استقلالية البنك المركزي المصري: ضربٌ من الخيال

طُرِحت استقالة محافظ البنك المركزي المصري السابق طارق عامر في آب/ أغسطس الماضي الكثير من الأسئلة حول مدى استقلالية البنك المركزي المصري، إذ جاءت الاستقالة مفاجئة للكثيرين في ظلّ الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد والمفاوضات التي كانت تخوضها مصر للحصول على تمويل من صندوق النقد الدولي، قبل أن توقّع لاحقاً اتفاقاً للتمويل مع الصندوق بقيمة 3 مليار دولار، بالإضافة إلى تسهيلات ائتمانية سوف يساعد الصندوق في جلبها من بعض المؤسّسات تُقدَّر بـ6 مليارات دولار، ولكن حدث ذلك بعد رحيل عامر وتخفيض سعر صرف الجنيه مرّة أخرى بنحو 20%.

لطالما كانت تلك الأسئلة حول مدى استقلالية البنك المركزي مطروحة، وتظهر للعلن كلّما تغيّر محافظ البنك المركزي، لكن جرى التركيز عليها مؤخّراً ربطاً بعامر مع السؤال عن مدى مسؤوليّته عن الانهيار المستمرّ للجنيه المصري. في الواقع، طال عامر لوم شعبي بسبب انهيار قيمة العملة المصريّة في فترة ولايته. وعلى الصعيد الرسمي، حسمت الدولة المصرية حقبته بالإتيان بمن هم على خلاف حادّ معه، وبالطبع لم تكن تلك الخلافات أيديولوجية بقدر ما كانت شخصيّة. فقد دفع عامر في عام 2018 لإقالة حسن عبدالله، المحافظ الحالي للمصرف المركزي، من منصبه السابق كرئيس تاريخي للبنك العربي الأفريقي بمخالفات ماليّة كبيرة، وكذلك أقال هشام عزّ العرب، الرجل الأهمّ في القطاع المصرفي المصري، في عام 2020 بعد مخالفات ماليّة أخرى حقّق فيها المركزي من دون أن تصل أي منها إلى المحاكم.

فقد الجنيه المصري خلال حقبة عامر الممتدّة على ست سنوات نحو 60% من قيمته، التي انخفضت من 13 سنتاً في نهاية 2015 إلى نحو 5 سنتات في نهاية آب/ أغسطس 2022، وبالتالي حمل الرجل في رحيله تلك التركة الثقيلة للفشل.

على الرغم من أنه عُرِف أكثر بارتباطاته العائلية، فهو ابن شقيق المشير عبد الحكيم عامر قائد الجيش المصري في خلال نكسة 1967، إلّا أن عامر يأتي من القطاع المصرفي، حيث عمل وترقى إلى أن أصبح نائباً لمحافظ البنك المركزي فاروق العقدة في عام 2003، ليعود إلى القطاع المصرفي مجدّداً في عام 2008 ويتولّى رئاسة مجلس إدارة البنك الأهلي المصري وهو أكبر بنك حكومي.

كانت استقلالية المصارف المركزية مدار انتقاد كبير بعد أزمة 2008، وخصوصاً مع ستار السرّية الذي يحيط بقراراتها حتى في أفضل الديمقراطيات العالمية

كان مجيء عامر على رأس البنك المركزي استكمالاً لتقليد تولّي رجال البنوك شؤون البنك المركزي منذ تسعينيات القرن الماضي مع برنامج التثبيت والتكيّف الهيكلي، الذي بدأت الحكومة المصرية تنفيذه مع صندوق النقد الدولي، وحصلت بموجبه على اعتراف الصندوق بملاءتها المالية للدخول مرّة أخرى إلى أسواق الديون الدولية، وهي الفترة التي شهدت خفض الدَّيْن الخارجي المصري بفعل إلغاء الديون الخليجية والدولية كجزء من مشاركة مصر في حرب الخليج الثانية.

