أي نظام نقل هو الأنسب لبيروت؟

يُعدّ النقل المشترك المستدام من الحاجات الأكثر إلحاحاً للمجتمع اللبناني في ظلّ التداعيات الجارفة للأزمة، إلّا أنّ الخروج من نموذج النقل المُعتمد على السيّارة الخاصّة القائم منذ الخمسينيّات وتحدّي شبكة المصالح المرتبطة به يتطلّب قراراً سياسياً يُحدّد المصالح المُراد خدمتها وحمايتها.
 

كيف نتنقل؟ يُعبِّر هذا السؤال عن إحدى أكثر المسائل إلحاحاً بالنسبة للبنان الذي يرزح تحت انهيار لا أفق له. مع ذلك، غالباً ما تأتي الإجابة تبسيطيّة لناحية الاستمرار بالاعتماد على السيّارة وكأنّ شيئاً لم يكن، او تأتي عدميّة بالإحالة إلى وسائل نقل ذات فعالية محدودة جداً، بعضها بدائي لا يصلح لخدمة نحو 2.5 مليون فرد يتكدّسون في بيروت وضواحيها ومثلهم في المناطق الطرفيّة، او تأتي الاجابة مُكلفة مثل انشاء المترو الذي يتطلّب تنفيذه تكاليف باهظة لبناء بنية تحتيّة تحت الأرض، لا سيّما بعدما صعّب التطوّر العمراني العشوائي إمكانيّة بنائها فوق الأرض بكلف متدنية واقتصاديّة.

لم يبرز فشل نظام النقل اللبناني القائم على اعتماد شبه مُطلق على السيّارات الخاصّة إلّا بعد انهيار النموذج الاقتصادي الذي اتُبع لنحو ثلاثة عقود. فعلى الرغم من الشكوى والانتقادات التي أحاطت به نتيجة الزحمة على الطرقات ورداءة النقل المُشترك، إلّا أنّه بقي شغّالاً ويُسجِّل تطوّراً يُعبَّر عنه بالنموّ السنوي لعدد السيّارات الخاصّة ومساحة الطرقات. عملياً، لم تبرز مساوئ نظام النقل المُعتمد على السيّارة الخاصة إلّا بعد انهيار العام 2019، وأكثر تحديداً بعد تحرير أسعار المحروقات، فما كان مُتاحاً لشريحة واسعة من المقيمين على مدى عقود، بات اليوم مُكلفاً بسبب ارتفاع الأسعار، وأحياناً غير مُمكن بسبب عدم توافر كمّيات كافية من قطع الغيار لصيانة السيّارات أو المحروقات لتشغيلها.

مع ذلك، لا يزال العديد من المقيمين يتحمّلون هذه الأكلاف المُرتفعة على حساب التخلّي عن نفقات أخرى نظراً لضرورة التنقّل اليوميّة، ويتحمّلون الاضطرابات في نمط تنقّلهم، علماً أنّ أزمة النقل لم تصل بعد إلى الدُرِك الأسفل الذي قد يبرز خلال سنوات قليلة مع اهتلاك أسطول السيّارات القائم وبروز الحاجة إلى تجديده من دون توافر الإمكانيّة وانعدام البدائل العمليّة. فما السبيل لحلّ أزمة النقل، والتحوّل من الاعتماد شبه المُطلق على السيّارة الخاصّة إلى وسائل نقل مشترك حديثة وفعّالة وعمليّة؟

تحوّلات نظام النقل

خضع نظام النقل في لبنان لعمليّة تحوّلية عميقة منذ استقلاله، عندما بدأ ينتقل من نظام مُعتمد على التنقّل مشياً على الأقدام في المدن إلى نظام مُعتمد على النقل المُشترك، وساعد في ذلك وجود شبكة ترامواي في بيروت ذات خدمة جيّدة نسبياً، قبل التخلّي عنه تدريجياً واستبداله بالسيّارة منذ منتصف القرن الماضي.

