Preview مصر في ظلّ الأزمة الاقتصادية

مصر: أكبر من أن تَفشل وأكبر من أن تُنقَذ

بينما كانت القاهرة تواجه أزمة أخرى في ميزان المدفوعات في شتاء 2023-2024، لاحظَ دارسو المالية العامة المصرية في نصف القرن الأخير طقوساً مألوفة. منذ احتضار نظام «بريتون وودز» في العام 1971، لجأت مصر إلى «صندوق النقد الدولي» لتمويل المدفوعات في ما لا يقل عن عشر مناسبات: في الأعوام 1977، و1978، و1987، و1991، و1993، و1996، و2016، ومرّتين في العام 2020، وفي العام 2022. هذه المراسم - التي تؤدّيها دائرة حصرية من المفوّضين الذين يتنقّلون بين القاهرة وواشنطن وأبو ظبي - تعكس نمطاً أوسع من إقراض الديون السيادية في «الجنوب العالمي» منذ سبعينيات القرن العشرين. لكن المفاوضات المُعتادة تكشف أيضاً عن الدور المميّز الذي تؤدّيه الدكتاتورية العسكرية في مصر في استراتيجية الولايات المتحدة الإقليمية. وقد أسفرت هذه الجهود، التي أجريت مرة أخرى بين شهري كانون الأول/ديسمبر وآذار/مارس، عن نتيجة مألوفة: اتفاق «صندوق النقد الدولي» على مستوى الخبراء على تقديم 8 مليارات دولار في شكل قروض طارئة لمصر - وهذه خطة الإنقاذ الحادية عشرة - والتزام القاهرة بخفض الإنفاق الحكومي، وخصخصة الشركات المملوكة للدولة، وتعويم الجنيه المصري.

تبدو المفاوضات الطقوسية وكأنها ممارسة غير متكافئة إلى حد كبير. فمن جهة هناك موظّفو «صندوق النقد الدولي» الذين يسيطرون على سلطة إقراضية سيادية بقيمة تريليون دولار، وتحتاج مصر إلى مباركتهم في كثير من الأحيان من أجل ضمان الجدارة الائتمانية في الخارج وتطمين الشركاء الخليجيين والولايات المتحدة. ويتألف فريق «صندوق النقد الدولي» في الغالب من شباب من خبراء الاقتصاد الكلّي الذين تلقوا تعليمهم في الغرب ويحملون درجات الدكتوراه، ويتناوبون في مهام قُطرية قصيرة، ويقودهم، وفقاً لاتفاق ودّي يعود إلى حقبة الخمسينيات من القرن العشرين، مجلس تنفيذي مُعيّن من أوروبا والولايات المتّحدة.

تنفق مصر 50% إلى 60% من إيرادات الدولة على شكل مدفوعات على هذا الدين، في حين يأتي 40% إلى 45% من إيرادات الدولة من الضرائب التنازلية المفروضة على الفقراء، والتي أقرّ العديد منها في العام 2016 بدعم من «صندوق النقد الدولي»

على الجانب الآخر، هناك الحكومة المصرية، بقيادة مسؤولين على المستوى الوزاري في مجالات المالية، والاستثمار، والشؤون الخارجية، والبنك المركزي. وقد عمل بعضهم - مثل يوسف بطرس غالي الذي شغل منصب وزير المالية في عهد الرئيس السابق حسني مبارك، أو وزيرة الاستثمار السابقة سحر نصر، أو وزيرة الاستثمار الحالية رانيا المشاط - في وقت من الأوقات في مؤسّسات «بريتون وودز». ويمثل هؤلاء دولة يبلغ عدد سكّانها 114 مليون نسمة، ويعيش ثلثا السكان فيها على أقل من 6.85 دولار في اليوم، ويواجهون معدل تضخّم وصل إلى 37% في العام 2023، وحيث تقلّص القطاع الخاص غير النفطي كل شهر تقريباً على مدار الخمس سنوات الماضية، وحيث يملك 1% من المواطنين الأثرياء أكثر من 9 أضعاف الثروة الوطنية للفقراء الذين يمثلون 50% من السكان. وتعاني مصر أيضاً من درجة عالية من الحراك الاجتماعي التنازلي الحقيقي والمتصوّر، والذي خلّدته رواية علاء الأسواني «عمارة يعقوبيان»، حيث ينتمي كل جيل يسكن شقة على طراز «الآرت ديكو» في القاهرة إلى طبقة اجتماعية أدنى من سابقتها.

تخضع مصر منذ 11 عاماً للديكتاتورية العسكرية لعبد الفتاح السيسي، التي سجنت ما يُقدّر بنحو 60 ألف سجين سياسي، وتحتل المرتبة 136 من أصل 142 دولة على «مؤشر سيادة القانون» التابع لـ«مشروع العدالة العالمية». يحدّها من الجنوب السودان (الذي يشهد حرباً أهلية منذ نيسان/أبريل 2023)، ومن الغرب سلامٌ باردٌ في ليبيا، ومن حدودها الشرقية في سيناء دولة التمييز العنصري إسرائيل التي تشنّ حالياً حرباً لتدمير قطاع غزة. وهي تاريخياً مستورد رئيس للحبوب من البحر الأسود، وقد تعطَّلت هذه الإمدادات الآن بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا.

كما أن مصر تعاني من ديون شديدة، حيث يبلغ الدين السيادي الخارجي حالياً 164 مليار دولار. وتجاوزت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 80% في خلال معظم العقد الماضي، لتصل إلى 93% في العام 2023. وفي أي عام، تنفق مصر 50% إلى 60% من إيرادات الدولة على شكل مدفوعات على هذا الدين، في حين يأتي 40% إلى 45% من إيرادات الدولة من الضرائب التنازلية المفروضة على الفقراء، والتي أقرّ العديد منها في العام 2016 بدعم من «صندوق النقد الدولي». والنصف الآخر من ميزانية الدولة عبارة عن أموال مقترضة تحصل عليها القاهرة من المانحين العرب في الخليج، و«صندوق النقد الدولي»، ومن خلال بيع شهادات إيداع وسندات بفائدة عالية. في تشرين الأول/أكتوبر 2023، خفضت وكالة «ستاندرد آند بورز غلوبال» التصنيف الائتماني السيادي لتلك السندات إلى «بي سالب» ذي نسبة الخطورة العالية. الدافع وراء هذا الدين هو العجز المزمن في الحساب الجاري في مصر منذ العام 2008، ما يجعل البلاد عرضة لهجمات المضاربة على احتياطياتها من العملات الأجنبية. ومثل هذا الهجوم هو الذي أجبر القاهرة على التفاوض مرة أخرى مع «صندوق النقد الدولي».

في 6 آذار/مارس، أعلن «صندوق النقد الدولي» أنه تم التوصل إلى اتفاقية قرض بقيمة 8 مليارات دولار، وأن القاهرة «ستنتقل إلى نظام سعر صرف مرن». وهو الوعد الذي قطعه السيسي، مثل مبارك من قبله. وإذا كان لنا أن نسترشد بالماضي، فسوف تكون مصر ماهرة في تأجيل الإصلاحات. في الواقع، تشير بيانات سعر الصرف الأسبوع الماضي إلى أن الجنيه المصري خُفِّضت قيمته بشكل يعتمد تثبيتاً جديداً. وبغض النظر عن ذلك، من المرجح أن تستمر المساعدات من «صندوق النقد الدولي»، والأميركيين، والخليجيين. إن دور القاهرة في هيكل الأمن الإقليمي الذي تدعمه الولايات المتحدة يجعل من الدكتاتورية العسكرية عملاقاً إقليمياً أكبر من أن يفشل. ويدرك نظام السيسي تماماً، مثل الأنظمة التي سبقته، هذا الوضع ويستغله لضمان إذعان الدائنين والحلفاء. إن حجم «اتفاق صندوق النقد الدولي» - أكثر من ضعف المبلغ الذي كان معروضاً على الطاولة أصلاً والذي بلغ ثلاثة مليارات دولار - يؤكد هذه الحقيقة.