ستار من السرّية

عادةً، تُطرح فكرة استقلالية البنوك المركزية بوصفها أمراً إيجابياً، يمدّ المستثمرين الأجانب والمحلّيين بالثقة في المؤسّسات الاقتصادية في الدولة، وحكم القانون، وسهولة ممارسة الأعمال أو غيرها من المؤشّرات المُتعلّقة بالـ"بيزنس". يفترض باستقلالية البنك المركزي أنّ تمنع سيطرة المصالح السياسية المباشرة على عمليات السوق، وهو النقاش المطوّل في الاقتصاد بين المديين القصير والطويل. إذ يفترض بآليّات استقلال البنوك المركزية أن تعطي فرصة أطول لضبط السياسات النقدية في الفترات التي يمرّ بها الاقتصاد بركود أو تضخّم من دون الخضوع لحسابات السياسة وتوفير الوظائف قبل الانتخابات. لكن فعلياً لم تكن تلك الفكرة حقيقية، أو بمعنى أصح، ليست على هذا القدر من التجريد الذي توصف به. غالباً ما تتفاعل البنوك المركزية مع الظرف الاقتصادي والاجتماعي بآليات قصيرة المدى.

كانت استقلالية المصارف المركزية مدار انتقاد كبير بعد أزمة 2008، وخصوصاً مع ستار السرّية الذي يحيط بقراراتها حتى في أفضل الديمقراطيات العالمية، والمطالبات المستمرّة برفع ذلك الستار. بدأت البنوك المركزية في الانفتاح تدريجياً على الجمهور، وفي بعض الدول الديمقراطية نشرت محاضر اجتماعاتها الهامّة أمام الجمهور. أجمع النقد الموجّه إلى البنوك المركزية، على اختلاف مشاربه من اليمين واليسار، على أن البنوك المركزية امتلكت لحظة الأزمة الكثير من السلطة، التي جعلتها في حالة الولايات المتّحدة وغيرها من الدول، تقوم بعملية إنقاذٍ مالي للمؤسّسات المالية بأموال دافعي الضرائب. إلّا أن صعود سلطة البنوك المركزية لم يرتبط بأزمة 2008 فحسب، بل هو صيرورة مستمرّة كجزء من صعود السياسات النيوليبرالية بعد الأزمة الاقتصادية في سبعينيات القرن العشرين، التي شهدت أزمة كساد تضخّمي كبرى تحطّم على أعتابها الإجماع الكينزي حول طريقة إدارة الاقتصاد، بدءاً من التفكير في التضخّم الذي أصبح عصيّاً على الفهم بفعل صعوده والكساد معاً، وانتهاءً بإعادة تعريف دور الدولة في المجال الاقتصادي.

تراجعت سلطة الدولة والحكومات المُنتخبة في ضبط السوق وتقليم الاحتكارات التي بنيت عليها أُسُس دولة الرفاهية بعد الحرب العالمية الثانية

تراجعت سلطة الدولة والحكومات المُنتخبة في ضبط السوق وتقليم الاحتكارات التي بنيت عليها أُسُس دولة الرفاهية بعد الحرب العالمية الثانية. مع بداية الثمانينيات بدا أنّ البنوك المركزية، التي تتكوّن من مسؤولين غير منتخبين ديموقراطياً، سوف تستبدل السلطة الحكومية في الاقتصاد. والمثال الأبرز هو بول فولكر رئيس الفيدرالي الأميركي التاريخي، الذي غالباً ما يشار إليه بالبنان عند التحدّث عن ضبط التضخّم، فقد استطاع فولكر محاصرة التضخّم من خلال رفع أسعار الفائدة إلى نحو 20% في أكبر اقتصاد في العالم في الثمانينيات. وكانت تلك التكلفة الباهظة لمحاربة التضخّم تعني كساداً أكبر في الاقتصاد، فقد بنتيجته الملايين من الأميركيين وظائفهم، واتسع نطاق قطاع الخدمات في الاقتصادات المتقدّمة مع نقل الصناعة إلى الجنوب العالمي، وخصوصاً إلى الصين وشرق آسيا للاستفادة من اليد العاملة الرخيصة، ولكن أيضاً لتقليل التكاليف التمويلية المتعلّقة بالتصنيع بعد أنّ قفزت بشكل كبير جراء رفع الفائدة.

