مصر تحت حكم السيسي

  • مراجعة لكتاب «مصر تحت حكم السيسي: أمة على الحافة» لماجد مندور. يزعم الكتاب أنّه سرد لصعود الديكتاتورية العسكرية وزوال الاستبداد الليبرالي التقليدي لمرحلة ما بعد الناصرية. لكنّ أهميته تكمن بتحليل سياسات ما بعد 25 يناير في مصر بوصفها شكلاً استثنائياً من أشكال «الثورة السلبية» كعملية اجتماعية سياسية مستمرة تحافظ في خلالها النخب المهيمنة على سيطرتها من خلال الاستقطاب الانتقائي والمؤقّت لطبقات مختلفة ينتهي الأمر بكل منها إلى الهدوء والتهميش. وفي هذا الكتاب، كانت الثورة والنظام العسكري وتحالفهما المؤقّت تحت حكم السيسي، استمراراً لترتيبات اجتماعية حاولت تشكيل نظام سياسي في فراغ ما بعد الانهيار. 

يفاجئني أنّه قد مرّت علينا الذكرى الـ 13 لثورة 25 يناير المصرية. ظهرت العديد من النظريات والأوراق العلمية تحاول تفسير تطوّرات الأمور بعد ذلك اليوم. وتراوحت التفسيرات المقدّمة بين صعود «وضع ثوري» هيكلي وسقوطه، والتفاعل بين مراكز القوى المحلّية، والديناميات العالمية المتغيّرة، أو ببساطة عمل المحتالين الموهوبين. وعلى الرغم من الاختلافات بين هذه التفسيرات، فجميعها تشترك في شيء واحد: التركيز على شرير خارجي، قوّة (قوّات) معادية للثورة، حشد ما يكفي من السلطة للسطو على ثورة كانت مفعمة بالأمل.

في كتابه «مصر تحت حكم السيسي: أمة على الحافة»، يدحض ماجد مندور هذا النوع من الافتراضات القائلة بوجود تمييز جذري بين الضحايا والأشرار، والثوريين والمعادين للثورة. وبذلك، ينضم إلى مجموعة من المفكّرين النقديين، بقيادة عالمَي الاقتصادي السياسي الغرامشيين بريخت دي سميت وروبرتو روكو، تشدِّد على الضرورة التحليلية لفهم الثورات كـ«حرب (حروب) مواقع» تتبادل فيها جهات متعدّدة المقاعد – سواء كانت مقاعد أيديولوجية أو ثقافية أو سلطة سياسية – لصياغة نظام مهيمن جديد أو «شبه مهيمن». تمهِّد هذه القراءة الطريق لفهم الانهيار «بعد الثورة» كنتاج للذخيرة الثورية نفسها.

ثمة ضرورة تحليلية لفهم الثورات كـ«حرب مواقع» تتبادل فيها جهات متعدّدة المقاعد – سواء كانت مقاعد أيديولوجية أو ثقافية أو سلطة سياسية – لصياغة نظام مهيمن جديد أو «شبه مهيمن»

وقد استفدت في عملي الخاص من هذا النوع من التفكير للمشاركة في تأليف سلسلة من المقالات أعادت تصور حركة 25 يناير كلحظة جمعت بين طبقة عاملة مدفوعة بمظالمها الاجتماعية والاقتصادية، وطبقة وسطى تحرّكها التطلّعات الليبرالية، ونخبة عسكرية مدفوعة بجشعها (أنظر/ي «تاريخ فاشي للثورة المصرية» 1 و2 و3). اجتمعت كل هذه مؤقتاً للوقوف ضد دولة بوليسية متنامية بخبث. وهكذا اختير يوم عيد الشرطة (25 يناير/كانون الثاني) عن عمد ليكون يوم الاحتجاجات الأول.

بعد ثلاثة أيام من الاشتباكات، اضطرت الشرطة إلى الانسحاب. ومنذ ذلك الحين، تحوّل ميدان التحرير وساحات الاحتجاج الأخرى إلى تجمّعات مادية للقطاعات الثلاث من المجتمع. لكن لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً لتطغى الطبقة الوسطى والجيش على الطبقة العاملة. فهُمِّشَت مطالب العمّال، بل وهوجِمَت بحجّة أنّها «فئوية» و«مثيرة للانقسام»، ما سهّل من شنّ حملة عسكرية مدعومة شعبياً على احتجاجات المصانع. كان ذلك في الأيام الأولى من الثورة، بعد بضعة أشهر من انسحاب الشرطة. لم تنتبه الطبقة الوسطى، المنغمسة في اللحظة الطوباوية للإطاحة بالدولة البوليسية، إلى ظهور نظام مسلّح أخطر وأقوى بكثير، ونظام لسخرية القدر أكثر شعبية بسبب دعمه من الثورة، أو بتعبير أدق دعمه من قطاع الطبقة الوسطى في الثورة.

