الاقتصاد السياسي
أين الاقتصاد؟ وأين السياسة؟
نشأ في العقود الأخيرة فرع علمي جديد يُسمّى "الاقتصاد السياسي"، واستدراكاً لاحتجاج يذكِّر بوجود قديم لهذا العلم، فالأحرى الحديث عن نشأة فرع جديد تحت الاسم نفسه بمنهجٍ جديد وأدوات تحليل ومضامين وخلاصات جديدة. الاقتصاد السياسي في تاريخ علم الاقتصاد هو العلم الذي يدرس الأنظمة الاقتصادية والنظام الرأسمالي تحديداً. وقد وضع كارل ماركس "نقد الاقتصاد السياسي" عنواناً فرعياً لكتابه "رأس المال"، لتمييز نفسه عن أبرز علماء "الاقتصاد السياسي" في عصره آدم سميث ودافيد ريكاردو وجون ستيوارت ميل وطوماس مالثوس وغيرهم.
إلّا أن هذا الفرع من العلوم الاجتماعية ما لبث أن تحوّل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى فرع قائم بذاته، وبات يُسمّي "الاقتصاد" أو "علم الاقتصاد". المفارقة في الأمر أن "الاقتصاد السياسي" ما لبث أن عاد مع النقّاد الماركسيين للرأسمالية والعولمة والنيوليبرالية.
أسهمت ناقدة العولمة سوزان جورج في تأسيس الاقتصاد السياسي الدولي، بما هو حقل يشمل العلاقات المتبادلة بين الفاعلين الاقتصاديين والأنظمة الاقتصادية والسياسية على النطاق العالمي. وقد أسهم فيه فالرستين وسمير أمين. تفرّع الاقتصاد السياسي في صيغته المعاصرة إلى حقول شتّى، منها دراسات التخلّف والتنمية مع مدرسة التبعية وغيرها. ويستخدم "الاقتصاد السياسي" أيضاً كتورية للماركسية في النتاج العلمي والأكاديمي في الولايات المتّحدة الأميركية خصوصاً. وسرعان ما تحوّل "الاقتصاد السياسي" إلى فرع في العلوم الاجتماعية موضوعه العلاقة بين السياسة والاقتصاد، أو بين "السياسي" و"الاقتصادي". وقد حاز على الاعتراف الأكاديمي مطلع القرن الواحد وعشرين. ويمكن القول إن الاقتصاد السياسي انقلب إلى نقيضه.
البنك الدولي أو إغراق "السمكة"
عندما تلقف البنك الدولي ومنظّمات التنمية الدولية "الاقتصاد السياسي"، لم يعد يقتصر على إنكار الصفة الرأسمالية للنظام الاقتصادي وإغراقها في مسمّيات لا متناهية. بات الوجه الأبرز للإنكار والتبرئة هو نقل التفسير والتشخيص والتسمية لا من الاقتصاد إلى السياسة وحسب، وإنّما إلى فروع أخرى من الحياة. في محاضرة لأحد خبراء البنك الدولي كاوشيك باسو يؤكّد إن البنك يرى أن التنمية الاقتصادية يجب أن تشمل العوامل الاجتماعية والسياسية. وهو أمر مفهوم. لكن المحاضر يستطرد ليؤكّد إن الأنظمة الاقتصادية "تشتغل بالمعرفة والأفكار، في نهاية المطاف". يجدر التوقّف لحظة عند عبارة "في نهاية المطاف"، التي تذكّر بمثيلتها في تعريف المادية الجدلية بما هي التحتيم والتفسير الاقتصاديين، حيث يفيد استدراك "في نهاية المطاف" بإضفاء الغموض المقصود لتمرير تلك الأحادية. وقد برع خصوم الماركسية في السخرية من هذا الاستدراك، والأخذ على المادية الجدلية كونها "اقتصادوية". فها هم يستخدمون الاستدراك بدورهم لإضفاء المزيد من الغموض الذي يخدم تمرير أحادية أخرى في التحتيم والتفسير. الأنظمة الاقتصادية "تشتغل بالمعرفة والأفكار، في نهاية المطاف"؟ ألا تشتغل الأنظمة الاقتصادية بالعمل البشري والمواد الأولية ورأس المال؟
الكلمة المفتاح هي پاور، أكانت محمولة على معنى "القوة" أو على معنى "السلطة". ولا مبالغة إن قلنا إنها باتت الكلمة الأيقونية في العلوم الاجتماعية، وإنها تشي في أحيانٍ كثيرة بشبق أكيد نحو القوة والسلطة لدى ممارسي النشاط الذهني
الأهم أن هذا الاتجاه يؤشّر إلى تيّار جارف سوف يجعل من السياسة (وأحياناً الثقافة) العامل الوحيد، إن لم يكن الأوحد المُسيّر للحياة. وتنقلب السياسة غالباً إلى العامل الأوحد الذي يفسّر التيّارات والقطاعات والأنظمة الاقتصادية ودوماً "في نهاية المطاف". والكلمة المفتاح هي power، أكانت محمولة على معنى "القوة" أو على معنى "السلطة". ولا مبالغة إن قلنا إنها باتت الكلمة الأيقونية في العلوم الاجتماعية، وإنها تشي في أحيانٍ كثيرة بشبق أكيد نحو القوة والسلطة لدى ممارسي النشاط الذهني. ثمّ إن تبديل العبارات ومعانيها هو التمرين الأثير لقاموس الليبرالية الجديدة، الذي لا يكتفي بإدخال مصطلحات جديدة، لكنه يقلب معاني عبارات ومصطلحات سابقة. ونستطيع أن نلاحظ فيه أن هوس القوة يلحق بالإنسان إلى القبر، فقد تحوّلت عبارة التعزية التقليدية باللغة الإنكليزية Rest in Peace/RIP أي "أرقد بسلام"، إلى Rest in Power/RIP أي "أرقد بقوّة".
