إنقاذٌ مالي إلى الأبد؟

  • توسيع أهداف السياسة النقدية لتشمل عمليات الإقراض المباشر وشراء الأصول يضع البنوك المركزية في وضع يسمح لها باختيار الفائزين والخاسرين ما يقوِّض استقلاليتها.
     
  • لا بد من توسيع النقاش العام والتدقيق العلمي فيما يجب على الناس طلبه لقاء مساندة أصحاب المخاطر المالية، لا سيما عندما تفيد هذه المخاطر أصحاب الأصول ونخب الأثرياء بدلاً من تحفيز النشاط الإنتاجي في الاقتصاد.

بشَّرَت أزمة 2008 المالية بعصرٍ جديدٍ في عمل البنوك المركزية، فقد كانت تدخّلات محافظيها غير مسبوقة من حيث حجمها وطبيعتها. بحسب الأعراف التقليدية، تُقرِضُ البنوك المركزية، بصفتها مُقرِض الملاذ الأخير، بمعدّلات فائدة مُتصاعدة لقاء ضمانات معقولة من المؤسّسات الميسورة في أوقات الأزمة، لكن في عام 2008 خرجت على كلّ هذه الأعراف بتخلّيها عن مبدأ التغطية الكاملة بالضمانات، وأقرضت جهات غير مصرفية واشترت بنفسها عدداً من الأصول، ما ترتَّب عنه انكشاف ميزانياتها على مختلف المخاطر الائتمانية والسوقية ومخاطر تقلّبات أسعار الفائدة. اشترى البنك الأوروبي المركزي عدداً من الأصول تحت مظلّة برنامج «الدعم الائتماني المعزّز» الذي تعامل بأوراق مالية ذات مخاطر ائتمانية مختلفة، بل ووفَّر السيولة بعملاتٍ أجنبية، على رأسها الدولار الأميركي. أجرى بنك إنكلترا عمليات شراء مباشرة لسندات حكومية، في حين اشترى البنك الفيدرالي الأميركي نحو 90% من الإصدارات الجديدة من الأوراق المالية المدعومة برهن عقاري لضمان السيولة في أسواق المال الأميركية، وأسّس خطوط مبادلة مع بنوك مركزية عدّة، من ضمنها بنك سويسرا الوطني والبنك المركزي الأوروبي وبنك إنكلترا وبنك اليابان. أيضاً ذهبت البنوك إلى حدّ اختيار بضعة بنوك مركزية في الجنوب العالمي، من بينها البنك المركزي البرازيلي وبنك المكسيك، ومدّت خطوط المبادلة إليها.

أسال الباحثون ومراقبو الأسواق حبراً كثيراً في توثيق تطوّر أدوات إدارة الأزمات ومناقشتها، لكن لم تتجاوز البنوك المركزية الحدود الأهمّ أثناء الأزمة. في النهاية كانت الإجراءات الاستنسابية المُتخذة لمنع انهيار النظام جزءاً لا يتجزّأ من تطوّرها. أتت نقطة التحوّل الفعلية مع اعتماد أدوات الأزمة في غير أوقات الأزمة تحت عنوان السياسة النقدية غير التقليدية. وفي حين جذب استخدام التسهيلات الطارئة الكثير من التحليلات والنقاشات، فإنَّ اعتماد عمليات شراء الأصول طويلة الأجل في غير أوقات الأزمة لم ينل كفايته من البحث.

صعود السياسة التدخّلية

إنّ مروراً سريعاً على نقاشات المُعتقد النقدي البريطاني في القرنين التاسع عشر والعشرين يعطينا فكرة عن مدى ما ذهبت إليه البنوك المركزية في تبنّي دورٍ فاعلٍ. شذَّت السياسة التدخّلية عن النظرية النقدية التقليدية لديفيد هيوم وآدم سميث المدافعَين عن مقاربة اليد الخفيّة في العمل المصرفي: ارتكزت رؤية هيوم على آلية الأسعار والتدفّق السلعي، أمّا رؤية سميث فقد ارتكزت على التنافسية المصرفية. بيد أنَّ النقاش لم يأخذ اتجاهاً جديداً إلّا مع نشر والتر بَغِت لكتابه «شارع لومبارد» في عام 1873، وفيه حدَّد دور البنك المركزي الذي نعرفه الآن بمقرض الملاذ الأخير. تمنّع بنك إنكلترا عن أداء هذا الدور إلى أن اضطرته الأزمات المتعدّدة في النظام المصرفي الإنكليزي إلى قبول مشروعية التدخّل في أوقات الأزمة.

