
ترامب يزعزع ثقة المستثمرين
منذ أن تولّى دونالد ترامب رئاسة الولايات المتّحدة، اعتمد سياسات اقتصادية غير تقليدية ومتقلّبة، أبرزها فرض تعريفات جمركية على الواردات الأميركية بمستويات خيالية، ما ألقى بظلال الشك على مستقبل الاقتصادين الأميركي والعالمي، وأثّر بشكل خاص على المستثمرين وقدرتهم على التنبؤ بحركة أسهم الشركات الأميركية والعالمية، إذ باتت أسعار الأسهم تتأرجح بشكل حاد بين صعود وهبوط، لدرجة أنه في خلال أسبوع واحد من شهر نيسان/إبريل 2025، شهدت سوق الأسهم الأميركية أسوأ وأفضل أداء لها منذ 3 سنوات.
يتبيّن حجم الإرباك الذي يحيط بسوق الأسهم في تصريحات الخبراء. يفيد المحلّلون في سيتي، البنك الاستثماري الأميركي متعدّد الجنسيات، عند التطرق لتعريفات ترامب يأن «اليقين الوحيد هو اضطرار المشاركين في السوق إلى تحمّل فترة طويلة من عدم اليقين». وفي معرض تعليقه على سياسة التعريفات الجمركية الأميركية، يقول جان كريستوف بابين، الرئيس التنفيذي لشركة بولغاري في روما، وهي شركة تابعة لشركة LVMH عملاقة المجوهرات، «ما كان صحيحاً بالأمس لم يعد صحيحاً اليوم، ولا أعرف ماذا سيكون غداً»، وقال جيد إليربروك، مدير المحفظة في آرجنت كابيتال مانجمانت، وهي شركة إدارة استثمار متخصصة في الأسهم الأميركية: «من الصعب حقاً أن يكون لديك أي قناعة اليوم في ظل حالة عدم اليقين الهائلة في الاقتصاد والسياسة التجارية».
كيف أربكت سياسات ترامب سوق الأسهم؟
عند زيادة الرسوم الجمركية، ترتفع كلفة السلع المستوردة، ما يضغط على أرباح الشركات المعتمدة على سلاسل التوريد العالمية. ومع تقلّص هوامش الربح، تنخفض جاذبية هذه الشركات في أعين المستثمرين. لكن التقّلبات في قيمة الشركات الأميركية بالذات، تحظى بصدى عالمي كون سوق الأسهم الأميركية تشكّل 60% من سوق الأسهم العالمية.
كما أن فرض الرسوم ينطوي على خطر نشوب نزاعات تجارية بين الدول، إذ ترد كل منها بفرض تعريفات جمركية مضادة. وهذا التصعيد سوف يزيد من مناخ الضبابية ويقلّل من ثقة المستثمرين، ما ينعكس سلباً على أسعار الأسهم في الدولتين المعنيتين، سواء البادئة بالرسوم أو الرادّة عليها.
لكن المشكلة التي خلقها ترامب أعقد من ذلك، إذ تتسم سياساته التجارية بالتبدّل السريع، ويظهر ذلك من خلال أمثلة عدّة، مثل رفع الرسوم الجمركية على الصين بشكل متكرّر وسريع عقب كلّ ردّ مماثل من بكين، أو تعليق التعريفات التي فرضها سابقاً على كندا والمكسيك عقب التوصل إلى تسوية، فضلاً عن أن إجراءات الرئيس الأميركي تفتقر إلى منهجية واضحة، إذ يشير المراقبون إلى أنها تتسم بخليط من الشعبوية والمزاجية.
فضلاً عن ذلك، أدّت سياسات ترامب إلى وصول الشك إلى البنك الاحتياطي الفدرالي، والتزامه سياسة «الترقب والانتظار»، بحسب تعبير «رويترز». في العادة يحاول البنك الفدرالي التنبؤ بمسار الاقتصاد، أي مؤشرات البطالة والتضخّم والنمو، ليحدّد معدّل الفائدة الذي سوف يفرضه على البنوك التجارية، لكنه قرّر الآن أن ينتظر المزيد من البيانات قبل تغيير أسعار الفائدة. وقال رئيس مجلس البنك جيروم باول في كلمة ألقاها أمام النادي الاقتصادي في شيكاغو: «في الوقت الحالي، نحن في وضع جيد يسمح لنا بانتظار مزيد من الوضوح قبل النظر في أي تعديلات على موقفنا السياسي».
تُعدّ الفائدة التي يحدّدها البنك المركزي عاملاً حاسماً في تحديد تكلفة اقتراض المستثمرين من البنوك والمؤسسات المالية، ولهذا السبب، يترقب المستثمرون ورجال الأعمال الأميركيون والأجانب إعلان معدلات الفائدة باهتمام بالغ، إذ تؤثر مباشرة في قراراتهم الاستثمارية، لا سيما في ما يتعلق بشراء الأسهم. وهذا يعني أن تريث الاحتياطي الفدرالي في اتخاذ قرار بشأن سعر الفائدة لا يبعث بالطمأنينة على سوق الأسهم.
وفي هذا الصدد، يقول براد كلابماير، كبير مديري المحافظ الاستثمارية في فريق ماكواري لنمو رؤوس الأموال الكبيرة ،«أشعر أن المستثمرين في القارب نفسه الذي يوجد فيه باول، فهو يواجه تحدّياً مزدوجاً يصعب التعامل معه. وما يقوله (باول) هو إننا بحاجة إلى التوقف والانتظار لنرى كيف سوف ينتهي كل هذا، لأننا لا نملك أي يقين أيضاً. ولذا، أعتقد أن المستثمرين بحاجة إلى أن يكونوا في الموقف نفسه حيث نحتاج إلى جمع المعلومات. إذا لم يكن لديك قناعة أو وضوح في هذا الشأن، فلا داعي لفعل أي شيء».