إن دور القاهرة في هيكل الأمن الإقليمي الذي تدعمه الولايات المتحدة يجعل من الدكتاتورية العسكرية عملاقاً إقليمياً أكبر من أن يفشل. ويدرك نظام السيسي تماماً، مثل الأنظمة التي سبقته، هذا الوضع ويستغله لضمان إذعان الدائنين والحلفاء

إزالة الغموض عن الاتفاق

في قلب المفاوضات بين مصر و«صندوق النقد الدولي» تكمن السياسة النقدية. ومنذ آذار/مارس 2022، فقد الجنيه المصري 70% من قيمته الرسمية مقابل الدولار الأميركي، في حين اتّسعت الفجوة بين سعره الرسمي وسعره في السوق السوداء. وبحلول شباط/فبراير 2024، وصل سعر الدولار الأميركي في السوق إلى 70 جنيهاً مصرياً، أي أكثر من ضعف سعر الصرف الرسمي. كما انخفضت التحويلات بنسبة 30% في الربع الأول من السنة المالية 2023-2024 مقارنة بالفترة السابقة، حيث كبح العمّال المهاجرون في الخارج التحويلات إلى أسرهم في محاولة للحفاظ على قيمة أرباحهم. رداً على ذلك، رفع البنك المركزي أسعار الفائدة وخفض قيمة الجنيه المصري 4 مرات في خلال العام ونصف العام الماضيين، في حين لجأ نظام السيسي إلى سياسات مبتكرة من أجل جذب العملة الصعبة والتغلب على المضاربين: مداهمات على تجار العملة غير الرسميين، وفرض قيود على المعاملات الأجنبية لبطاقات الائتمان، ورفع الحظر عن تملّك الأجانب للأراضي الصحراوية. وعلى الرغم من ذلك، فقد دفع «صندوق النقد الدولي» مصر إلى الالتزام بمطلب آخر طويل الأمد، بدأ منذ الثمانينيات من القرن العشرين على الأقل، وهو التحرير السوقي الكامل لسعر الصرف.

لطالما حاجج «صندوق النقد الدولي» بأن السماح للأسواق بتحديد أسعار الصرف أمر جيّد لمصر. ومن شأن ذلك أن يكسر عادة البنك المركزي المكلفة المتمثلة في إنفاق مليارات الدولارات للدفاع عن رَبط عملته ضد المضاربين، فضلاً عن القضاء على السوق الموازية من خلال تشجيع تدفقات التحويلات المالية على العودة إلى القطاع المصرفي الرسمي. وتُشكِّل هذه التحويلات مصدراً للعملة الأجنبية أكبر من السياحة والاستثمار الأجنبي المباشر مجتمعين. ومن شأن فك الرَبط أن يؤدّي أيضاً إلى خفض قيمة الجنيه المصري، ما يعزّز إيرادات التصدير المصرية ويضع أعباء تعديل سعر الصرف على القطاع الخاص، وليس البنك المركزي. وأخيراً، فإنه من شأن ذلك أن يخفّف الصدمات الكبيرة المفاجئة التي تخلّلت التاريخ النقدي للبلاد، ويتّجه بمصر نحو تعديلات تسعيرية ديناميكية وأكثر دقة.

منذ تخلّت الولايات المتحدة عن معيار الذهب في العام 1971، قاومت مصر هذه الحجج. فمن ناحية، الديون الخارجية مقوّمة بالعملات الصعبة مثل الدولار واليورو، لكن إيرادات الحكومة معظمها بالجنيه المصري. ومن شأن تحرير سعر الصرف أن يخفض قيمة الجنيه بسرعة ويؤدي إلى زيادة هائلة في مخصصات موازنة الدولة لخدمة الدين الخارجي. وبحسب محمد بدراوي، وهو عضو بالبرلمان عن «حزب الوفد» المتحالف مع النظام، فإن كل انخفاض بقيمة جنيه مصري مقابل الدولار، يزيد من تكلفة الدين الخارجي بمقدار 83 مليار جنيه. وإذا تُرك هذا الأمر من دون رادع، فقد يؤدي أيضاً إلى إفلاس كيانات حكومية مثل «الهيئة القومية لسكك حديد مصر»، التي لا تُضمّن في الميزانية العامة العامة ولكنها تتحمّل ديوناً عامة.

كل انخفاض بقيمة جنيه مصري مقابل الدولار، يزيد من تكلفة الدين الخارجي بمقدار 83 مليار جنيه. وإذا تُرك هذا الأمر من دون رادع، فقد يؤدي أيضاً إلى إفلاس كيانات حكومية مثل «الهيئة القومية لسكك حديد مصر»، التي لا تُضمّن في الميزانية العامة العامة ولكنها تتحمّل ديوناً عامة

ثانياً، من المرجح أن يؤدِّي خفض قيمة العملة إلى تفاقم التضخّم. ويشير تقرير لـ«مدى مصر» إلى أن قرار تعويم الجنيه المصري قد يؤدّي إلى تضخّم بنسبة 45% في العام 2024. وتتحمَّل مصر فواتير واردات مرتفعة، بنسبة 20% إلى 40% من ناتجها المحلي الإجمالي في أي عام. وغالباً ما تُشترى هذه الواردات - القمح، والبذور، ومنتجات الألبان، والأسمدة، والوقود وما إلى ذلك - من قِبل مشترين حكوميين ويُدفَع ثمنها بعملات أجنبية مثل الدولار واليورو. ويحصل المشترون التابعون للدولة وبعض شركات القطاع الخاص على هذه العملات من النظام المصرفي بأسعار الصرف الرسمية، وبالتالي فإن تخفيض قيمة العملة يجعل الواردات أكثر تكلفة. وتدخل الواردات في إنتاج سلع استهلاكية مثل الخبز، الذي يتمتع بإعانات استهلاكية منفصلة. ويعد دعم الأسعار هذا بمثابة شريان حياة شبه مقدّس للسكان الذين يعانون من الفقر الشديد، وقد خُفِّض تحت خطر أعمال الشغب، كما حدث في العام 1977، أو الثورة، كما حدث في العام 2011. وعلى سبيل المثال، لم يتم الوفاء بتعهد السيسي قبل ثلاث سنوات برفع أسعار الخبز «البلدي» المدعوم. ومن المرجح أن تصبح مصر أكبر مستورد للقمح في العالم مرة أخرى في العام 2024، وهي لا تريد أن تدفع أكثر.

ولهذه الأسباب، فإن الضغوط الشكلية التي يمارسها «صندوق النقد الدولي» لتعويم الجنيه المصري تشير إلى القيود البنيوية التي يفرضها العصر النيوليبرالي والإرهاق الفكري لحكمته التنموية. في العام 1981، وجّه المُنكِّت الأدبي المصري صنع الله إبراهيم روايته «اللجنة» نحو هذا الأمر، حيث صوّر بطل الرواية الشاب أمام مجلس من البيروقراطيين مجهولي الهوية الذين يطلبون منه أداء رقصة شرقية مهينة، وفي مشهد عبثى أخير، أكل لحم بشري. ويمتثل البطل لذلك. وكانت «اللجنة» في ذلك الوقت بمثابة قصة رمزية جامحة لسياسات «الانفتاح» المصري على المستثمرين الأجانب وثقافة «الكوكا كولا» التي اعتمدها أنور السادات في العام 1974، واستمرّت. ومع ذلك، فإن نظام السيسي ليس الضحية البائسة لقصة صنع الله إبراهيم.

في الواقع، نجحت الحكومة المصرية إلى حد كبير في تأمين تسليفة في اللحظة الأخيرة وتجنُّب تحرير سعر الصرف1 . وفي العام 1986، وصل «صندوق النقد الدولي» والمسؤولون المصريون إلى طريق مسدود بشأن سعر الصرف، حيث ألغى المجلس التنفيذي للصندوق قرار موظّفيه في أيار/مايو 1987 وقَبِل إصلاحاً «تدريجياً» بدلاً من التعويم الكامل. وفي النهاية، لم تُنفِّذ مصر سوى المرحلة الأولى من توحيد سعر الصرف. وفي العام 1993، رفضت بشدّة خفض قيمة العملة، لكنها حصلت على الدفعة الأولى من «تسهيل الصندوق الممدّد» على أي حال - وانهارت المفاوضات في وقت لاحق عندما رفضت خفض قيمة العملة أو تنفيذ الإصلاحات. لقد تركت اتفاقية العام 1996 بشكل واضح مسألة تخفيض قيمة العملة غير مطروحة على الطاولة. وفي العام 2016، قام البنك المركزي بتعويم الجنيه المصري لفترة وجيزة لتأمين الإفراج عن 12 مليار دولار من أموال «صندوق النقد الدولي»، لكنه تدخل بعد بضع سنوات بعد انخفاض قيمة الجنيه. وفي عامي 2020 و2022، اختار تخفيضات جزئية لقيمة العملة بدلاً من التعويم الحر.