أريد هنا افتتاح بحثٍ نقدي في منهج "الاقتصاد السياسي"، وقد استقرّ على ما استقرّ عليه، وفي أدواته ومنتجاته، من خلال تطبيقاته السائدة دولياً، وما رشح منها إلى المنطقة العربية. والبداية هي بالتساؤل عن علاقة السياسة والاقتصاد وما هي حصّة كل منهما من "الاقتصاد السياسي".
"هذه ليست رأسمالية"
توجد لوحة شهيرة للفنان البلجيكي رينيه مَغْريت تمثِّل غليوناً عنوانها "هذا ليس غليوناً". أراد الفنان من لوحته أن يقول خدعة التصوير والصورة: غليون اللوحة ليس هو الغليون الحقيقي.
يمكن وضع "هذه ليست رأسمالية" شعاراً لمحاولات لا متناهية في الفكر والاقتصاد، استَشْرت في ظل الرأسمالية النيوليبرالية، ووصلتنا متأخّرة كما العادة. انطلقت من قاعدة تعرِّف قضايا المنطقة على أنها مزيج من تأخّر ونقصان على مشهد مليء بـ"الثغر"، وهذه "الثغر" يصدف أنها المتوافرة عند "الآخر". إذ ما ليس لدينا وما يجب أن نحوز عليه هو مثلاً "مجتمع المعرفة والحرّية وتمكين النساء"، حسب ثالوث الغياب الذي عيّنته "تقارير التنمية البشرية العربية" (2003)، ونقطة الانطلاق هذه ما هي إلا الترجمة المحلّية للنهج الذي اختطه البنك الدولي كما ورد أعلاه.
أود تسمية هذا المنحى في التفكير "فكر الغياب"، لأنه يعرّف الشيء بما ليس هو أو بنقيضه أو يفسّر غيابه بوجود ما يغايره، أو يعرّف حضورَ الشيء بغياب المرتجى. فمثلاً، الاستبداد موجود لعدم وجود الديمقراطية؛ والأنظمة الشمولية قائمة بسبب عدم الاعتراف بالمجتمع المدني؛ والطائفية منتشرة لغياب الاندماج الوطني (ناهيك بالانصهار)؛ والاقتصاد ريعي لغياب الاقتصاد الإنتاجي؛ والاحتكار موجود لأنه لا توجد منافسة حرّة؛ وثمّة من يحاول إقناعك بأن وجود الفقر سببه غياب حقوق الإنسان الأساسية، إلخ.
