المبادئ الاقتصادية والاجتماعية في الدستور اللبناني

لشدّة اهتمامنا بما في الدستور من مواد تتعلّق بالنظام السياسي والطائفيّة، نادراً ما نكترث لما فيه من مبادئ يُفترض بها أنّ تكون الناظم لحياتنا الاقتصاديّة والاجتماعيّة. إلى أن كانت الأزمة الماليّة. فجأة بدأ التداول بمصطلحات اقتصاديّة وماليّة: اقتصاد حرّ، صندوق سيادي، حرّية صرف العملة، حرّية تحويل العملة، كابيتال كونترول، هير كات، إلخ.

فمثلاً، أبلغنا حاكم مصرف لبنان بأنّ تهريب الودائع قد يكون غير أخلاقي لكنّه ليس غير قانوني. وبعد سنتين وأزود من التداول في موضوع الكابيتال كونترول قيل لنا إنّ هذا الإجراء يتعارض مع حرّية انتقال الأموال. وهو لا يزال عالقاً في البرلمان. واكتشفنا أنّ المعارضة أشدّ شراسة من السلطة في الدفاع عن الاقتصاد الحرّ. كان يكفي أنّ يستدعي المدّعي العام المالي مدراء المصارف الكبرى ويطالبهم بكشوف عن الأموال التي خرجت من مصارفهم، حتّى علا صراخ سمير جعجع بأنّ لبنان بدأ تطبيق التأميم! وباسم حرّية الاقتصاد والملكيّة الخاصّة، ترفض جمعيّة المصارف مشاريع الدولة اللبنانيّة وصندوق النقد الدولي لتنظيم القطاع المصرفي باتجاه إعادة الرسملة. وفي المجلس النيابي تتزاحم القوانين الاقتصاديّة: قانون المنافسة الحرّة، وإلغاء الوكالات الحصريّة، وقانون السرّية المصرفيّة، الذي قيل لنا إنّ المجلس اضطر لأنّ يُجري عليه تعديلات بعد إقراره بحيث ينسجم مع مبدأ الاقتصاد الحرّ!

Preview

لعلّ هذا يكفي لإثارة الفضول عما يتضمّنه الدستور من مواد اقتصاديّة واجتماعيّة.

هذه هي وكلّها مضاف في مقدّمة دستور الجمهوريّة الثانية (1990):

  • "النظام الاقتصادي حرّ يكفل المبادرة الفرديّة والملكيّة الخاصّة". (البند و)
  • "الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ركنٌ أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام". (البند ز).
  • ويرد مبدأ عن العدالة الاجتماعيّة ضمن المبادئ السياسيّة: "لبنان جمهوریّة دیمقراطیّة برلمانیّة، تقوم على احترام الحرّیات العامّة وفي طلیعتها حرّیة الرأي والمُعتقد، وعلى العدالة الاجتماعیّة والمساواة في الحقوق والواجبات بین جمیع المواطنین دون تمایز أو تفضیل". (البند ج)

هل من البديهي أنّ تذكر الدول مبادئ نظامها الاقتصادي الاجتماعي بصفته من الثوابت الوطنيّة في دستورها؟ وكيف يقارَن الدستور اللبناني في مواده تلك مع الدساتير العربيّة والعالميّة؟

في محاولة للجواب على هذين السؤالين، راجعنا أكثر من عشرين من الدساتير العربيّة والعالميّة1 وهذه بعض النتائج:

أوّلاً، اللافت أنّ مبدأ العدالة الاجتماعيّة يرد في الدستور من ضمن تعريف المبادئ السياسيّة وليس ضمن المبادئ الاقتصاديّة-الاجتماعيّة. كأنّما للقول إنّ العدالة الاجتماعيّة لا علاقة لها بالاقتصاد ولا بالعدالة الاقتصاديّة.

النيوليبراليّة في الدساتير

ثانياً، يكاد ينفرد الدستور اللبناني في تكريسه المبادئ الاقتصاديّة-الاجتماعيّة النيوليبراليّة مجتمعة: الاقتصاد الحرّ، المبادرة الفرديّة، والملكيّة الخاصّة.

