الأزمة الاقتصادية المصرية: هوامش المناورة الضيّقة

تعاني مصر من عوارض أمولة الاقتصاد والاعتماد بشكل مُفرط على رأس المال الدولي، سواء عبر القروض أو الأموال الساخنة، إذ أدّى وقوعها في فخّ المديونية الخارجية الساعية وراء الريوع والربح السريع إلى تعميق أزماتها البنيوية المُتمثّلة بعجز مُزمن في ميزان المدفوعات وتراجع القطاعات الإنتاجية المولّدة لفرص العمل وهو ما ينعكس بأشكاله الأكثر إيلاماً بالأوضاع المعيشية المزرية التي يرزح تحتها أكثر من 100 مليون مقيم في مصر. 


يمرّ الاقتصاد المصري حالياً بأزمة عميقة، تُلقي بظلالها من خلال أعراض أهمّها شحّ الدولار والتضخّم المرتفع، دفعت بالحكومة إلى تخفيض الجنيه بنحو 47% من قيمته خلال أقل من عام، من 15.6 جنيه للدولار في آذار/مارس 2022 إلى نحو 30 جنيهاً حالياً. ويترافق ذلك مع معدّلات تضخّم رسمية تقترب من 25% على أساس سنوي، مع توقّعات بأن يزداد التضخّم لا سيما بعد تسجيل ارتفاعات مستمرّة في أسعار الغذاء تجاوزت الضعف في غضون أشهر قليلة. في هذا السياق، ترى الحكومة، ومعها صندوق النقد، حلولاً قصيرة المدى للأزمة، إذ يطرح الصندوق بيع الأصول المملوكة للدولة إلى بلدان في الخليج العربي ضمن اتفاق أشمل يقتضي الحصول على ودائع خليجية واستثمارات أخرى، ويعتقد أن خفض سعر الصرف قد تساعد في جلبها.

السرديّة الرسمية: إنّها أزمة العالم

تبدو السردية الرسمية للحكومة عن الأزمة سهلة وبسيطة، فهي تدّعي أنّ كلّ شيء كان جيّداً إلى أن تعرّض العالم، ومصر ضمنه، لجائحة كوفيد-19 وبعدها الحرب الروسية الأوكرانية، بما معناه أنّ العالم كلّه مأزوم ومصر ليست وحدها في قلب العاصفة. بينما يشير صندوق النقد في اتفاق القرض الأخير إلى الاختلالات الهيكلية التي تسبق تفشّي الجائحة ويحمّل مسؤولية الأزمة إلى الحكومة التي فشلت بحسب الصندوق في القيام بإصلاحات هيكلية تدعم القطاع الخاص وتحسّن النمو الاقتصادي. كانت الاختلالات التي قصدها الصندوق ناجمة من منافسة الشركات المملوكة للدولة، تحديداً شركات الجيش، للقطاع الخاص، وأيضاً الإنفاق المُكثّف على البنية التحتية عبر القروض.

لكن تلك الأزمة وعلى الرغم من قسوتها، والاستثنائية التي تبدو عليها في التاريخ الاقتصادي القريب لبلد بحجم مصر، إلّا أنها تحمل الكثير من أوجه التشابه مع أزمات سابقة عانى منها الاقتصاد المصري في العقود الأخيرة. على سبيل المثال في بداية الألفية وتحت ضغط أزمة الديون العالمية، التي اجتاحت الدول النامية ومنها أزمة النمور الآسيوية، خفّضت الحكومة المصرية سعر العملة بنحو 50%، وهو ما أطلق عليه في حينه التعويم المُدار. وفي عام 2016 انخفض سعر الصرف من نحو 8 جنيهات للدولار إلى 16 جنيه في الأيام الأولى للتعويم. وفي كلّ مرّة، ارتبط التخفيض بالاتفاق مع صندوق النقد على برنامج للإصلاح الاقتصادي. لكن ما يميز الأزمة الحالية هي هوامش المناورة الضيّقة المُتاحة للخروج من الأزمة.

أجادل في هذا المقال بأن هوامش المناورة التي تمتلكها الحكومة المصرية حين يتعرّض الاقتصاد لأزمة أصبحت أقل مع الوقت، وذلك ليس إلّا النتيجة لطبيعة الاندماج الاقتصادي في المنظومة العالمية للديون، التي اعتمدت عليها الحكومة منذ أزمة 2008 المالية، وترسّخت كطريق واضح للاندماج ضمن الاقتصاد العالمي بعد 2014.