وليس أسهل من أن ينقلب فكر الغياب إلى فكر التغييب. فمن فنون أيديولوجيا النيوليبرالية أنها لا تكتفي بابتكار مسمّيات لا متناهية للرأسمالية، ولكنها تنكر في الوقت نفسه أن يكون أي منها هو رأسمالية أو هي الرأسمالية بـ"ال" التعريف أو الرأسمالية الصافية. أحصى الماركسي الهندي جايروس بناجي نحو 70 منوّعاً من تلك المسمّيات تُقدَّم جميعها على أنها مقصّرة عن أن تكون "رأسمالية" أو "الرأسمالية" بـ"ال" التعريف، أو الرأسمالية النقية. ومن هذه المنوّعات الأكثر وروداً بالنسبة للمنطقة العربية: الريعية، والغنائمية، والإرثية والإرثية الجديدة (الباتريمونيالية)، و"أخوية الانتفاع" cronyism وغيرها. ولو أمعنّا النظر بهذه الأمثلة لتبيّن لنا المشترك بينها: الاختلاط بين السياسة والاقتصاد ومن أطواره: التداخل والتقاطع؛ الفصل والقطع؛ الخلط والتطابق؛ الانزلاق من الواحد للثاني؛ وتفسير الظواهر الاقتصادية بالظواهر السياسية وصولاً إلى غلبة السياسي على الاقتصادي. وفي معظم الأحوال يكون ذلك باتجاه حجب الرأسمالية بما هي مسيِّر الاقتصاد وتبرئتها من الأخطاء والارتكابات. يقتصر الحديث في الاقتصاد على الريع ويتناسى المكوّنين الآخرين: الأرباح والأجور. يحلّ الريع محل الربح والإنتاج محل العمل. وتغيب السوق بما هي محرّك اقتصاديات الرأسمالية المتعولمة المنفلتة من عقالها ومعها الملكية الفردية، المضمر المحرّم الذي لا يمسّ ولو بالكلام عنه. يحصل هذا كلّه بواسطة الخلط بين اقتصاد وسياسة وبغلبة السياسة.
مثال أول: مصرفي وخبير مالي لبناني عمل طويلاً في المصارف والأسواق المالية الأميركية والعالمية، يشرِّح أدق دقائق النظام المالي اللبناني وأزمته الراهنة، ثم ينتهي إلى أن النظام اقطاعي. ولماذا النظام هو نظام إقطاعي؟ لأنّه لا يمنح المواطن اللبناني الفرص المفتوحة للارتقاء التي يوفّرها النظام الاقتصادي الأميركي. ولو شئنا ترجمة كلام المصرفي وفق المصطلحات اللبنانية، لما بدا أنه يُعيّن طابع النظام الاقتصادي على أنه إقطاعي، أي تسوده ملكيّة الأرض والقنانة، وإنّما الإقطاعية عنده استعارة لنظام ولاء وتبعية تقليدية. والإشارة عادة ما تكون إلى زعماء الطوائف وعلاقات الزبونية. فلدينا نظام اقتصادي لا وصف له بما هو نظام اقتصادي – أي رأسمالي – إنّما له وصف سياسي. وهو بصفته نظاماً سياسياً لا يتيح ما يتيحه النظام الاقتصادي الأميركي!
الاختلاط وتبادل الأدوار
في ندوة نظّمها الخبير الاقتصادي سمير عيطة عن الأزمة المالية في بيروت (الجامعة اليسوعية، بيروت، تشرين الأول/أكتوبر 2022) عرّف المحاضر "نظام السلطة" اللبناني power system على "أنه يرتكز إلى شبكة مُعقّدة من العلاقات بين أسياد حرب وأحزاب طائفية ونخب مالية ومصرفية وكارتيلات تجارية احتكارية/أولوغوبولية، مع نفوذ لافت لعدد من القوى الخارجية على كلّ لاعب محلي. والاقتصاد الرسمي قائم على نشاطات ساعية للريع من أجل الحفاظ على بنية الزبائنية".
وهو تعريف يميّز بين الاقتصاد والسياسة ليعود فيخلط السياسة بالاقتصاد بطريقة غريبة بعض الشيء. يحتوي نظام السلطة على قطاعين اقتصاديين تسيطر عليهما نخبٌ مالية وكارتيلات تجارية إحتكارية إلى جانب أسياد حرب وأحزاب طائفية. في حين يقتصر الاقتصاد الرسمي على نشاطات "ساعية للريع"، لكن الريع هنا وسيلة اقتصادية لغاية سياسية هي الحفاظ على بنية الزبائنية، أي على التوزيع عن طريق "أسياد الحرب والأحزاب الطائفية" لاستدرار الولاء السياسي. في نظام السلطة هذا، المال والتجارة وسيلتان للسيطرة السياسية، أمّا الاقتصاد الرسمي (هل الأول هو الاقتصاد غير الرسمي؟) فيُختزل بالريع، حيث تحصيل الريوع - بواسطة السلطة - وسيلة للحفاظ على شبكات الولاء السياسية.