تبدو عمليات شراء الأصول باسم السياسة النقدية أبدية، ولها آثار توزيعية طويلة الأمد، وتنطوي على تحويل كبير للمخاطر

بيد أنَّ القبول بالتدخّلات وتبريرها في غير أوقات الأزمات (دعنا نسمّيها السياسة النقدية) استغرق وقتاً أطول بكثير. فقد كان على السياسة النقدية - كما نعرفها اليوم - انتظار صدور كتاب نوت فيكسِل «الفوائد والأسعار» في عام 1898 لتضع بصمتها في النقاش، على الرغم من أنَّ هنري ثورنتون كان أول مَن بلورها. ركّزت رؤية والتر بَغِت على ضمان مستوى كافٍ من الاحتياطيّات والحفاظ على الثقة في النظام المالي والنقدي، في حين توخّت السياسة النقدية عند ثورنتون وفيكسِل إعطاء صلاحيّات أوسع للبنك المركزي. وفيما كان على البنك المركزي، بصفته المقرض الأخير، الدفاع عن النظام المصرفي من الانهيار المفاجئ (دور المصرف المركزي الدفاعي)، سعت السياسة النقدية على النقيض إلى التأثير في الاقتصاد الحقيقي أو ضبطه باستخدام الأدوات النقدية مثل سعر الفائدة (دور المصرف المركزي الفاعل) - Arie Arnon, Monetary Theory and Policy from Hume and Smith to Wicksell: Money, Credit, and the Economy, (New York: Cambridge University Press, 2010). . قبل أزمة عام 2008، كان لمعظم البنوك المركزية هدف واحد يتمثّل في تأمين استقرار الأسعار، وكانت أسعار الفائدة قصيرة الأجل الأداة الرئيسة لتحقيق هذا الهدف.

إذا انتقلنا سريعاً إلى فترة ما بعد أزمة 2008، نجد البنوك المركزية تضطلع بدورٍ فاعل من خلال عمليّات شراء العديد من الأصول باسم السياسة النقدية. لم يعُدْ بالإمكان تمييز التدخّلات بصفتها جزءاً من سياسة نقدية غير تقليدية عن عمليّات شراء الأصول إبان ذروة أزمة 2008. على سبيل المثال، اشترى البنك الاحتياطي الفيدرالي أثناء الأزمة عدداً ضخماً من الأوراق المالية المضمونة برهن عقاري عندما رفض صنَّاع السوق تحمّل مخاطرها. بعد ذلك، صار يُنظر إلى عمليات الشراء المماثلة على أنَّها سياسية نقدية غير تقليدية، أو تيسير كمّي، يشتري بموجبها الاحتياطي الفيدرالي الأوراق المالية طويلة الأجل من خلال إصدارٍ نقدي جديد. وقد عقد البنك الاحتياطي الفيدرالي منذ أزمة 2008 أربع جولات رئيسية من التيسير الكمّي، يبيّن الشكل (1) أثرها في ميزانية البنك.


لا تظهر في هذا الشكل قيمة صافي موجودات محفظة البنك من التسهيل الائتماني للشركات والبالغة 25.9 مليار دولار في تموز/ يوليو 2021.


يقدّم محافظو البنوط المركزية أحد تفسيرات هذه الإجراءات، ومؤداه أنَّ البنوك المركزية تحتاج إلى أدوات جديدة لتقديم تحفيز إضافي بعد اقتراب أسعار الفائدة من الحدّ الأدنى. توجد طريقة أخرى لتفسير هذه الإجراءات من خلال النظر في كيفية دفع نظام الخدمات المصرفية الموازي البنوكَ المركزية إلى توسيع تفسيرها للسياسة النقدية ليشمل الاستقرار المالي. إنَّ النظام الموازي، المكوَّن من جهات غير مصرفية تمارس الوساطة الائتمانية، يجعل النظام المالي عرضة لخسائر مفاجئة في السيولة. تتجلّى ضغوط السيولة في هذه الخدمات في شكل أزمات ثقة في قيمة الضمانات أو بين الأطراف (على عكس سحب الودائع المصرفية)، ما يؤدّي إلى ظهور أسواق مالية «مضطربة» أو «معطّلة»، ما يعني أنَّ الأزمة في التمويل الحديث تحدث داخل قنوات النظام المالي. تحفظ عمليات شراء الأصول استقرار النظام عبر ضخّ السيولة لدعم أسعار الأصول واستعادة الثقة في الأوراق المالية والأسواق. والأهم من ذلك، ضمان عمل الأسواق المالية، أو سيولة السوق، الذي يُعدُّ أيضاً شرطاً لازماً لتطبيق السياسة النقدية.

