معاينة reconstruction

هل تكون إعادة الإعمار الآتية فرصة ضائعة أخرى؟

1. أزمة جديدة تضاف إلى طبقات من الأزمات

لا يوجد حتّى الآن أي مسح نهائي وشامل لحجم الدمار الفعلي الناجم عن 416 يوماً متواصلاً من العدوان الإسرائيلي على لبنان، لكن الأكيد بحسب تحليلات صور الأقمار الاصطناعية الصادرة عن مراكز بحثية مُختلفة، وتقديرات لجان المسح الميداني العاملة على الأرض، ومشاهدات من عايشوا مآسٍ سابقة، أن حجم التدمير المُمنهج الذي اعتمدته إسرائيل في حربها على لبنان كبير، وقد يتجاوز ضعفي أو ثلاثة أضعاف ما تسبّبت به حرب تموز 2006.

يقول حسين خير الدين، مدير شركة «معمار» التابعة لـ«جهاد البناء» وتتابع عملية مسح الأضرار الناجمة عن العدوان الإسرائيلي، في اتصال مع موقع «صفر» إنه «لا يوجد أي مسح نهائي ولا أرقام أولية عن حجم الدمار». حتى الآن، أنجزت شركة «معمار» مسحاً لنحو 50,000 وحدة سكنية في مختلف المناطق اللبنانية باستثناء القرى الحدودية مع فلسطين المحتلّة وعددها 40 قرية لا يزال الجيش الإسرائيلي موجوداً فيها أو يمنع دخولها. وتبيّن بحسب خير الدين أن «هناك نحو 300 مبنى مدمّراً في الضاحية الجنوبية لبيروت و300 مبنى آخرَ متضرّراً، علماً أن بعضها متضرّر بشدّة وغير قابل للترميم ما يعني أنه قد يتعرّض للهدم وإعادة البناء ليرفع بالتالي عدد المباني المدمّرة. ما يعني أن الأضرار المرصودة حتى الآن تشكّل أكثر من ضعفي الدمار الواقع في الضاحية بعد حرب العام 2006، حين جرى تدمير نحو 256 مبنى». ويتابع خيرالدين «لقد استندنا إلى هذه الأرقام الأولية لوضع تقديرات لحجم الدمار الكلي. ففي خلال حرب تموز، جرى تدمير نحو 17,500 وحدة بالكامل، ولحقت أضرار بنحو 130,000 وحدة أخرى. أمّا اليوم فيرجح أن لا يقلّ الدمار عن ضعفي ما نتج عن حرب تموز، مع احتمال أن يصل إلى ثلاثة أضعاف». وهذا يعني أنه قد يكون هناك ما لا يقل عن 46,000 وحدة مبنية مُدمّرة بالكامل و260,000 وحدة أخرى متضرّرة بشكل جسيم أو طفيف، أي ما مجموعه 306,000 وحدة في مختلف المناطق اللبنانية.

قد يكون هناك ما لا يقل عن 46,000 وحدة مبنية مُدمّرة بالكامل و260,000 وحدة أخرى متضرّرة بشكل جسيم أو طفيف، أي ما مجموعه 306,000 وحدة في مختلف المناطق اللبنانية

تتجاوز هذه الأرقام غير النهائية، التقديرات الأولية التي وضعها البنك الدولي بما لا يقلّ عن ثلاثة أضعاف. ففي تقييم أولى لأثر الحرب على لبنان، أشار البنك الدولي إلى وجود ما لا يقل عن 99,209 وحدة سكنية مُتضرّرة أو مدمّرة حتى 27 تشرين الأول/أكتوبر 2024 (أي قبل شهر من وقف إطلاق النار)، وهو ما يقارب 8% من مخزون الإسكان في المناطق التي خضعت للتقييم. ومن بين هذه الوحدات المُتضرّرة، تمّ تقييم 18% على أنها مدمّرة بالكامل و82% على أنها متضرّرة جزئياً. قدّر البنك الدولي الأضرار المادية الناجمة عن تدمير الأصول المادية، أو بمعنى آخر قيمة الأكلاف الحالية لاستبدالها، بنحو 3.4 مليار دولار من ضمنها 2.8 مليار لقطاع السكن. لا تتوقّف أكلاف الحرب عند الأضرار المادية، بل يشير البنك الدولي إلى خسائر اقتصادية بقيمة 5.1 مليار دولار ناتجة عن المداخيل السنوية الفائتة التي تكبّدتها 7 قطاعات في 6 محافظات إدارية شملها التقييم في خلال 12 شهراً من الحرب، وهي ناجمة بشكل أساسي عن تراجع الإنتاج والخدمات في هذه القطاعات، أو التوقف عن العمل نتيجة الإغلاق القسري ونزوح العمّال وأصحاب العمل، فضلاً عن فقدان الوظائف، وتعطيل سلاسل التوريد، وتراجع الاستهلاك الذي مثّل 134% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2023.