فشل عملية "تخليق السوق"

تمحور الاندماج في الاقتصاد العالمي منذ تسعينيات القرن الماضي، وبداية توطّد علاقة مصر مع صندوق النقد، حول لبرلة مُتسارعة للاقتصاد، وتحرير جزئي للدعم، ورفع يد الدولة عن الاقتصاد. وشمل ذلك الاندماج المُفترض الخصخصة بوصفها مكوّناً أساسياً في برامج الصندوق، وروِّج لها على أنها الحلّ لانخفاض الكفاءة والإنتاجية في الاقتصاد، إلّا أنّ تحوّلاً في برامج الصندوق، أو بمعنى أصحّ فشل عملية "تخليق السوق"، وفق تعبير أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركي في القاهرة عمرو عادلي، التي دفعت الحكومة إلى اختيار طريقة أخرى للاندماج مع الاقتصاد العالمي حيث كانت أسواق الديون الدولية الطريقة الأسهل لذلك.

وفّرت تلك الأسواق الدولارات التي مكّنت الحكومة من البقاء في مكانها، من دون تحريك ساكن أو القيام بإصلاحات حقيقية، إذ مدّتها بما يشبه بـ الستيرويد أي بمنشّطات للاقتصاد. اقترضت الحكومة بشراهة لأسباب كثيرة منذ 2014، منها توفير الدعم السياسي للنظام وتوفير الدولارات لمشروعات كبرى راودت خيال الرئيس عبد الفتّاح السيسي. لكن حصل ذلك ضمن منظومة مُعقّدة كان هدفها النهائي هو نزع القيمة الاقتصادية من مصر نحو المستثمرين ومديري المحافظ الاستثمارية، بالإضافة إلى الصناديق السيادية الخليجية.

هدفت برامج الصندوق المُتتالية إلى الدفع بالكفاءة الاقتصادية عبر تحقيق عدد من المؤشّرات المرتبطة بالأجندة النيوليبرالية التي يجد الصندوق أنها صالحة للتطبيق في كل الدول. يرى الصندوق مثلاً أن النمو الاقتصادي المدفوع من القطاع الخاص، بمعنى سيطرة القطاع الخاص على غالبية النشاط الاقتصادي، يمكنه أن يخلق نموذجاً أفضل للاقتصاد المصري ويعالج التشوّهات الهيكلية الكامنة فيه، في حين، فشل القطاع الخاص الرسمي في خلال العقدين الأخيرين في توليد فرص عمل، سواء بالكمّ أو الكيف اللازمين لتوزيع أرباح النمو الاقتصادي وأعبائه بشكل جيّد. منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي وحتى 2019، لم يعوِّض القطاع الخاص الرسمي الوظائف الحكومية المفقودة، بل انخفضت حصّته في التشغيل ووصلت حالياً إلى 28% فقط من قوة العمل. في المقابل، استوعب القطاع الخاص غير الرسمي والصغير نحو نصف قوة العمل الحالية في الاقتصاد المصري.

الاندماج في المنظومة العالمية للديون

يراهن الصندوق أيضاً على أن تخفيض العملة يمكنه أن يدفع الصادرات إلى مستويات كبيرة تعوِّض العجز المُزمن في ميزان التجارة الخارجية، وعلى الرغم من أن تلك الفكرة تبدو منطقية للوهلة الأولى، إلّا أنّ ما حدث في مصر كان على العكس تماماً، إذ لم تنتعش الصادرات بنسب موازية للتخفيضات التي قامت بها الحكومة على العملة، وفي الفترة المُمتدة بين عامي 2016 و2021، بقي الميزان التجاري يُسجّل عجوزات متزايدة ومتتالية، ووصل إلى 47 مليار دولار خلال العام المالي السابق.

دفعت هذه الأزمات الحكومات المصرية المتعاقبة لاعتماد إجراءات عدّة، تضمّنت التقشّف في الموازنة العامّة وتخفيض إجباري لسعر الصرف، لكن يمكن الجدال بأن أياً من تلك الأزمات لم يكن بعمق الأزمة الحالية، ولم تكن الحكومة عاجزة كما هي الآن. في السابق كانت الحكومة تجد الكثير من هوامش المناورة، كان تخفيض سعر الصرف كافياً لعبور مؤقّت للأزمة. والمؤقت في ذلك الزمن كان يعادل 10 سنوات أو أكثر. في الواقع، تعرّض الاقتصاد المصري لأزمة في العملة في بداية ثمانينيّات القرن الماضي، ومن ثمّ في مطلع التسعينيّات، وفي عام 2003، ولاحقاً في عام 2016، لكن منذ عام 2016 عانت البلاد من أزمات مُتتالية دفعتها إلى تخفيض العملة ثلاث مرّات في عام 2022 من دون أفق حقيقي للخروج من تلك الأزمة.

