التضخّم في مصر: العوامل الخارجية والهشاشة الداخلية

«لم نشهد هذا المستوى من الغلاء من قبل، لقد تخلّينا بالفعل عن اللحوم والدواجن وعن بعض احتياجاتنا الأساسية، ولا نعلم ماذا سيحدث غداً». هكذا علّق شوقي (اسم مستعار) العامل في إحدى شركات القطاع الخاص المصرية على موجة التضخّم المُتصاعدة التي تشهدها البلاد.

تفسِّر مؤشِّرات التضخّم التي أعلنها الجهاز المركزي للتعبئة العامّة والإحصاء والبنك المركزي، في 10 نيسان/أبريل، شعور شوقي بالغلاء، إذ ارتفع معدّل التضخّم العام في آذار/ مارس الماضي على أساس سنوي إلى 33.9%، مقابل 12.1% في آذار/ مارس 2022، مقترباً بذلك من أعلى معدّلاته التاريخية، فيما سجَّل التضخّم الأساسي الذي يقيسه البنك المركزي (أي التضخّم غير المحسوب ضمنه أسعار السلع شديدة التقلّب مثل الخضروات والفاكهة والسلع المُسعّرة إدارياً) في آذار/ مارس الماضي 39.7%، منخفضاً قليلاً عن معدّل الشهر السابق، ولكن يبقى ضمن المعدّل الأعلى تاريخياً. تذكّر هذه المعدّلات بطفرة التضخّم التي شهدتها مصر في العام 2017، والتي أعقبت الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على قرضٍ بقيمة 12 مليار دولار، وبالتوازي مع تحرير سعر الصرف ورفع أسعار الوقود.

تذكّر هذه المعدّلات بطفرة التضخّم التي شهدتها مصر في العام 2017، عقب الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على قرضٍ بقيمة 12 مليار دولار، وبالتوازي مع تحرير سعر الصرف ورفع أسعار الوقودكان الاتفاق الأخير مع صندوق النقد أكثر تواضعاً، فاقتصر على قرض بقيمة 3 مليارات دولار فقط، لكن الآثار التي ترتَّبت عنه لم تكن أقل وطأة من السابق. استدعى الاتفاق تحرير سعر الصرف، بحيث قفز سعر الدولار في السوق المصرية ثلاث مرّات، وارتفع من أقل من 16 جنيهاً في آذار/ مارس 2022 إلى أكثر من 31 جنيهاً في كانون الثاني/ يناير الماضي، مع توقّعات بحصول زيادات أخرى. وفي بلدٍ يعاني من عجزٍ دائم في الميزان التجاري ويعتمد على استيراد الكثير من السلع الأساسية ومدخلات الإنتاج، أدّى ارتفاع سعر الدولار إلى المزيد من التضخّم، فالشحٍّ في الكثير من السلع نتيجة العجز عن تدبير الدولارات الكافية للاستيراد عزّز الموجة التضخّمية.

التضخّم المحسوس أعلى من الأرقام

تعني العوامل المنتجة للتضخّم أن الموجة التضخمية لم تصل إلى ذروتها بعد، فالأسعار العالمية ما زالت تتّسم بالتذبذب، وسعر الدولار في مصر لم يصل حدّه الأقصى بعد. ولكن اللافت أن الإحساس بالتضخّم يتجاوز كثيراً المعدّلات المُعلنة. ارتفعت أسعار الكثير من السلع بنسبة 100% أو يزيد، ولم تواكب تلك الزيادات زيادة مُعتبرة في الدخل. هذا ما يوضحه شوقي في حديثه قائلا «كان راتبي نحو 3,500 جنيه في العام الماضي وارتفع إلى 4,000 جنيه فقط حالياً، أي بزيادة أقل من 20%، أمّا الأسعار فقد تضاعفت فعلياً، وبعض السلع لا نجدها أصلاً وبعضها سلع أساسية. زادت أسعار الأرز والسكر والزيت بنسبة 100% تقريباً، وارتفعت أسعار اللحوم من 140 إلى 280 جنيهاً وأكثر، وهذا ما ينطبق على غالبية السلع». ويضيف شوقي «اضطررنا للاستغناء عن الكثير، ليس من الرفاهيات فحسب، مثل الفسح والخروج التي أصبحت مستحيلة، ولكن أيضاً من الأساسيات. مثلاً اضطُرِرت للاستغناء عن الدروس الخصوصية لأبنائي. لي ثلاثة أبناء في المرحلة الابتدائية، ولا يمكن الاعتماد على التعليم في المدارس الحكومية لازدحامها الشديد، فكنّا نعتمد على الدروس الخصوصية والمراكز التعليمية، ولكن لم نعد نقدر على دفع تكلفتها، فاضطررت للاستغناء عنها، وأعتمد حالياً على المذاكرة معهم على الرغم من أنني أقوم بعمل إضافي إلى جانب عملي».