لا ينكر المحاضر النفوذ الذي يمارسه أصحاب المصارف على صنع السياسات، ولا أن كارتيلات التجارة والخدمات المالية حقّقت أرباحاً طائلة من الأزمة. طيب. أليسوا هم أنفسهم من حقّق الأرباح الطائلة من الاقتصاد ومن مديونية الدولة والاحتكار التجاري قبل الأزمة؟ مهما يكن. لو اكتفينا بالتربّح من الأزمة، ألا يترتّب على ذلك أي إجراءات مثل "الهيركات" على أصحاب المصارف وكبار المودعين، أو فرض ضريبة على الثروة بناء على ما اقترحه البنك الدولي نفسه، أو سنّ قوانين لمكافحة الاحتكار التجاري و"تضارب المصالح" المعتمد في القطاع الخاص وغير المعتمد في عقود الدولة وتلزيماتها. أمّا عن تنامي الفقر فالمحاضر يجاري كثيرين بإعلان أن معدّلاته قد قفزت إلى 82% من 42% قبل الأزمة، وهو رقم مذهل يُذكَر كأنه البداهة عينها مع أنه، إنّ صحّ، يجعل من لبنان في عداد دزينة لا أكثر من أفقر بلدان في العالم. وكأنه لا يحق للمرء أن يتوقّع من خبير اقتصادي أن يدقّق في الأرقام وأن يتساءل عن كيفية تعيين سقف الفقر واحتسابه. والأنكى أن الرقم يرِد للتدليل على جسامة مفاعيل الأزمة الاجتماعية، من دون أن يترّتب عليه التفاتة ما لمشاريع معالجة الفقر وإبداء الرأي فيها. قلنا مفاعيل اجتماعية. للفقر مفاعيل اقتصادية كما يذكّرنا صندوق النقد لأن تناميه يخفض القدرة الشرائية والتي يرتد بدوره على كل حركة الاقتصاد.
لا نزال ننتظر من يخبرنا كيف ولماذا قيام نظام سياسي غير طائفي، مدني أو علماني، يقضي على "نفوذ" النخب المالية، ويحدّ من "الأرباح الطائلة" للاحتكارات التجارية، ويعيد توزيع الخسائر في الأزمة المالية،
لا يوجد أي من كل هذا. يعلن المحاضر نهاية نموذج الاستهلاك الاستيرادي بواسطة القروض الشخصية وبطاقات الائتمان. لكن هذا النموذج الاستهلاكي هو ما أوجد قاعدة اجتماعية لنظام الانتقال من الليبرالية إلى النيوليبرالية بعد الحرب. وهو يمسّ فئات واسعة من الأجراء الدائمين والموظّفين وفئات واسعة من الطبقات المتوسطة. نهاية هذا النموذج تعني فرض التقشّف. إلّا إذا جاء من يقدّم البديل او البدائل! أمّا عن نهاية الشق الاستيرادي من النموذج، فهل من يجرؤ على اقتراح رفع الرسوم الجمركية على السلع الفخمة، بما فيها السيّارات، لحماية السلع المنتجة محلّياً، واعتماد روزنامات زراعية لحماية المواسم الزراعية المحلّية من إغراق السلع المستوردة أو المهرّبة، إلخ…؟
هكذا نتدرّج من الانفصال في التشخيص والتحليل بين الاقتصادي والسياسي، والانتقال في التشخيص من الاقتصادي والاجتماعي للانتهاء بالسياسي، وصولاً إلى أن السبب الأوحد: سيطرة النخبة السياسية، وهذا السبب هو الذي يمنع تطوّر لبنان ويؤدّي إلي الانهيار المستمر. سقطت النخب المالية والمصرفية والكارتيلات التجارية الاحتكارية/الأوليغوبولية والأوليغارشيات، على طريق السياسة الملكي المُعبّد بالقوة.
فليس غريباً أن تلقى متدخّلاً في تلك الندوة، هو نفسه خبير اقتصادي، ينهي مداخلته بإلقاء المسؤولية في الأزمة على النظام الطائفي، ولا يرى من مخرج إلّا بتجاوز هذا النظام. ومع أن هذه معزوفة تتكرّر باستمرار، فلا نزال ننتظر من يخبرنا كيف ولماذا قيام نظام سياسي غير طائفي، مدني أو علماني، يقضي على "نفوذ" النخب المالية، ويحدّ من "الأرباح الطائلة" للاحتكارات التجارية، ويعيد توزيع الخسائر في الأزمة المالية، ويعقد الاتفاق مع صندوق النقد، ويقضي على نموذج الاستهلاك الاستيرادي بواسطة القروض الشخصية وبطاقات الائتمان…
سنسعى في مقالات لاحقة إلى نقاش ما تيسّر من مقولات هذا الحقل الجديد ومنها: الريعية، والغنائمية، والإرثية، وإنكار الطبقات والزبائنية و"أخوية الانتفاع" cronyism والفساد وغيرها.