ومرة بعد مرة، تعود مصر لتطلب، بكل تواضع، معروفاً. ويُذعن «صندوق النقد الدولي» لعملية إنقاذ يتم فيها تنفيذ إجراءات التقشف وخفض قيمة العملة بترنُّح ولكن ليس بشكل كامل. وتحصل الحكومة بأعجوبة على سُلفة جديدة، وتدفع فوائدها بكل إخلاص، ويتنازل الدائنون عن بعض الديون القديمة، وتدخل القروض القديمة في القروض الجديدة. إنه تجاور غريب بين الموارد المالية العامة المتهالكة باستمرار من ناحية، والبراعة في تأمين السلام في اللحظة الأخيرة من ناحية أخرى. في الواقع، وعلى الرغم من تصنيفها الائتماني الرديء وسمعتها المتدنية فيما يتعلق بسيادة القانون، فإن مصر، وفق البحث التصنيفي لمايكل تومز، «دولة وفية حسنة الصيت». إنها تدفع في الأوقات الجيدة والسيئة. والمرة الأخيرة التي تخلّفت فيها عن سداد ديونها السيادية كانت منذ قرن ونصف القرن.

دورة ديون مصر

ما الذي يفسّر هذه الحاجة إلى الائتمان؟ تحتاج القاهرة إلى زيادة الإيرادات لتغطية رواتبها البيروقراطية والعسكرية، وبناء الأشغال العامة، ودفع الفوائد على الديون القائمة، وصيانة البنية التحتية، وشراء الأسلحة، وإصدار معاشات التقاعد، والحفاظ على دعم الوقود، والكهرباء، والنقل، والغذاء للمستهلكين. وعلى مدى معظم تاريخها، كانت القاعدة الضريبية المحلية في مصر فقيرة للغاية ومتخلفة عن تحقيق الإيرادات اللازمة في دولة حديثة. إن مجرد طباعة الجنيه المصري وإعطائه للوزارات قد يُخفِّف مؤقتاً من مشكلة السيولة المالية ولكنه سيؤدي إلى التضخّم. إنه شكل آخر من أشكال الضرائب. وعلى نحو مماثل، لا يمكن سداد الواردات والديون المقومة بالعملات الصعبة بمجرد طباعة الجنيه المصري ما لم تعمل الحكومة على إصلاح أسعار الصرف بشكل موثوق، وهو ما يتطلب بدوره احتياطيات أجنبية مكلفة.

على الرغم من تصنيفها الائتماني الرديء وسمعتها المتدنية فيما يتعلق بسيادة القانون، فإن مصر، وفق البحث التصنيفي لمايكل تومز، «دولة وفية حسنة الصيت». إنها تدفع في الأوقات الجيدة والسيئة. والمرة الأخيرة التي تخلّفت فيها عن سداد ديونها السيادية كانت منذ قرن ونصف القرن

ولهذا السبب، اقترضت مصر تاريخياً العملات الأجنبية من الخارج على أمل أن يسمح لها النمو المستقبلي بسداد ديونها. ففي أواخر القرن التاسع عشر، طرح الخديوي سندات خزانة ضخمة على بنوك لندن وباريس. وقد تضاعف الدين الخارجي 5 أضعاف بين عامي 1863 و1879. وعلى الرغم من افتقاره إلى ميزانية سنوية، أو جهاز ضريبي، أو سجل رسمي، تمكَّن الخديوي من طرح ديونه في أسواق السندات الأوروبية من خلال الوعد بعوائد عالية. وكان حملة السندات، الذين عانوا من سوء التنظيم وقلة المعرفة، بدورهم على استعداد لإقراض أموالهم، مستفيدين من صادرات القطن المصري والأخبار عن قناة السويس المموّلة فرنسياً، والتي افتتحت في العام 1869 بفضل السخرة التي شارك فيها نحو 1.5 مليون فلاح.

تبيّن أن وعود النمو هشّة. وعندما عاد القطن الأميركي إلى الأسواق العالمية في خلال «فترة إعادة الإعمار»، انتهت هيمنة القطن المصرية المؤقتة. ولم تعوِّض حصتها الضئيلة من إيرادات قناة السويس. وتحمّل الخديوي التزامات مُفرِطة. وكما قالت روزا لوكسمبورغ في العام 1913: «لقد استنُزِف الفلاح حتى آخر قطرة دم لديه. والدولة المصرية، التي استخدمها رأس المال الأوروبي لمص دماء الفلّاحين، أنجَزَت وظيفتها ولم تعد هناك حاجة إليها». وعندما تعثَّرت الإمبراطورية العثمانية في العام 1875، سقطت مصر معها. وبحلول أيار/مايو 1876، أنشأ المقرضون الأوروبيون وممثلوهم الاستعماريون لجنة، «صندوق الدين العام»، لتجميع الديون وجمع الضرائب المصرية لمصلحتهم: الضرائب المحلية في القاهرة والإسكندرية، والضرائب على الملح والتبغ، وكذلك جميع عائدات الجمارك ذهبت إلى «صندوق الدين العام». ويشير المؤرخ الاقتصادي علي جوشكون تونغر إلى أن الخديوي وافق بِضَعف.

وكانت هذه الامتيازات بداية عملية «رهن الأصول الوطنية» كما وصفت في كتاب ديداك كيرالت الأخير. أولاً كان «صندوق الدين العام»، وتلا ذلك تم إنشاء إدارة خاصة للسكك الحديدية وميناء الإسكندرية في تشرين الأول/نوفمبر 1876، ووضعت تحت السيطرة المباشرة للجنة ذات غالبية أوروبية. وأدى محصول القطن السيئ والحرب الروسية التركية في عامي 1877 و1878 إلى إنشاء وزارة مالية بقيادة بريطانيا ووزارة أشغال عامة بقيادة فرنسا. ووحّد الأوروبيون الديون وأعادوا هيكلتها، وبعد الاحتلال العسكري في العام 1879، أصدر الخديوي الجديد، توفيق باشا، مرسوماً يقضي بإدارة البلاد بالكامل تقريباً من قِبل إنكلترا وفرنسا. واجه الاحتلال العسكري ثلاث سنوات من الثورة المناهضة للاستعمار، وبعد ذلك جعل البريطانيون مصر محميةً لهم في العام 1882.

يوازي تاريخ مصر الاستعماري مشاكل الاقتراض السيادي التي أحبطت التنمية الاقتصادية في العصر النيوليبرالي. إن الجاذبية المستمرة «للأموال الساخنة» - الائتمان الذي يُجمَع من خلال أسعار الفائدة المرتفعة الواعدة للمضاربين والتي لا يمكن الحفاظ عليها عند فشل تحقيق النمو - تتصاعد بشراسة إلى حالة من تراكم الديون، حيث يتعيَّن على مصر أن تنفق حصصاً كبيرة من الإيرادات الوطنية بشكل متزايد لسداد الديون العامة بدلاً من الاستثمار في المنافع العامة. وعندما تصبح الإيرادات غير قادرة على الوفاء بهذه الالتزامات، فإن الدولة تخسر أصولها الوطنية لصالح المقرضين الدوليين، ما يفتح الباب أمام الهيمنة الأجنبية.

وعلى الرغم من أن «اتفاق بريتون وودز» أنشأ «صندوق النقد الدولي» لمنع اختلال توازن المدفوعات الخارجية وحل القيود المفروضة على السيولة، فإن تَنويعات على ثيمة القرن التاسع عشر عادت في الآونة الأخيرة. ومن الأمثلة على ذلك نقل مصر جزيرتي صنافير وتيران إلى المملكة العربية السعودية في العام 2017، وسط شائعات عن تعويض سعودي بمساعدة الاقتصاد المتعثّر. ومن الأمثلة الأخرى، عمليات الاستحواذ التي قام بها صندوق الثروة السيادية الإماراتي، «شركة أبوظبي التنموية القابضة»، و«صندوق الاستثمارات العامة» السعودي على الأراضي الزراعية المصرية وحصص كبيرة في شركات البتروكيماويات العام الماضي. وفي الآونة الأخيرة، تصدّرت مفاوضات بيع «رأس الحكمة» - وهو منتجع يقع على الساحل الشمالي لمصر تبلغ قيمته 35 مليار دولار - إلى اتحادٍ إماراتي  عناوين الصحف، وقد صوّرت وسائل الإعلام الموالية للنظام الأمر على أنه صفقة «لإنهاء أزمة سعر الصرف».

