
ندرة السكّان في عمر الشباب
ثمّة نتيجتان ديموغرافيتان تعيدان تشكيل التركيبة السكانية العالمية: انخفاض عدد الأطفال من جهة وارتفاع الأعمار من جهة ثانية. وهما تدفعان الاقتصادات الكبرى نحو انهيار سكاني بحلول نهاية هذا القرن بحسب توقعات الأمم المتحدة.
يقول تقرير حديث صادر عن «ماكنزي» بعنوان «ارتفاع معدّل الإعالة وتناقص السكان: مواجهة عواقب الواقع الديموغرافي الجديد»، إن حجم الأسر تقلّص تقريباً في كلّ مكان في العالم. وحالياً يعيش ثلثا البشر في دول معدّل الخصوبة فيها أقلّ من معدّل الإحلال1 البالغ 2.1 طفل لكلّ أسرة. وبحلول العام 2100، من المتوقع أن ينخفض عدد السكان في بعض الاقتصادات الكبرى بنسبة تتراوح بين 20% إلى 50%.
والواقع أن العالم وصل إلى ذروة عدد الولادات السنوية في العام 2012، حين وُلد 146 مليون طفل. ومنذ ذلك الوقت هذا الرقم آخذ بالانخفاض ببطء. وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، سوف يصل العدد الإجمالي لسكان الأرض إلى ذروته في العام 2084 وسيتجاوز العشرة مليارات نسمة ليبدأ من بعدها الانحدار حتى آخر سنوات القرن.
عدد السكان في سن العمل سيرتفع إلى الذروة ثم ينخفض تبعاً لثلاث موجات
السكان في سن العمل هم صانعو الجزء الأكبر من الناتج الاقتصادي. ويحدّد عددهم بالنسبة إلى عدد كبار السن وصغار السن من مجمل السكان.
تشهد كل مناطق العالم تقريباً انخفاضاً في حصة السكان في سن العمل نسبة إلى عدد السكان الإجمالي، لكن بوتيرة مختلفة وفترات زمنية مختلفة. بدأت الموجة الأولى في البلدان المرتفعة الدخل، التي جرّبت آثار التحوّل الديمغرافي في خلال العقود الماضية. وفي غضون جيل أو جيلين ستغمر الموجات اللاحقة الكثير من الاقتصادات الناشئة. ولا يوجد استثناء في كل العالم إلا في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، حيث تتجاوز معدلات الخصوبة مستوى الإحلال ومن المتوقّع أن تظلّ مرتفعة حتى الربع الآتي من القرن.
تشكّل البلدان ذات الاقتصادات المتقدمة معظم مناطق الموجة الأولى، وهي آسيا المتقدمة، وأوروبا الوسطى والشرقية، وأميركا الشمالية، وأوروبا الغربية والصين. تتمتّع هذه الدول بمعدل خصوبة يبلغ 1.2 طفل لكل امرأة، عدا أن 67% من مجمل سكانها هم في سن العمل، ولكن تبقى هذه النسبة أقلّ مما كانت عليه في العام 2010، حين بلغت نسبة السكان في سن العمل 70%. تواجه هذه الفئة من السكان انكماشاً سريعاً في عددها، ومن المتوقع أن تنخفض نسبة السكان في سن العمل إلى نحو 59% في العام 2050.
بلغ عدد السكان في بلدان الموجة الأولى ذروته بالفعل في العام 2020. وفقاً للاتجاه الحالي، سوف ينخفض عدد السكان في هذه المناطق من 2.8 مليار نسمة الآن إلى 2.6 مليار نسمة في العام 2050، و1.9 مليار نسمة في العام 2100. وفي العام 2050، سوف يرتفع عدد سكان 22 دولة فقط من أصل 55 دولة من دول الموجة الأولى إلى أكثر مما هو عليه الآن، على أن يبدأ من بعدها بالانخفاض في معظم هذه الدول. وبالفعل، يموت سنوياً في 37 دولة من دول هذه المنطقة عدد أفراد أكثر من عدد الأفراد الذين يولدون. واليوم، 60% من كبار السن في العالم (65 سنة وأكثر) يعيشون في مناطق الموجة الأولى. وفي المقابل، يعيش 22% فقط ممن هم تحت سن 15 في تلك المناطق.
أمّا مناطق الموجة اللاحقة فهي آسيا الناشئة والهند وأميركا اللاتينية والكاريبي والشرق الأوسط وشمال أفريقيا. يبلغ معدل الخصوبة الإجمالي في هذه المناطق نحو 2.2، كما أن 67% من السكان هم في سن العمل اليوم. لا تزال تشهد هذه المناطق ارتفاعاً في عدد السكان. من المتوقّع أن يبلغ عدد سكان دول الموجة الثانية ذروته في العام 2071 بزيادة من 4 مليار نسمة في يومنا هذا إلى 5 مليار نسمة كحدّ أقصى.
أما في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، فيبلغ معدل الخصوبة اليوم نحو 4.4، فضلاً عن كون 56% من السكان فقط هم في سن العمل. غير أنّ هذه النسبة ستستمرّ في النمو لتصل إلى 66% في منتصف القرن قبل أن تصلها لاحقاً الموجة الثالثة.
