مصر على حافة الهاوية: التمسّك بوهم الصندوق

في 16 كانون الأول/يناير، وافق مجلس إدارة صندوق النقد الدولي على قرض جديد لمصر بقيمة 3 مليارات دولار، من أجل تطبيق برنامج إصلاحات على 46 شهراً في إطار برنامج "تسهيل الصندوق المُمدَّد"، وهو برنامج يهدف إلى إقراض البلدان التي تشهد اختلالات كبيرة في المدفوعات بسبب معوِّقات هيكلية وضعف جوهري في ميزان المدفوعات. يأتي هذا القرض في إطار إحدى أخطر الأزمات المالية والاقتصادية التي تمرّ بها مصر، وساهمت عوامل عدّة بتسريعها أهمّها جائحة كوفيد-19، والحرب الروسية وما تبعها من ارتدادات اقتصادية أبرزها ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة والتضخّم. يُعبّر هذا القرض عن إخفاق تجربة مصر مع صندوق النقد الدولي والإصلاحات التي نتجت عنها. فمنذ عام 2016، نفّذت مصر ثلاثة برامج مع صندوق النقد الدولي: الأول في عام 2016 بقيمة 12 مليار دولار، الثاني في عام 2020 بقيمة 5.2 مليار دولار، والثالث في عام 2022. وكذلك حصلت على قرض طارئ من دون شروط للاستجابة للجائحة بقيمة 2.7 مليار دولار. بذلك، بلغ مجموع قروض مصر من الصندوق نحو 23 مليار دولار في 6 أعوام، ما يجعلها ثاني أكبر مدين من هذه المؤسّسة المالية الدولية بعد الأرجنتين. وعلى الرغم من ذلك تقف مصر الآن على حافة الهاوية، بعد أن أشادت قيادة الصندوق بنجاح تنفيذ البرنامج الأول، ونوّهت باستجابة السلطات المصرية للجائحة، وصمود مصر بوجه التحدّيات.

الضغط على احتياطيات العملات الأجنبية أجبر الحكومة على قبول أحد شروط صندوق النقد الأساسية من أجل إقراض مصر، أي اعتماد مرونة سعر الصرف، ما يعني وقف تدخّل المصرف المركزي المصري من أجل الحفاظ على استقرار العملة

يجب التذكير هنا أنه من المفترض أن تكون تدخّلات الصندوق قصيرة الأمد وطارئة لمعالجة الاختلال في ميزان المدفوعات، ودفع الحكومات لإجراء الإصلاحات اللازمة من وجهة نظر الصندوق، من أجل تأمين الاستقرار المتوسّط والبعيد الأمد. لكن خلافاً لذلك، وافق الصندوق مراراً على برامج مُتتالية لبلد واحد، مثل مصر أو الأردن، اللذين يخضعان لبرامج الصندوق المُتتالية منذ عام 2012، ويشير ذلك الى أمرين أساسيين: إمّا السياسات التي يشترطها الصندوق على هذه الدول غير مناسبة ولا تصلح لمعالجة الأزمات البنيوية، أو أن الاعتبارات الجيوسياسية تطغى على الاعتبارات التقنية والسياساتية، وبالتالي يتمّ غض النظر عن عدم تنفيذ المشروطيات المطلوبة أو الاثنين معاً. أيّاً كانت الإجابة فهي إدانة لطريقة عمل صندوق النقد الدولي.

خلال هذا العام، كما العديد من الاقتصاديات الصاعدة، شهدت مصر استنزافاً كبيراً لاحتياطاتها بالعملات الأجنبية نتيجة عوامل عدّة أهمّها الحرب الروسية على أوكرانيا وما نتج عنها من أزمة غذاء، إذ كانت تستورد 80% من احتياجاتها من القمح من أوكرانيا وروسيا، عدا أن انعدام الاستقرار الذي نتج عن الحرب دفع الرساميل إلى الهروب من الأسواق الناشئة، مثل مصر، إلى أسواق أكثر استقراراً حتى لو بأسعار فائدة أقل. في خلال شهرين فقط، بين شباط/ فبراير وآذار/ مارس، شهدت مصر هروب 20 مليار دولار. إلى ذلك، شكّل ارتفاع أسعار الغذاء ضغطاً إضافياً على الاحتياطات بالعملات الأجنبية من أجل استمرار الدعم على الخبز.