هناك اختلافان مهمّان بين تاريخ مصر ما قبل «الانفتاح» ومشهد الديون اليوم، وهما الابتكار في الأدوات المالية الخاصة وتقييد البدائل العامة. في الخمسينيات من القرن العشرين، تمكَّن الرئيس جمال عبد الناصر من تأميم قناة السويس والاستحواذ على أصول الأجانب وملاك الأراضي والبرجوازية، لأن الكثير من الثروات كانت موجودة في الأراضي الزراعية أو معدّات المصانع، وهي ثروات غير متحركة ويمكن مصادرتها بسهولة. هناك قناة سويس واحدة فقط، وستدفع شركات الشحن رسوم العبور سواء كانت القناة مملوكة لمصر أو للفرنسيين. أمكَنَ لزعيم ماهر مثل عبد الناصر أن يستفيد أيضاً من تنافس القوى في خلال الحرب الباردة، حيث واجَهَ الاتحاد السوفياتي بالولايات المتحدة للحصول على العملة الأجنبية لمشروعات مثل السد العالي في أسوان. ويقول عالم الاجتماع حازم قنديل: «لا يتمتع السيسي بأي من هذه المزايا». ويضيف إن «أصول رجال الأعمال المصريين في الرأسمالية المالية العالمية اليوم أكثر مراوغة وقابلية للتحويل». إن الرغبة في جذب المستثمرين الأجانب تخلق حوافز قوية للحد من الأعباء الضريبية التي يتحمّلها الأثرياء، سواء كان ذلك على شركاتهم الخاصة، أو شركاتهم الناشئة، أو أصولهم.

يوازي تاريخ مصر الاستعماري مشاكل الاقتراض السيادي التي أحبطت التنمية الاقتصادية في العصر النيوليبرالي. إن الجاذبية المستمرة «للأموال الساخنة» تتصاعد بشراسة إلى حالة من تراكم الديون، حيث يتعيَّن على مصر أن تنفق حصصاً كبيرة من الإيرادات الوطنية بشكل متزايد لسداد الديون العامة بدلاً من الاستثمار في المنافع العامة

والفارق الثاني هو العجز التجاري للدولة، والذي نما مع مرور الوقت. اليوم، يُدفَع ثمن واردات مثل القمح، والبذور، ومنتجات الألبان، والوقود بالعملات الأجنبية، مثل الدولار واليورو، وغالباً ما يكون الأمر مرتبطاً بالدعم الاستهلاكي الشعبي. على النقيض من ذلك، في مصر ما قبل «الانفتاح»، كان معظم المصريين من العمّال الريفيين المنخرطين في اقتصادات فلاحية وأقل اعتماداً على إعانات دعم الاستهلاكية الحضرية. لكن بحلول سبعينيات القرن العشرين، كان ثلاثة أرباع الشعب المصري - الذي تزايد انتقاله إلى المناطق الحضرية - يعتمد على دعم الخبز، وذلك بفضل التحولات في الأنماط الغذائية ووفرة المساعدات الغذائية الأميركية الرخيصة. وقد خلقت هذه التحولات ضغوطاً شديدة على موازنة الدعم والعملات الأجنبية.

وفي مواجهة فاتورة واردات أعلى مما يمكن أن تغطيه عائدات التصدير، ومع تزايد رأس المال الطليق، ماذا يمكن للقاهرة أن تفعل؟ في أواخر السبعينيات من القرن العشرين، كان من حسن حظ السادات أن عائدات النقد الأجنبي من النفط، والسياحة، واستعادة التجارة في قناة السويس، وتحويلات المهاجرين من الخليج دعمت السيولة المالية. وعلى الرغم من ذلك، وفي مواجهة الضغوط المالية، اختارت القاهرة الحصول على قرض من «صندوق النقد الدولي». وقد أفرجت «اتفاقية الاستعداد الائتماني» الموقعة في كانون الثاني/يناير 1977، عن نحو 146 مليون دولار، لكنها طلبت من مصر خفض قيمة الجنيه المصري وخفض عجز ميزانيتها، وهو ما حاول السادات القيام به عن طريق إلغاء الدعم عن السلع الاستهلاكية الأساسية. وتحوّلت الاحتجاجات على ارتفاع الأسعار إلى أعمال شغب في شوارع القاهرة. ورداً على ذلك، أعادت الحكومة فرض دعم الأسعار بسرعة، وتراجع «صندوق النقد الدولي» عن التكيف الهيكلي الصارم الذي كان قد طالب به، ووقَّع اتفاقاً مُخففاً في صيغة «تسهيل الصندوق الموسَّع» في العام 1978. كما رضخت الولايات المتحدة أيضاً، وأعادت جدولة بعض ديون مصر لتخفيف ميزان المدفوعات - وهذا مثال مبكر على قدرة القاهرة على الاستفادة من عدم الاستقرار السياسي لتأمين التنازلات.

ولكسب الوقت قبل مفاوضاته مع صندوق النقد الدولي، استخدم السيسي شبكة من المقرضين الإقليميين. ومنذ العام 2013، حصل على نحو 92 مليار دولار من المملكة العربية السعودية ودول الخليج. لكن مع تراجع أسعار النفط - وعدم استعادة سعر 100 دولار للبرميل حتى العام 2022 - أصبح ملوك الخليج متردّدين بشكل متزايد في تقديم مساعدات غير مشروطة لمصر في شكل ودائع في البنك المركزي ومساعدات للوقود. وفي المرحلة الأولى من حكمه، حاول السيسي أيضاً استمالة التبرّعات الوطنية من رأسماليي البلاد إلى صناديق التنمية، مثل «تحيا مصر». وفي حالة أخرى، أطلقت مصر توسعة قناة السويس في العام 2014 بتكلفة 8.2 مليار دولار، والتي حاول السيسي تمويلها في البداية من خلال حث الجمهور على شراء الاشتراكات أو الأسهم، ولكن من دون جدوى. وما يزيد من التوقعات المخيبة للآمال هو أن إيرادات النقد الأجنبي من هيئة قناة السويس لم تتزحزح في خلال السنوات الخمس التي أعقبت الافتتاح.

ومع جفاف الصَدَقات، تلجأ القاهرة إلى توجيه الحوافز المالية إلى رأس المال المضارب. وكما ذكرت هبة سالم، طرح البنك المركزي  للبيع بالمزاد أدوات دين قصيرة الأجل وعالية العائد لمستثمري الأموال الساخنة قصيري النظر، الذين لا يهتمون بخدمة الدين الإجمالية للبلاد والنمو الاقتصادي بقدر ما يهتمون بمخاطر سعر الصرف والوضع السياسي الراهن. تشمل الأمثلة أذون الخزانة بالعملة المحلية لمدة عام واحد بفائدة 13.25%، والتي بيعت بالمزاد العلني في كانون الأول/ديسمبر 2021. ولتحسين تجارة المناقلة، وعد محافظو البنوك المركزية باسترداد سندات المستثمرين الأجانب وأذون الخزانة بالدولار بسعر الصرف الرسمي عند الاستحقاق - وهو رهان لا يستحق العناء إلا إذا حافظ الجنيه المصري على قيمته. وبالتالي، حصل البنك المركزي على حافز إضافي لإصلاح سعر الصرف، لأن السماح بتخفيض قيمة الجنيه المصري من شأنه أن يؤدي إلى هروب رؤوس الأموال. ومع ذلك، فإن مستثمري الأموال الساخنة شعروا بالفزع بسهولة، وفي الأشهر الخمسة الأولى من العام 2022، شهدت مصر تدفقات خارجة بنحو 25 مليار دولار، ما عجّل بمفاوضات «صندوق النقد الدولي» في ذلك العام.

وعندما أعقب الذعر هذه الاستراتيجية المحفوفة بالمخاطر، عادت مصر إلى «صندوق النقد الدولي». والاتفاق الذي تم التفاوض عليه في آذار/مارس هو الخامس للبلاد في السنوات الثماني الماضية. لعودة مصر إلى السيولة المالية اشترط «صندوق النقد الدولي» تنفيذ حزمة إجراءات نيوليبرالية لعقد عشرينيات القرن الحالي، تتضمّن خفض قيمة العملة، وتعزيز حقوق الملكية والحوافز الضريبية للأجانب، والحد من الحواجز التجارية، وتحقيق التوازن في الميزانية من خلال خفض الإنفاق (ما يطلق عليه «صندوق النقد الدولي» الآن مجازاً «التمتين المالي»)، واستبدال دعم المستهلك ببرامج التحويلات النقدية، مثل «تكافل وكرامة»، وخصخصة الشركات المملوكة للدولة («الحد من بصمة القطاع العام»).