في الحالتين، تُعتبر الأرقام المعروضة غير نهائية ولا حاسمة بل مجرّد تقديرات أولية وناقصة. وهذا يعني أن الخسائر والأضرار قد تكون أقل أو أكثر، ولا سيما أن تقديرات البنك الدولي سبقت انتهاء الحرب وتوسّعها لتطال مناطق جغرافية أوسع، وأيضاً لعدم شمول التقييم الأولي كلّ القطاعات الاقتصادية المتضرّرة وكل المناطق المدمّرة ولا سيما قرى الشريط الحدودي.

بمعزل عن النتيجة النهائية، تبقى الأضرار كبيرة جدّاً وغير مسبوقة أقلّه في العقود الثلاثة الأخيرة. والأسوأ أنها تأتي فيما لبنان يعاني من أزمات مُتشابكة ومن فشل في معالجة أي منها. لقد مضى أكثر من خمس سنوات على الانهيار المصرفي والنقدي والمالي والاقتصادي، وتفكّك الدولة واضمحلال المؤسّسات العامة واندثار خدماتها. قبل العدوان الإسرائيلي، عانى 79% من سكان لبنان من الفقر على المقياس المُتعدد الأبعاد، وهاجر ما لا يقل عن 400 ألف شاب وشابة بين عامي 2019 و2023، وتراجع الاقتصاد الحقيقي بنحو 34%، وشلّ القطاع المصرفي وتحوّلت المصارف إلى مصارف زومبي. ومع ذلك، لم تتّخذ أي خطوة لعكس هذا الاتجاه الانحداري، لتأتي الحرب الأخيرة وتضيف بتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية طبقة إلى طبقات من الأزمات.

يضع هذا الواقع لبنان أمام استحقاق يعكف الجميع على الهروب منه، وهو الحاجة إلى إعادة إعمار شاملة تكون معالجة دمار الحرب جزءاً منها، وتشمل شكل الدولة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية.

2. الدولة مطلوبة «على القطعة»

منذ بدء العدوان الإسرائيلي في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، غابت الدولة عن أي دور فاعل في التصدّي للأخطار التي يمثّلها العدو كما للتداعيات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن عدوانه. طوال الأشهر الإحدى عشرة الأولى من الحرب، تعاملت الدولة اللبنانية مع الحرب الدائرة في الجنوب كما لو أنها تحصل في بلد أخرى. وحتّى بعد تصعيد الاعتداءات انكفأت عن دورها في معالجة أزمة النزوح وتأمين الإيواء للنسبة الغالبة من النازحين وتأمين الحاجات الأساسية لهم، واكتفت بتأدية دور الوسيط بين المنظّمات الدولية والنازحين.

