السياسة النقدية في مصر: لا فائدة من رفع الفائدة

مضى البنك المركزي المصري بسياسة رفع أسعار الفائدة، واتخذ يوم الخميس في 30 آذار/ مارس 2023 قراراً بزيادة نقطتين مئويتين، ليصبح سعر الفائدة 18.25% على الإيداع و19.25% على الإقراض، بالمقارنة مع 8.25% و9.25% على التوالي في آذار/ مارس 2022. وكان البنك المركزي قد تمكَّن قبل ذلك من تثبيت سعر الفائدة لأكثر من عامٍ، في ظلّ استقرار نسبي لسعر الصرف، وفي ظلّ مُعدّل تضخّم مُعتدل، إذ سجَّل 5% في العام 2021، وهو أدنى مستوى له منذ أكثر من عشر سنوات، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامّة والإحصاء.

ولكن، مع بدء الحرب الروسية في أوكرانيا، واجه الاقتصاد المصري ضغوطاً جديدة، إذ ساهمت هذه الحرب في ارتفاع أسعار الحبوب والقمح عالمياً، وكذلك في ارتفاع أسعار البترول ووصولها إلى مستويات قياسية، ممّا ترك آثاراً سلبية على البلد الذي يُعدّ أكبر مستورد للقمح في العالم ومستورداً صافياً للبترول، وانعكس بشكل مباشر في تراجع احتياطي النقد الأجنبي من نحو 41 مليار دولار في شباط/ فبراير 2022 إلى نحو 37 مليار دولار في آذار/ مارس 2022، ليبلغ أخيراً نحو 34 مليار دولار، فاقداً 17% من قيمته على مدار العام، وهو ما انعكس على سعر الجنيه المصري أمام الدولار الأميركي وعلى توافر الدولار نفسه، وأجّج التضخّم الذي بدأ الخروج عن السيطرة مع بداية الحرب، ليبلغ ما اعتبره البنك المركزي مستويات تاريخية، إذ سجّل في آذار/ مارس الماضي نحو 40%. في مواجهة هذه الظروف، اتجه البنك المركزي مباشرة إلى استخدام أدوات السياسة النقدية، فبدأ مسلسل رفع سعر الفائدة، بهدف امتصاص موجة التضخّم، ودعم أداء الجنيه أمام الدولار.

علاقة طرديّة

العلاقة بين سعر الفائدة وسعر الصرف والتضخّم تبدو منطقية، إذ يعني رفع سعر الفائدة تلقائياً سحب السيولة النقدية من الأسواق وتوجيهها إلى البنوك لجني العائد المرتفع، وبالتالي انخفاض الطلب الفعّال وتراجع الأسعار. ومن ناحية أخرى، يؤدّي ارتفاع سعر الفائدة على الجنيه إلى التخلّي عن العملات مُنخفضة الفائدة والتوجّه إلى العملة ذات العائد المُرتفع. إلّا أن هذه المعادلة لم تتحقَّق على مدار العام حين رفع فيه البنك المركزي سعر الفائدة 10 نقاط مئوية، أي بارتفاع  نسبته 121.2% على الإيداع و108.1% على الإقراض.

اتجه البنك المركزي مباشرة إلى استخدام أدوات السياسة النقدية، فبدأ مسلسل رفع سعر الفائدة، بهدف امتصاص موجة التضخّم، ودعم أداء الجنيه أمام الدولارعندما بدأ البنك المركزي في رفع سعر الفائدة (نقطة مئوية واحدة) في آذار/ مارس 2022، كان مؤشِّر التضخّم قد سجّل نحو 10% في شباط/ فبراير، ثمّ ارتفع إلى 14.9% في نيسان/ أبريل 2022، فيما بلغ سعر الدولار في سوق الصرف المصري نحو 15.7 جنيها في آذار/ مارس 2022، وارتفع إلى 18.28 جنيهاً في نيسان/ أبريل 2022.