يمثّل قرار التخلّي عن ترامواي بيروت في العام 1964 نقطة التحوّل الأبرز في قطاع النقل، وإنّ كان هذا القرار مُشابهاً لما جرى في العديد من مدن العالم التي غزتها الليبراليّة ودفعتها باتجاه تبنّي النموذج الأميركي القائم على تقليص حجم الاستثمارات العامّة في مشاريع النقل المُشترك مقابل تشجيع تملّك كلّ فرد لسيّارته الخاصّة. وقد ساعد الاقتصاد اللبناني المُفرط بليبراليته، والذي ركّز كلّ النشاط الاقتصادي والاجتماعي في بيروت ومحيطها، على تشجيع استخدام السيّارة الخاصّة، وبالتالي تخلّي الدولة عن وظيفتها بربط المناطق ببعضها عبر شبكة نقل عصريّة وسريعة وغير مُكلفة، لصالح توسيع شبكة الطرقات والأوتوسترادات إفساحاً بالمجال لمزيد من السيّارات، وتشكّل مصالح خاصّة حولها وأهمّها الوكالات التجارية الحصريّة لاستيراد السيّارات.

بقي هذا النموذج مُسيطراً حتى اندلاع الحرب الأهليّة، واستمرّ خلالها عبر تطوير وتوسيع المناطق العمرانيّة الحضريّة، وخلق مراكز ثانويّة على شكل أسواق أو تجمّعات سكّانية إمّا بسبب النزوح الكثيف من الأطراف التي زاد إهمالها، أو إنغلاق المناطق على بعضها وحاجة كلّ منطقة (وأحياناً كلّ حيّ) إلى تأمين اكتفاء ذاتي من دون الحاجة للتواصل مع الخارج. عند نهاية الحرب، كانت التنقّلات بين ما عُرِف بالغربيّة والشرقيّة لا تتجاوز 10% من مجمل التنقّلات.

عند نهاية الحرب كانت الفرصة مؤاتية لتبنّي نموذج نقل مختلف وإعادة ربط الحيّز المكاني المُفكّك بسبب حجم الدمار والقدرة على التخطيط وإعادة الاعمار على أسس مُغايرة. لكن ما حصل كان العكس تماماً، إذ ترافقت مرحلة إعادة الاعمار مع تمسّك بالنموذج نفسه، بحيث تمّ التوسّع في شقّ الطرق والأوتوتسترادات وإهمال أي خطّة للنقل المُشترك. وفي حين، حافظت بيروت على مركزيّتها من ناحية الخدمات وتوفير فرص العمل (60% من المستشفيات، و40% من المدراس، و55% من اليد العاملة، و42% من الشركات)، كان على سكّان الضواحي والأطراف التنقّل إليها غالباً باستخدام السيّارة بسبب ضعف خدمات النقل المُشترك.

بالنتيجة في العام 2018، كان 68% من عمليّات التنقّل المؤللة يتمّ عبر السيارات الخاصّة بحسب الخطّة الحكوميّة التي قدّمت في مؤتمر "سيدر"، في حين أنّ الاعتماد على النقل المُشترك لا يتجاوز 32%، وينقسم بين التنقّل بسيّارات الأجرة بنسبة 16%، وبباصات القطاع الخاصّ بنسبة 14%، وبباصات مصلحة سكك الحديد والنقل المُشترك بنسبة 2%. كذلك، بات أكثر من 89% من الأسر تملك سيّارة، وأكثر من نصفها يملك سيّارتين أو أكثر. إلى ذلك، أنفقت الحكومات اللبنانيّة نحو 3.5 مليار دولار على الطرقات بين 1992 و2017، وهو ما يشكّل ربع الإنفاق الاستثماري في هذه الفترة، وباتت هذه الطرق حجر أساس نظام النقل المُعتمد على السيّارة في ظلّ غياب أي تمويل أساسي لباقي وسائل النقل، وتحديداً النقل العام، بحيث استورد لبنان أكثر من مليون سيّارة بين العامين 2005 و2020 وفقاً للجمارك اللبنانيّة، بقيمة تصل إلى نحو 11 مليار دولار، وأُسِر العديد من الأفراد بديون لشراء سيارات، بحيث تجاوز عدد قروض السيارات الـ45 ألف قرضاً في العام 2020 بقيمة تصل إلى 475 مليون دولار وفقاً لمصرف لبنان، علماً أن القيمة الأكبر سُجّلت في العام 2010، حين بلغ عدد قروض السيّارات نحو 118 ألف قرض بقيمة 1.6 مليار دولار.

