
هكذا دواليك
في ظلال الـ MAGA: ترامب حاكماً بأمر الله
تتشابك خطوط النار وتتقاطع خرائط الصراع في الشرق الأوسط. ترامب، الذي يُجاهر بتحالفه مع التيّارات الإنجيلية الصهيونية وكارتيلات التكنولوجيا المتقدّمة، يخوض اليوم حرباً ذات أبعاد إيديولوجية، اقتصادية، وعرقية، تُعيد إحياء نماذج استعمارية ساد اعتقاد أنها أصبحت من الماضي.
في ولايته الثانية، تبقى وقاحة طروحات دونالد ترامب وفجاجتها أفضل ما لدى الرجل ليقدّمه للعالم. ففي خلال دردشة مع الصحافيين في طريق عودته من قمة الدول السبع، اعتبر ترامب كلام تولسي جيبارد، مديرة المخابرات الوطنية الأميركية، أمام الكونغرس الأميركي في آذار/مارس الماضي غير صحيح. لا بل وصف كلامها بالخاطئ حين قالت إن إيران لا تسعى لامتلاك السلاح النووي. لتعود جيبارد عن تصريحاتها السابقة مباشرة بعد تعليق ترامب وتحدّد أن إيران بعيدة مسافة أسابيع من إنتاج السلاح النووي. ترامب إذاً لا يحتاج لأدلة، ولا لتحقيقات، ولا حتى لآراء مستشاريه وتقديراتهم الأمنية حين يخالف ذلك قناعاته الإيديولوجية أو يتعارض مع صورة الآمر الناهي وصاحب القرار. ولضرب إيران، لم يحتج حتى لمخيال كولن باول حين تحدّث عن مختبرات تطوير السلاح غير التقليدي المتنقلة أمام مجلس الأمن في العام 2004 إبّان الحرب على العراق. هو يدير موقع رئاسة الإمبراطورية الأميركية إنطلاقاً من قناعته بأنه الإنسان المُختار من الله، كما وصف نفسه في خلال حملته الانتخابية، لإنقاذها واستعادة أمجادها. هو إذاً القائد «المرتجى»، الاستثناء، خيار الله لنجدة إسرائيل وحمايتها، بحسب جاك هيبز، أحد كبار رجال الدين الإنجيليين في الولايات المتحدة، تعقيباً على نجاته من محاولة اغتيال في تموز/يوليو 2024. بالنسبة إلى الجماعات المسيحية الصهيونية المتطرفة المنضوية تحت مسمى «The New Apostolic Reformation»، ترامب هو القائد الذي سيقود «جيش الله» نحو النصر العظيم. من هنا، يصبح من الخطأ اختزال الفعل السياسي لترامب بكونه رئيساً منتخباً فقط، بقدر ما هو مُختار كـ«مُرشد» للإمبراطورية الأميركية. وفي هذا السياق، يجب فهم تموضعه في الحرب على غزة ولبنان، وانخراطه التام في الحرب على إيران، واستراتيجيته لإدارة التجارة العالمية، وحتى علاقاته مع حلفائه الغربيين وجيرانه الكنديين.
بالنسبة إلى الجماعات المسيحية الصهيونية المتطرفة ترامب هو القائد الذي سيقود «جيش الله» نحو النصر العظيم. من هنا، يصبح من الخطأ اختزال الفعل السياسي لترامب بكونه رئيساً منتخباً فقط، بقدر ما هو مُختار كـ«مُرشد» للإمبراطورية الأميركية
في حربه مع إيران، وإن لم يسمِّها حرباً، ومن خلال تأمينه الغطاء السياسي واللوجستي للعدوان الإسرائيلي على الشعب والنظام الإيرانيين، يعبّر ترامب عن المصالح الأساسية للجماعات الإنجيلية الصهيونية المتطرفة التي أسّست لولايته الثانية ونظّرت لدوره كحاكم بقوة إلهية. فهل يمكن الجزم بأن استراتيجيته للعلاقات الدولية لا تتركّز على ماورائيات غيبية وتستند إلى أيديولوجيا تفوق الرجل الأبيض في السياسة والعلوم والاجتماع والتكنولوجيا؟ الأمر ذاته ينعكس على قضايا الداخل الأميركي، من حقوق المرأة والأقليات إلى الصحة والتعليم. لقد بنى ترامب مشروعيته السياسية على تبني المحرمات السياسية ورفع أكثرها وقاحة كشعارات انتخابية وأسس لإ ستراتيجيته في الحكم.