هناك اختلافان مهمّان بين تاريخ مصر ما قبل «الانفتاح» ومشهد الديون اليوم، وهما الابتكار في الأدوات المالية الخاصة وتقييد البدائل العامة

وهكذا تتجلّى ملامح دورة الدين: (1) في ظل الضغوط المالية وضغوط سعر صرف على العملات الأجنبية، تفتح مصر الباب على مصراعيه أمام الاستثمار الأجنبي؛ (2) إذا لم تتمكن من توفير الأموال النقدية اللازمة، فإنها تلجأ إلى الأموال الساخنة من خلال الوعد بقروض عالية العائد تأتي عليها بعواقب وخيمة؛ (3) لمنع الأموال الساخنة من الهروب، يدافع البنك المركزي عن ربط العملة باحتياطيات أجنبية مكلفة؛ لكن (4) الأموال الساخنة تهرب على أي حال؛ ولذلك (5) تلجأ الحكومة إلى الملاذ الأخير للإقراض، وهو «صندوق النقد الدولي»، الذي يفرض شروطاً انضباطية، مثل خفض قيمة العملة، لإعادة الحكومة إلى الجدارة الائتمانية وتشجيع الاستثمار الأجنبي. ومع ذلك، (6) فإن تخفيض قيمة العملة يزيد من تقييد قدرة مصر على توفير السلع العامة، وخدمة الديون، وسداد ثمن الواردات، ما يعيدها إلى حيث بدأت.

ومن بين المستفيدين من هذه الحلقة المفرغة المضاربون الذين يستمدون دخلهم من الأصول ذات العائد المرتفع. وضحاياها هم الطبقة العاملة والطبقة المتوسطة الدنيا، وهم الأكثر عرضة لصدمات التقشف والتضخم. ويؤكد التحليل الإمبريقي لشروط «صندوق النقد الدولي» آثارها الضارة على الصحة والمساواة، كما أظهر الاقتصاديان ألكسندروس كينتيكيلينيس وتوماس ستابس. وقد كان اعتراف «صندوق النقد الدولي» الرسمي بقيمة تدابير الإنفاق الاجتماعية و«مرونة السياسات» منذ الأزمة المالية العالمية تجميلياً في أغلبه2قال رفعت حسين، وهو زعيم نقابي عمالي، بعد وقت قصير من إعلان تخفيض قيمة العملة في العام 2016 بموافقة «صندوق النقد الدولي»: «هناك قدر كبير من الغضب هنا». وأضاف: «المساكين هم دائماً من يدفعون ثمن هذه القرارات. الجنيه بالنسبة إلى الأغنياء لا يساوي شيئاً».

جنرالات في مجالس الإدارة

رأس المال الأجنبي الطليق، والاعتماد على الاستيراد، ومشاكل الاحتياطي الأجنبي، والتقشّف المؤلم - هذه هي التحدّيات المشتركة التي تواجه «الجنوب العالمي» في عصر النيوليبرالية. فما الذي يُميِّز مصر؟ بدعم من الرعاة الغربيين، يُعَدُّ الجيش المصري عنصراً أساسياً في عزل نظام السيسي عن ضغوط المقرضين. وتعكس هذه القدرة على إعادة التمويل المستمر للديون السيادية للبلاد استراتيجية سياسية مناسبة للوقاية من الانقلابات وحماية القنوات الزبائنية من التدقيق. إن الرعاية الأميركية تُقدِّس هذا الترتيب باعتباره بنداً رئيساً في صرح أمني إقليمي أوسع. تأخذ مساهمة الولايات المتحدة شكل مبيعات أسلحة لحلفاء الخليج، وجهود دبلوماسية مثل «اتفاقات أبراهام» لتطبيع العلاقات بين إسرائيل و«الجامعة العربية»، ودعم ضخم للديكتاتورية العسكرية المصرية وقوات التمييز العنصري الإسرائيلية بنحو 4.2 مليار دولار لإسرائيل سنوياً و1.2 مليار دولار سنوياً لمصر منذ العام 2001.

هناك بالطبع دوائر محلية داخل الولايات المتحدة تؤيد هذه التحويلات، مثل مصانع الأسلحة واللوبي الإسرائيلي. ومع ذلك، إذا كان الاسترشاد بخطاب بوش وأوباما وترامب وبايدن ممكناً، فإن الاستراتيجية الإقليمية الأكبر وراء هذه الأهداف تتلخّص في تسليح وكلاء الولايات المتحدة في «الحرب على الإرهاب» ودمجهم في كوكبة موثوقة من الدول القادرة على احتواء إيران. بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، فإن المصطلح الرئيس الذي يُخفِّف محفظة النقود ويهدئ الضمير هو «الهجرة غير النظامية». وفي كانون الأول/ديسمبر 2023، منحت بروكسل 110 ملايين يورو لتعزيز قدرات حرس الحدود والسواحل المصرية، على نحو يمهّد الطريق لمساعدات مستقبلية، يُشاع أنها تبلغ حوالي 9 مليارات يورو.

في مقابل هذه الأهداف الأمنية والحدودية المهيمنة، تحتل المخاوف بشأن سيادة القانون، والديمقراطية، والتمتين المالي، والسياسة النقدية في مصر مرتبة ثانوية. وكما قال وزير الدفاع الأميركي في ذلك الوقت، تشاك هاغل، للسيسي قبل أسابيع من انقلابه في العام 2013: «أنا لا أعيش في القاهرة، بل أنت تعيش فيها. وعليك أن تحمي أمنك وتحمي بلدك». وبكلمات ترامب الأكثر صراحة، فإن «ديكتاتوره المفضل» هو الذي «أخرج الإرهابيين» من مصر. وعندما تتعاون القاهرة مع الأهداف الجيوسياسية الأميركية، فإن الولايات المتحدة سعيدة بإبقائها قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية. على سبيل المثال، أسقط جورج بوش الأب نحو 7.1 مليار دولار من الديون العسكرية لمصر في العام 1990 (16.75 مليار دولار بدولارات العام 2024) مكافأةً على دعم القاهرة لحرب الخليج ضد العراق.

إن قطع حنفية السلاح والتمويل أمر صعب. وقد فرض أوباما لفترة وجيزة حظراً على منح الأسلحة لمصر لكنه استسلم في العام 2015 بعد عامين فقط. واستؤنفت عمليات نقل الأسلحة إلى السيسي في العام 2017 بذريعة ثغرة «الأمن القومي» الفضفاضة في «قوانين ليهي»، والتي تضمّنت نسج خيال قانوني متقن مفاده أن ما حدث في القاهرة في العام 2013 لم يكن انقلاباً ولا ينبغي أن يؤدِّي إلى حظر دعم الانقلابات. ولم يؤدِ تعهد بايدن في العام 2020 بوضع حقوق الإنسان في قلب سياسته الخارجية ولا المؤسسات السياسية الأوروبية إلى تقليص تمويل دول شمال الأطلسي لديكتاتورية السيسي.

تعزّز المخاوف الأمنية قبضة الجيش المصري على الاقتصاد، ما يساهم في قدرة مصر على تجنُّب التخلف عن السداد ومقاومة إصلاحات سعر الصرف أو سحب الاستثمارات الأكثر عدوانية. وتدير القوات المسلحة المصرية إمبراطورية تجارية غامضة، وواسعة، وغير خاضعة للمساءلة باستخدام السّخْرة. فالتجنيد إلزاميّ في مصر للرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عاماً، والذين يخدمون من سنة إلى 3 سنوات بأجور منخفضة. ويتم إرسال الكثير منهم إلى الشركات المملوكة للجيش: مصانع الثلاجات، ومصانع الأسمنت والصلب، ومحطات الوقود، والمستشفيات، وأماكن الفعاليات، ومنتجعات البحر الأحمر. يمتلك الجيش أيضاً مزارع في الدلتا، ويصنع المعكرونة، ويُعبِّئ المياه المعدنية في زجاجات، ويُجمِّع مركبات، ويبث محطات راديو، ويُنتج أفلاماً. الشركات العسكرية غير خاضعة للضرائب، ولا تخضع لتدقيق البرلمان أو الهيئات العامة، وغير مدرجة في البورصة بملفات تعريف مفتوحة. كما لا يتم الإبلاغ عن أرباحها في ميزانية الدولة.