بلغ مجموع قروض مصر من الصندوق نحو 23 مليار دولار في 6 أعوام، ما يجعلها ثاني أكبر مدين من هذه المؤسّسة المالية الدولية بعد الأرجنتين. وعلى الرغم من ذلك تقف مصر الآن على حافة الهاوية

إلى ذلك، إن إقدام البنك الفيدرالي الأميركي على رفع أسعار الفائدة بشكل كبير من 0% إلى 5% خلال عام 2022 كان له أثر مزدوج. أولاً عزّز هروب الرساميل، بحيث وصلت احتياطات مصر بالعملات الاجنبية إلى نحو 24.2 مليار دولار في تشرين الثاني/ نوفمبر (أي ما يساوي أقل من 3 أشهر من الاستيراد) من هذا العام، بالمقارنة مع 40.1 مليار دولار في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2019. هذا الضغط على احتياطيات العملات الأجنبية أجبر الحكومة على قبول أحد شروط صندوق النقد الأساسية من أجل إقراض مصر، أي اعتماد مرونة سعر الصرف، ما يعني وقف تدخّل المصرف المركزي المصري من أجل الحفاظ على استقرار العملة، ما أدّى الى ارتفاع كبير بالأسعار لتصل نسبة التضخّم إلى 21.5% في تشرين الثاني/ نوفمبر بحسب المصرف المركزي المصري. ثانياً، تضخّمت خدمة الدَّيْن نتيجة ارتفاع الفائدة، ومن المتوقّع أن تصل إلى 43% من الإيرادات العامّة في العام المقبل، لا سيّما بعد أن أقدمت مصر على زيادة أسعار الفائدة على دفعات عدّة، آخرها منذ أسبوعين، إذ رفع المصرف المركزي الفائدة بثلاث نقاط دفعة واحدة لتصل إلى 16.25% للإيداع و17.25% للاقتراض. وعلى الرغم من هذا الارتفاع، فشلت الحكومة المصرية بتأمين التمويل المحلّي اللازم من أجل سدّ عجز الموازنة، إذ طرحت سندات خزينة بالعملة المحلّية، ولكن رفضت معظم المصارف شراء هذه السندات طالبةً فوائد أعلى تصل إلى 25%. في خضم كلّ ذلك، استشعر المصريون الآفاق الاقتصادية القاتمة، ما دفع العديد منهم إلى استخدام بطاقاتهم المصرفية وسحب الأموال خارج مصر بالعملة الأجنبية، وغيرها من المحاولات لتأمين العملة الأجنبية تحسّباً للأسوأ، ما دفع المصرف المركزي إلى وضع سقف للسحوبات عند 100 دولار أميركي شهرياً.

كانت السلطات المصرية تأمل بالحصول على قرض أكبر ولكنها رفضت تنفيذ بعض السياسات الأساسية التي شدّد عليها الصندوق في المفاوضات، وأبرزها خروج الدولة الشامل من الأنشطة الاقتصادية (من ضمنها الجيش)، ورفع ما تبقى من الدعم، وخصوصاً على الخبز