كيف الخروج من هكذا نظام؟

يحتّم الخروج من نظام النقل المُعتمد على السيّارة السير عكس كلّ العوامل التي أدّت إليه، أي تفكيكه من أساسه، وتحفيز الناس على استخدام النظام البديل. لا شكّ أنّ هذا التحوّل هو خيار سياسي قبل أي شيء، ويتطلّب تصويب الانحراف في تحديد ماهيّة النقل في المجتمع والاقتصاد. فالنقل ليس مجرّد عمليّة مستمرّة لتوسيع الطرقات واستيراد المزيد من السيّارات أو تأمين حافلات، بل هو مدخل من مُدخلات الإنتاج بما يفرض تحديد كلفته وكيفيّة توزيع أعبائها، وعاملاً أساسياً في تكوين المجال والحيّز المكاني وتحديد الحركة ضمنه وعبره.

استورد لبنان أكثر من مليون سيارة بين عامي 2005 و2020 بقيمة تصل إلى نحو 11 مليار دولاربناء على تجارب مدن أخرى حول العالم، ما هي الإجراءات المطلوب اتخاذها في بيروت للخروج من الاعتماد على السيّارة، لا سيّما أنّ الرهان على الأزمة الاقتصاديّة لهجرة الناس لسيّاراتهم تبسيطي بعض الشيء، فهو إنّ حصل فسوف يكون مؤقّتاً بانتظار تحسّن الظروف الماديّة التي تسمح بالعودة لاستخدام السيّارة، وهذه حال الدول المُعتمدة على السيّارة وأصيبت بأزمة 2008 الاقتصاديّة.

تحديد المجال الجغرافي لبيروت

لا يمكن لأي خطّة نقل أنّ تكون محصورة بحدود المدينة الجغرافيّة نفسها بل يجب التخطيط لوصلها بمحيطها القريب وبباقي المدن القريبة والبعيدة. على سبيل المثال، عند التخطيط لأي خطّة نقل لمدينة بيروت يجب أنّ تشمل هذه الخطّة إيصال المدينة المركزيّة (الإدارية) بالضواحي وباقي المدن، أي تحديد المنطقة الجغرافيّة المعنية، وفي هذه الحال بيروت الكبرى (أو بيروت وضواحيها)، تمهيداً لتوصيف شكل نظام النقل المُطّبق حالياً في هذه المنطقة، وتطوّره عبر السنين، وتحديد النظام الأفضل لخدمتها، وسبل الانتقال إليه.

تلعب مدينة بيروت دوراً سياسياً وتنظيمياً لأنّها العاصمة وبلدية واحدة وقضاء ومحافظة، أمّا على الصعيد العمراني والجغرافي فهي تتوسّع انطلاقاً من المركز، أي حول بيروت الإداريّة، نحو حيّز رئيسي ومركزي يشكّل بيروت الكبرى أي المدينة المركزيّة وضواحيها القريبة حيث يعيش نحو نصف سكّان لبنان ويقيمون علاقاتهم الاقتصاديّة. مع ذلك، لا يوجد تعريف واضح أو رسمي لبيروت الكبرى على خلاف معظم المدن الكبرى في العالم، ولا تتمتّع بأي إطار رسمي أو جغرافي مُحدّد. ظهر تعبير "بيروت الكبرى" في ستينيّات القرن الماضي في دراسات بعثة "إيرفد"، وبقي مذاك الحين مُتغيّراً من دون الوصول إلى حدود واضحة لها. لاحقاً اعتُمِدت تسمية بيروت وضواحيها أو المنطقة المتروبوليتينيّة لبيروت لتحديد المدينة. تبقى هذه التوصيفات غير كافية بحكم التمدّد العمراني والاقتصادي المحاذي لهذه الحدود أو لأسباب سياسيّة ومناطقيّة كرفض البلديات المعنيّة اعتبار نفسها جزءاً من بيروت الكبرى. في تقرير صادر اخيرا عن برنامج الأمم المتّحدة للمستوطنات البشريّة في العام 2021، حُدِّدت "مدينة بيروت" بالنطاق البلدي لنحو 31 بلدية محيطة فوق مساحة تقدّر بنحو 111 كلم مربّع، وعلى خطّ ساحلي بطول 32.58 كلم، وارتفاع يصل إلى 400 متر عن سطح البحر.