أشرفت البنوك المركزية بنجاحٍ منقطع النظير على الميكانيزم الأهمّ للتغيّر الرأسمالي في العقود الخمسة الأخيرة، وهو الأمولة (financialization)، التي صعدت معها أهمّية القطاع المالي وتحديداً في دول المركز الرأسمالي. جاء هذا الصعود بالكثير من التحدّيات الجديدة للبنوك المركزية، وبحلول التسعينيات أصبح الجميع لا يرى سوى "السوق"، أي سوق الديون والأوراق المالية والمشتقّات المالية، التي تطوّرت بالقدر الذي عجزت البنوك المركزية نفسها على فهمها وتقييم مخاطرها. كان صعود القطاع المالي في المركز الرأسمالي نتيجة حتمية لسلطة البنوك المركزية، بحيث استُبدِل الإنتاج الحقيقي بالريع المتحقّق من المضاربات، وفشلت البنوك المركزية في ضبط كلّ الأزمات التي أتت من القطاع المالي منذ ذلك الوقت، بدءاً من أزمة النمور الآسيوية وفقّاعة الدوت كوم، إلى أزمة 2008، وانتهاءً بأزمة الديون السيادية الأوروبية والأزمة الاقتصادية الحالية التي يعزوها الكثيرون إلى سياسات الفيدرالي الأميركي في التعامل مع الجائحة.

صعود نخب مصرفية جديدة

عودة إلى مصر التي تمثّل حالة شديدة التركيب فيما يتعلّق بالبنك المركزي واستقلاليّته. منذ عام 1990 وحتّى إصلاح القطاع المصرفي في عام 2003، كانت إستقلالية البنك المركزي مثار جدل دائم بين الحكومة وصندوق النقد الدولي وغيره من المؤسّسات الدولية. كانت الحكومة تدافع عن نظام سعر الصرف الثابت للمحافظة على الجنيه عند مستويات مقبولة أمام الدولار في ظل ضعف الأجور المستمرّ في مصر، والناتج عن أزمة هيكلية في الاقتصاد، المرتبطة بدورها بالإنتاجية وغياب المشروع التنموي بشكل كامل لدى نظام الرئيس السابق حسني مبارك. وبالتالي كان الحفاظ على الجنيه أولوية لتوفير نوع من الاستقرار الاجتماعي والسياسي للنظام. في المقابل، كان صندوق النقد الدولي يرى أن هناك أولوية لتحرير سعر الصرف كجزء من الاندماج المصري المُحتمل مع الاقتصاد العالمي. وافقت الحكومة المصرية منذ التسعينيات على الكثير من شروط الصندوق، ومنها الخصخصة الواسعة للأصول الإنتاجية للدولة والموروثة من العهد الناصري، أو رفع الدعم التدريجي عن بعض السلع والخدمات، فيما أصرّت على إبقاء سعر صرف ثابتاً تقريباً حتى التعويم الأول في عام 2003.

سمحت الحكومة بخفض كبير للعملة في عام  2003، كجزءٍ من متطلّبات الصندوق، بلغ نسبة 31% أمام الدولار. علماً أن الحكومة بدأت في عام 1999 بتخفيضات أقل وطأة في العملة كجزء من الترويج لتبنّيها سياسات الصندوق، وبالتزامن مع تنفيذ الإجراءات التي سُمّيت بالإصلاح المصرفي وشملت إصدار قانون البنوك الموحّد في عام 2003. خرجت فكرة الإصلاح المصرفي من اللجنة الاقتصادية للحزب الوطني، الذي سيطر على مقاليد الحكم في البلاد نهاية السبعينيات عبر السادات ومن بعده مبارك، لكن المثير في تلك الخطوات أنها تزامنت مع صعود نخب بنكية ورجال أعمال داخل الهيكل السياسي لنظام مبارك.