الإحساس بالتضخّم يتجاوز كثيراً المعدّلات المُعلنة. ارتفعت أسعار الكثير من السلع بنسبة 100% أو يزيد، ولم تواكب تلك الزيادات زيادة مُعتبرة في الدخلتوضح أستاذة الإحصاء في جامعة القاهرة، فاطمة الزناتي، سبب تجاوز الاحساس بالتضخّم للأرقام المعلنة قائلة «عندما تصدر مؤشِّرات التضخّم عن الجهاز المركزي للتعبئة العامّة والإحصاء والبنك المركزي، قد لا يقتنع الكثير من الناس بتلك المعدّلات، على الرغم من أنها معدّلات مرتفعة بالفعل، بل وقياسية أيضاً، لأن معدّلات الارتفاع في الأسعار تتجاوز تلك النسب، والسبب هو معدّل التضخّم التراكمي. فالتضخّم المتحقّق كل شهر يضاف إلى مؤشِّر التضخّم الكلّي، لذا ما يعلن كلّ شهر من مؤشِّرات تضخّمية لا تعبِّر عن إجمالي التضخّم والتراكم المتحقّق». وأضافت الزناتي «هناك عامل آخر يزيد الإحساس بالتضخّم، وهو مكوّنات التضخّم نفسها، فالارتفاع في الأسعار لا يكون بالنسبة نفسها في كافة السلع، والإحساس بالتضخّم لا يعتمد فقط على مؤشِّر التضخّم، ولكن على أهمّية السلع التي ترتفع أسعارها بمعدّلات أعلى، والتضخّم الحالي يشهد زيادة عالية للغاية للسلع الغذائية، وهو ما يزيد من إحساس الناس بالغلاء».

ما تشير إليه الزناتي توضحه أرقام التضخّم نفسها. بلغ معدّل التضخّم في آذار/ مارس الماضي  33.9%، واستحوذت الأغذية والمشروبات على نسبة 62.7% من التضخّم، أمّا تضخّم أسعار الحبوب والخبز، أي السلع الأكثر أهمّية للأسر المصرية، فقد وصلت إلى 69.6%، وتجاوز تضخّم أسعار اللحوم والدواجن 91% ومنتجات الألبان 82.2%. ويصبح ارتفاع أسعار الغذاء أكثر تأثيراً على الأسر التي يستوعب فيها الإنفاق على الغذاء النسبة الأكبر من الدخل، ويبلغ متوسِّط إنفاق الأسر المصرية على الطعام والشراب نحو 31% من دخل الأسرة وفقاً لبحث الدخل والإنفاق لعام 2019 - 2020. ويرتفع هذا المتوسّط بشدة لدى الشرائح الأفقر من السكّان ليبلغ 84%، ويتراجع لدى الشرائح الأعلى دخلاً ليبلغ 11.8% لدى أعلى شريحة في الدخل. أي أن الوزن النسبي لإنفاق الأسر المصرية الأدنى في سلم الدخل على الطعام والشراب يتفوّق على باقي بنود الإنفاق، ما يجعل أي ارتفاع في أسعار السلع الغذائية، خصوصاً الأساسية منها أكثر تأثيراً على الأسر المصرية.