بدعم من الرعاة الغربيين، يُعَدُّ الجيش المصري عنصراً أساسياً في عزل نظام السيسي عن ضغوط المقرضين. وتعكس هذه القدرة على إعادة التمويل المستمر للديون السيادية للبلاد استراتيجية سياسية مناسبة للوقاية من الانقلابات وحماية القنوات الزبائنية من التدقيق

ويقول السيسي مراراً وتكراراً إن القطاع العسكري يمثل نسبة 2% من الاقتصاد - وهي نسبة غير معقولة. لكن هذا التقدير يحجب الحجم الحقيقي للجيش. فالضباط المتقاعدون يستمرون في العمل كرؤساء لسلطات الموانئ، والسدود، والري، والمترو. وهم يحكمون المحافظات ويجلسون في مجالس إدارة الشركات المملوكة للدولة للمياه، والصرف الصحي، واستصلاح الأراضي، والاتصالات. ويعمل مهندسو الجيش بانتظام في شركات البناء المملوكة للدولة والخاصة. ويذهب الطيارون السابقون إلى الطيران المدني، بينما تسيطر القوات المسلحة غالباً على الحقوق القانونية لعوامل الإنتاج المدني مثل الأرض. وأخيراً، يُدير الجيش الأشغال العامة وعقود المشتريات، التي يتعاقد عليها من الباطن مع القطاع الخاص في علاقة تَبَعيَّة. على سبيل المثال، أشرفت إحدى الشركات المملوكة للجيش على توسعة قناة السويس في العام 2014، بينما تقوم شركة أخرى ببناء «العاصمة الإدارية الجديدة» لمصر، على بعد 40 كيلومتراً شرق القاهرة. وهناك دلائل واضحة على أن البصمة العسكرية آخذة في النمو منذ تولي السيسي السلطة.

وينتقد خبراء الاقتصاد السياسي المصريون، مثل تيموثي قلدس، والهيئات الرقابية، مثل «هيومن رايتس ووتش»، الجيشَ ويدفعون «صندوق النقد الدولي» إلى إدراج شروط تقلل من وجوده الاقتصادي أو على الأقل تجعل وجودة أكثر شفافية. ومع ذلك، فإن الأعمال العسكرية سمة حميمة لعصر النيوليبرالية. ففي أعقاب الحرب الباردة، دفع «صندوق النقد الدولي» والدول المانحة في شمال الأطلسي الأنظمة السلطوية ذات الاقتصادات الاشتراكية إلى تحرير الأسواق وخفض الإنفاق العام، بما في ذلك الميزانيات العسكرية. كتبت زينب أبو المجد: «لتعويض الضباط عن الخسائر الحاصلة في الميزانية وتجنُّب الانقلابات المحتملة، سمحت الأنظمة السلطوية لجيوشها بالانخراط في أنشطة تجارية قانونية أو غير قانونية». وهي ترى أن هذا المنطق يعمل ليس فقط في مصر ما بعد «الانفتاح»، بل أيضاً في باكستان وسوريا وتركيا وإسرائيل والعراق3 . وبالتالي، تطوَّر القطاع العسكري في مصر ليس فقط كأسلوب للوقاية من الانقلابات، بل أيضاً كاستراتيجية لإخفاء الكسب غير المشروع تحت شعار «الأمن القومي».

تساهم هذه الهيمنة العسكرية في أزمة ميزان المدفوعات في مصر بثلاث طرق. أولاً، تعمل المؤسسات العسكرية على مزاحمة القطاع الخاص ومنافسته. فهي تتمتَّع بالعمالة الرخيصة، والإعفاءات الضريبية، والروتين الحكومي الضئيل، والعقود من دون عطاءات، والقدرة التفضيلية على الوصول إلى الائتمان، والقيود الميسرة للميزانيات. يستشهد تيموثي قلدس، على سبيل المثال، بقرار الجيش في العام 2018 ببناء مصنع للأسمنت بقيمة 1.2 مليار دولار في بني سويف، والذي سرعان ما أدى إلى إشباع السوق بشكل مفرط وأجبر مصنع طره المملوك لألمانيا على وقف الإنتاج. ومن الطبيعي أن تعيق هذه الهيمنة الاستثمار الأجنبي في القطاع الخاص.

ثانياً، إن إفلات الضباط الذين يديرون هذه الإمبراطورية التجارية من العقاب يُشجِّع على ظهور «الدولة المفترسة» - أي الحكومة التي تهيمن عليها المصالح الطفيلية وثقافة الأعمال التي تميل نحو السعي وراء الريع والاحتيال، بدلاً من النمو الحقيقي4 . ونقرأ عن مخططات احتيالية دبَّرها نصَّابون وبنوك محلية سيئة التنظيم القانوني في الثمانينيات من القرن العشرين والعشرينيات من القرن الحادي والعشرين على حد سواء، مما أدى إلى سرقة مدخرات الملايين. هناك احتيال واسع النطاق في قوانين البناء، مما يؤدي إلى انهيار المباني والوفاة بشكل دوري. في الواقع، سُلِّط الضوء بشكل صارخ على حجم الفساد في نظام السيسي على يد محمد علي، وهو مقاول سابق من الباطن خدعه الجيش وأصدر سلسلة من مقاطع الفيديو في أيلول/سبتمبر 2019 تهاجم السيسي ومحتاليه العسكريين لإهدارهم الأموال العامة على الأثرياء. لكن أغلب رجال الأعمال يفضلون إبقاء رؤوسهم منخفضة، والتحوط مع الدولة، وليس ضدها. لننظر على سبيل المثال إلى الصعود السريع لإبراهيم العرجاني، الملياردير ورئيس مجموعة «أبناء سيناء»، والذي تحقق شركته «هلا» الآن أرباحاً من معبر غزة-رفح، وتفرض رسوماً باهظة لترتيب خروج الفلسطينيين من منطقة الحرب.

ويمتد استخدام الريع الاقتصادي لشراء الإذعان إلى ما هو أبعد من حدود مصر، كما يتضح من الاتهام الأخير للسناتور الديمقراطي الأميركي بوب مينينديز. مينينديز متهم، ضمن لائحة اتهام طويلة تعود إلى العام 2023، بقبول أموال نقدية وسبائك ذهبية من الحكومة المصرية مقابل التصويت في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ لتأمين استمرار التمويل العسكري الأميركي للقاهرة. وقد دُفِعَت الرشاوى من الإيرادات التي جُمِعَت من خلال الاحتكار الحصري الذي منحته الدولة المصرية لشركة في نيوجيرسي للتصديق على صادرات اللحوم الحلال الأميركية إلى مصر.

ثالثاً، لا تُوجَّه الأرباح المتراكمة للشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية إلى الميزانية العامة أو تُستخدم لخفض الديون السيادية. لا يوجد قانون محاسبي أو قانون اقتصادي كلي ينص على أن الجيش لا يمكنه استخدام إيراداته غير المنفقة لتوفير المنافع العامة المدنية أو تقليص عجز الميزانية. لكن ما متوسطه 25% إلى 30% من ميزانيات المشاريع التي احتفظت بها المؤسسة العسكرية تبقى مع المؤسسة العسكرية أو تُنفَق على شراء الأسلحة. وفي الفترة بين عامي 2016 و2020، أصبحت مصر ثالث أكبر مستورد للأسلحة في العالم وفقاً لـ«معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام». ويفتخر نظام السيسي الآن بأسطول من الطائرات المقاتلة من طراز «رافال» و«يوروفايتر تايفون»، وسفن هجومية برمائية، وفرقاطات بحرية، وحاملة الطائرات الوحيدة في المنطقة، وترسانة من الصواريخ وأنظمة الدفاع الجوي، ولا يزال يوقِّع صفقات مع ألمانيا وإيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة. وهذا المستوى من الإنفاق العسكري يقلل من المساحة الموجودة في الميزانية للاستثمارات العامة في الصحة والتعليم. ومن المثير للدهشة بالنسبة إلى حكومة مثقلة بالديون بالفعل، وتتلقى هدية سنوية تبلغ 1.3 مليار دولار في المتوسط من التمويل العسكري الأميركي، أن القاهرة لا تزال تحصل على أسلحتها بأموال مقترضة. فهذا هو الحال بالنسبة إلى صفقاتها بمليارات اليوروات مع فرنسا في عامي 2015 و2021.