ما هي الرؤية لنظام النقل؟

بعد تحديد الحيّز الجغرافي للمدينة، لا بدّ من وضع رؤية لنظام النقل الأمثل الذي يخدمها وسكّانها، لتحديد آليّات إدارة هذا النظام بفعاليّة (أي حوكمته). لا شكّ أنّ تحقيق هذه الأهداف يتطلّب قراراً سياسياً يفاضل بين المصالح، ويحدّد مصالح التي سوف يخدمها وتلك التي يفترض تفكيكها أو الحدّ منها.

في الواقع، يعاني قطاع النقل في لبنان من نقص حادّ في الأرقام والبيانات الإحصائيّة والدراسات التقنيّة، ما يرتّب آثاراً على إدراك حقيقة واقع القطاع، ويحدّ من القدرة على التخطيط لتطويره. تتمثّل هذه الصعوبة في إضعاف القدرة على تحديد المؤشّرات الأساسيّة لرسم شبكة نقل، مثل معرفة توزّع السكّان والثقل الاقتصادي والخدمات بشكل كافٍ، التي تساعد في تحديد الحاجة الفعليّة لعدد المركبات وسعتها وتوزّعها، فضلاً عن النقاط المفصليّة المورّدة والمُستقبلة للمستخدمين، وهو ما يستوجب إجراء إحصاء سكّاني وجردة على المؤسّسات الاقتصاديّة المتواجدة ضمنها، فضلاً عن العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة المُقامة مع المناطق والمدن القريبة.

ويُضاف إلى ذلك، اهتراء الحوكمة القطاعيّة من الناحيتين التقنيّة والماليّة نظراً إلى تعدّد الجهات المنوطة بها مسؤوليّة النقل وتضارب الصلاحيات بينها وتنصّلها جميعها من مسؤوليّاتها، بالإضافة الى ندرة الاستثمار في القطاع وسوء توزيع الموارد تاريخياً، فضلاً عن غياب التمويل الخارجي في المدى المنظور وشحّ الموارد المُتاحة. وهو ما يتطلّب حصر المسؤوليّات بجهة واحدة لإدارة القطاع بعيداً من مصالح القلّة المُهيمنة عليه، وتنظيم النقل على المدى القصير بالوسائل المُتاحة راهناً، على أن يترافق ذلك مع تخصيص جزء من الموارد المُتاحة حالياً، وإيرادات النقل المتوقّعة مستقبلاً، فضلاً عن الإيرادات المُمكن جبايتها من غرامات السير أو رفع رسوم استيراد السيّارات، للقيام بالاستثمارات المطلوبة في هذا القطاع.

البنية التحتيّة لنظام النقل

75% الى 80% من التنقّلات في بيروت وجبل لبنان (تضم مناطق من بيروت الكبرى) هي عبارة عن تنقّلات داخليّة في المنطقتين، أمّا التنقّلات الباقية فتحصل بين المنطقتين بشكل رئيسي، وهناك حصة قليلة تخص المناطق الأبعد. ما يعني أنّ هناك عمليّة تنقّل واحدة فقط من كلّ 5 تنقّلات في مناطق بيروت ناجمة عن تنقّل متصل بمناطق خارجها. وبالتالي يفترض التحكّم بهذه التنقّلات عبر إدارة دخولهم وخروجهم من بيروت الكبرى، وكذلك إدارة التنقّلات في المناطق المختلفة ضمن المدينة عبر:

1) إنشاء محطّات تسفير: قد تكون بيروت من المدن القليلة في العالم التي لا تمتلك محطات تسفير رئيسيّة. المحطة الرسميّة الوحيدة هي محطّة شارل حلو شرق وسط المدينة، إلّا أنّها تعمل بأقلّ من ربع طاقتها ولا تخدم سوى خطوط مُحدّدة ولا تلعب الدور المحوري المرصود لمحطة تسفير حضريّة، أمّا محطّات التسفير الباقية فهي جزء من النقل الشعبي وتعمل بشكل غير مُنتظم وبعضها غير قانوني وغالباً تديرها عائلات أو مجموعات خاصّة مثل الكولا، والجامعة، والدورة، وخلدة، والمشرفية، ... لذلك يجب بشكل فوري إنشاء محطّات تسفير مُنتظمة على أبواب بيروت أو إعادة تأهيل المحطّات القائمة، تكون متصلة بسكّة حديد وشبكات نقل مشترك برّي أخرى تربط المدن الكبرى أي طرابلس وجونية وعرمون وصيدا والنبطية، وكذلك مربوطة بمحطّات في مناطقها الرئيسيّة والداخليّة (تُنشئ أو تؤهّل) لاستقبال الوافدين إلى المدينة وتوزيعهم على خطوط ومسارات النقل المُنتظمة، والتي تخدم أيضاً المقيمين والمتنقّلين ضمن مناطق المدينة المُختلفة وأحيائها المُتباعدة. يسمح ذلك بإدارة التنقّلات الصادرة من بيروت وربطها بشبكة النقل للمسافات الأبعد بين المدن الأخرى، وإدارة التنقّلات ضمن المناطق والأحياء المُتباعدة لبيروت الكبرى