العلاج النقدي لا يجدي

لم يجدِ العلاج التقليدي للتضخّم، أي العلاج بأدوات السياسة النقدية، نفعاً على مدار عام كامل. ضاعف البنك المركزي سعر الفائدة من دون أن يتمكّن من السيطرة على التضخّم، وهو ما يدفع الحكومة لمحاولة الحدّ من آثار التضخّم عبر أدوات أخرى، وهي أدوات السياسة المالية، أي الأجور والدعم والضرائب، وهو ما ظهر في التوجيهات الرئاسية الأخيرة، والتي تمثَّلت في رفع أجور العاملين بالحكومة، ورفع حدّ الإعفاء الضريبي. هذه الزيادات وإن لم تبلغ معدّلات التضخّم، إلّا أنّها اقتصرت أيضاً على العاملين بالحكومة وأصحاب المعاشات، ما يعني أن غالبية العاملين بأجر لن يستفيدوا منها، فضلاً عن أنها سوف تضيف أعباءً على الموازنة بقيمة 190 مليار جنيه (نحو 6.1 مليار دولار)، رافعة بذلك عجز الموازنة الذي تسعى الحكومة لعلاجه عبر القروض.

يصبح ارتفاع أسعار الغذاء أكثر تأثيراً على الأسر التي يستوعب فيها الإنفاق على الغذاء النسبة الأكبر من الدخليبدو الأمر كتفاعلٍ متسلسلٍ، كلّ نقطة فيها تؤدّي إلى النقطة التالية من الأزمة، فشحّ العملة الصعبة وعجز الموازنة يدفع الحكومة إلى القروض المشروطة بتحرير سعر الصرف، وهو ما يرفع سعر الدولار في السوق المحلّية، وبالتالي معدّل التضخّم. بدورها تحاول الحكومة معالجة التضخّم عبر رفع سعر الفائدة وزيادة حزمة الحماية الاجتماعية، وهو ما يؤدّي إلى مزيد من أعباء الدَّيْن وعجز الموازنة من دون أن يعالج التضخّم، ويُجبِر الحكومة على طرق أبواب الدائنين مجدَّداً لتستمرّ الدورة من دون نهاية واضحة.

لكن حتّى الاستمرار على هذا النحو لا يبدو مُمكناً. الدائنون الذين أبدوا سخاءً في أوقات سابقة (دول الخليج خصوصاً) أصبحوا أكثر تذمّراً من سياسة الاقتراض، وأعلنوا صراحةً أنهم ليسوا بصدد تقديم المزيد من القروض لمصر، وأنّهم يفضِّلون شراء الأصول وضخّ الاستثمارات بدلاً من الإقراض. وهذا ما دفع الحكومة للإعلان عن نيَّتها طرح أكثر من 30 مشروعاً مملوكاً للبيع إلى المستثمرين من القطاع الخاصّ. كما أن صندوق النقد الدولي لم يعد يبدي الحماس نفسه لإقراض الحكومة المصرية، فالصندوق الذي أقرض مصر 20 مليار دولار بين عامي 2016 و2020 على ثلاث دفعات، استغرق نحو العام للموافقة على قرض محدود وبشروط أكثر قسوة.

العوامل الخارجية لا تفسّر كلّ التضخّم

تبدو العوامل الخارجية التي تعمّق الأزمة واضحة للغاية، فالحرب الروسية الأوكرانية أدّت إلى ارتفاع أسعار الطاقة والحبوب عالمياً وانعكست بقوّة على مصر. وهذا ما لا يمكن التقليل من أثره على مختلف بلاد العالم، لكن درجة تأثّر أي بلدٍ بالظروف الخارجية يتوقَّف على تماسك اقتصاد البلد نفسه. لا شكّ تأثّرت كافة الدول المستوردة للقمح نتيجة الحرب، ولكن مصر بوصفها أكبر مستورد للقمح في العالم كان تأثّرها أكبر. لا تُفسَّر آثار الأزمة على الاقتصاد المصري بالعوامل الخارجية فحسب، الهشاشة التي يعاني منها الاقتصاد المصري ضاعفت على نحو واضحٍ أثر الأزمة. من الملاحظ مثلاً أن معدّلات التضخّم في مصر تتأثّر سريعاً بارتفاع الأسعار العالمية، ولكنها لا تكتسب المرونة نفسها مع تراجع الأسعار العالمية كما حدث في الأشهر الماضية، ذلك لأن تراجع قيمة العملة المحلّية والاعتماد على الاستيراد بدَّدا هامش التراجع في الأسعار العالمية، وهو ما يعود إلى بنية الاقتصاد نفسه لا إلى العوامل الخارجية.