تعمل السياسة النقدية من خلال قنوات التمويل. تستهدف البنوك المركزية سعر العائد لليلة واحدة من خلال تحديد الاحتياطي الإلزامي وعمليات السوق المفتوحة في أسواق إعادة الشراء المحلّية (الريبو). لكن حين تتجمّد أسواق الريبو وتضطرب أسواق السندات والأسهم، تواجه البنوك المركزية تحدّيات في تنفيذ السياسة النقدية (تحريك سعر الفائدة قصير الأجل، مثل سعر العائد لليلة واحدة، نحو السعر المستهدف بالسياسة النقدية) وفاعليتها (التأثير في معدّلات التضخّم والعمالة والنمو). لذلك، لا عجب أن تحيل إدارات هذه البنوك على «الأسواق المالية القاصرة عن أداء عملها» - Hervé Hannoun, “The Expanding Role of Central Banks since the Crisis: What Are the Limits?” Bank for International Settlements, June 18, 2010. و«الاضطرابات في الأسواق المالية» أو «اختلال السوق» - Andrew Hauser, “From Lender of Last Resort to Market Maker of Last Resort via the Dash for Cash – Why Central Banks Need New Tools for Dealing with Market Dysfunction,” Bank for International Settlements, January 2021. و«الخلل الوظيفي للأسواق» - Jean-Claude Trichet, “The ECB’s Response to the Recent Tensions in Financial Markets.” (speech, Vienna, May 31, 2010) باعتبارها دافعاً رئيسياً للعمليات النقدية غير التقليدية في فترة ما بعد الأزمة.

مع أنَّ احتياطيات البنك الهندي ساعدته على استعادة الاستقرار، إلا أنَّ بيع العملات الصعبة أثناء أزمات السيولة العالمية يسفر عن خسائر تظهر في ميزانية البنك المركزي

تحمّل المخاطر

بينما يشكِّل تأمين الحوافز الاقتصادية (عائدات سوقية منخفضة سواء على المدى القصير أو الطويل) هدفاً رئيساً لسياسة التيسير الكمّي، فإنَّ هدف إصلاح «الأسواق المختلّة وظيفياً» لا يقل عنه أهمّية. أجرى بنك الاحتياطي الفيدرالي جولته الرابعة من التيسير الكمّي في آذار/مارس 2020 إبّان زيادة معدّلات الإصابة بوباء كوفيد-19. وحينَ سُئِل رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول عن سبب استمرار البنك في شراء 40 مليار دولار شهرياً من الأوراق المالية المدعومة برهن عقاري رغم أنّ السوق العقاري قوي، أشار باول إلى أهمّية الاستقرار المالي: «لقد بدأنا في شراء هذه الأوراق لأنَّ سوقها يعاني بالفعل من خلل وظيفي حادّ… لم نستهدف تقديم مساعدة مباشرة لسوق الإسكان. لم نقصد هذا». - The Fed, “Transcript of Chair Powell’s Press Conference — April 28, 2021,” April 29, 2021. 
ليس من الواضح دائماً أي هدفٍ من الهدفين، التحفيز أو الاستقرار، يستهدفه بنك الاحتياطي الفيدرالي من خلال عمليات شراء الأصول، وهذه حقيقة يعترف بها محافظو البنوك المركزية أنفسهم. بحسب التقرير السنوي لمصرف التسويات الدولية لعام 2020، تختلف أهداف السياسة النقدية وأهداف المُقرض الأخير، لكن مع ازدياد تداخل الأدوات المُستخدمة في كلّ منهما تغدو العلاقة بينهما «أعقد» و«أدق». يطرح هذا التداخل العديد من التحدّيات، منها أنَّ تأمين السيولة من خلال عمليات شراء الأصول يمكن اعتباره عمليات إقراض أخير لكونه مؤقتاً ويمنع انهيار النظام، لكن لا ينطبق الأمر نفسه على حالة السياسة النقدية، إذْ تبدو عمليات شراء الأصول باسم السياسة النقدية أبدية، ولها آثار توزيعية طويلة الأمد، وتنطوي على تحويل كبير للمخاطر: مبادلة الأدوات المالية غير المُسيّلة في ميزانيات القطاع الخاص بأصول عالية الجودة من البنك الاحتياطي الفيدرالي، بما فيها احتياطيات البنك المركزي.