2) تحديد الخطوط الرئيسيّة والداخليّة: يفترض أي نظام نقل فعّال وجود مسارات وخطوط رئيسيّة وداخليّة ملاءمة للوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. بمعنى يتمّ تحديد هذه المسارات بحسب المنطقة السكنيّة وخصائصها الاقتصاديّة والاجتماعيّة، والخدمات المحيطة بها، وحجم التنقّلات فيها، وطبيعتها وخصائص المستخدمين، فالمركبات التي تخدم مناطق سكنيّة وتجاريّة لا تعمل بالوتيرة نفسها كما في المناطق ذات الطابع الصناعي أو السياحي. لذا يجب إقامة ترسيم واضح وتفصيلي لمنطقة بيروت الكبرى يتم فيها تحديد طبيعة كلّ حيّ بالتوازي مع إجراء مسح شامل لتنقّلات السكان في كلّ الأحياء، وبُيني على نتائجها تصوّراً أوضح لهذا التوزيع. الخطة الشاملة لترتيب الأراضي في لبنان (2009) مثال واضح عمّا يجب تطبيقه على بيروت بتفصيل أكبر. من ثمّ تُنشئ هذه المسارات بما يسمح باستقبالها لوسائل نقل مختلفة بدءاً من الباصات الكبيرة وصولاً إلى الترامواي وقطار الضواحي، وتهيئتها لتكون جاهزة لزيادة فعاليّة النقل المشترك عبر إزالة السيّارات عن جوانبها أو توسيعها وإضافة بنى تحتية (إشارات، نقاط عبور، إشارات ضوئية،...).

تقوم الخطوط الرئيسيّة بوصل النقاط الرئيسيّة في بيروت الكبرى، مروراً بالبوليفارات والطرقات الرئيسيّة العريضة من دون المرور داخل الأحياء والشوارع. في المرحلة الأولى تؤمّن الخدمة على هذه الخطوط عبر باصات كبيرة الحجم لخدمة أكبر عدد مُمكن من الناس على أنّ تتولّى بعدها باقي مركبات النقل المُشترك أو التنقّل الليّن إيصال الناس الى أقرب نقطة من وجهتهم. وفي المرحلة الثانية، أي بعد تأمين موارد ماليّة أكبر، وتطوّر الشبكة وشكلها المرتبطين بحجم الاستخدام المنظور والفعلي، يجري إدخال وسائل النقل الأثقل مثل الترامواي وقطارات الضواحي. الأساس هو إنشاء شبكة تسمح باستقبال البنية التحتيّة للنقل المُشترك على أن تُعطى الحيّز الأهمّ والأكبر من الطريق بدلاً من السيّارة.

أمّا الخطوط الداخليّة فتربط الشوارع والأحياء الداخليّة في بيروت وضواحيها، ويمكن الاعتماد في المرحلة الأولى على أسطول النقل المُشترك الشعبي الحالي من باصات وفانات، تمهيدًا لاستبداله بأسطول أكثر ملاءمة، لا سيّما أنّ حجمها ومرونة عملها يسمحان بالدخول إلى نقاط لا تستطيع تأمينها الباصات الأكبر حجماً، شرط إخضاعها لسلطة الجهة المنوطة بإدارة القطاع، وإلزامها بمعايير السلامة العامة وأصول العمل المُنتظم في النقل المشترك، بما يجعلها شرعية وآمنة ومناسبة لأكبر شريحة من المستخدمين.