تدير القوات المسلحة المصرية إمبراطورية تجارية غامضة، وواسعة، وغير خاضعة للمساءلة باستخدام السّخْرة

صدمات خارجية

هذه السمات التي يتميَّز بها الاقتصاد السياسي في مصر - القطاع العسكري المهيمن، وارتفاع الديون الخارجية، والاعتماد على الواردات الغذائية، والدعم الأميركي - كانت موجودة منذ الثمانينيات من القرن العشرين. فما الذي يفسر التوتر الأخير؟ كانت تعرية مصر أمام الحروب في أوكرانيا والسودان وغزة سبباً في تحفيز «صندوق النقد الدولي» على تقديم الائتمان السريع والسخي في آذار/مارس. وكان للحرب في أوكرانيا أثرها بشكل خاص على قطاع السياحة في مصر، الذي يمثل 15% من الناتج المحلي الإجمالي ويمثل مصدراً للعملة الأجنبية الثمينة. قبل كانون الثاني/يناير 2022، كان ملايين الأوكرانيين والروس الذين يزورون منتجعات البحر الأحمر مَصدرين رئيسين للسياحة. وكانت دول البحر الأسود أيضاً أكبر مصادر استيراد مصر للقمح وبذور المحاصيل والوقود. وعندما غزا بوتين أوكرانيا، غادر السائحون وتضاءلت احتياطيات الحبوب، حيث سعى المشترون الحكوميون بشكل محموم إلى مصادر بديلة وأكثر تكلفة. وسرعان ما انسحب مستثمرو الأموال الساخنة أيضاً، مما أدى إلى هروب رأس المال المذكور آنفاً بقيمة 25 مليار دولار. وخوفاً من نقص النقد الأجنبي، تحرك البنك المركزي في آذار/مارس 2022 لتحرير ربط العملة، مما أدى إلى انخفاض الجنيه المصري من 15.6 جنيهاً إلى 18.5 جنيهاً للدولار الواحد.

ومع رسوخ الأزمة، أصبح القطاع الزراعي المصري غير قادر على استيراد بذور المحاصيل، التي ظلت عالقة في الموانئ. ووجدت صناعة الدواجن، التي لم تتمكن من تأمين علف الدجاج المستورد، نفسها تقتل الملايين من الكتاكيت. وارتفع معدل التضخم بشكل متواصل على مدى العامين المقبلين، ليتجاوز 37% في أيلول/سبتمبر 2023، في حين انخفض تصنيف السندات المصرية إلى سلبي. علاوة على ذلك، اندلعت الحرب في السودان في نيسان/أبريل 2023، مما ألقى بـ 450 ألف لاجئ إلى بيروقراطية الخدمات العامة ونظام الدعم المُجهَد بالفعل، وأدى إلى ظهور موجات من المشاعر المعادية للمهاجرين في المدن المصرية ودعوات الحكومة لإعادة النظر في دعمها «للضيوف». هناك ما يقدر بتسعة ملايين سوداني من النازحين داخلياً، وهي حقيقة سوف تُسجَّل قريباً في البحر الأبيض المتوسط.

وشهدت الأسابيع الأولى من حرب غزة انقطاعاً في واردات الغاز الطبيعي الإسرائيلي من حقل تمار، الذي تعيد مصر تصديره مقابل العملات الأجنبية. ونتيجة لذلك، امتد انقطاع التيار الكهربائي عن المنازل في جميع أنحاء البلاد. وأدى الحصار الذي فرضه الحوثيون بعد ذلك على مضيق باب المندب، رداً على التطهير العرقي الإسرائيلي في غزة، إلى تحويل حركة البضائع العالمية من البحر الأحمر، مما قلل من إيرادات الدولة المصرية عبر قناة السويس. ولم ينجح القصف الأميركي المتجدد على اليمن في استعادة ثقة صناعة الشحن أو شركات التأمين في لندن. وبالمقارنة مع كانون الثاني/يناير 2023، انخفضت إيرادات قناة السويس بنسبة 40% إلى 50%، ما يزيد من إضعاف قدرة القاهرة على الوصول إلى احتياطيات النقد الأجنبي.

 نفوذ مصر العسكري

في ظل هذه الحساسية الأساسية لميزان مدفوعاتها، فإن فورة الإنفاق العسكري في مصر خلال العقد الماضي قد تبدو غامضة. فمصر لا تتعرض لهجوم عسكري. ووقعت اتفاق سلام مع إسرائيل قبل نصف قرن. والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة حلفاء مهمون لها. وتواصل القاهرة تعميق علاقاتها بتركيا، ومنذ الانفراج الإيراني السعودي في العام 2022، ناقشت فتح سفارة في طهران. وصمد اتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا لمدة أربع سنوات، في حين لم تعد الحرب الأهلية في السودان معرضة لخطر الامتداد إلى مصر. وتبين أن العداء ضد إثيوبيا من أجل بناء سد على النيل الأزرق كان في الأغلب مجرد حرب كلامية، بينما في المناطق الداخلية من سيناء تبدو الكثير من المعدات المصرية غير متوافقة مع أهداف هزيمة تمردٍ منخفض الحدة.

التفسير المعقول هو أن التسلُّح يخدم أجندة السيسي السياسية. وكما يقول خليل العناني، فإن «ترقية وتحديث القوات المسلحة المصرية عنصر حاسم في محاولة السيسي للحفاظ على الدعم العسكري لنظامه». فذلك يدعم صورة السيسي باعتباره مُحدِّثاً ويتناسب مع رؤية الجنرال بشأن نوع الإنفاق الذي يثير إعجاب الضباط. وبالنسبة إلى الولايات المتحدة، يشير ذلك أيضاً إلى استعداد القاهرة للاضطلاع بدور أكثر نشاطاً في الإطار الإقليمي الذي تدعمه الولايات المتحدة، سواء كان ذلك يعني القيام بمهام شُرَطية في اليمن والصومال وليبيا أو حماية حركة المرور البحرية. والولايات المتحدة ليست القوة المتقدمة الوحيدة التي تدرك هذه الحاجة. لقد واشترى السيسي بما يقرب من 4 مليارات دولار أسلحة فرنسية وألمانية بين عامي 2013 و2017 في تحد للتجميد الذي حصل في عهد أوباما. لكن التمويل العسكري الأميركي يوفِّر عائدات مهمة، وهو ما يحرص السيسي على تعظيمه. ولهذا لا ينبغي أن ننسى سبائك الذهب التي أرسلها أصدقاؤه إلى بوب مينينديز.

السمات التي يتميَّز بها الاقتصاد السياسي في مصر - القطاع العسكري المهيمن، وارتفاع الديون الخارجية، والاعتماد على الواردات الغذائية، والدعم الأميركي - كانت موجودة منذ الثمانينيات من القرن العشرين. فما الذي يفسر التوتر الأخير؟

وفيما يتعلق بإعادة الهيكلة الاقتصادية، حرصت الحكومة المصرية على الاستفادة من مكانتها كعملاق إقليمي أكبر من أن يسقط. في العام 1987، أشار المديرون التنفيذيون لـ«صندوق النقد الدولي» إلى «حجم مصر وأهميتها السياسية في المنطقة» في تجاهلٍ لترويج موظفي الصندوق الأصغر سناً لإصلاحات أكثر جرأة، كما ذكرت بسمة المومني. وبدلاً من تعويم مصر لعملتها، وافق المجلس على إصلاح تدريجي لسعر الصرف في «اتفاقية الاستعداد الائتماني» لعام 1987، حيث أطلق سراح 327 مليون دولار ثم طلب من «نادي باريس» إعادة جدولة 7 مليارات دولار من الديون السيادية المصرية بشروط وصفها تقرير للسفارة الأميركية في القاهرة بأنها «أكثر سخاءً من تلك الممنوحة لأي دولة مدينة أخرى تقريباً».