يشذّ لبنان دون سائر الدساتير بعدم تكافؤ الفرص بسبب التمييز الطائفي في الوصول إلى الوظيفة العامة أو بسبب التمييز في نظام التعليمأقرب الحالات الشبيهة ثلاث حالات صيغت خلالها الدساتير تحت ضغوط خارجيّة. الحالة الأولى هي دستور تشيلي العام 1980 الذي وُضِع في عهد الدكتاتوريّة العسكريّة الدمويّة، المدعومة من الولايات المتّحدة الأميركيّة، التي أطاحت حكومة الوحدة الشعبيّة الاشتراكيّة الصادرة عن انتخابات شعبيّة شرعيّة العام 1973. وقد شكّل عهد الجنرال بينوشيه (1973-1990) أوّل اختبار عالمي للنيوليبراليّة تحت رعاية اقتصاديي جامعة شيكاغو من تلامذة بطريرك النيوليبراليّة فريدريش فون هايك. كان الهمّ الأكبر للانقلاب تكريس خصخصة الموارد الطبيعيّة في الدستور، ما يعني إلغاء تأميم مناجم النحاس، المملوكة بأكثرها للرساميل الأميركيّة. وترك الفكر الليبرالي بصمته الفاقعة إذ شرّع الدستور للمبدأ الليبرالي الذي يضع الدولة في خدمة الفرد، في مقابل التقاليد الدستوريّة التي تعتبر الدولة في خدمة المجتمع أو الشعب.

الحالة الثانية هي الدستور العراقي الذي وُضِع في ظل الاحتلال الأميركي وأبرز ما جرى التداول فيه بند يشرّع لخصخصة الثروة النفطيّة بإلغاء شركة النفط الوطنيّة العراقيّة، بمبادرة من الحاكم الأميركي بريمر. لكن الاقتراح سقط في الصياغة الأخيرة. وبقي من آثار الليبراليّة حماية الملكيّة الخاصّة ومسؤوليّة الدولة في تشجيع القطاع الخاصّ.

أمّا الحالة الثالثة فهي الدستور اليمني، الصادر عام 2015 في ظل "المبادرة الخليجيّة" والحضور الوازن للمستشارين الدوليين، وهو ينصّ على التنافس وحرّية التجارة والنشاط الاقتصادي واحترام الملكيّة الخاصّة.

إلى هؤلاء يضاف الدستور المغربي الذي ينصّ على "حرّية المبادرة والمقاولة والتنافس الحرّ".

المبادئ الاقتصاديّة والاجتماعيّة

ثالثاً، يتميّز الدستور اللبناني بإغفاله العدد الأكبر من المبادئ والحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والإنسانيّة. لتبيّن ذلك، نقرأ فيما يلي في المبادئ الاقتصاديّة والاجتماعيّة لعدد من الدساتير العربيّة والعالميّة.

المعروف أنّ دستور الولايات المتّحدة، يتكوّن من سبع مواد أساسيّة وضِعت في القرن الثامن عشر، أُلحِق بها 27 تعديلاّ استجابة للتطوّرات اللاحقة. تقتصر البنود الاقتصاديّة والاجتماعيّة في المواد الأساسيّة على مبدأي الحرّية والمساواة وعلى "العمل من أجل الخير العام، وضمان قيم الحرّية لأنفسنا وللذين سيأتون بعدنا".

لا دستور للمملكة المتّحدة، بل مجموعة قوانين وتعديلات تعود إلى القرن الثالث عشر. بينها قوانين ذات صفة دستوريّة هي قوانين دولة الرعاية الصادرة بعد الحرب العالميّة الثانية التي تتضمّن حركة تأميم واسعة النطاق، بالإضافة إلى تأسيس الضمان الصحّي المجّاني الشامل، والتعليم المجّاني، والإسكان الشعبي.

الدستور الفرنسي يعرّف فرنسا على أنّها "جمهوريّة اجتماعيّة" تحت رايات شعاراته التاريخيّة - "حرّية، مساواة، أخوّة" - ويتضمّن الحقّ في العمل والتنظيم النقابي والإضراب، والتعليم المجّاني العام والعلماني.

يكلّف الدستور السويسري الدولة تحقيق الضمان الاجتماعي والعناية الصحّيّة والإسكان.

يلقي الدستور البرازيلي على الدولة مسؤوليّة تأمين التعليم والصحّة والطعام والسكن والرفاه والضمان الاجتماعي وحماية الأمومة والطفولة ومساعدة المعوزين.

تعرّف إسبانيا نفسها دستورياً على أنّها "دولة ديمقراطيّة اجتماعيّة تتمسّك بقيم الحرّية والمساواة والتعدّديّة السياسيّة في ظل دولة القانون".

إيطاليا في دستورها "دولة ديمقراطيّة مؤسّسة على العمل".

أمران لافتان في الدستور الألماني: كامل النظام التعليمي تحت رقابة الدولة؛ ولهذه الحقّ في  التملّك الجماعي socialisation للأرض والموارد الطبيعيّة ووسائل الإنتاج والمؤسّسات، لقاء تعويضات.