إنّ إعادة تصوّر النظام العسكري بعد الثورة – بقيادة وزير الدفاع السابق ورئيس المخابرات الحربية الرئيس عبد الفتّاح السيسي – كنتاج للذخيرة الثورية، وليس قوّة مضادة مستقلّة، يشكّل كما قلنا تغييراً لقواعد اللعبة للمحلّلين والنشطاء على حد سواء. فإذا كان نظام السيسي طغمة معادية للثورة أطاحت بالحركة الثورية بالقوة، يجب على الرد الثوري عندئذٍ أن يكون مباشراً: مواصلة الضغط! لذلك لا بد من فهم طبيعة نظام كهذا بعلاقته بالثورة، وغرضنا من ذلك لا يقتصر على تفسير التوافق المذهل في المظاهرة الواحدة للهتافات الشعبية المتناقضة في ظاهرها من قبيل «يا جيشنا انزل احمينا» و«يسقط يسقط حكم العسكر»، بل أيضاً تحديد الاستراتيجيات الممكن أن تنتج نتائج ثورية في مثل هذا السياق الشاذّ.

تشير الثورة السلبية إلى عملية اجتماعية سياسية مستمرة تحافظ في خلالها النخب المهيمنة على سيطرتها من خلال الاستقطاب الانتقائي والمؤقت لطبقات مختلفة ينتهي الأمر بكل منها إلى الهدوء والتهميش

ومن هذا المنطلق استقبلت كتاب مندور بحماسة. لا يركّز مندور على ثورة 25 يناير، بل على نظام السيسي كنتاج طويل الأمد، كانت 25 يناير وما تلاها من أنظمة انقلابية في عامي 2011 و2013 مجرد أعراض. تشير الثورة السلبية إلى عملية اجتماعية سياسية مستمرة تحافظ في خلالها النخب المهيمنة على سيطرتها من خلال الاستقطاب الانتقائي والمؤقت لطبقات مختلفة ينتهي الأمر بكل منها إلى الهدوء والتهميش. في هذا الكتاب، كانت الثورة والنظام العسكري وتحالفهما المؤقّت تحت حكم السيسي، استمراراً لترتيبات اجتماعية حاولت تشكيل نظام سياسي في فراغ ما بعد الانهيار. (لمعرفة المزيد عن فراغ الهيمنة في مرحلة ما بعد عبد الناصر، أنظر/ي كتاب سارة سالم «Anticolonial Afterlives in Egypt»، ويمكن الاطلاع على مراجعته من هنا).

يرى مندور أنّ عبد الناصر في العام 1967 لم يخسر حربه مع إسرائيل في سيناء فحسب، بل خسر حزمة الوعود الأيديولوجية العروبية والاشتراكية العربية وما بعد الاستعمارية التي أقامت حكمه. لكن ظلت بعض الموروثات الهيكلية لهذا النظام سليمة: التفوّق العسكري، والدولة المختطفة من الشرطة، والطبقة الوسطى غير المسيّسة. ووجدت ثلاث مجموعات اجتماعية نفسها في صراع على السلطة بعد إفراغها من عوامل تمكينها الأيديولوجية، فكان «الجنود والجواسيس ورجال الدولة» – كما يقول حازم قنديل بحصافة – «ينشدون بين الحين والآخر الدعم الشعبي الجماهيري» ليستفيدوا من إحدى الجهات الثلاثة ضد الطرفين الآخرين (ص. 85).

وبالانتقال إلى كتاب مندور: لا تزال الجهات نفسها على الساحة، وتنتج اليوم نظاماً من نوعية مختلفة. صعد السيسي في العام 2013 إلى الواجهة بوعد إعادة «توحيد» الطبقة الوسطى المصرية، بعدما قطعها بحسب التصوّر الشعبي بروز الإخوان المسلمين عقب ثورة يناير. يعني «التوحيد» هنا «التماثل»، ومن هنا قطعه ظهور ذلك الذي ظل قسراً ولفترة طويلة على الهامش، حتى أنّه تخلى رسمياً عن المشاركة السياسية – الإخوان المسلمون (ص. 55). وبالاستفادة من الإحباط الشعبي وليد هذا القطع، حصل السيسي على دعم الطبقة الوسطى من خلال وعد بسيط للغاية: إعادة الهوية الوطنية؛ وبعبارة أخرى، التخلّص من الإخوان المسلمين.

