الأزمة المالية في لبنان
دروس من جائزة نوبل

"إن العمليات المالية للاقتصاد الرأسمالي تؤدّي إلى إدخال عناصر عدم الاستقرار محوّلة حالة الاستقرار إلى عدمه".

هايمان مينسكي

فاز كلّ من الاقتصاديين بن برنانكي، حاكم الفدرالي الأميركي سابقاً، ودوغلاس دياموند وفيليب دايبفغ، أستاذا الاقتصاد في الولايات المتّحدة، بجائزة نوبل في الاقتصاد هذه السنة. وفي بيانها حول سبب إعطاء الجائزة لبرنانكي ودياموند ودايبفغ، قالت اللجنة المنظّمة إن أبحاثهم "عزّزت فهمنا لدور المصارف في الاقتصاد بشكل كبير، خصوصاً أثناء الأزمات المالية، وإن الاستنتاج المهمّ في أبحاثهم هو: لماذا من الحيوي أن يتمّ تفادي انهيار المصارف".

كُتبت هذه الأبحاث عام 1983، ووضع دياموند - دايبفغ نموذجاً حول إمكانية انهيار المصارف، وبحث برنانكي عن دور انهيار المصارف في تعميق أزمة الكساد العظيم في الولايات المتّحدة في ثلاثينيات القرن الماضي. طبعاً، أثار إعطاء جائزة نوبل لهؤلاء الاقتصاديين الكثير من النقاش حول من سبق من في تحديد دور الأسواق المالية والمصارف وعدم استقرارها في الاقتصاد الرأسمالي. علّق البعض أن هؤلاء استحقّوا جائزة نوبل لأنهم "أنقذوا العالم"، وهذا ما قاله سابقاً غوردون براون بعد أزمة 2008، التي كان لبرنانكي الدور الأبرز، بالإضافة إلى وزارة الخزانة الأميركية، في منعها من التحوّل فعلاً إلى نهاية العالم، أي نهاية العالم الرأسمالي كما عُرف في الفكر الماركسي لفترة بنظرية الانهيار الكبير أو (breakdown theory)، ولاسيّما نموذج هنريك غروسمان المبني على معادلات إعادة الإنتاج الموسّعة لماركس.

بالعودة إلى نوبل، إن عناوين هذه الأبحاث هي من العناوين الأساسية أيضاً في فكر كلّ من كارل ماركس وهايمان مينسكي وتشارلز كيندلبرغر. ولكن إذا وضعنا هذا النقاش جانباً، يمكننا في لبنان أن نبدأ نقاشاً من نوع آخر، ربما أكثر أهمّية. فالواضح جدّاً من هذا الجزيء من بيان لجنة نوبل أن هذه الأسباب تجعلنا نفكّر كيف حصل هذا الأمر في لبنان منذ ثلاث سنوات، وكيف أن المصارف وسلطاتنا النقدية لم تقرأ على الأقل منذ 1992 وحتى الأزمة في 2019 (وربما حتى الآن!) ليس ماركس أو مينسكي أو كيندلبرغر، بل علم الاقتصاد الكلاسيكي المتمثّل بأبحاث الفائزين بجائزة نوبل هذه السنة. 

لم يتمّ التحوّط من إمكانية حدوث أزمة، فبقي ضمان الودائع هزيلًا، وأمّا دولرة الإقراض وخلق الودائع بالدولار فجعلت من قدرة المصرف المركزي على التدخّل في الملاذ الأخير معطّلة

ماذا قالت الأبحاث بشكل سريع؟

في نموذج دياموند-دايبفغ، تحوّل المصارف الإيداعات أو المدّخرات إلى استثمارات. في هذا النموذج تلعب المصارف دور الوسيط بين المودع الذي يريد أمواله اليوم وفي أية لحظة، وبين المستثمر الذي لديه استثمارات طويلة الأمد. هذا يجعل المصارف عرضةً لهجمات بنكية عندما يطالب المودعون بأموالهم بينما هي مجمّدة باستثمارات طويلة الأمد. وهذا الهجوم على المصارف يمكن أن يحدث بسبب هلع حول السيولة في المصارف حتى لو لم تكن متعثّرة (insolvent). ولهذا السبب، وبسبب انحياز المصارف للانهيار، يجب على السلطات النقدية أن تقوم بتشريع ضمان الودائع (ما يخفّف من خوف المودعين لأنهم يعلمون أن ودائعهم مضمونة)، ويجب أيضاً أن يتدخّل المصرف المركزي كملاذ أخير لضخّ النقد، خصوصاً إذا كانت المصارف فعلاً متعثرة.

أمّا نموذج برنانكي فهو حول كيف أن انهيار المصارف ليس فقط حدثاً يهمّ المصارف والأسواق المالية، وإنّما هو سبب رئيس في دخول الاقتصاد الحقيقي في ركود. ومن هنا برزت أيضاً أهمّية أن تتدخّل الدولة والسلطات النقدية لضمان عدم حدوث انهيار للمصارف بشكل يستبق تأثيرها على الاقتصاد الحقيقي.