لكن ترامب الغارق في الأيديولوجيا اليمينية الدينية يمثل في العمق عودة الاستعمار إلى رشده. فلا حاجة لديه للخطاب المؤنسن الذي كان سائداً في التسعينيات، ولا يكترث بقضايا التحول الديمقراطي أو سياسات التعددية السياسية أو التغير المناخي. لا تقيم إستراتيجيته أصلاً اعتباراً لحق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو إرث الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، ويعتبره خارج حساباته الإمبريالية. شعاره الجديد «اجعل إيران عظيمة مجدداً» (Make Iran Great Again) يحمل بُعداً مختلفاً باعتباره حاكماً بأمر إلهي، غير معني بالمنظومة الحقوقية الدولية أو المواثيق التي أُقرت بعد الحرب العالمية الثانية. بالنسبة إليه، استعادة عظمة أميركا لا تكون إلا بالعودة إلى النموذج الاستعماري البدائي والاستيطاني حيث يمكنه الأمر بإخلاء عاصمة كطهران يسكنها أكثر من 10 ملايين إنسان بتغريدة واحدة ومن دون إحساسه بالحاجة لتقديم أي مبررات. وفي السياق عينه، يتضح تموضعه اللامشروط مع الاستيطان الإسرائيلي، ورؤيته «الترانسفيرية» لمعضلة غزة، التي يرى أنّ حلّها يكمن في إعادة توطين الغزاويين في أماكن ذات مردودية أقل مقارنة بالقطاع الذي يريده ريفييرا جديدة على البحر الأبيض المتوسط. وتسمح مندوبته إلى لبنان، مورغان أورتاغوس، بتحديد من يحق له الدخول إلى الحكومة اللبنانية ومن يجب عليه البقاء خارجها. أما في إيران، فيحصر تناقضه الرئيس مع مشاريعها الحداثوية كبرنامج الطاقة النووية. وعلى الرغم من ذلك، أبدى استعداده لإقامة أفضل العلاقات مع النظام الإيراني بشرط تخليه عن العداء لإسرائيل. هو مستعد لصفقة على شاكلة «الريبراندينغ» التي أعلنها الحكم السوري الناشئ بقيادة أحمد الشرع.
استعادة عظمة أميركا لا تكون إلا بالعودة إلى النموذج الاستعماري البدائي والاستيطاني حيث يمكنه الأمر بإخلاء عاصمة كطهران يسكنها أكثر من 10 ملايين إنسان بتغريدة واحدة
يقدّم ترامب برهاناً لفهم طبيعة التطوّر الاستعماري في نسخته الجديدة، والتي تتخذ منحى حلزونياً، يعود من خلاله التاريخ لاستحضار نماذج استعمارية تمّ نبذها سابقاً بهدف ضمان توسيع المصالح الإمبريالية الحالية والمستقبلية. فكما تعود الرأسمالية التكنولوجية لاعتماد نظم استغلال ما قبل صناعية في إدارة علاقات العمل لتعظيم الأرباح، تعود سياسات ترامب لاستدعاء مزج غيبيات الأيديولوجيا الدينية مع أساطير التفوّق العرقي الأبيض وأحدث تقنيات التكنولوجيا. لقد شكّل الجيش الأميركي مؤخراً «الوحدة 201» التي تهدف إلى تطويع كبار التنفيذيين في شركات التكنولوجيا في سيليكون فالي كمستشارين تقنيين لدى الجيش الأميركي. تتألف الدفعة الأولى من المتطوعين برتبة كولونيل من شيام سنكر من شركة Palantir، أندرو بوسوورث من Meta، كيفن ويل من OpenAI، وبوب ماكغرو من شركة Machines learning labs.
في هذا السياق، يتضح الدور المحوري لشركات التكنولوجيا المرتبطة عضوياً بمراكز صنع القرار الاستعماري، هي التي زوّدت الجيش الإسرائيلي بدفق هائل من البيانات لتشغيل ماكينة القتل المؤتمتة في الشرق الأوسط، وأسّست لمفهوم «القصف النظيف» الذي يلغي إنسانية المستهدفين سواء كانوا مدنيين أم عسكريين. يُسقط ترامب وحلفاؤه أي حق للشعوب في الاعتراض على مشروع استعادة عظمة أميركا. هكذا يأخذنا وشبكة الجماعات الدينية المتطرفة وكارتيل شركات التكنولوجيا إلى مرحلة جديدة من سياسات «إدارة الحيوات» (Biopolitics) كما وصفها ميشيل فوكو، في مشهد يعيدنا إلى زمن الاتجار بالبشر وسفن استقدام العبيد. وهكذا، يصبح لإسرائيل الحق في اختيار من يعيش ومن يموت في «الشرق الأوسط الجديد» الذي يروّج له نتنياهو منذ اليوم الثاني للحرب على غزة. وهكذا، تحدّد إسرائيل لمن سيعيش الكيفية التي سيعيشون عبرها. تماماً، كما يحصل في غزة وفي جنوب لبنان وكما تطمح لإحداثه في إيران.