لم يختلف الأمر بعد إعلان وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني/نوفمبر، إذ لم يُعلن عن أي رؤية أو خطة رسمية لإعادة الإعمار أو تمويل هذه العملية. واكتفى مجلس الوزراء بالانعقاد مرّتين فقط لمناقشة بعض الأمور الإجرائية. في الرابع من كانون الأول/ديسمبر الحالي، قرّر مجلس الوزراء تخصيص مبلغ 700 مليار ليرة (7.8 مليون دولار) لمجلس الجنوب و300 مليار ليرة (3.4 مليون دولار) للهيئة العليا للإغاثة من أجل تأمين مساعدة النازحين من قراهم والصامدين فيها، ومتابعة احتياجات الجرحى وتقديم المساعدات والأشغال التي يحتاج إليها الأهالي في بلداتهم وغيرها من المساعدات العينية والمالية واللوجستية المرتبطة بأعمال الإغاثة. وفي جلسته الثانية في السابع من كانون الأول/ديسمبر، وافق مجلس الوزراء على سلفة بقيمة 4,000 مليار ليرة (44.7 مليون دولار) لرفع الركام ومسح الأضرار في المؤسّسات العامة والمستشفيات والمدارس ومنشآت المياه والطاقة والاتصالات وتصليحها. إلى ذلك، أحال مجلس الوزراء مشروعاً لتعديل القانون رقم 263/2014 المتعلّق بإعادة إعمار الأبنية المتهدّمة بفعل العدوان الإسرائيلي في 2006، كما طلب تعديل بعض مواد القانون 139/2019 المتعلّق بتسوية مخالفات البناء الحاصلة بين عامي 1971 و2018، فضلاً عن التوجّه لإجراء عقود بالتراضي لرفع الركام.

من الواضح أنه لا يوجد أي توجه جدّي ضمن الدولة اللبنانية الممثّلة بكل الأحزاب السياسية لتحمّل أي مسؤولية تجاه عملية إعادة الإعمار. تطالب الجهات السياسية المختلفة بالدولة على القطعة. في بداية الحرب، يشكو كثيرون من نفوذ حزب الله ومن غياب الدولة عن قرار السلم والحرب. وهم نفسهم يرفضون أي دور للدولة عندما تكون الحاجة إليها ملحّة لإدارة الشؤون الاجتماعية والاقتصادية بما فيها إعادة الإعمار، بما يسمح بتفكيك العلاقات الزبائنية القائمة، وإعادة عملية تأمين الحقوق إلى الدولة وربط المواطنون بها.

يشكو كثيرون من نفوذ حزب الله ومن غياب الدولة عن قرار السلم والحرب. وهم نفسهم يرفضون أي دور للدولة عندما تكون الحاجة إليها ملحّة لإدارة الشؤون الاجتماعية والاقتصادية بما فيها إعادة الإعمار

في اتصال مع موقع «صفر»، يقول النائب إبراهيم منيمنة «نحن نمرّ بمرحلة انتقالية تطال المنطقة ككلّ. هناك تغيرات كثيرة على المستوى السياسي وفي موازين القوى ولا بدّ من أن تنعكس في عملية إعادة الإعمار، وأن تتشارك جميع الأطراف في رسم رؤية لإعادة الإعمار تحت سقف الدولة. ولكن لا يوجد أي تحرّك في هذا الإطار حتى الآن، ولا يوجد أي تدخل فاعل للمؤسّسات الدستورية في مسار إعادة الإعمار بحجة عدم توافر الإمكانات، تصدر حكومة تصريف الأعمال قرارات من دون العودة إلى مجلس النواب، ويبادر حزب الله إلى العمل بما أمكنه. وهذا ما يزيد المخاوف من تكرار تجارب سابقة وأن يعيد النظام إنتاج نفسه». 

بالفعل، باشر حزب الله المسار الإجرائي فيما يتعلّق بتأمين الإيواء ومسح الأضرار وفق ما عبّر عنه الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم في خاطبه الأخير. يشير المدير العام للمركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، عبد الحليم فضل الله، في حديث مع «صفر» إلى أن «هذه الإجراءات أساسية لإطلاق عمليات دفع التعويضات ومن ثمّ إعادة البناء والترميم، والتي سوف يتكفّل حزب الله بكل التكاليف نظراً للإمكانات المالية الضعيفة للدولة».

في خلال حرب تموز لم تخصّص الدولة أموالاً ضمن الموازنة العامة لدفع التعويضات وإعادة بناء البنية التحتية وإنما اعتمدت على المساعدات الخارجية، واليوم تعاني الدولة من تراجع في إيراداتها، ويترافق ذلك مع ضمور في المساعدات الخارجية. يقول فضل الله «لقد أجريت جولات على دول عربية عدّة من أجل المساهمة في عملية إعادة الإعمار، وفي حين عبّرت هذه الدول عن حسن نية ولكنها لم تبدِ أي حماس لتمويل المسار. وفي حال حصل تمويل، يرجع أن يكون على شكل مساعدات عينية وليس مالية. تقدر اليوم عملية إعادة بنحو 4 مليارات دولار، من دون تكاليف الإيواء وغيرها من تكاليف غير مباشرة قد تظهر تباعاً، ومع ذلك سوف يتكفل حزب الله بكل التكاليف».

