Preview دعم اوروبا لمصر

الدعم الأوروبي لمصر
المال في مقابل ضبط الهجرة

مع تزايد التوترات الإقليمية في المنطقة العربية، تتزايد المخاوف من عمليّات النزوح من مراكز التوتر، مثل السودان وسوريا واليمن وفلسطين، نحو دول أوروبا عبر دول جنوب المتوسِّط ومن ضمنها مصر، التي تحظى باهتمام أوروبي على اعتبارها دولة عبور للمهاجرين إلى أوروبا سواء بشكل مباشر أو عبر ليبيا.

من هنا جاء الدعم الأوروبي الكبير لمصر، بالتزامن مع القمّة الأوروبية المصرية التي انعقدت في القاهرة في 17 آذار/مارس الماضي، وجرى في خلالها الاتفاق على ترفيع العلاقات المصرية الأوروبية، ودعم أوروبا للاقتصاد المصري بحزمة مساعدات واستثمارات وقروض بلغت 7.4 مليار دولار.

يأتي هذا الدعم الأوروبي بعدما أثبتت مصر قدرتها على السيطرة على ساحلها المتوسِّطي، الذي ينقل المهاجرين غير النظاميين في قوارب الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا. منذ الربع الأخير من العام 2016، لم تسجِّل السواحل المصرية على المتوسِّط خروج أي مركب للهجرة غير النظامية، نتيجة تشديد السلطات المصرية العقوبات على القائمين على الهجرة غير النظامية، وتشديد السيطرة الأمنية على ساحل المتوسِّط.

اتفاقية الدعم الأوروبي لمصر سبقتها اتفاقية أخرى مع موريتانيا للهدف نفسه. كما أبرم الاتحاد الأوروبي اتفاقية سابقة مع تونس. وتعدُّ الاتفاقيات الأوروبية مع الدول التي تستقبل النازحين من بؤر التوتر في المنطقة بمثابة دعم معتبر لتلك الدول لقاء خدماتها في ضبط الهجرة نحو أوروبا، وبالتالي لا ترتبط في المقام الأول بدعم النازحين أو تحسين أوضاعهم أو حتى حمايتهم، بدليل أن الدول غير المشاطئة للمتوسط، والتي لا يؤهِّلها وضعها الجغرافي لتكون محطة عبور إلى أوروبا لا تحظى باتفاقيات مثيلة، إذ لا خوف من عبور النازحين فيها إلى أوروبا. وتبرز تشاد كمثال نموذجي عن أهلية الموقع الجغرافي بالنسبة لأوروبا في حين أنها أكبر دولة مستقبلة للنازحين من السودان.

واقع النزوح في مصر بالأرقام

لم تحل الأوضاع السياسية المتقلّبة التي شهدتها مصر عقب ثورة كانون الثاني/ يناير 2011 دون تدفّق موجات النزوح والهجرة إليها. تتداول التصريحات المختلفة وتشير وسائل الإعلام المصرية إلى أن عدد اللاجئين في مصر من مختلف الجنسيات يتراوح بين 9 ملايين إلى 10 ملايين لاجئ، وهو رقم بعيد جداً من الإحصاءات الرسمية. تشير بيانات مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، حتى نهاية آذار/مارس الماضي إلى أن عدد اللاجئين المسجَّلين لديها في مصر يبلغ نحو 600 ألف لاجئ، من ضمنهم نحو 294,857 لاجئ من السودان، ونحو 156,169 لاجئ من سوريا، ونحو 41,001 لاجئ من جنوب السودان، ويضاف إليهم نحو 34,858 لاجئ من إريتريا، و18,063 لاجئ من أثيوبيا، و8,638 لاجئ من اليمن، و5,658 من العراق، و7,828 من الصومال. بالإضافة إلى نحو 24 ألف لاجئ من 54 جنسية أخرى. 

ويجدر التوقف هنا عند معدلات الزيادة في أعداد اللاجئين، إذ تشير بيانات مفوّضية اللاجئين إلى أن عدد اللاجئين السودانيين في مصر في نهاية شباط/فبراير الماضي بلغ نحو 267,227، أي أنه ارتفع في شهر واحد بواقع 27,630 لاجئاً، ما يبيِّن تزايد معدّلات اللاجئين السودانيين بالذات في مصر خصوصاً مع التطوّرات الجارية في السودان، التي لا تبدو لها نهاية قريبة.

يعود التباين الحاد في الأرقام إلى الخلط بين اللاجئين والمقيمين في مصر. تعتبر مفوّضية اللاجئين أن اللاجئين في مصر هم المسجّلين لديها بوصفهم لاجئين فقط وليس كل المهاجرين. بينما المتداول إعلامياً هو عدد المهاجرين أو المقيمين بشكل دائم في مصر، وهذا ما تعكسه أيضاً بيانات المنظّمة الدولية للهجرة، والتي تبيِّن أن عدد المهاجرين المقيمين في مصر في آب/أغسطس 2022، بلغ نحو 9 ملايين مهاجر من 133 دولة، بما يعادل 8.7% من عدد السكّان. ويتصدّر السودانيون النسبة الأكبر منهم بنحو 4 ملايين مهاجر، يليهم السوريون بنحو 1.5 مليون لاجئ، ومن ثمّ اليمنيين والليبيين بنحو مليون لاجئ لكلّ منهما، ليشكِّلوا معاً 80% من المهاجرين في مصر.