لإسرائيل الحق في اختيار من يعيش ومن يموت في «الشرق الأوسط الجديد» الذي يروّج له نتنياهو منذ اليوم الثاني للحرب على غزة
بهذا المنطق، يمنح ترامب وفريقه أنفسهم الحق في تشتيت الفلسطينيين حول العالم في أكبر عملية إعدام جماعي لحق فئة من الناس في الحياة والوجود. ويصبح إصرار الجنوبيين اللبنانيين على العودة إلى قراهم وإعادة إعمارها فعلاً حياتياً تُقرنه مورغان أورتاغوس بضرورة نزع سلاح حزب الله بأي وسيلة، بينما يردّد بعض اللبنانيين ببغائية دعمهم لترامب كمخلّص للبنان. والإيرانيون الطامحون للحصول على الطاقة النووية، بغض النظر عن وجهة استعمالها، يصبحون في قفص الاتهام بلا أدلة ويستحقون القصف والدمار، فقط لأن بنيامين نتنياهو، الملاحق دولياً بجرائم حرب، اختار إعلان الحرب من طرف واحد دفاعاً عن مصالح إسرائيل.
أمام هذا المشهد، علينا البحث عن مستقبل الشرق الأوسط في ظل تسيّد نظام الأبارتايد الإسرائيلي للمنطقة، وصعود القوة الناعمة للخليج بقيادة السعودية والإمارات، واتساع النفوذ التركي الذي يتقاطع مع ترامب في المنطقة. تصبح المقاومة اليوم فعلاً وجودياً يختارنا ولا نختاره. ليست حزباً ولا دولة ولا يمكن اختزالها في شكل واحد. هي استراتيجية للدفاع عن الحق في العيش، وهو ما يفرض علينا البحث عن طرق وأساليب مبتكرة للدفاع عن مستقبل أبنائنا، وسيادتنا على أجسادنا، والبحث عن تقاطعات المقاومة في الشرق والغرب، في الثقافة والسياسة والأدب والفن. الغرب ليس كتلة واحدة متراصة، والشرق ليس كتلة واحدة متسقة. هناك حاجة ملحة لبناء تقاطعات سياسية متنوّعة تتجاوز النموذج الجمعياتي التقليدي. المسألة ليست غزة أو فلسطين أو قضية حقوقية فحسب، بل هي مصلحة كوكبية لمواجهة تحالف الرجعية الدينية مع كارتيل التكنولوجيا المتقدمة والآلة العسكرية المتضخمة، وإسقاطه من منبعه الغربي قبل أن تتردّد أصداؤه في الأطراف.
تصبح المقاومة اليوم فعلاً وجودياً يختارنا ولا نختاره. ليست حزباً ولا دولة ولا يمكن اختزالها في شكل واحد. هي استراتيجية للدفاع عن الحق في العيش
إنها الحرب، حرب يشنها اليمين الديني المتطرف على البشرية جمعاء، حتى وإن كانت ميادينها اليوم غزة وطهران وبيروت وصنعاء. هي حرب أيديولوجية كبرى تهدف إلى إعادة ترتيب أنماط العيش التي ترسّخت بعد الحرب العالمية الثانية. الحرب مستمرة، لكنها ليست قدراً محتوماً. هناك دوماً مساحة واسعة لنكتب فصولاً جديدة في معركة استرداد بعض هذا العالم من قبضة الإمبراطورية وشركائها في كارتيلات القتل الذكي. لكن تبقى نقطة الإنطلاقة مرتبطة حتماً بالقطع مع موروثات «الفظيع» المشرقي الذي رقص التانغو لأكثر من نصف قرن مع إسرائيل ولم يتمكّن يوماً من ضمان سيادة المجتمعات التي تسلّط عليها بقوة الأمن وسطوة الدين وادعاءات مقارعة الاستعمار.