
الركود السكاني في لبنان
قدّرت الأمم المتّحدة عدد سكّان لبنان (لبنانيين وغير لبنانيين) في نهاية العام 2023 بنحو 5.77 مليون نسمة، وتوقعت أن يرتفع عدد السكان قليلاً في هذا العام إلى 5.81 مليون نسمة، إلا أن تطوّرات الفصل الأخير من العام الجاري، ولا سيما الحرب الإسرائيلية على لبنان وسقوط نظام الأسد في سوريا، جعلت هذه التوقعات ضعيفة جدّاً، إذ لم تصدر حتى الآن بيانات موثوقة عن عدد اللاجئين اللبنانيين بسبب الحرب، والذين لم يعودوا إلى لبنان من سوريا والعراق ومقاصد الهجرة واللجوء الأخرى بعد وقف إطلاق النار، ولا عدد اللاجئين السوريين وغيرهم الذين تركوا لبنان وعادوا إلى ديارهم بعد هروب الأسد.
بعيداً من لغز عدد السكان الحقيقي في لبنان وتداعيات التطورات الأخيرة، تبيّن تقديرات الأمم المتحدة أن هناك ما يشبه الركود السكاني، إذ أن عدد السكان المقدّر حالياً يوازي عدد السكان المقدّر قبل عقد من الزمن (5.74 مليون نسمة في العام 2013). ما يعني أن عدد السكّان لم ينمُ تراكمياً بأكثر من 0.5% طوال هذا العقد، على الرغم من بلوغه الذروة في العام 2015 بسبب تدفقات اللاجئين السوريين إلى لبنان، إذ وصلت تقديرات السكّان حينها إلى 6.47 مليون نسمة، لتبدأ بعدها سلسلة انخفاضات استمرّت بين عامي 2016 و2021.
يأتي ذلك فيما تشكّل الولادات الجديدة السنوية ثلاثة أضعاف عدد الوفيات، ولكنها تتآكل في الواقع من خلال نزيف الهجرة المتواصل. بحسب بيانات الأمم المتحدة سجّل لبنان نحو 93,205 ولادة جديدة في العام 2023 وحده، في مقابل 34,419 وفاة، ولكن هاجر من لبنان نحو 34,190 شخصاً أكثر ممّا دخل إليه، ما جعل الزيادة السكانية السنوية لا تتجاوز 24,596 شخصاًَ.
لم يُجرَ أي إحصاء سكاني في لبنان منذ العام 1932، وحتّى هذا الإحصاء شابته الكثير من الانتقادات والتشكيكات. ومن حينها تعتمد المنظّمات الدولية المعنية بالإحصاءات الديموغرافية والمؤسّسات الرسمية المحلّية على بيانات الولادات والوفيات وحركة الهجرة الوافدة والخارجة لتقدير عدد السكّان في لبنان. وعلى الرغم من عدم دقّتها، تبقى التقديرات الحديثة الصادرة عن الأمم المتّحدة مُعبِّرة، والأهمّ أنها تنقض الخطابات الشعبوية والعمى السائد حيال الواقع الديمغرافي في لبنان، ولا سيّما فيما يتعلّق بوجود زيادة كبيرة في عدد السكّان ناجمة عن تدفّق اللاجئين السوريين، تعجز البنية التحتية عن تحمّله ما يسبّب اكتظاظاً سكانياً ويرفع البطالة في البلاد. والأهم أنها تدلّل إلى مستقبل قاتم، إذ يخضع المجتمع لتشوّهات كبيرة من خلال الهجرة والتفقير بفعل انهيار النموذج الاقتصادي الذي قام مطلع التسعينيات وتكشّف انهياره في العام 2019.