قد تبدو موارد مصر بالعملة الأجنبية متنوّعة؛ تحويلات المصريين في الخارج، وإيرادات السياحة، وإيرادات قناة السويس، والصادرات، لكن هذا التنوّع تجمعه الحساسية الشديدة تجاه العوامل الخارجية. ما عدا الصادرات، تخضع موارد العملات الأجنبية في مصر لتقلّبات السوق العالمية، ولا سيما السياحة التي تُعدُّ أهم موارد النقد الأجنبي وتتأثر بشدّة بمختلف العوامل الاقتصادية والسياسية والأمنية. ومع عجزٍ مزمن في الميزان التجاري، تجاوز 9  مليارات دولار في الربع الأول من العام المالي الجاري، تصبح أزمة النقد الأجنبي حتمية في ظل أوضاع عالمية مضطربة.

لا تُفسَّر آثار الأزمة على الاقتصاد المصري بالعوامل الخارجية فحسب، الهشاشة التي يعاني منها الاقتصاد المصري ضاعفت على نحو واضحٍ أثر الأزمةأمّا العامل الآخر الذي يفاقم من آثار العوامل الخارجية فهو أن الواردات المصرية لا تتسم بأي مرونة، بمعنى أنها يصعب التخلّي عن غالبيتها أو إيجاد بدائل لها. بلغت قيمة الواردات في الربع الأول من العام المالي الجاري نحو 19 مليار دولار، في مقابل أقل من 10 مليارات دولار للصادرات، ولكن الأزمة ليست في قيمة الواردات مقابل الصادرات فحسب، بل في مكوّنات تلك الواردات، إذ تستورد مصر وقوداً بأكثر من 4 مليارات دولار، ومواد خام بنحو مليارين دولار، وسلع وسيطة بنحو 6.3 مليار دولار. ما يعني أن أكثر من 66% من الواردات المصرية هي عبارة عن لوازم ومدخلات إنتاج، يؤدّي نقصها أو حتى تأخّرها إلى تعطّل الإنتاج في المنشآت التي تعتمد عليها، وبالتالي إلى تراجع الصادرات، فضلاً عن أن باقي الواردات تشمل سلع غذائية وأدوية ومستلزمات صحية لا تتسم بأي مرونة، ويؤدي شحّها إلى طفرات فورية في التضخّم.

لا يمكن فهم معدّل التضخّم الحالي في مصر كمجرّد انعكاس للعوامل الخارجية على الرغم من تأثير هذه الأخيرة. فالبنية الاقتصادية كان يمكنها إظهار درجة أعلى من المقاومة أو حتّى امتصاص جزء من الأزمة لو اتسمت بدرجة أعلى من المرونة تجاه تقلّبات السوق العالمية، ولكن هشاشة الاقتصاد المُتمثلة في البحث الدائم عن حلول أزماته لدى صندوق النقد الدولي والدائنين، واختلال الميزان التجاري، وتغطية جزء لافت من الحاجات الاستهلاكية والإنتاجية بالاستيراد أدّت إلى مضاعفة آثار الأزمة وتعميقها.

هذه ليست موجة التضخّم الأولى التي تمرّ بها مصر، ولكنها تختلف عن كلّ ما سبقها في أنها تؤدّي إلى تغيّرات واضحة في حياة المصريين. وهذا ما يبدو من حديث شوقي عندما يقول «كنا نزور معرض الكتاب في كلّ عام، ولكنّنا هذا العام عجزنا عن ذلك. كنّا نخرج للفسحة مرّة أو مرتين في الشهر، لكن الآن لم نعد نستطيع ذلك. كنّا نستعدّ لشهر رمضان كلّ عام بشراء لوازم الشهر الكريم، وهذا العام جاء رمضان من دون أن نستعدّ له بأي شيء، وتخلّينا بالفعل عن غالبية عاداتنا الاجتماعية والأسرية التي ارتبطت دائماً بهذا الشهر. لكن المشكلة الأكبر من كلّ ذلك هو أنّنا لم نعد نعرف ماذا سوف يحدث في المستقبل».