استمرَّت العلاقة الطردية بين سعر الفائدة ومعدّل التضخّم طوال العام الماضي، ففي آيار/ مايو 2022 رفع البنك المركزي سعر الفائدة نقطتين مئويتين، ليرتفع التضخّم إلى 15.3%، ثمّ رفع الفائدة نقطتين أخرتين في تشرين الأول/ أكتوبر 2022 ليرتفع التضخّم في الشهر نفسه إلى 16.3%. أمّا في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، فقد سجّلت الزيادة الأكبر على سعر الفائدة والتي بلغت ثلاث نقاط، وأيضاً الزيادة الأكبر في معدّل التضخّم الذي بلغ 21.9%، ليستمرّ التضخّم في الارتفاع وصولاً إلى 32% في شباط/ فبراير الماضي بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامّة والإحصاء، فيما سجَّل البنك المركزي وصول معدّل التضخّم الأساسي في شباط/ فبراير الماضي إلى 40% وهو أعلى مستوى يُسجّله البنك المركزي تاريخياً.

سار سعر الصرف على النهج نفسه في علاقته برفع سعر الفائدة، فعلى مدار العام الماضي ارتفع سعر الدولار في السوق المصري من 15.7 جنيهاً إلى نحو 31 جنيهاً، وفقد الجنيه بذلك نحو نصف قيمته، على الرغم من ارتفاع العائد عليه في البنوك المصرية.

ليست أزمة في الطلب

وفقاً للنظرية الاقتصادية الشائعة، من المفترض أن يرتبط سعر الفائدة بعلاقة عكسية مع كلّ من التضخّم وسعر الصرف، ولكن هذه العلاقة تتوقّف على أسباب التضخّم وأسباب تراجع سعر العملة المحلّية. والمفارقة هنا أن الوعي الجمعي في مصر، الذي يتمّ التعبير عنه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح يعتبر أن اجتماع لجنة السياسات النقدية يعني رفع الفائدة وتخفيض سعر الجنيه وارتفاع التضخّم كحزمة مُترابطة لا يمكن فصلها.

تراجعت استثمارات الأجانب في أذون الخزانة الحكومية في مصر من أكثر من 21 مليار دولار في كانون الثاني/ يناير 2022 إلى 10.4 مليار دولار في كانون الثاني/ يناير الماضيلم تكن موجة التضخّم في مصر التي صاحبت الحرب الروسية الأوكرانية، ناتجة عن زيادة في الطلب وبالتالي يمكن السيطرة عليها عبر سحب السيولة بأسعار الفائدة المرتفعة، بل كانت انعكاساً للأسعار العالمية في بلد يعتمد على الاستيراد ويعاني ميزانه التجاري من اختلال مُزمن. لم يصب التضخّم الذي شهدته مصر الأجهزة المنزلية الإلكترونية والسيّارات فحسب، بوصفها سلعاً مستوردة، بل نسبة التضخّم الأكبر وفقاً للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء كانت من نصيب السلع الضرورية والأساسية، والتي لا تتمتّع بأي مرونة في الطلب، حيث سجَّلت أسعار الطعام والمشروبات في شباط/ فبراير الماضي ارتفاعاً بنسبة 61.5% على أساس سنوي، وسجَّلت أسعار الخبز والحبوب ارتفاعاً بنسبة 76.7%. لا يرتبط هذا التضخّم في أسعار الخبز والغذاء بارتفاعٍ في الطلب وبالتالي يمكن السيطرة عليه، وإنّما يرتبط أساساً بارتفاع أسعار القمح والغذاء عالمياً، واعتماد مصر بنسبة كبيرة على الاستيراد. لذلك أي ارتفاع في سعر الفائدة لا يمكن أن يعالج هذه الأسعار.