3. ما هو شكل إعادة الإعمار الذي نحتاجه اليوم؟

هذه ليست المرّة الأولى التي يشهد فيها لبنان ورشة لإعادة الإعمار. أدّى توالي الحروب والكوارث إلى اختبار أشكال مختلفة من إعادة الإعمار، وقد أفضت جميعها بحسب المعمار ونقيب المهندسين السابق جاد تابت إلى «تغييب المصلحة العامة، إذ اشتركت في عدائها للمؤسسات العامة، وعبّرت عن الضعف البنيوي والمزمن للدولة وتراجع قدراتها على التدخل في قضايا الاقتصاد والتنمية والإعمار». ومن ضمن تلك النماذج، برزت محاولات إعادة الإعمار عبر المؤسّسات العامة، وأبرزها مشروع إعمار وسط بيروت بعد حرب السنتين ومشروع «إليسار» لإعادة إعمار الضاحية الجنوبية، وبحسب تابت «فشلت التجربتان بسبب الرفض الأيديولوجي الذي أحاط تدخل الدولة في قضايا التنمية». أيضاً تبرز تجربة إعادة الإعمار وفق النموذج النيوليبرالي، بحسب أستاذة الدراسات الحضرية والتخطيط في الجامعة الأميركية في بيروت منى فواز، وذلك «إمّا عبر الشركات الخاصّة الذي عبّر عن مشروع «سوليدير»، وقام على مبدأ تلزيم إعادة الإعمار لشركة خاصّة ذات امتيازات استثنائية، وأدّى في النهاية إلى إفراغ وسط العاصمة وتحويله إلى المضاربة العقارية»، أو عبر منظّمات المجتمع المدني كما حصل بعد انفجار المرفأ، وهو «نموذج قام على تدمير الشعور التعاوني بين سكّان الحيز الواحد وعزّز التنافس بينهم للحصول على دعم المنظّمات». أيضاً تبرز تجربة «وعد» لإعمار الضاحية الجنوبية بعد حرب تموز 2006، التي تختلف عن كلّ هذه المشاريع لناحية التشاركية المُعتمدة وإدماج السكان في عملية الإعمار، لكنها بحسب تابت «تشارك النماذج الأخرى رفضها تدخّل المؤسّسات العامة بحجة بطئها وغير فعاليتها».

الدمار يطال جغرافية الوطن، وليس موضعياً. وهذا يعطينا فرصة للتفكير بإعادة إعمار شاملة ومُتكاملة على مستوى الوطن، وهو ما لم يحصل مرّة واحدة في تاريخ هذه البلاد

لكلّ نموذج سياقه الخاص وحقبته وتوجّهاته الأيديولوجية والسياسية. واليوم في ظل الأزمات المتعدّدة التي تمرّ بها البلاد وتفكّك المؤسسات العامة وضعف الدولة، ما هو شكل إعادة الإعمار الذي يحتاجه المجتمع؟ هل المطلوب مجرّد إعادة إعمار موضعية أم إعادة إعمار شاملة تشمل التفكير بشكل الدولة والنظامين السياسي والاقتصادي؟

يقرّ بعض الاقتصاديين والمخطّطين المدنيين والمعماريين، الذين استطلع موقع «صفر» آراءهم، إلى أن إعادة الإعمار الشاملة مُلحّة وضرورية. تقول منى فواز أن «التخطيط الحضري ليس بديلاً عن عملية أوسع للتعافي الوطني تعمل على استعادة المساءلة والثقة في الهيئات العامة واستعادة العمليات الديمقراطية في إدارة بلد مزّقته سنوات من الحكم الجائر. ولكن يمكن للتخطيط الحضري أن يكون مدخلاً للتركيز على البعد المشترك للحياة في المدينة والتحيّز للعمليات التشاركية التي تجمع الناس للنظر في كيفية تصوّرهم لمستقبلهم بشكل جماعي». فيما يشير المعمار رهيف فياض الى إننا «أمام فرصة لم تتوفر يوماً، لأن الدمار يطال جغرافية الوطن، وليس موضعياً. وهذا يعطينا فرصة للتفكير بإعادة إعمار شاملة ومُتكاملة على مستوى الوطن، وهو ما لم يحصل مرّة واحدة في تاريخ هذه البلاد». في المقابل، يرى المعمار جاد تابت أن «إعادة الإعمار موضوع سياسي بامتياز، ولا يمكن الحديث عن إعادة الإعمار بمعزل عن شكل الدولة والاقتصاد. وكل تجارب الإعمار التي حصلت في لبنان ارتبطت بطابع الدولة والاقتصاد لكل مرحلة. واليوم لن تكون عملية الإعمار إلا تعبيراً عن الخيارات السياسية والاقتصادية لهذه المرحلة التي لا أحد يعرف شكلها بعد».