تشير بيانات الأمم المتّحدة إلى أن لبنان مرّ بثلاث منحنيات ديموغرافية منذ بدء الحرب السورية. ففي حين كان يزيد عدد السكّان بمعدّل 60 ألف شخص سنوياً قبل العام 2010، ارتفعت الزيادة السنوية في عدد السكّان، ما بين ضعفين و12 ضعفاً في الفترة الممتدّة بين عامي 2011 و2015، وتراوحت بين 120 ألف شخص سنوياً في حدّها الأدنى في العام 2015 وصولاً إلى 610 ألف في حدّها الأقصى في العام 2014. ويعود ذلك بشكل أساسي إلى تدفّق اللاجئين السوريين هرباً من الحرب السورية. أمّا المنحنى الثاني فقد سُجّل منذ العام 2015، وفي خلال هذه الفترة شهد لبنان انكماشاً سنوياً مُتتالياً في عدد سكّانه استمرّ حتى العام 2021، ويعود ذلك بشكل رئيس إلى بدء هجرة الكثير من السوريين الذين وفدوا إلى لبنان بسبب الحرب في بلادهم، ولا سيما ذوي التعليم العالي ومن وجدوا سبيلاً نحو بلدان ثانية، ومن ثمّ إلى ارتفاع معدّلات الهجرة بين اللبنانيين منذ بدء الأزمة الاقتصادية في خريف العام 2019. أمّا المنحى الثالث فقد بدأ منذ العام 2022، مع معاودة تسجيل نمو سكاني ولكن بمعدّل يقلّ بنحو النصف عمّا كان عليه قبل بدء الحرب السورية.
تعبّر هذه البيانات عن تآكل النمو السكاني المُحقّق من خلال الهجرة نتيجة الأوضاع الاقتصادية القاتمة، وترافقه مع تبدّل في التركيبة السكانية، وهو ما سوف ينعكس حكماً في شكل الاقتصاد والمجتمع في الأعوام المقبلة. تميّز الاقتصاد اللبناني، أقلّه في السنوات التي تلت الحرب الأهلية، بضعف قطاعاته الإنتاجية على حساب القطاعات الخدمية، وهو منحى مستمر لليوم إنّما مع اقتصاد بحجم أصغر بكثير، فقد تراجع الاقتصاد اللبناني من 51 مليار دولار في العام 2019 إلى 24 مليار دولار في العام 2023. أيضاً بقيت القطاعات الخدمية تشكّل الحصة الأكبر من الاقتصاد بنسبة 69% بحسب الحسابات القومية لعام 2021، وهي بغالبيتها ذات إنتاجية مُنخفضة ولا تولّد وظائف، ما يؤدّي إلى استمرار ارتفاع البطالة بين المقيمين ولا سيما ذوي التعليم العالي، ليتمّ تصريفها بالهجرة واستقطاب عمالة أجنبية غير ماهرة لاستخدامها بأجور متدنية في القطاعات ذات الإنتاجية المنخفضة.
قد يبدو أن لا شيء قد تغيّر منذ انهيار العام 2019، ولكن في الواقع حدث الكثير من التغيرات بدءاً من انكماش الاقتصاد وتراجع الاستهلاك وتفقير شرائح واسعة من السكان. تكفي الإشارة إلى ارتفاع معدّل الفقر النقدي من 11% إلى 44% بين عامي 2012 و2022، فيما يعاني 79% من السكان من الفقر المتعدّد الأبعاد.
يترافق التدهور الاقتصادي والهجرة المستمرّة مع تغييرات ديموغرافية لافتة نتيجة اللجوء السوري في لبنان. ففي دراسة بعنوان «لبنان: الهجرات والأزمات»، يتحدّث الاقتصادي شربل نحاس عن تبدّلات جارفة في التركيبة السكانية للبنان، وبحسب التحليلات الديمغرافية الواردة في الدراسة، يشكّل اللبنانيون حالياً نحو 47% من الفئات العمرية التي تقل عن 15 عاماً في مقابل 53% لغير اللبنانيين وهم في معظمهم سوريين. وبحسب الدراسة، في حال استمرّ المنحى على حاله فقد يصل عدد اللبنانيين في هذه الفئة العمرية إلى 32% في خلال 15 عاماً في مقابل 68% لغير اللبنانيين. أمّا في الفئة العمرية التي تزيد عن 64 عاماً فيشكّل اللبنانيون نحو 91% منها، وفي الفئة العمرية بين 16 و64 عاماً يشكّل اللبنانيون 70%، والأرجح أن تتراجع نسبتهم إلى 54% في خلال 15 عاماً. ما تقوله الدراسة بصراحة هو أن مستقبل المجتمع في لبنان لن يكون كما كان قبل انهيار العام 2019، ففي حين يهاجر ذوي التعليم العالي والمهارات العالية من لبنان، يبقى الأقل تعليماً والأدنى مهارة من دون فرص مماثلة للهجرة ليتعايشوا مع اقتصاد أصغر وأفقر.