أيضاً لا يمكن السيطرة على سعر الصرف دائماً من خلال سعر الفائدة، لا سيما عندما تتّجه البنوك المركزية في الدول المتقدّمة إلى رفع سعر الفائدة، فتفقد الأسواق الناشئة مثل مصر أي ميزة تنافسية، وهو ما شهدته مصر بالفعل مع رفع الدول المتقدّمة أسعار الفائدة، حيث تراجعت استثمارات الأجانب في أذون الخزانة الحكومية في مصر من أكثر من 21 مليار دولار في كانون الثاني/ يناير 2022 إلى 10.4 مليار دولار في كانون الثاني/ يناير الماضي، في نزوح جماعي للاستثمارات الأجنبية غير المباشرة في اتجاه الأسواق المتقدّمة. في الوقت الذي تتزايد في الحاجة إلى العملة الأجنبية من أجل تلبية الاحتياجات من الواردات، وأيضاً لإنتاج السلع المحلّية الصنع التي تعتمد على نسبة مُعتبرة من مدخلاتها على الواردات.

سياسة تولّد الأزمات

عادة، تبدو أدوات السياسة النقدية ضرورية من أجل إدارة الأزمات وامتصاص جانب من تأثيرها، ولكن أفضل ما يمكن أن تحقّقه السياسة النقدية هو كسب الوقت، فهي أحد وسائل إدارة الأزمة وليس حلّها.

ولكن، لا تنجح السياسة النقدية في إدارة كلّ أنواع الأزمات وفي كلّ مكان، ففي الحالة المصرية مثلاً، وعلى الرغم من ارتفاع سعر الفائدة لأكثر من الضعف خلال عام واحد، تحوَّلت الفائدة من موجبة إلى سالبة، اذ أصبحت تمثّل أقل من نصف معدّل التضخّم، فيما كانت سابقاً أعلى من نسبة التضخّم، وبالتالي لم تعد تشكِّل الفائدة المرتفعة أي جاذبية، لأنها تعني فعلياً انخفاض القيمة الحقيقية للنقود. وبالتالي لكي يصبح سعر الفائدة موجباً يجب أن يتضاعف مجدّداً.

لا تقدِّم أدوات السياسة النقدية الكثير، وقد لا تقدِّم شيئاً على الإطلاق، وفي ظل أزمة الاقتصاد الحقيقي وتزايد الاعتماد على الواردات، فكلّ ما تنتجه أدوات السياسة النقدية هو المزيد من الأزماتلا تقتصر مشكلات السياسة النقدية على كونها غير مُجدية في الوضع المصري فحسب، ولكن الأهم أنّ غياب النتائج الإيجابية لتلك السياسة يصاحبه أيضاً ظهور آثار سلبية. فرفع سعر الفائدة يعني على نحو مباشر زيادة أعباء الدَّيْن الحكومي. فالحكومة هي أكبر مقترض عبر أذون الخزانة والسندات الحكومية، وتتأثّر بكل ارتفاع في سعر الفائدة، فضلاً عمّا ينتجه رفع سعر الفائدة من تباطؤ في الاستثمار، لتُعاد بذلك دورة الأزمة مجدّداً ولكن على نحو أعمق.

لا تقدِّم أدوات السياسة النقدية الكثير، وقد لا تقدِّم شيئاً على الإطلاق، وفي ظل أزمة الاقتصاد الحقيقي وتزايد الاعتماد على الواردات، فكلّ ما تنتجه أدوات السياسة النقدية هو المزيد من الأزمات. وما لم تكن هناك معالجة حقيقية لأزمات الاقتصاد الحقيقي في مجالاته الإنتاجية والخدمية ليصبح أقل تأثراً بتقلّبات الأسواق العالمية، سوف تظل الحلول التي تقدِّمها السياسات النقدية دواءً مرّاً وغير فعّال.


التضخّم غير محسوب ضمنه أسعار السلع شديدة التقلّب، مثل الخضروات والفاكهة، وأسعار السلع المُحدّدة إدارياً.