بدأت علاقة مصر تتوطّد مع الصندوق في تسعينيّات القرن الماضي، وبدأت بإلغاء جزء من ديون الدولة المصرية كمكافأة من الولايات المتّحدة ونادي باريس على دخول مصر في حرب الخليج الثانية. من حينها دفع الصندوق في اتجاه موجة واسعة من خصخصة الأصول والمصانع المملوكة من القطاع العام، ولكنّها لقيت مقاومة استمرّت لسنوات عديدة تفوق ما اعتقده الصندوق، قادتها المعارضة الناصرية والإسلامية واليسارية حيناً، والمقاومة العمّالية في أحيان أخرى، بالإضافة إلى مقاومة بيروقراطية داخل مؤسّسات الدولة قادها جناح إداري رافض التخلّي عن الأصول العامة. لكن انتصرت الخصخصة في النهاية، وانطلقت في منتصف التسعينيات واستمرّت حتى عام 2005.

راهن الصندوق على أن تلك الموجة سوف تحسّن معدّلات الاستثمار الأجنبي، وتوفّر عملية خلق السوق والنموّ الذي يقوده القطاع الخاص. وهو ما لم يحصل. إذ حين بدأت الاستثمارات الأجنبية في التدفّق الى عدد من القطاعات الواعدة مثل الاتصالات والغاز والصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، مثل الحديد والإسمنت والأسمدة منذ بداية الألفية وحتى عام 2008، لم يخلق ذلك الطفرة الاقتصادية التي انتظرتها الحكومة أو الصندوق. وبالتالي مع اندلاع الثورة المصرية، التي جاءت كتعبير مباشر عن فشل الإصلاحات الاقتصادية والنمط التنموي المصري بشكل عام، دخلت البلاد في فترة من انعدام اليقين حول المستقبل. دفعت الاضطرابات السياسية، ومن بعدها الأزمات الاقتصادية المُتلاحقة، بالصندوق للضغط في سبيل تنفيذ إصلاحات تشمل تخفيض كبير في سعر الصرف. وبالفعل استجابت الحكومة في عام 2016، وقرّرت خوض غمار الاندماج في المنظومة العالمية للديون، وافتتحتها بقرض بقيمة 12 مليار دولار من الصندوق، وهو أكبر قرض يقدّمه في منطقة الشرق الأوسط كافة.

قام الرهان على مساهمة القرض في تحسين الظروف الاقتصادية، ومعالجة عجز ميزان المدفوعات، وتوفير النقد الأجنبي من أجل طمأنة المستثمرين الأجانب. وبالفعل عاد المستثمرون الأجانب، ولكن معظمهم كانوا من مستثمري المحفظة أو الأموال الساخنة، واستثمروا في السندات المقوّمة بالجنيه بعد تخفيض سعر الصرف. في عامي 2018 و2019، كانت مصر من أولى دول العالم التي تقدّم أسعار فائدة مرتفعة، وهو ما عدَّه مديرو محافظ الاستثمار في الأسواق الناشئة فرصة لا تفوّت، في حين غذّى الدعم المقدّم من دول الخليج العربي وصندوق النقد والبنك الدولي استمرارية تلك الحفلة.

لم تكن الأموال الساخنة الدليل الأوحد على اندماج مصر في المنظومة العالمية للديون، بل الاقتراض المباشر أيضاً. منذ عام 2014 تسارعت عملية الاقتراض الخارجي المباشر، وخصوصاً بعد قرض الصندوق في تشرين الثاني/نوفمبر 2016، بحيث نما الدين الخارجي من 43 مليار دولار إلى 157 مليار منذ عام 2014 بحسب آخر الأرقام المُتاحة، أي بزيادة 114 مليار دولار اقترضتها الحكومة المصرية خلال ثماني سنوات فقط. كان التوسّع في الاقتراض الخارجي يعني إلقاء المزيد من الضغوط على العملة على المديين المتوسّط والبعيد، خصوصاً أن تكاليف سداد تلك القروض مرتفعة للغاية، فيما توليد الاقتصاد المصري للدولار محدود بعدد من المصادر الأساسية تعاني بمعظمها من مشكلات في نموّ إيراداتها.

لعبة شراء الوقت المُكلفة

بدا من الواضح أنّ إدمان الديون هو فخٌّ لا يمكن الإفلات منه بسهولة، وقد أدّى إلى تقليص هوامش المناورة الحقيقية في تأجيل الأزمة، وبالتالي لجأت الحكومة إلى إجراء تخفيضات مستمرّة علي سعر الصرف لمعالجة النقص الشديد في الدولار والوفاء بمدفوعات الديون الحكومية السنوية. وروّج للحلول التي انتهجتها الحكومة بتأييد من صندوق النقد وكأن لا بديل عنها.