الاحتمال المرتفع لاصطدام الحاجة الملحة لإعادة الإعمار الشامل مع المصالح الراسخة، هو المرجّح، تماماً كما حصل في التجارب السابقة، وكما حصل بعد انكشاف انهيار القطاع المصرفي. ولكن ذلك لا يحول دون محاولة استغلال الفرصة ولو لتحقيق بعض المكاسب أو بعض التحسينات. بالنسبة إلى رهيف فياض «تحمل هذه البلاد إرث 400 سنة من الإقطاع والاستعمار، ومن غير السهل التخلّص منها، ولكن لا بد اليوم من النظر إلى الوطن ككل وعدم فصل الجنوب عن طرابلس عن بيروت، وإنما ابتكار الحلول التي تسمح ببناء وطن، ولا بد من العمل بما هو متوافر»، ويرى فياض أن الآلية العملية لإطلاق هذا المسار هو «إنشاء هيئة عليا أساسها الدولة، وتضمّ مكمّلات للدولة أي ممثلين عن الأطراف المانحة والمموّلة والتقنيين، تكون تحديد الحالات التي تحتاج إلى إعادة إعمار، أن تضع تصوراً لتعدد هذه الحالات فتقوم بربطها ببعض اقتصادياً واجتماعياً لإعطاء معنى لوحدات الجغرافيا الوطنية وهو ما لم يحصل يوماً، وبالتالي خلق علاقات ضمن الوطن وبنائه». 

لا بدّ بداية من الاعتراف بأن تجارب لبنان السابقة في التعافي بعد الكوارث كانت فاشلة. وأن تفويض أدوار التنسيق والتنظيم إلى جهات غير حكومية، سواء شركات خاصّة أو منظّمات مجتمع مدني أو أحزاب سياسية، أدّى إلى تعزيز آثار الحروب التي سبقتها

