في خدمة رأس المال المالي العالمي
"نظرًا لأن تدفقات رأس المال الخاص هي مصدر لا غنى عنه لتمويل التنمية، فإن الوظيفة الحاسمة الأخرى لإدارة أسواق رأس المال الجديدة التابعة لصندوق النقد الدولي هي تعزيز قدرتنا على مساعدة البلدان على الوصول إلى أسواق رأس المال الدولية."
- هورست كولر، مدير عام في صندوق النقد الدولي، ورئيس جمهورية ألمانيا لاحقاً
لا يمكن الحديث عن دور صندوق النقد الدولي بعيداً عن دوره الأسواق المالية العالمية بوصفها ميداناً أساسياً من ميادين عمل الصندوق وسعيه لإنجاز المهام المنوطة به. وهذا يدفع لتشخيص تموضع الصندوق في هذه الأسواق وأثر الأدوار التي يقوم بها على بقية الأطراف من حكومات وصناديق استثمارية ودائنين، وتالياً تأثير ذلك على الشعوب التي تخضع بالضرورة بدورها لديناميات هذه الأسواق.
تدور مهام الصندوق حول ضمان استقرار النظام النقدي والمالي عالمياً مع ما يتضمنه ذلك من استقرار لأنظمة سعر الصرف والحرص على موازنة حسابات ميزان المدفوعات وحسابات الخزينة العامة. بيدَ أن إتمام هذه المهام تطلّب أموراً مختلفة ومتبدّلة في الفترة الممتدة بين تأسيس الصندوق وحتى اليوم. إن التغيّرات العالمية في العقود الثمانية الماضية أملَت على الصندوق في كثير من الأحيان تغيير أدواته وأهدافه وصولاً إلى ميادين عمله نفسها.
بُني النظام المالي الجديد ما بعد الحرب الثانية، في مؤتمر بريتون وودز على ثوابت متعددة منها مبدأ قابلية العملات للتحويل، بمعنى آخر ربط العملات بشكل مباشر أو غير مباشر بالذهب. بحلول عام 1958 كان قد اكتمل العمل بأنظمة سعر الصرف الجديدة. حُدّد سعر صرف ثابت للدولار إزاء الذهب بـ 35 دولارا أميركياً لأونصة الذهب الواحدة. معظم العملات الباقية رُبطت بالذهب أو بالدولار المربوط بدوره بالذهب فكانت أنظمة سعر الصرف الثابتة سمة أساسية لذلك النظام. بالتالي، تحددت مهام الصندوق الأساسية بالحرص على استقرار أسعار الصرف بالإضافة إلى معالجة وتمويل عجوزات الحساب الجاري.
في ورقة بحثية بعنوان "الحفاظ على تدفق رأس المال: دور صندوق النقد الدولي" يفيد الباحثون مايكل بوردو وآشوكا موديز ونيينكي أومس أن العام 1973، الذي شهد انهيار نظام بريتون وودز، شكّل لحظة مفصلية في مسيرة الصندوق. فقد واجه الصندوق بعد انهيار نظام بريتون وودز نشوء بيئة اقتصادية ومالية جديدة قوامها زيادة كبيرة في عدد الدول الأعضاء، وتعدد وتنوّع أنظمة أسعار الصرف عالمياً، وظهور معضلات تتعلق بالحسابات الجارية المفتوحة والعولمة المالية.
تحوّل اهتمام الصندوق نحو الديناميات والأزمات التي تحكم أسواق رأس المال ومنها الصدمات أو التوقف الفجائي والانعكاسات الحادة التي قد تصيب تدفّقات رأس المال كما ظهر في حالات متعددة خصوصاً في تسعينيات القرن الماضي. بات الصندوق مهتماً أكثر بمراقبة الرساميل القصيرة والمتوسطة الأجل في الدول التي تعاني من قيود ائتمانية، وبالتنسيق بين الدائنين عند أزمات الديون السيادية، وبمراقبة السيولة الدولية في الأزمات المالية و"إشارات الإنذار المبكر".
وقد باتت مهام الصندوق وأدواره تتمحور حول معالجة هذه المعضلات التي تحكم النظام الجديد. يذكر الباحثون ثلاث قنوات يقوم الصندوق من خلال بتأدية مهامه:
- أولاً من خلال ما يسميه الباحثون "ختم التدبير المنزلي الجيد" أي "الشهادة" والموافقة التي يمكن أن يمنحها الصندوق لدولة ما للإشارة إلى سلامة سياساتها النقدية والمالية وحسن سير مؤسساتها المالية وامتلاكها مؤشرات مختلفة كاستدامة الدين على سبيل المثال. وهو بـ"مباركته" هذه يعطي إشارة إيجابية لمؤسسات الأسواق المالية تجاه هذه الدولة. وهذا ما يتردد على الدوام في لبنان مثلاً، حول انتظار الجهات المانحة وجهات أخرى لانخراط لبنان في برنامج مع صندوق النقد يتضمن إجراء "الإصلاحات" حتى تقدم هذه الجهات مساعداتها. يلعب الصندوق هذا الدور انطلاقاً من تمتعه بامتياز الاطلاع على معلومات غير متاحة لسائر مؤسسات الأسواق المالية، إذ يستطيع الصندوق في الحالات ذات الصلة الوصول إلى بيانات المصارف المركزية ومالية الدولة وغيرها.