فكرة استقلالية البنك المركزي في ظل الطابع شديد السلطوية للأنظمة الحاكمة تبدو ضرباً من الخيال، إن لم يكن من الجنون، لأن مسؤولي البنك غير منتخبين، وكذلك لا يمثّل المسؤولين السياسيين والتنفيذيين نتاجَ عملية ديمقراطية

مع تعيين فاروق العقدة في عام 2003، الآتي من القطاع المصرفي والذي عمل فترة طويلة في بنك نيويورك في الولايات المتّحدة، بدأ البنك المركزي في تشغيل الكثير من العاملين السابقين في القطاع المصرفي وتحديداً البنوك الخاصة، بعد تعديل قانون البنك المركزي لإعطاء المزيد من الحوافز المالية للانضمام إليه. ضمّت تلك المجموعة، التي سُمّيت لاحقاً بـ "مجموعة جمال مبارك"، رجال أعمال ومديري بنوك أجنبية، علماً أنها ظهرت منذ الانفتاح في عام 1974، وكانت تدفع في اتجاه استقلالية أكبر للبنك المركزي فيما يتعلّق بالسياسات النقدية. أعلن أعضاء هذه المجموعة القطيعة مع النخب البنكية القديمة في البنوك الحكومية الموروثة من عهد التخطيط المركزي، والتي كانت جزءاً مهمّاً من البيروقراطية القديمة، وترى أهمّية في السيطرة الكاملة للنظام على البنوك الحكومية بغية تمويل عجز الموازنة الذي وصل إلى 20% من الناتج المحلّي في الثمانينيات. أمّا مع النخب الجديدة فقد ارتفعت نسبة الإقراض للقطاع الخاص، وبالتحديد للشركات الكبرى ورجال الأعمال المقرّبين من جمال مبارك.

تضمّنت الإصلاحات في القطاع البنكي، عمليات دمج لبعض البنوك المملوكة للقطاع الخاص والحكومة من أجل تقوية المركز المالي للكثير من البنوك المُتعثّرة، وقد أشرف عليها البنك المركزي. بلغت نسبة القروض المُتعثّرة في القطاع المصرفي المصري نحو 25% تقريباً في بداية الألفية، وهو ما استدعى تشديد الإقراض في البنوك المصرية تبعاً للقواعد التي أقرّها المركزي وأشرف على تطبيقها. وفي خلال تلك الفترة، انخفض عدد البنوك العاملة في السوق من 57 بنكاً إلى 40 بنك بين عامي 2004 و2008، وصولاً إلى 38 بنكاً حالياً. أيضاً انخفضت مع موجة خصخصة البنوك حصّة البنوك الحكومية من الأصول البنكية من 70% إلى نحو 50% بين عامي 1998 و2012، وكذلك انخفضت حصّتها من القروض والودائع بنسبة مماثلة تقريباً.

سيطرة جزئية على السياسة النقدية

كانت الإصلاحات التي قدّمها قانون البنوك الموحّد في عام 2003، والتي روَّجت لها الحكومة على أنها تدعم استقلالية البنك المركزي، تدعم قوّته في الرقابة على القطاع المصرفي بالفعل، لكنّها لم تجعله مُستقلّاً عن الحكومة بشكل كامل، بل ظل بشكل ما ضمن نطاق السياسة الاقتصادية التي روَّجت لها الحكومة. كان دور المركزي، الذي جرى إعادة تعريفه بعد الإصلاح البنكي، ضمان استمرار تدفّق أموال المودعين في البنوك لتمويل عجز الموازنة المستمرّ، والذي بدأ في التفاقم بعد عام 2013، واتجاه الحكومة لأنّ تصبح المُستثمر الأكبر في البلاد، وخصوصاً في مشروعات البنية التحتية الكبرى منذ عام  2014.خرجت فكرة الإصلاح المصرفي من اللجنة الاقتصادية للحزب الوطني، الذي سيطر على مقاليد الحكم في البلاد نهاية السبعينيات عبر السادات ومن بعده مبارك