"الدستور الأكثر تقدّماً في العالم"، هو لقب دستور إتحاد جنوب أفريقيا الذي يضمن الحقوق الآتية: البيئة، السكن، التعليم، الخدمة الصحّيّة، الكفاية من الطعام والماء، الضمان الاجتماعي، تأسيس النقابات، وحقوق الأطفال.

في الدستور المصري تتعهّد الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعيّة وتكافؤ الفرص.

في اليونان، الملكيّة هي في حماية الدولة، والدولة مسؤولة عن الاهتمام بصحّة المواطنين ومساعدة المعوزين.

في نيجيريا، يرتكز الدستور على مبادئ الحرّيّة والمساواة والعدالة. وهو يضمن الأجر المتساوي للعمل المتساوي، وحماية الطفولة، وفرص تعليم متساوية ومتكافئة من خلال التعليم المجّاني بكافة مراحله.

"العدالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والمساواة في الموقع والفرص" تترأّس مبادئ دستور الهند. ومن مسؤوليّات الدولة "أنّ تكون ملكيّة موارد الأمّة الماديّة والسلطة عليها، موزّعة بأفضل طريقة تضمن خدمة الخير العام"؛ و"تأمين الحقّ في تحصيل المعاش للنساء والرجال بالتساوي"؛ و"الأجر المتساوي للعمل المتساوي للرجال والنساء على حدّ سواء".

يعرّف دستور البرتغال البلد على أنّه "دولة ديمقراطيّة" تعمل من أجل "تحقيق الديمقراطيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة وتعميق الديمقراطيّة التشاركيّة".

في دستور دولة الإمارات العربيّة "أساس الاقتصاد الوطني هو العدالة الاجتماعيّة... والتنمية الاقتصاديّة ورفع مستوى المعيشة والرفاه"، ويوجب على الدولة "حماية الملكيّة العامّة"!

خلاصة

تنص أكثريّة الدساتير التي عايناها أعلاه على التعليم بما هو أحد الحقوق الدستوريّة، ويتعيّن على الدولة تأمينه مجّاناً في أولى مراحله، على الأقلّ. هذا الحقّ غائبٌ في الدستور اللبناني حيث لا يرد التعليم بما هو حقّ من حقوق المواطنة، بل بما هو ممارسة تنتمي إلى القطاع الخاصّ وإلى المؤسّسات الدينيّة، يقع على عاتق الدولة حمايتها ليس إلّا (المادة 10).

لا غرابة أن يشذّ لبنان دون سائر الدساتير بعدم ذكر تكافؤ الفرص في دستوره، على اعتبار أنّ الفرص ليست متكافئة دستورياً، إنّ بسبب التمييز الطائفي في الوصول الى الوظيفة العامّة أو في الأحوال الشخصيّة أو بسبب التمييز الذي يفرضه نظام التعليم الخاصّ والديني.

أمّا سائر المبادئ الاقتصاديّة والاجتماعيّة والإنسانيّة المُكرّسة في دساتير الدول التي عايناها أعلاه، وأغفلها الدستور اللبناني فهذه أهمّها: العدالة الاقتصاديّة، تكافؤ الفرص/ المساواة في الفرص؛ رفع مستوى المعيشة، الرفاه؛ المساواة الاجتماعيّة؛ التنمية الاقتصاديّة؛ التعليم المجّاني؛ القضاء على الفقر؛ الخير العام؛ الأجر المتساوي للعمل المتساوي بين الرجال والنساء؛ حماية الأمومة والطفولة؛ الضمان الاجتماعي؛ العناية الصحّيّة؛ الحقّ في السكن؛ وغيرها.

هذه عناصر برنامج لمعارضة شعبيّة خليقة باسمها، تلتزم بحقوق الناس الاقتصاديّة والاجتماعيّة وبالحفاظ على مستوى معيشتهم في المقام الأوّل، وتدرك أنّ أزمات ماليّة واقتصاديّة ومعيشيّة صادرة عن اقتصاد تأسّس منذ أربعة عقود من الزمن على التحوّل من الليبراليّة إلى النيوليبراليّة لا يمكن مجابهتها إلّا بإجراءات مضادّة للنيوليبراليّة.

  • 1الولايات المتّحدة الأميركيّة، المملكة المتّحدة، فرنسا، سويسرا، السويد، ألمانيا، فنلندا، البرازيل، إسبانيا، البرتغال، إيطاليا، اليونان، البرازيل، تشيلي، الهند، سنغافورة، تايوان، إتحاد جنوب إفريقيا، نيجيريا، الأردن، المغرب، مصر، العراق، دولة الإمارات العربيّة المتّحدة، تونس، المغرب، واليمن.