ويدرك السيسي تمام الإدراك هذا النفوذ ويستغل المخاوف الأميركية والأوروبية. وقد قال في كانون الثاني/يناير 2023: «أخبرنا الاقتصاديون أننا بحاجة إلى إجراءات تقشف عميقة في اقتصادنا، وأننا يجب أن نوقف المشاريع الكبرى». وأضاف: «لكن لهذا أقول: أنا أوظِّف ما بين خمسة إلى ستة ملايين شخص، أخبروني، كيف يمكن أن نفعل ذلك؟ هل نُغلق كل هذا؟». بمعنى آخر، لا يمكن وقف المشاريع إلا في ظل خطر طرد مئات الآلاف من الشباب. أو كما حذر مرة أخرى بعد أسابيع قليلة من هجوم حماس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر والغزو الإسرائيلي لغزة، فإن المنطقة أصبحت «قنبلة موقوتة». ثم استبعد عمليات نقل واسعة النطاق لسكان غزة إلى سيناء: «يجب أن أؤكد أننا لم نستأصل الإرهاب بعد». بعبارة أخرى، مصر تحتاج إلى الذخيرة، وليس التقشف أو اللاجئين. إن الرسالة الموجهة إلى الجهات المانحة توازي تلك التي أتقنها السيسي للجمهور المحلي: الخوف من أن تؤدي محاولات الثورة أو إعادة الهيكلة النيوليبرالية إلى انهيار الدولة أو البؤس الشعبي.

 مُحاسبة أعمق

وبالتالي فإن أسباب الأزمة في مصر تنقسم إلى شِقَّين: التقاء واضح للعوامل الجيوسياسية في أوكرانيا، والسودان، وغزة على مدى العامين الماضيين، وهو الأمر الذي يحدث بالتزامن مع الإخفاقات البنيوية وطويلة الأمد للاقتصاد المصري والتي تعطي الميزة لرأس المال المُضارِب والمؤسسة العسكرية. وتجتمع هاتان القوتان لتؤديان إلى تفاقم أزمة تكاليف المعيشة، في حين تقع أعباء التكيف مع الأنظمة التضخمية الجديدة وشروط الإقراض على أكتاف العمل المأجور. وتؤدي صفقات الإنقاذ التي بعقدها «صندوق النقد الدولي» إلى تفاقم هذا الوضع. ومن خلال دعم نموذج مُفلس فكرياً للنمو والتقشف القائم على المضاربة، فإن الصندوق يمهِّد الطريق للصراع في المستقبل.

وتكشف مشاكل العملة الدائمة التي تواجهها البلاد أيضاً عن تناقض مهمَل في التسوية الأمنية الحالية التي تدعمها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. إن الدفاع عن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية يشكل جوهرة تاج السياسة الخارجية الأميركية، ولكنه يزعزع استقرار مصر. فلا يزال التحريض الشعبي ضد نظام السيسي بسبب سياسته التي لا تفعل شيئاً تجاه الفلسطينيين يشكل مصدراً لأزمة سياسية محتملة، في حين يلوح في الأفق احتمال حقيقي لحدوث نزوح جماعي قسري للفلسطينيين من غزة إلى شمال سيناء. ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، أدت الحرب على غزة والحصار الذي فرضه الحوثيون على تجارة البضائع في البحر الأحمر إلى تعطيل مصدر مهم للعملة الأجنبية لمصر. ويتطلب إنهاء الحرب فرض شروط على المساعدات الأميركية لإسرائيل، وهو خط أحمر لا يزال مهماً للغاية بالنسبة إلى إدارة بايدن حتى الآن. وبالتالي فإن الدعم الأميركي لإسرائيل واستراتيجيتها القائمة على التوازن العنيف يهددان بإفلاس مصر، وإعادتها مرة أخرى إلى «صندوق النقد الدولي».

ومن غير المرجح أن يؤدي إنقاذ «صندوق النقد الدولي» وتخفيض قيمة الجنيه المصري بدوره إلى إضفاء طابع مدني على القطاع العام إلى حد كبير، لأن البقاء السياسي للنظام يعتمد على الإدارة العسكرية للاقتصاد. الإصلاحات الهيكلية لـ«صندوق النقد الدولي» ليست مستعدة للتعامل مع الطبيعة السياسية الأساسية للحكم المصري الفاشل: لم يتمكن المقرِض حتى الآن من استبدال الاقتصاد السياسي القائم على الزبائنية بتحالف جديد متماسك من النخب التنموية. بل إن الشروط التي يفرضها الدائنون تعمل على زيادة فقر أكبر عدد من السكان في العالم العربي، في حين تنقذ النظام من العجز عن السداد. فمصر في الوقت نفسه أكبر من أن تفشل وأعوَص من أن تُنقَذ.

الشروط التي يفرضها الدائنون تعمل على زيادة فقر أكبر عدد من السكان في العالم العربي، في حين تنقذ النظام من العجز عن السداد

وتستدعي هذه المعضلة اتباع مقاربة جديدة في التعامل مع المساعدات الخارجية وتمويل الديون السيادية تعطي الأولوية للإعفاء من الديون، وضوابط رأس المال، والأمن البشري على نقل الأسلحة، فضلاً عن خطوط ائتمان منخفضة الفائدة وشروط تعزز الانفتاح السياسي وقاعدة ضريبية تصاعدية. وقد دعت منى علي إلى إجراء مثل هذه الإصلاحات على مستوى «صندوق النقد الدولي» والجهات المانحة. وعلى الساحة الجيوسياسية، فإن إنهاء الحرب على غزة، والسماح للفلسطينيين بالعودة إلى الشمال، وتخفيف الاختناقات التي تفرضها إسرائيل على المساعدات، وإعادة بناء القطاع، هي خطوات مهمة لاستعادة السيولة المالية المصرية. وسيكون التأثير المباشر على الاقتصاد المصري هو تقليص حصار الحوثيين لمضيق باب المندب وتشجيع حركة المرور في قناة السويس. إن المزيد من التعزيزات الجيوسياسية لاستقرار مصر من شأنه أن يؤدي إلى ترسيخ السلام الهش للنظام الليبي الجديد (آخر وقف لإطلاق النار كان قبل أربع سنوات)، واتخاذ خطوات لتجميد الصراع بين «قوات الدعم السريع» والجنرال البرهان في السودان، وإعادة تجارة القمح في البحر الأسود إلى أحجام ما قبل الحرب.

وقد يتم فتح أفق جديد لمصر من خلال تحول ديمقراطي ثوري للدولة المصرية، بمستوى نهاية الدكتاتوريات العسكرية في البرتغال وكوريا الجنوبية خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، والذي قد يُنظَر ذات يوم إلى ثورة مصر في العام 2011 على أنها بروفة له. فعلى النقيض من دول الخليج، تتمتع مصر بآليات الديمقراطية البرلمانية وإرث نابض بالحياة من التنظيم العمالي والطلابي، وهذه هي الجماعات التي افتتحت ثورة 2011. ويتطلب إنجاح الأمر تنشيط التحالف القديم بين الطلاب والعمال والطبقة المتوسطة في المناطق الحضرية، وهو التحالف الذي أسقط مبارك وأقنع كتلة كبيرة من الجيش وقوات الأمن بالانشقاق.

لكن لأن مصالح الدول والدائنين تفضل الوضع الراهن، فإن هذا النوع من المحاسبة يظل غير مرجح. وسوف يتطلب الأمر تحولات أكبر في الاقتصاد السياسي العالمي أو هزة غير متوقعة في ميزان القوى الطبقية داخل مصر. من المرجح أن يظل الهتاف الثوري «يسقط حكم العسكر» صيحة ملائمة بشكل مستمر، ترنيمة من بين العديد من الترنيمات للأحفاد الروحيين لهؤلاء التقدميين، الذين صاحوا قبل ثلاثة عشر عاماً - من شوارع القاهرة إلى الإسكندرية ومن أسوان إلى بورسعيد، ومن مصانع النسيج في المحلة إلى مصانع الصلب في حلوان - بمطالبهم العادلة بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية.

نشر هذا المقال في Phenomenal World في 14 آذار/مارس 2024

  • 1Bessma Momani, IMF–Egyptian Debt Negotiations (Cairo Papers in Social Science, 2003).
  • 2Alexandros Kentikelenis and Thomas Stubbs, A Thousand Cuts: Social Protection in the Age of Austerity (Oxford University Press, 2023).
  • 3 Zeinab Abul-Magd, Militarizing the Nation: The Army, Business, and Revolution in Egypt (Columbia University Press, 2017), p. 20.
  • 4يُنظَر Farah, Nadia Farah’s Egypt’s Political Economy: Power Relations in Development (2009). ويُراجَع James Galbrath’s The Predator State (2008). وللاطلاع على معالجة عامة لـ«الدول المفترسة»، يُنظَر William Reno’s chapter “Predatory States and State Transformation” in The Oxford Handbook of Transformations of the State (2015).