كانت المعادلة التي وصلت إليها الحكومة والمؤسّسات الدولية ونفّذها هيكل الحكم المُتغيّر، والتي بدأت دفّته تميل إلى مجموعة رجال أعمال جمال مبارك بدلاً من البيروقراطية الحكومية القديمة، تقتضي بعضاً من الاستقلالية للبنك المركزي، فمنحته سيطرة جزئية على السياسة النقدية وأدواتها المختلفة ولا سيّما أسعار الفائدة، وسمحت بتمدّد تلك السيطرة إلى المبادرات التمويلية، التي كان المركزي المصري يقدّم بموجبها أسعار فائدة أقل لبعض القطاعات من خلال تحمّل فارق الفائدة السائد في السوق. لكن مع تلك الاستقلالية الصورية للبنك المركزي، والتي انحصرت بمنع الرئيس من إقالة رئيس المركزي، ظل القرار النهائي خاضعاً لتصوّرات الحكم وتغيّراتها في الفترات الزمنية المختلفة.

أيضاً شملت الاستقلالية تحوّلاً مهمّاً في الأهداف الخاصّة بالبنك، من سياسة استهداف استقرار سعر الصرف السائدة منذ الخمسينيات وحتّى عام 2003، إلى استهداف التضخّم كجزء من الاقتداء بالهيكل التنظيمي والهدف المُعلن للبنوك المركزية في العالم. كان ذلك التحوّل مهمّاً - على الأقل نظرياً - لأن الحكومة كانت تدافع عن اتجاهها نحو نظام سعر الصرف الحرّ بالكامل في عام 2003. طبعاً لم يحدث ذلك في الواقع، لأن الحكومة عن طريق المركزي بقيت تدعم سعر الجنيه في فترات طويلة من أجل عدم التسبّب في صدمات تضخّمية متتالية في ظل المشكلات الهيكلية للاقتصاد المصري. يمكن القول أن تحوّل تلك السياسة النقدية كان نظرياً إلى حد كبير، فعلى الرغم من تبنّي المركزي سياسة استهداف التضخّم إلّا أنه لم يعلن عن أرقام استهدافاته الخاصّة بالتضخّم إلّا في عام 2018، أي بعد مرور نحو 15 عاماً على إقرار تلك السياسة النقدية كهدف أساسي للبنك المركزي. كانت استهدافات البنك المركزي التي أعلنها هي 7% - 9% سنوياً، وهي جيّدة بالمناسبة لاقتصاديات الدول النامية.

لكن بنظرة على التضخّم الذي كان الاستهداف الأساسي للبنك المركزي والدافع النظري الوحيد للدفاع عن استقلاليته الكاملة، فقد فشل المركزي في الالتزام بذلك الهدف. لم يكن التضخّم منخفضاً في مصر بين عامي 2000 و2020، إذ بقي التضخّم السنوي فوق مستويات الـ10%، وبالمقارنة مع دول الشرق الأوسط كانت مصر صاحبة أعلى معدّلات التضخّم في المنطقة، لو قرّرنا استثناء الدول التي مرّت بظروف اقتصادية خاصّة مثل سوريا وإيران واليمن ولبنان في أزمته الحالية. إذاً، لم تنجح التعديلات الهيكلية على السياسات النقدية للبنك المركزي في تحجيم التضخّم بين عامي 2003 و2022، لأن مدى تدخّل السياسة النقدية مربوط بسعر الفائدة وتحجيم السيولة النقدية في السوق من أجل السيطرة على التضخّم، ولكن على الجانب الآخر كان الإنفاق الحكومي المتزايد والاقتراض من أجل هذا الإنفاق يعني المزيد من طباعة الأموال، أو ما يُسمّى بسياسة التيسير النقدي التي تبنّاها المركزي المصري مع بقية البنوك المركزية الكبرى في العالم، بعد أزمة 2008 المالية.