دروس أولية للبنان

على الرغم من أن أبحاث الفائزين بجائزة نوبل قد ابتعدت قليلاً عن فكرة أن الأسواق الحرّة مثالية، وأن لا إمكانية لحدوث أزمات فيها، إلّا أنهم بقيوا بعيدين عن نماذج أو أفكار هايمان مينسكي مثلاً، الذي اعتبر أن الأسواق المالية في الرأسمالية تخلق ديناميكيات ذاتية تؤدّي إلى الأزمة، حيث تنتقل المؤسّسات المالية من حالة الاستقرار إلى حالة عدم الاستقرار. بالإضافة إلى ذلك، فإن نموذج دياموند-دايبفغ يعتبر أن الودائع تخلق القروض بينما في الواقع المصارف هي التي تخلق الإيداعات عبر الإقراض. بالنسبة إلى لبنان، حتى لو أخذنا هذه النماذج من دون التعمّق في مينسكي، فلا السلطات النقدية ولا المصارف أخذت بها. لم يتمّ التحوّط من إمكانية حدوث أزمة، فبقي ضمان الودائع هزيلاً، وأمّا دولرة الإقراض وخلق الودائع بالدولار فجعلت من قدرة المصرف المركزي على التدخّل في الملاذ الأخير معطّلة بسبب عدم مقدرته على طبع الدولار الأميركي. هذان الأمران كان يجب أن يؤدّيا إلى دقّ ناقوس الخطر، إلّا أن المصرف المركزي والمصارف استمرا وكأن إمكانيّة حدوث أزمة مالية، حتى لو أقل مما حدث، غير موجودة.

الكثير أو القليل من الشيوعية؟

يتساءل إدوارد برايس، في مقالة له في الفايننشال تايمز في 10 تشرين الأول/ أكتوبر تعليقاً على جائزة نوبل، عمّا إذا كانت هناك سياسات يمكن أن تكون بديلاً عن القبول بأن الأسواق المالية تنتهي بكوارث، وأن معالجتها تتمّ عبر التيسير النقدي وإنقاذ المؤسّسات المتعثّرة وغيرها من السياسات التي اتبعت بعد أزمة 2008؟ يقول برايس إن هناك بديلين: أولاً، أن يتمّ فرض هدف على المصارف عليها أن تتبعه، كهدف التضخّم مثلاً لدى المصارف المركزية، أو ثانياً، أن تُترك الحرائق المالية لكي تستنفذ نفسها وتحرق كلّ ما في طريقها على طريقة آين راند (مُنظِّرة اليمين الليبرتاري). ينهي برايس بالقول إن البديل الأول كان سيعني الكثير من الشيوعية، أمّا الثاني فالقليل من الشيوعية!

إذاً، ماذا كان على المصرف المركزي والمصارف أن يفعلوا في لبنان؟ في البدء، كان على مصرف لبنان والمصارف أن يرتابوا من كون الودائع في المصارف أصبحت أكثر من ثلاث مرات الناتج المحلّي، بدلاً من أن يكون ذلك مصدر فخر، خصوصاً أن أكثر الودائع كانت مدوَّنة بالدولار الأميركي، أي أن هناك عدم تناسق بين الناتج الذي أكثره هو بالليرة اللبنانية ما عدا الصادرات، وبين الودائع التي أكثرها بالدولار. إن عدم التناسق هذا، بالإضافة إلى عدم التناسق الكلاسيكي بين المطلوبات والموجودات في الاستحقاقات (نموذج دياموند-دايبفغ)، وعدم مقدرة المصرف المركزي على طبع الدولار الأميركي، كان يجب أن تكون مصادر قلق، ولكن عبثاً. وبدلاً من وضع سياسات احترازية كلّية (macroprudential) لتخفيف الإقراض (لأنه يخلق ودائع بالدولار) - في تطبيق للكثير من الشيوعية - ووضع قيود على التحويلات من الخارج، لكي تخفّف من انتفاخ القطاع المصرفي، ذهبت المصارف والمصرف المركزي إلى فعل العكس عبر الهندسات المالية، وجذب أموال جديدة، ومحاولة خلق آلة حركة مستمرة (perpetual motion machine) لأرباح المصارف عبر إنشاء المصرف الفائق، فانتهى الأمر تراجيديا.

فشلت السلطات في لبنان في التعامل مع الأزمة، لأنه في الرأسمالية إذا كنت لا تملك الحل الكينزي فعلى الحل إذاً أن يكون "الكثير من الشيوعيّة"!المفارقة أن المصرف المركزي كان استعمل هذه السياسات بنجاح في ما خصّ دور المصارف في الاستثمارات الخارجية، فتجنّب لبنان أزمة 1997 الآسيوية وأزمة 2008 العالمية، ولكن في الداخل تُركت الأسواق، وحتى بمساعدة المصرف المركزي، كي تلقى حتفها المينسكي، حيث ازدادت محاولات زيادة الأرباح في ظل تعاظم الودائع وفي ظل تراجع معدّلات الربح في القطاع المصرفي. 

من الواضح أن السلطات النقدية، والقطاع المصرفي، لم تكن حاضرة حتى للتعامل مع الهجوم على المصارف في الحالة التقليدية لنموذج دياموند-دايبفغ، فكيف إذا كانت ديناميكيات الأسواق لا تخضع لقوانينه بل لقوانين مينسكي؟ في هذا الإطار، استطاع المصرف المركزي أن يقوم بتدابير في مواجهة الصدمات الآتية من الخارج ولكنه ترك الداخل، فكان الاستقرار طويلاً ولكن كانت الأزمة أكبر، فأطاحت بالعملة وبالمصارف وبالاقتصاد وبالثروة والدخل. وكان الثمن عالياً بل عالياً جدّاً. في استخلاص العبر، فشلت السلطات في لبنان في التعامل مع الأزمة، لأنه في الرأسمالية إذا كنت لا تملك الحل الكينزي فعلى الحل إذاً أن يكون "الكثير من الشيوعية"!