- القناة الثانية هي تأدية الصندوق لمهمة "المراقب المفوّض". قد لا يكون الصندوق أكثر اطلاعا من الدائنين ومؤسسات القطاع الخاص على الوضعية المالية للدولة، إنما بإمكان أن يكون الجهة الضامنة لتنفيذ الاتفاقيات والعقود المبرمة بين هذه الجهات والدولة نفسها. يساعد ذلك الدائنين في طمأنة الدائنين وحفظ مصالحهم لناحية عدم التوقف الفجائي للدولة عن سداد ديونها وتنفيذ الشروط التي تضمن قدرة الدولة على تسديد هذه الديون.
- أما القناة الثالثة فهي ممارسة الصندوق لـ"الإقراض التحفيزي". إن انخراط دولة في برنامج مع صندوق النقد لا ينبع، بشكل أساسي، من طلب الدولة للأموال والقروض التي يمكن أن يقدمها الصندوق. إن القروض التي يقدمها الصندوق تبثّ إشارة حول سلامة الوضعية المالية ما يحفّز مؤسسات الأسواق المالية على إقراض هذه الدولة.
تدلّ هذه القنوات الثلاث على أولويّات الصندوق التي تتمثّل أوّلاً بحماية الدائنين ومؤسسات الأسواق المالية انطلاقاً من اعتقاد الصندوق أن حماية هذه الجهات تعني ضمان تدفّق الرساميل وحركتها وتالياً ضمان استقرار النظام المالي العالمي.
ويتسلّح الصندوق بأدوات تكفل تحقيق الأهداف والوصول إلى المستويات المرغوبة للمؤشرات الكميّة التي توفّر الشروط الضرورية لجذب الدائنين. تتمحور هذه الأدوات والأغراض التي تؤديها حول غاية واحدة؛ ضمان حصول الدائنين على ديونهم وعوائد استثماراتهم.
تشكّل "مشروطية صندوق النقد الدولي" العامود الفقري لهذه الأدوات وهي تضمّ سياسات الاقتصاد الكلّي والإصلاح الهيكلي. وهي إجراءات تهدف لضمان استدامة الدين وتقليص العجوزات في حسابات ميزان الدفوعات وحسابات الموازنة العامة بهدف ضمان سداد الديون للجهات الدائنة وتوفير البيئة المؤاتية لجذب الاستثمارات والتدفقات المالية. وتؤدي هذه الإجراءات غالباً لتبعات اقتصادية واجتماعية ذات تأثير سلبي على شرائح اجتماعية واسعة بدءاً بدورات انكماشية للاقتصاد مروراً بتعميق حدة اللامساواة وصولاً إلى تدهور القطاع الصحي في ظل موجات من الأوبئة كما حدث في دول غرب أفريقيا خلال وباء إيبولا.
إضافة إلى ذلك، تتضمن هذه الأدوات ضمان استقرار أنظمة سعر الصرف لطمأنة الدائنين والمستثمرين الخارجيين عبر الحدّ من المخاطر واللايقين الناجمة عن تقلّبات كبيرة يمكن أن يشهدها سعر الصرف. إلا أن ذلك يمكن أن يعني تعويم العملات الوطنية على مستويات تسحق القيمة الشرائية لشرائح واسعة من القوة العاملة.
يسعى الصندوق لتقليص عجوزات حسابات الخزينة العامة حرصاً على ضمان تسديد الدولة لخدمة الدين السيادي. يتضمن ذلك التشجيع على إجراءات التقشّف وتحرير الأسواق والخصخصة حتى تتخفّف الدولة من الإنفاق. يقلّص ذلك الإنفاق الاجتماعي للدولة ومعه شبكات الحماية الاجتماعية ويحدّ أيضاً من احتمالية لعب الدولة لأي دور تدخّلي في السوق بهدف الإنعاش الاقتصادي. كما يشجّع الصندوق على تحرير الأسواق المالية ما يسمح للدائنين والمستثمرين الخارجيين الهروب برساميلهم في أية لحظة الأمر الذي يمكن بحد ذاته أن يكون عامل تفجير لأزمة مالية في البلد المعني.