نصّ الحلّ الأوّل على بيع الأصول والشركات المملوكة من الدولة إلى الصناديق الخليجية من أجل الحصول على دولارات سريعة بعد تراجع الدعم السياسي والاقتصادي الممنوح من الخليج في السنوات الماضية. تشكّل عمليات البيع هذه مشكلة شديدة الخطورة على المدى الطويل. فبيع أصول في قطاعات استراتيجية مثل الأسمدة تجعل البلد أكثر ارتهاناً للمصالح الخليجية في المنطقة، وحتّى بالمعنى الاقتصادي فهو لا يمثّل، في أحسن الحلول، سوى حلاً قصير المدى، لأن أرباح تلك الأصول سوف تحوّل إلى الخارج بالعملة الأجنبية، وسوف تضغط بشكل أكبر على ميزان المدفوعات. عدا أن القيمة التي قدّرها الصندوق لمبيعات الأصول على مدار الثلاث سنوات المقبلة لن تعوِّض الفجوة التمويلية المُقدّرة بنحو 17 مليار دولار، وبحسب تقديرات صندوق النقد ستبيع مصر أصولاً بقيمة ملياري دولار إلى دول الخليج العربي في العام المالي الحالي، ويليها أصولاً بقيمة 6.4 مليار دولار خلال العامين المقبلين، ما يعني أن هذه العمليات المقترحة لن تسدّ سوى نصف سنة من الفجوة التمويلية الحالية.

أما الحل الثاني فهو الاقتراض الخارجي لمعالجة عجز ميزان المدفوعات، وهذا يعني ضغوطاً مستقبلية من خلال مدفوعات الديون والفوائد المترتبة عليها، علماً أن 50% من النفقات السنوية للموازنة العامّة المصرية تذهب لسداد فوائد وأقساط الدَّيْن.

تبدو الحلول المقترحة من أسباب الأزمة. يكمن لبّ الأزمة الحالية، والذي يجعل هوامش المناورة والخروج منها شديدة الضيق، بطبيعة الاندماج الرأسمالي الذي شجّعه الصندوق وقامت به الحكومة المصرية في خلال السنوات الماضية. استخدمت الديون، سواء القروض الخارجية أو الأموال الساخنة، لشراء الوقت وتحسين بعض مؤشّرات الأداء الاقتصادي مثل نمو الناتج المحلي من أجل جذب الاستثمارات الأجنبية التي تهرب من المشكلات الهيكلية في الاقتصاد. في الواقع، لم تندمج مصر في الاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة إلّا عبر الاستدانة فقط، إذ بقيت حصيلة الصادرات منخفضة جداً بالمقارنة مع الناتج المحلي، وبقيت مشاركة مصر في الصادرات العالمية منخفضة للغاية بالمقارنة مع دول إقليمية أخرى. عملياً، اندمج الاقتصاد المصري في المنظومة الدولية للديون من أجل تمويل مشروعات البنية التحتية الكبرى، وأصبحت مصر زبوناً دائماً في أسواق السندات الدولية، وبالتالي أكثر تأثّراً بأزمات العالم. يرفع الفيدرالي الفائدة، فتُسجّل قفزات في عجز ميزان المدفوعات المصري، وتضطر الحكومة للاقتراض مرّة أخرى لسدّ هذا العجز، وما تلبث الأمور تتحسّن قليلاً، حتى تستحقّ حزمة من مدفوعات الديون. من الواضح أن هذا الاندماج المبني على أمولة الاقتصاد ودفعه للاعتماد على رأس المال الدولي هو شديد الخطورة، إذ لا تأتي القروض ورؤوس الأموال الساخنة لتعزيز الصناعة ورفع معدّلات التشغيل وزيادة الصادرات، بل للحصول على ربح سريع وريع متحقّق من شراء الديون المصرية.

تعيد تلك الحلقة المُفرغة من الاقتراض وإعادة الاقتراض إنتاج نفسها في مصر من دون أي أفق مُمكن لحل الأزمة الحقيقية والهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد المصري، والتي تتمثّل باستناده أساساً إلى قطاعات غير إنتاجية لا تخلق وظائف كافية ولا تسمح بتوزيع أعباء وأرباح النمو الاقتصادي بشكل عادل. في الواقع، لم تحل تلك الحلقة المُفرغة مشكلات ضعف قدرة الصادرات المصرية على النفاذ إلى الأسواق العالمية، بسبب مشكلات هيكلية ومؤسّسية في سلاسل الإنتاج والتوريد، ومشكلات مُتراكمة تظهر في الضعف المؤسّسي والوهن الواضح في البنية الرأسمالية التي تنتج القيمة داخل الاقتصاد. ويبدو أن الحكومة ستستمرّ في تخفيض سعر الصرف مع الوقت في ظل ضيق هوامش المناورة، بانتظار نجاح وصفة اقتصادية ثبُت فشلها في كل المرّات المجرّبة في تاريخ مصر الحديث.