3) النقل الليّن: تخصيص مسارات للدراجة الهوائيّة وإزالة كلّ التعدّيات عن الأرصفة لإعادتها المشاة، بالتوازي مع إعادة تخطيطها بطريقة تناسب أصحاب الصعوبات في التنقّل (ذوي الاحتياجات الخاصة، عربات أطفال وعجزة، ...). كما يجب إضافة ممرات للمشاة وإشارات مخصصة لهم (ليس بالضرورة أن تكون ضوئيّة)، وذلك لتسهيل تنقّلاتهم القريبة ضمن الأحياء وأجزاء المدينة. وهناك دراسة متكاملة منذ 2012 لتحويل بيروت لمدينة مؤهلة للنقل الليّن (مشاة ودراجة هوائية). لا ينحصر تحسين تنقل المشاة بتأمين تنقلهم من نقطة أ إلى نقطة ب، بل يجب تخصيص مساحات عامّة وساحات مُشتركة للناس بدل السيارة في مختلف مناطق المدينة. قد تأخذ هذه الخطوة شكلها الأكثر تطرّفاً مثل "سوبربلوكس" في برشلونة أو المنحى الرائج في دول عدة مثل ساو باولو وبوغوتا وسانتياغو أو باريس وميلان وفالنسيا وبرلين، بعد هولندا والدنمارك بصفتهما رائدتين في هذا المجال، حيث تقفل الساحات العامّة وبعض الشوارع الرئيسيّة بوجه مرور السيّارات وتتحوّل إلى مساحات عامّة للمشاة فقط. لا ينحصر الهدف في تقليل استخدام السيارة، بل تنقية الهواء في هذه المساحات والشوارع أيضاً، ومساعدة الناس على التصالح مع فكرة الحيّز العام والتعرّف إلى مدينتهم. ويمكن اعتماد "العمران التكتيكي" الذي يزداد انتشاراً ويقضي بتحويل جزء من الحيّز العام (الطريق أو ساحة أو رصيف) إلى مساحة للناس يتم وضع بنى تحتية خفيفة (براميل، كراسي، أحواض نباتات،...) بشكل مؤقّت أو موسمي لتحويلها لمساحة تشاركية. من المساحات التي من الممكن تحويلها للناس بدل السيارات: شارع الحمرا، شارع الجميزة، ساحة ساسين، المسار المحاذي للبحر على طول الكورنيش، الأسواق مثل فرن الشباك أو برج حمود أو معوّض…

الحوافز عوامل مساعدة

الحديث هنا هو عن كيفيّة إحداث تغييرات جذريّة في نمط استهلاك خدمات النقل وتحفيز الناس على نبذ السيّارات الخاصّة، بمعنى آخر تغيير عادات تنقّلاتهم وتحويلهم باتجاه بدائل فعّالة.

1) السرعة في التنقّل: تعتبر السرعة العامل الأساسي في رغبة الناس باستعمال السيّارة، لذلك يفترض اقتطاع مسارات من الطرق القائمة حالياً وتخصيصها للنقل المُشترك حصراً، وهو ما يسرّع رحلاتها في مقابل التسبّب بزحمة إضافيّة لمن يرغب باستخدام السيّارة الخاصّة. بالإضافة إلى تنظيم سير مركبات النقل المشترك وفق جداول مُحدّدة مسبقاً في محطّات التسفير ووقوف وإنزال الركّاب.

2) تخفيض التواصل بين السائق والركّاب: تقليل الاحتكاك بين السائق والركّاب بما خصّ دفع الأجرة على الخطوط الرئيسيّة والداخليّة، عبر استحداث آليّات دفع إلكترونيّة وأخرى مسبقة الدفع لاستخدامها عند دخول المركبة.

3) تخفيف السرعة ومرافق خدمة السيّارات الخاصّة: تخفيف سرعة سير السيّارات في المدينة بما يسمح بتفضيل وسائل النقل المشترك على استخدام السيّارة، بالإضافة إلى تخفيض عدد المواقف ورفع تعرفاتها، وهو ما يساعد بالتخلّي عن استخدام السيّارة ويعطي الأفضلية لوسائل النقل المشترك.

تعد هذه الإجراءات سهلة وغير مُكلفة، ولكنها تتطلّب دراية وقدرة ورغبة على اتخاذ قرارات جريئة لوضع المدماك الأوّل لتغيير هيكليّة قطاع النقل في بيروت وإخراجها من الاعتماد على السيّارة. ما يجب العمل عليه في بيروت ليس فقط تأمين التنقّلات إنّما العمل على تقليل السيّارات، والأهمّ تأمين نظام نقل مستدام لخدمة الناس.