مع ذلك، لا يمكن اعتبار المهاجرين أو المقيمين بشكل دائم في مصر عبئاً على الاقتصاد والمجتمع كما تعلو بعض الأصوات من وقت لآخر. من بين الملايين التسعة، هناك مقيمون للتعليم أو للعمل أو للزواج أو للاستثمار. وتفيد بيانات المنظّمة الدولية للهجرة أن 37% من المهاجرين إلى مصر يعملون في وظائف ثابتة، و60% منهم مندمجون في المجتمع المصري منذ عشر سنوات و6% مندمجون منذ 15 سنة، كما تمثل بعض شرائح المهاجرين إضافة جيّدة للاقتصاد، إذ تبلغ استثمارات 30 ألف مهاجر سوري في مصر نحو مليار دولار، فيما تعرِّف المنظّمة نحو 1.3 مليون مهاجر (15% من المهاجرين) بأنهم مهاجرون مستضعفون، أي بحاجة لمساعدة.

مصدِّر قديم  للعمالة

قد تبدو المخاوف الأوروبية العابرة للمتوسّط مبرّرة. فهذه المنطقة مضطربة، وتدفع المزيد من اللاجئين والمهاجرين من بؤر التوتّر المشاطئة للمتوسِّط. ومع تدهور الوضع في السودان واستمرار حرب الإبادة الجماعية ضدّ الفلسطينيين، تزيد احتمالات تنامي موجات النزوح العابرة للمتوسّط نحو أوروبا. ومن هنا، يزيد الدعم الأوروبي لدول جنوب المتوسّط من أجل حراسة سواحل المتوسط من ناحية واستيعاب موجات النزوح في أراضيها من ناحية أخرى. ويأتي هذا الدعم على الرغم من الانتقادات الأوروبية التي توجّه إلى هذه البلدان في ملفات أخرى، على سبيل المثال ملف الحرّيات وحقوق الإنسان في مصر. 

مع ذلك، لأوروبا مبرّر آخر لدعم مصر وهو كونها مصدر قديم لتدفق العمالة اللانظامية. ففي حين تستقبل مصر نحو 9 إلى 10 ملايين مهاجر على أراضيها، يصل عدد المهاجرين المصريين في الخارج إلى 14 مليون بحسب تصريحات حديثة لوزيرة الهجرة، وتعدّ تحويلاتهم من أهم مصادر النقد الأجنبي للبلاد. ولا ترتبط الهجرة المصرية باضطرابات سياسية أو عدم استقرار، فمصر منذ زمن بعيد بلد مصدِّر للعمالة، وتتزايد هجرة المصريين بحثاً عن العمل مع استمرار الأزمة الاقتصادية وتضخّمها.

والحقيقة أن سيطرة مصر على ساحلها الشمالي لم تعنِ انتهاء الهجرة غير النظامية للمصريين. فهؤلاء يمكنهم دائماً استبداله بالساحل الليبي الأقل سيطرة. وعلى الرغم من عدم وجود إحصائيات رسمية بأعداد المهاجرين المصريين غير النظاميين إلى أوروبا، إلا أن الحالات التي يعلن عنها عند غرق قوارب الهجرة واعتقال المهاجرين غير النظاميين في دول أوروبا، تبين أن الأعداد ليست هامشية وتمثل نسبة كبيرة من المهاجرين غير النظاميين. على سبيل المثال، أعلنت الداخلية الإيطالية وصول نحو 8 آلاف مصري بشكل غير قانوني في العام 2023، فيما وصل 16 ألف مهاجر مصري غير قانوني إلى إيطاليا في العام 2022، وتم توقيف 26 ألف مصري على الحدود الليبية في العام 2021 كانوا في طريقهم للهجرة لأوروبا.

لا تمثّل هذه الأرقام سوى نسبة ضئيلة من حجم الهجرة غير النظامية للمصريين إلى أوروبا عبر ليبيا وأحياناً تونس. والأهم أن هذه الهجرة ليست مدفوعة بحالة عدم استقرار أو اضطرابات كالتي تعيشها بلدان أخرى في المنطقة، بل هي محاولات للبحث عن فرص عمل أفضل، في بلد يعاني من أزمة اقتصادية ويعيش ثلث سكّانه تحت خطّ الفقر.

هكذا تبدو شواغل الاتحاد الأوروبي تجاه مصر أبعد من كونها محطّة عبور للنازحين من بؤر التوتر إلى أوروبا. صدّرت مصر المستقرّة «أمنياً» نحو 14 مليون مهاجر، ولا تزال قوارب الهجرة تعجّ بالمهاجرين المصريين غير النظاميين، وأي خلخلة للاستقرار في مصر هو كابوس لدول الاتحاد الأوروبي، وهذا ما ألمح إليه بالفعل مسؤولون مصريون في مناسبات مختلفة. وهذا أيضاً ما تحدّثت عنه مجلة «إيكونوميست» صراحة، في شباط/ فبراير الماضي، إذ على الرغم من كل الانتقادات الموجّهة إلى النظام المصري، لا تتحمّل المنطقة ولا العالم اضطرابات في مصر ناتجة عن الأزمة الاقتصادية. لا بسبب موجات الهجرة التي قد تنتج عن عدم الاستقرار في بلد يضم 110 ملايين نسمة، ولكن أيضاً لمركزية الدور المصري الضابط في صراعات وتحالفات المنطقة، والذي قد يأخذ منحى درامياً لا يريده أحد إذا اهتزّ الاستقرار في مصر.

تحت عنوان دعم مصر لاستقبال النازحين من بؤر التوتر ودعم تحوّل مصر نحو الطاقة المتجددة، قدّم الاتحاد الأوروبي حزمات دعم معتبرة إلى الحكومة المصرية، تضاف إلى حزمات قروض حصلت عليها من صندوق النقد الدولي، وهي إن دلّت فعلى أن النظام المصري كسب رهانه على أن اهتزاز الاستقرار في مصر لن يكون محمولاً لا على صعيد المنطقة ولا على الصعيد العالمي، وأن دعم هذا الاستقرار مهما تأخّر سيأتي.