بل على غالبية الثروة الريعية، وعطلّت إمكانية إعادة التشغيل التلقائي لنظام التراكم القديم، وأيضاً قضت على البديل بموت الوزّة الذهبية.

ما هو الممكن بعد الأزمة؟ : شبح بريوبراجينسكي اليوم

إذاً ما العمل؟ وهل سيناريو بريوبراجينسكي لا يزال مُمكناً؟ بالطبع يمكننا الانتظار وأن ندع قوى السوق تتحكّم بانسياب الموارد إلى القطاع الإنتاجي مُحفَّزة بخفض سعر الصرف الحقيقي وزيادة تنافسية السلع اللبنانية، ممّا يحفِّز الإنتاج من أجل التصدير. ولكن هذا الأمر سيتطلّب وقتاً طويلاً، وقد يخضع لتقلّبات أهواء المستثمرين والرأسماليين. وبالتالي نحن بحاجة إلى تدخّل الدولة لتحقيق هذا التحوّل والتاثير على حجم الاستثمار ووجهته. ولكن يبقى السؤال الأساسي: من أين تأتي الموارد لتغيير البنية الاقتصادية؟

لا يأتي التصنيع من العدم أو يهبط من السماء، بل هو بحاجة إلى موارد تنتقل إليه من خارجه

ما بقي من خصائص الاقتصاد اللبناني بعد الأزمة هو كونه اقتصاداً مزدوجاً (dual economy) مقسوم بين قطاعين: القطاع الأوّل داخلي متخلِّف تسيطر عليه القطاعات غير المُنتجة من خدمات وأنشطة غير نظامية، ومُشكِّل بغالبيّته من أعمال غير ماهرة ذات دخل متدنٍ، والقطاع الثاني خارجي تسيطر عليه العمالة الماهرة المُصدَّرة وذات دخل مرتفع. تعزّزت هذه الازدواجية منذ الأزمة، إذ تدنّى الدخل في الداخل وارتفعت نسبة العمالة المُصدَّرة الماهرة إلى الخارج. لكن في الوقت نفسه، يمكن لهذه الازدواجية القطاعية أن تكون مصدراً ديناميكياً للتغيير إذا نُقِلت الثروة من الاقتصاد الخارجي إلى الداخلي. في هذا الإطار، يُمكن تحويل التحويلات الآتية من الاقتصاد الخارجي من شكلها الريعي والاستهلاكي إلى شكل إنتاجي عبر وضع ضرائب على مداخيل اللبنانيين في الخارج من أرباح وأجور، بالإضافة إلى الضريبة على الثروة الخارجية، واستخدام هذه الواردات لتمويل سياسة صناعية من أجل التصنيع. وهكذا يتم «استغلال» الخارج من أجل تطوير الداخل وتحويل رأس المال البشري الخارجي إلى رأس مال فيزيائي داخلي، وصولاً إلى تحويل الاقتصاد المزدوج إلى اقتصاد واحد متقدّم. بالإضافة إلى ذلك، يجب العمل على جذب الاستثمارات الخارجية المباشرة. فبعد شحّ العملات الصعبة، أصبح لبنان بحاجة إلى الاستثمار الخارجي المتوجّه إلى القطاعات المُنتجة، وليس إلى الودائع وسندات الخزينة واليوروبوندز والعقار كما كان يحصل سابقاً.

لا تعني سيطرة البورجوازية الرثّة مرحلياً في أي بلد إغلاق آفاق التطوّر الداخلي نحو رأسمالية أكثر تقدّماً وقيام علاقات الإنتاج الرأسمالية

في النهاية، وكما رأينا، تتعلّق المعضلة الأساسية لعدم قدرة الرأسمالية اللبنانية على تطوير قوى الإنتاج، بسيطرة رأس المال الريعي والمصرفي والتجاري وتراجع القوّة النسبية لرأس المال الصناعي قبل الأزمة. لكن كما لم يعِق صعود الأرستقراطية المالية الفرنسية إبان عهد لويس بونابرت إلى قمة المجتمع البورجوازي الرثّ، تطور الرأسمالية في فرنسا، كذلك لا تعني سيطرة البورجوازية الرثّة مرحلياً في أي بلد إغلاق آفاق التطوّر الداخلي نحو رأسمالية أكثر تقدّماً وقيام علاقات الإنتاج الرأسمالية. وفي لبنان، لا تزال هذه الفرصة موجودة حتّى بعد الأزمة، ويُمكن أن نضيف أن انتهاء الدَّيْن العام سوف يحرِّر العمل المستقبلي من عبئه وينقله نحو الخلق والابتكار. صحيحٌ أن الرأسمالية تمرّ بأزمات في كلّ مكان، ولكن أزمتنا في لبنان لديها خصائص مختلفة، وحتّى لو أغلقت أبواباً أمام التغيير، لكن بإنهائها الطبقة الريعية ونموذجها القديم، تفتح الفرص أمام التقدّم الذي يُخرِج الاقتصاد من القنوط الذي يترنّح فيه اليوم، لكن هذا يتطلّب نسيان حلول شيطان ماكسويل، وفي الوقت نفسه يتطلّب جرأة بريوبراجينسكي.