لم تقتصر هذه الموجة على المراكز المالية، بل امتدّت إلى البنوك المركزية في دول الجنوب التي اعتادت منذ فترة طويلة استخدام ميزانياتها في الأوقات العادية لتحمّل مخاطر القطاع الخاص، وهو ما يتجلّى في سياسة مراكمة الاحتياطيّات الأجنبية للتحوّط من أزمة عملة. وهذا أخطر تهديد يواجهه الاستقرار المالي في دول الجنوب. شهد عقد التسعينيات وبداية الألفية الثالثة انهياراً مُتتالياً لعدد من العملات تحت وطأة التقلّب في التدفّقات الرأسمالية على المدى القصير، بدءاً من الوون الكوري الجنوبي وصولاً إلى الليرة التركية. وقد تعلّم محافظو البنوك المركزية بسرعة أنَّ الحفاظ على الاستقرار المالي في اقتصاد عالمي مُتشابك يتطلب إدارة العملة، ما يعني أنَّ على البنوك المركزية مراكمة «مؤونات حربية» من العملة الأجنبية (أنظر الشكل 2) معظمها مقومٌ بالدولار الأميركي، تستخدمها لاحقاً لإدارة سعر الصرف من خلال بيع وشراء العملات الصعبة. تعمل إدارة الاحتياطيّات، شأنها شأن سياسة التيسير الكمّي في بنك الاحتياطي الفيدرالي، على تحسين ميزانيات البنك المركزي، وتعيد في الوقت نفسه تشكيل البنك كصانع السوق يتحمّل مخاطر نظامٍ مالي مُتزايد الهشاشة وكثيف الضمانات ومجزّأ لكنَّه مُتشابك عالمياً.

تستفيد جهات القطاع الخاص المتعاملة مع الخارج من هذا التحوّط الذي توفّره مشتريات البنك المركزي من العملات الأجنبية. في الهند على سبيل المثال، تيسِّر احتياطيات البنك الاحتياطي الهندي توسّع الشركات الهندية متعدّدة الجنسيات، مثل شركة «تاتا غروب» التي تقترض مبالغ ضخمة من أسواق رأس المال العالمية. وهناك أدلة وجيهة تمكِّننا من استخلاص أنَّ هذه الشركات الهندية اقترضت بالدولار من السوق المحلّي، حين انهار بنك ليمان برذرز، للوفاء بمدفوعاتها المستحقّة. - Ila Patnaik and Ajay Shah, “Why India Choked When Lehman Broke,” India Policy Forum 6, no.1 (2020): 39–72. بطبيعة الحال، لم يكن هذا مُمكناً لولا حيازة البنك الاحتياطي الهندي لاحتياطياتٍ بالدولار. ومع أنَّ احتياطيات البنك الهندي ساعدته على استعادة الاستقرار، إلا أنَّ بيع العملات الصعبة أثناء أزمات السيولة العالمية يسفر عن خسائر تظهر في ميزانية البنك المركزي. بهذا، يُترَك للبنك المركزي مهمّة تغطية مخاطر سعر الصرف والإبقاء على ميزانية متضخّمة. علاوة على هذا، فإنَّ كلفة الفرصة البديلة لحيازة الاحتياطيات كبيرة وتتراوح بين 1% و3% من إجمالي الناتج المحلي. أخيراً، قد تضع إدارة الاحتياطيات ضغوطاً تصاعدية على سعر الفائدة حينما يسعى البنك المركزي إلى بيع العملة الوطنية في سوق العملات الأجنبية (أي ما يفعله البنك عادةً في ظل استقرار الأسعار)، الأمر الذي يُضرّ بالمقترضين المحلّيين الذين لا يستطيعون الوصول إلى أسواق رأس المال العالمية. يستفيد اللاعبون في السوق العالمية من التأمينات من مخاطر سعر الصرف على حساب الميزانية العامة والجهات المحلّية المُقيَّدة في تعاملاتها مع الخارج.