سوف يستمر معدل الإعالة في الانخفاض
فيما يتراجع عدد السكان في سن العمل، يرتفع متوسط العمر المتوقّع في معظم أنحاء العالم. وبحسب «ماكنزي»، يفسِّر ارتفاع متوسط العمر المتوقّع 20% من التغيير في التركيبة السكانية في البلدان المتقدمة منذ العام 1960، بينما يُعزى الباقي إلى انخفاض الخصوبة.
والواقع سوف ينخفض عدد العمّال مقابل كل فرد من كبار السن مع ندرة الشباب في العالم. وهذا ما يفسّره معدّل الإعالة، وهو عدد السكان في سن العمل (من 15 سنة إلى 64 سنة) مقابل عدد كبار السن (من عمر 65 سنة فما فوق) وعدد الأطفال (تحت 15 عاماً).
في العام 1997، بلغ معدّل الإعالة في العالم 9.4، أي أنّ هناك أكثر من 9 أفراد في سن العمل لإعالة فرد واحد من كبار السن. أما اليوم، فقد انخفض هذا المعدّل إلى 6.5، ومن المتوقّع أن يتراجع إلى 3.9 بحلول العام 2050.
تظهر هذه الاتجاهات بشكل أوضح في اقتصادات بلدان الموجة الأولى، حيث يبلغ معدل الإعالة اليوم 3.9 بعد أن كان 6.8 في العام 1997، ومن المتوقع أن ينخفض في العام 2050 إلى 2، أي أنّ هناك فردَين من السكان في سن العمل لكل فرد من كبار السن. ومن بين مناطق الموجة الأولى، من المتوقع أن تسجّل كل من آسيا المتقدمة والصين وأوروبا الغربية أدنى مستويات معدلات الإعالة بحلول العام 2050.
أمّا مناطق الموجات اللاحقة، فستشهد انخفاضاً في معدّل الإعالة من 10.3 في الوقت الحالي إلى 5.7 في العام 2050. تشكّل الهند، الدولة الأولى عالمياً من حيث عدد السكان والتي يصل فيها معدل الإعالة إلى 9.8، مثالاً واضحاً على هذا التراجع، إذ يظهر انحدار مسار الولادات ومتوسط العمر المتوقّع ليكون مستوى معدل الإعالة المتوقّع في العام 2050 نصف ما هو عليه الآن، على أن ينخفض إلى 1.9 في العام 2100.
توازن التركيبة السكانية
تشير هذه الديناميات في التركيبة السكانية إلى أنّ التوزيع السكاني في العالم سوف يتّجه نحو دول الموجات اللاحقة. مع حلول عام 2050، سوف يبلغ عدد سكان بلدان الموجة الأولى 25% من سكان العالم بعد أن وصلوا إلى 35% في يومنا هذا. وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، قد تصبح هذه البلدان موطناً لأقلّ من 20% من سكان العالم في 2100.
في العام 2100، ستمثّل أفريقيا جنوب الصحراء مجمل الزيادة السكانية في العالم، إذ ستتضاعف حصتها الحالية لتصل إلى 34%. في المقابل، سوف ينكمش عدد سكان الصين إلى الثلث، ثاني أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، ومن المتوقع أن يتراجع عدد سكان الصين من 18% من مجمل سكان العالم في العام 2023 إلى 6% فقط بحلول العام 2100. هذا من شأنه أن يجعل الصين أكبر بـ 170 مليون نسمة فقط من عدد سكان أميركا الشمالية، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، بعد أن كانت تزيد بنحو مليار نسمة في وقتنا الحالي.
أمّا بالنسبة إلى أسواق العمل، فمن المتوقع أن تتحوّل نحو البلدان الشابة والنامية في مناطق الموجة اللاحقة ما لم تتغيّر أنماط الهجرة بشكل دراماتيكي. بحلول العام 2050، ومع الحفاظ على ثبات ساعات العمل الحالية للفرد داخل كل فئة عمرية، سوف تمثّل مناطق الموجة اللاحقة أكثر من ثلثي إجمالي ساعات العمل في العالم.
وفي ذلك الوقت، سوف تشكّل أفريقيا جنوب الصحراء 18% من مجمل ساعات العمل العالمية وهو ضعف حصتها من ساعات العمل اليوم. من جهة أخرى، قد تنخفض حصة العمل المنجز من العمال الصينيين إلى 18% في العام 2050 بعد أن وصلت إلى 26% في وقتنا الحالي، كما أنّه من المتوقع أن تنكمش حصة كل دول مناطق الموجة الأولى. مما قد يخلق فرصة لدول الموجات اللاحقة لتحقيق نمو اقتصادي.
من المتوقّع أن تحتلّ بلدان مناطق الموجة اللاحقة أكثر من نصف الاستهلاك العالمي في الربع القرن القادم على الأقل، وذلك بسبب النمو السريع في عدد السكان الشباب وزيادة الدخل. على سبيل المثال، تشير التوقعات إلى أنّ الهند وآسيا الناشئة سوف تشكّلان 30% من مجمل الاستهلاك العالمي على أساس القدرة الشرائية بعد أن كان هذا الرقم 12% في العام 1997. في المقابل، من المتوقّع أن تشكّل كلّ من آسيا المتقدمة وأميركا الشمالية وأوروبا الغربية مجتمعين 30% فقط من الاستهلاك العالمي في نفس الفترة (ربع القرن الآتي) بعد أن وصل هذا الرقم إلى 60% في العام 1997.