منحت هذه الدينامية الجيش السيطرة القانونية والعسكرية على الأسواق الأكثر ربحاً داخل الاقتصاد المصري، ما زاد من ولاء الضبّاط للنظام وسهّل بالتبعية المزيد من العنف

ترأس أولَ نظام بعد الانقلاب التكنوقراط من الطبقة الوسطى ومن خلف الكواليس كان الجيش يمسك بخيوط اللعبة. لكن هذا الترتيب لم يعرف الاستقرار قط. فكما ذكر نيكولا مكيافيلي: «شتان ما بين رجل مسلّح ورجل أعزل، ومهما كان الأمر فلن نرى رجلاً مسلّحاً يطيع رجلاً أعزل، وهو بكامل إرادته». وإذ يعي الجهاز العسكري ذلك، فقد أدار بقيادة السيسي نفسه حملة على شركائه في السلطة من الطبقة الوسطى، ساحقاً منافسيه وحلفاءه على حد سواء. وفعل ذلك بوسائل متعدّدة، يوضحها كتاب مندور، تندرج تحت ثلاث فئات سياسية تعزّز إحداها الأخرى – تشريع القمع وعروض إراقة الدماء واستيلاء العسكر على الاقتصاد. صدرت القوانين القمعية مع حملة عنيفة طالت أي معارضة عامة، ما شرّعَ الباب على المزيد من العنف عبر منح العنف وضعاً شرعياً. في المقابل، منحت هذه الدينامية الجيش السيطرة القانونية والعسكرية على الأسواق الأكثر ربحاً داخل الاقتصاد المصري، ما زاد من ولاء الضبّاط للنظام وسهّل بالتبعية المزيد من العنف. أسفرت هذه الدورة المفرغة عن تحييد الطبقة الوسطى مجدّداً؛ هذه المرة مع عدم وجود جهات وازنة على الساحة، وبالتالي لا حاجة إلى استمالة أي طبقة اجتماعية على الإطلاق. وكانت النتيجة، كما يصف مندور، أول ديكتاتورية عسكرية من نوعها لا تشعر بالالتزام السياسي تجاه أي جهة أخرى؛ لا شركاء الأمن ولا أي طبقة اجتماعية – جنود فحسب، لا جواسيس، لا رجال دولة.

يزعم الكتاب أنّه سرد لصعود الديكتاتورية العسكرية وزوال الاستبداد الليبرالي التقليدي لمرحلة ما بعد الناصرية. لكنّ أهميته أكثر من ذلك، لاسيما لدارسي غرامشي والفكر النقدي ما بعد الماركسي. يشير تحليل الكتاب لسياسات ما بعد 25 يناير في مصر إلى شكل استثنائي من أشكال «الثورة السلبية» المفتقرة إلى طبقة من المستفيدين سوى الجيش نفسه. ويبدو ترتيبها الهيكلي وكأنه نتاج انقلاب عسكري نمطي، إلّا أنّه ليس كذلك. في الواقع، اعتمدت بداية النظام دائماً على التعبئة الشعبية، على الرغم من غياب الطبقة المعبّأة وأجندتها عن جميع جوانب صنع السياسات.

ومع هذا السؤال الرئيس يتركنا الكتاب، وهو سؤال يشجّع على إجراء المزيد من البحوث التجريبية، ولكن أيضاً البحث المفاهيمي في إمكانية وجود ترتيب شبه مُهيمن يفتقر لا إلى الأسس الأيديولوجية وحدها، بل إلى الأسس الهيكلية حتى. ولا شك أنّ نقطة البداية لمثل هذا التحليل سيكون مفهوم «الثورة السلبية» الغرامشيّ، ولكن من أين تأتي إمكانية هذه الثورة من دون طبقة من المستفيدين؟ ربما تكمن الإجابة فيما هو أبعد من باراديغمات التحليل البنيوي الغرامشيّ، وعلى المرء أن ينظر بدلاً من ذلك إلى أدوات البنية الفوقية التي يمكن من خلالها خداع الجماهير لتعمل في كل مرة ضد مصلحتها.

نشر هذا المقال في LSE في 28 شباط/فبراير 2024.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.