كيف نقيس ارتباك الأسواق؟
أسهل وسيلة لرصد حالة الارتباك في الأسواق هي تتبّع أسعار الأسهم، والبحث عن تقلبات حادة في الرسوم البيانية صعوداً ونزولاً. أيضاً، نستند إلى 4 مؤشرات اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في تقريره الأخير عن آفاق التجارة والتنمية لعام 2025، وهي: مؤشر ستاندرد آند بورز 500، ومؤشر الخوف، ومؤشر عدم اليقين في السياسات الاقتصادية، ومؤشر عدم اليقين في السياسات التجارية.
1. مؤشر ستاندرد آند بورز 500: لرصد التبدّل في أسعار الأسهم الأميركية، يمكن ملاحظة التقلبات في مؤشر ستاندرد آند بورز 500، وهو مؤشر لسوق الأسهم يتتبع أداء 500 من أكبر الشركات المدرجة في البورصة في الولايات المتحدة الأميركية.
في الأسبوع الأول من نيسان/أبريل 2025، تكبّدت شركات مؤشر ستاندرد آند بورز 500 خسائر فادحة بلغت نحو 5 تريليونات دولار من قيمتها السوقية، وذلك عقب إعلان الرئيس دونالد ترامب عن فرض تعريفات جمركية شاملة. وقد شكّلت هذه الخسارة أكبر تراجع يشهده المؤشر في خلال يومين متتاليين في تاريخه، متجاوزاً حتى الخسارة التي بلغت 3.3 تريليون دولار في يومين في آذار/مارس 2020 عندما ضرب كوفيد-19 الأسواق العالمية.
في أيام قليلة، بدا أن الفترة العصيبة التي تمرّ بها وول ستريت قد انتهت مع انتعاش سوق الأسهم وتعويض قسم كبير من الخسائر السابقة، بتحقيق المؤشر نفسه أفضل أداء أسبوعي له منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وجاء هذا الانتعاش القوي مع تراجع الضغوط على السندات والدولار الأميركي، ما هدأ المخاوف من انسحاب المستثمرين الأجانب من الأسواق الأميركية.
لم يدم هذا التفاؤل طويلاً، فقد تعرّضت أسواق الأسهم الأميركية لانتكاسة جديدة يوم الأربعاء، 16 نيسان/أبريل الجاري، بعد أن أعرب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، عن مخاوفه الجدية حيال تداعيات الرسوم الجمركية التي أعلن عنها الرئيس ترامب، فقد تراجع مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة حادة بلغت 2.24%.
2. مؤشر الخوف: يُستخدم مؤشر التقلب (VIX) لقياس التقلّبات المتوقعة في سوق الأسهم الأميركية في خلال الثلاثين يوماً المقبلة، ويُحسب بناءً على خيارات مؤشر ستاندرد آند بورز 500. وغالباً ما يُشار إليه باسم «مؤشر الخوف»، إذ إن ارتفاعه يدل على تزايد القلق وعدم اليقين بين المستثمرين. وعندما يتجاوز المؤشر مستوى 30 نقطة، يُعتبر ذلك دلالة على حالة توتر شديدة في الأسواق. وقد سجّل VIX مستوى 52.33 في 8 نيسان/أبريل 2025، ليُحقق ثالث أعلى قراءة في تاريخه بعد أزمتي 2008 و2020.
3. مؤشر عدم اليقين في السياسة الاقتصادية: يُحتسب مؤشر عدم اليقين في السياسات الاقتصادية شهرياً واستناداً إلى 3 مكوّنات رئيسة، وهي مدى تغطية الصحف لحالة عدم اليقين المتعلقة بالسياسات الاقتصادية، وعدد الأحكام في قانون الضرائب الفيدرالية التي من المقرر أن تنتهي صلاحيتها، إلى جانب حجم التباين بين توقعات الخبراء بشأن المسارات المستقبلية لمؤشر أسعار الاستهلاك، والإنفاق الفيدرالي في الولايات المتحدة الأميركية، وكذلك الإنفاق الحكومي والمحلي.
ارتفع المؤشر بأكثر من الضعف من 234.1 نقط في تشرين الأول/أكتوبر 2024 إلى 460.2 نقطة في كانون الثاني/يناير 2025، وهي الفترة التي شهدت السباق الرئاسي الأميركي وتعيين ترامب رئيساً للولايات المتحدة الى جانب التوترات السياسية في الشرق الأوسط. وبذلك تجاوز المؤشر أعلى مستوى له في ظل جائحة كوفيد 19 463.7، ليسجّل أعلى مستوى له على الإطلاق.
4. مؤشر عدم اليقين في السياسة التجارية: يقيس هذا المؤشر مدى اهتمام وسائل الإعلام بالأخبار المتعلقة بعدم اليقين في السياسة التجارية، ويعكس نتائج البحث النصي الآلي للأرشيفات الإلكترونية لسبع صحف رائدة. ارتفع المؤشر بنسبة 144% من 247.68 في كانون الأول/ديسمبر إلى 603.8 في آذار/مارس 2025، محققاً أعلى مستوى له على الإطلاق وأعلى زيادة له على الإطلاق، وقد شهدت الفترة المذكورة وصول ترامب إلى البيت الأبيض وإصداره عدداً كبيراً من الأوامر التنفيذية، التي تشمل تعريفات جمركية على الواردات الأميركية.