أما منى فواز فترى أنه «لا بدّ بداية من الاعتراف بأن تجارب لبنان السابقة في التعافي بعد الكوارث كانت فاشلة. وأن تفويض أدوار التنسيق والتنظيم إلى جهات غير حكومية، سواء شركات خاصّة أو منظّمات مجتمع مدني أو أحزاب سياسية، أدّى إلى تعزيز آثار الحروب التي سبقتها. على لبنان أن يتعلّم من الكوارث السابقة التي تسبّبت بتآكل الثقة في الدولة وتقويض ما تبقى من الشعور الجماعي بين المواطنين في المناطق المتضرّرة. وبدلاً من البناء على التضامن المجتمعي الذي يبرز أثناء اندلاع العنف، كما شهدنا أثناء العدوان الإسرائيلي وبعد انفجار المرفأ، وضع جهود التعافي التي تقودها جهات غير حكومية المواطنين في منافسة مع بعضهم البعض على التعويضات المالية الضئيلة، وهذا ما عزّز الأنماط التي سبقت الحروب وكانت سبباً في آثارها الفادحة». وتتابع فواز «لا يعني ذلك أن تتولّى المؤسسات العامة المسؤولية الكاملة عن مشاريع إعادة الإعمار، بل  أن تودّي دوراً مركزياً على المستويين التنظيمي والتخطيطي في صياغة رابطة مباشرة بين المواطنين والدولة، من دون وساطة أطراف ثالثة، وبالتالي تحقيق المساواة بين المواطنين من دون محسوبيات، وتشجيع العمليات الجماعية التي تجمع بين السكان في المناطق المدمرة من خلالها إعطاء الصالح العام الأولوية على المصالح الخاصة الفردية». وتضيف فواز «قد لا تكون إمكانية الإعمار الشاملة متوافرة اليوم نظراً لحاجة الناس إلى الإيواء السريع، ولكن لا بد من بعض الإجراءات التي تعيد ربط المواطنين بدولتهم. أولاً يتعيّن على البرلمان أن يقرّ استثناءً لمرّة واحدة على قانون البناء للسماح للأشخاص الذين اقتصّت منهم إسرائيل لمجرّد كونهم مؤيدين لحزب الله أو يقيمون في مناطق تعتبرها مناطق نفوذه، من إعادة بناء منازلهم بالشكل التي كانت عليه. اليوم هناك قرى بنيت قبل صدور قانون البناء، ولذلك لا بد من إقرار استثناء يسمح بإعادة بنائها بالشكل الذي كانت عليه وبما يناسب سكانها ويحافظ على طابعها من دون الالتزام بقانون البناء. والأمر نفسه ينطبق على المباني المدمّرة في المدن، وتحديداً في الضاحية الجنوبية لبيروت. من المعروف أن الكثير من تلك المباني بنيت بمخالفات ولكن جرى تسوية أوضاعها ودفع الغرامات المترتبة عليها. لكن إعادة إعمارها اليوم لا تخضع لقانون التسوية بل لقانون البناء وبالتالي لا بد من إصدار استثناء للتمكّن من إعادة بنائها خصوصاً أنها سبق أن سوّت أوضاعها، والأهم كي لا تتكرّر التجارب السابقة التي تفرض على المواطنين تسليم أنفسهم للأحزاب، على سبيل المثال في العام 2006، لم تصدر البلديات رخص للأهالي بسبب غياب الإطار القانوني، يومها رفضت أطراف مناوئة لحزب الله إصدار استثناءات على قانون البناء، وشاع خطاب يجرّم الناس الذين اضطروا لبناء بيوتهم بمخالفات لأسباب مختلفة فيما كان يتم غض الطرف عن استثناءات تلو الأخرى صدرت لصالح سوليدير، عندها أتت وعد وخالفت القوانين وعمّرت المباني، وبعد الانتهاء من البناء سوّت المخالفات بقانون صدر في العام 2014، ولكن بهذه الآلية سلّم المواطنون أنفسهم لحزب الله الذي حمى حقوقهم نظراً لتمنّع الدولة عن إصدار تشريع بسيط عادت وأصدرته. ثانياً لا بدّ من وضع إطار للتعويضات يمرّ من خلال الدولة لخلق هذه العلاقة بين المواطن والدولة، كما يجب إنشاء لجان بلديات والسماح للبلديات بتأدية دورها بإصدار الرخص وغيرها من الإجراءات التي تسهّل عملية البناء من دون فكفكة علاقة المواطن بدولته.

في المقابل، يعتبر مدير عام المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، عبد الحليم فضل الله أن «إستراتيجية إعادة الإعمار متشابكة لأنها تشمل كل الوطن والشرائح الطبقية والمناطق المختلفة، ولأنها تتعامل مع أنماط مختلفة من التدمير بما فيه التدمير الاقتصادي، وأصعب ما فيها هو إدارتها. لكن بالعودة إلى الواقع اللبناني، لا تملك الدولة موارد مالية وهي ضعيفة أمام تشابك المصالح الاقتصادية والسياسية فيها. من هنا، برزت تجربة وعد التي يمكن تكرارها، إذ سمحت للمجتمع أن يعيد ترميم نفسه بمعزل عن الدولة أو بالتشابك معها بحدود دنيا. ولكن الحرب الأخيرة أثبتت أن الدولة والمؤسّسات تحمي المقاومة وترفع عنها عبئاً، لذلك لا بد أن يكون للدولة دور في التشريع عبر تعديل قانون البناء لتسهيل عملية الإعمار وتخفيض الرسوم الجمركية على مواد البناء لفترة من الزمن ولأغراض الإعمار ومكافحة الغلاء، ودعم الصناعات القادرة على التكيف السريع لتلبية حاجات الإعمار. ومعالجة هذه المسائل يسمح بتطوير الإدارة والاقتصاد في خضم عملية إعادة الإعمار».