في ظلّ هذا المشهد المُقلق حصلت مصر على قرضها الأخير من صندوق النقد، الذي يُعدُّ صغيراً جداً نظراً لاحتياجاتها، لكن هدفه استجرار المزيد من التمويل لسدّ الفجوة. كانت السلطات المصرية تأمل بالحصول على قرض أكبر ولكنها رفضت تنفيذ بعض السياسات الأساسية التي شدّد عليها الصندوق في المفاوضات، وأبرزها خروج الدولة الشامل من الأنشطة الاقتصادية (من ضمنها الجيش)، ورفع ما تبقى من الدعم، وخصوصاً على الخبز. في الواقع، يمسّ هذان الشرطان نظام السيسي بشكل مباشر، كون الجيش هو العماد الأساسي للحكم من جهة، ولأن مصر شهدت عبر تاريخها انتفاضات خبز من جهة أخرى. في حين لم تنشر تفاصيل البرنامج بعد، إلّا أن بيان الصندوق يركّز على ثلاث أمور أساسية. أوّلاً، إرساء المرونة الدائمة في سعر الصرف، أي ضمان عدم رجوع السلطات عن هذا القرار كون تمّ تعويم الجنيه ولكن عاد المصرف المركزي إلى التدخّل. ثانياً، "الضبط المالي لضمان تراجع مسار الدَّيْن العام"، أي بعبارة أخرى فرض التقشّف كي لا تتخلّف مصر عن سداد ديونها. وبالتالي ستشهد البلاد سياسات تقشّفية قاسية في ظل ارتفاع أسعار الفائدة، وستسعى الحكومة إلى تخفيض الإنفاق العام من أجل الحدّ من مسار ارتفاع المديونية وضمان سداد خدمة الدَّيْن. أما ثالثاً وربطاً بالتقشّف أيضاً، يشير البيان إلى أن البرنامج يهدف إلى إرساء "إصلاحات هيكلية واسعة النطاق لتقليص بصمة الدولة"، أي الخصخصة. وكانت السلطات قد وضعت خطّة خصخصة لزيادة حصّة القطاع الخاص في الاستثمار من 30% إلى 65%. ويشير الصندوق إلى أن البرنامج سيؤدّي إلى تحفيز تمويل إضافي لمصر بقيمة 14 مليار دولار، منها مليارين من الخصخصة، بالإضافة إلى التمويل من دائنين آخرين ومن دول مجلس التعاون الخليجي. أيضاً، طلبت مصر قرضاً إضافياً من الصندوق ضمن إطار ائتمان جديد أنشأه الصندوق هذا العام تحت مسمى " تسهيل الصلابة والاستدامة" يمكن أن يصل إلى مليار دولار.

ستشهد البلاد سياسات تقشّفية قاسية في ظل ارتفاع أسعار الفائدة، وستسعى الحكومة إلى تخفيض الإنفاق العام من أجل الحدّ من مسار ارتفاع المديونية وضمان سداد خدمة الدَّيْن

الأزمة التي تعيشها مصر ليست فريدة من نوعها من نواحٍ عدّة، خصوصاً أن عام 2022 كان قاسياً على معظم الدول النامية نتيجة عوامل عدّة، أبرزها ارتفاع أسعار الفائدة لدى المصرف المركزي الأميركي، والعديد من الدول تجد نفسها في أزمة ديون طاحنة تنذر بأن عام 2023 سيكون حافلاً بأخبار بلدان تعلن التخلّف عن سداد ديونها. ومعظم البلدان التي تجد نفسها الآن أمام خطر التخلّف ستفضّل الذهاب إلى صندوق النقد الدولي والإقدام على سياسات تقشّفية قاسية وقاتلة، كي لا تتخلّف أو تعيد هيكلة دينها من أجل تجنّب إغلاق الأسواق العالمية في وجهها. ولكن تكمن خصوصية مصر في موقعها الجيوسياسي ودورها وحجمها الكبير، وما يجوز لنظامها لا يجوز لغيرها. هذه الأزمة التي تعيشها والتي تنذر بالأسوأ يتحمّل فيها صندوق النقد الدولي جزءاً من المسؤولية، إذ أن البرامج المتكرّرة لم تنجح بإرساء دعائم اقتصاد قوي، بل عمّقت اللامساواة وأعطت نظام الحكم شهادات على أدائه الإصلاحي والاقتصادي. وهذه حكاية مُكرّرة.