الرقابة على القطاع المصرفي

منذ عام 2003 وحتّى اليوم، لا يمكن القول إنّه كانت هناك صِدامات كثيرة بين السلطة التنفيذية والبنك المركزي، بل كانت القرارات المهمّة للمركزي والمحورية طوال هذه الفترة محطّ توافق بينهما، ولا سيّما قراريْ التعويم الأول للعملة في عام 2003 والتعويم الثاني في عام 2016، والتخفيضين الأخيرين في العملة في آذار/ مارس وتشرين الأول/ أكتوبر 2022. خلال تلك الفترة كانت استقلالية البنك المركزي محل انتقاد واضح من صندوق النقد الدولي، الذي طالب في أكثر من مراجعة دورية لاتفاقات الإقراض الخاصّة بالحكومة المصريّة بضرورة إعطاء استقلالية أكبر للبنك المركزي، وإيقاف المبادرات التي يطرحها المركزي للإقتراض لتمويل مشروعات معيّنة، مثل مبادرة تمويل المصانع ومبادلات التمويل العقاري المنخفضة الفائدة، بنسبة تزيد عن 5% عن أسعار الفائدة السائدة في السوق.

مع تلك الاستقلالية الصورية للبنك المركزي، والتي انحصرت بمنع الرئيس من إقالة رئيس المركزي، ظل القرار النهائي خاضعاً لتصوّرات الحكم وتغيّراتها في الفترات الزمنية المختلفة

لكن بقيت تلك الاستقلالية حبيسة نصوص القانون، وحتّى عندما قرّرت الحكومة تعديل قانون البنوك في عام 2020 بما يعزّز من قدرة المركزي على الرقابة على القطاع البنكي، ويرفع من متطلبات رأس المال للبنوك العاملة في السوق المصري، إلّا أنه لم يضع أي آليات لضمان استقلالية البنك المركزي. يمارس المركزي الكثير من الرقابة على القطاع المصرفي المصري، وهو قطاع محافظ للغاية، على الأقل منذ بداية الألفية الثانية والإصلاح البنكي، بسبب الحجم الضخم من الديون السيّئة الديه.

تمثّل البنوك المركزية في الدول النامية التي تقارب النموذج المصري حالة مركّبة، فمع اندماج تلك الدول داخل منظومة الديون الدولية كان عليها أن تحافظ على استقرار نسبي للآليّات الاقتصادية المُعترف بها على مستوى العالم، ومنها استقلالية البنك المركزي. لكن في الوقت نفسه، بقي النموذج التنموي المُتعثّر في تلك البلدان يدفع في سبيل الإلغاء الفعلي لتلك الاستقلالية. وفي الحالة المصرية، لا تريد الدولة فمن المركزي سوى فرض الرقابة على القطاع البنكي لمنع تسرّب أموال القطاع العائلي، أكبر المودعين في البلاد، إلى القطاع الخاص والعائلي، بل إلى الدولة نفسها التي تتحوّل مع الوقت إلى نموذج "الوسيط" أو السمسار بين البنوك التي تقترض منها الدولة وبين القطاع الخاص الذي يستفيد في النهاية من تلك الأموال، من دون أن يدفع خطر الإئتمان أو يتحمّل سداد ديون تلك المشروعات القومية والتي يرى فيها الكثيرون انعداماً كاملاً للجدوى. إن فكرة استقلالية البنك المركزي في ظل الطابع شديد السلطوية للأنظمة الحاكمة تبدو ضرباً من الخيال، إن لم يكن من الجنون، لأن مسؤولي البنك غير منتخبين، وكذلك لا يمثّل المسؤولين السياسيين والتنفيذيين نتاجَ عملية ديمقراطية.