الاحتياطيات الأجنبية للأرجنتين والبرازيل وتشيلي والصين وكولومبيا والتشيك وهنغاريا والهند وإندونيسيا ولبنان وماليزيا والمكسيك ونيجيريا وبيرو والفلبين وبولندا وروسيا والمملكة العربية السعودية وجنوب إفريقيا وجنوب كوريا وتايلاند وتركيا وأوكرانيا والأوروغواي والفيتنام


 

أزمة دائمة؟

لماذا اعتادت البنوك المركزية استخدام إجراءات الأزمات في الأوقات «العادية»؟ لدينا إجابتان محتملتان عن هذا السؤال، إما أنَّنا في أزمة دائمة وبالتالي يحتاج عمل سوق المال إلى مساندة دائمة من البنوك المركزية؛ أو علينا ببساطة رؤية هذه الإجراءات على أنَّها أدوات تتناسب مع نظام مالي أعقد. لا تنفي إحدى الإجابتين الأخرى، وتطرح كلتاهما تحدّيات جذرية على التبريرات التقليدية لتدخل البنك المركزي. تترتّب على فكرة أنَّ النظام في أزمة دائمة تبعات جوهرية وتطرح تساؤلات بشأن المبادئ الأساسية مثل كفاءة الأسواق المالية وقدرتها على توزيع المخاطر. نجد أسواق المال اليوم معرضةً لصدمات السيولة - بدل أن تكون أسواقاً كفوءة - وتعتمد في توليد العائدات على البنك المركزي المتحمّل للمخاطر، أي أنَّها تعتمد على تعميم المخاطر وخصخصة العائدات. إذا احتاج النظام المالي العالمي إلى مساندة دائمة، يقدّمها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، فلا بد عندئذٍ من توسيع النقاش العام والتدقيق العلمي فيما يجب على الناس طلبه لقاء مساندة أصحاب المخاطر المالية (بما يتجاوز هدف الاستقرار المالي)، لا سيما عندما تفيد هذه «المخاطر» أصحاب الأصول ونخب الأثرياء بدلاً من تحفيز النشاط الإنتاجي في الاقتصاد.

أمّا فكرة أنَّ هذه الإجراءات الجديدة قد أتت نتيجة تحديث البنوك المركزية أدواتها في ضوء الحقائق المالية الجديدة، فتتطلب تدقيقاً أكبر لاستخلاص التبعات. في حالة الاقتصادات الغنيّة (وبعض الاقتصادات الناشئة)، تقتضي إعادة تشكيل الأدوات النقدية وتوسيعها أن نسأل عن مبرّر التوسّع في سلّة أدوات السياسة النقدية وتوسيع أهدافها لتشمل الاستقرار المالي. ينظر الناس، حسبما بيَّنَت حركة «احتلّوا وول ستريت» وغيرها من الحركات، إلى تأمين مساندة مؤقّتة للنظام المالي، أي إنقاذ أطرافه، على أنَّها غير عادلة. بل إنَّ إشكالية الخدمات المصرفية غير التقليدية تتعقَّد حينما توفّر البنوك المركزية مساندة دائمة من خلال عمليات شراء الأصول. لكن لا تزال هذه المسألة خارج الرادار العام ولا تحظى باهتمامٍ بحثي يُذكَر.

نجد أسواق المال اليوم معرضةً لصدمات السيولة - بدل أن تكون أسواقاً كفوءة - وتعتمد في توليد العائدات على البنك المركزي المتحمّل للمخاطر، أي أنَّها تعتمد على تعميم المخاطر وخصخصة العائداتفي عصر السياسة النقدية غير التقليدية، يغدو هذا الإهمال مريباً بالنظر إلى عدم صلاحية المبرّرات التقليدية لاستقلالية البنك المركزي المتمحورة حول أهمية استقلالية السياسة النقدية وغياب نمط توزيع واضح. قبل الأزمة، اعتمدت البنوك المركزية على أداة واحدة، معدّل الفائدة على المدى القصير، وتحمّلت مسؤولية هدف وحيد واضح تمثَّلَ في استهداف التضخّم المرن. بعد الأزمة، كان لأدوات، مثل التيسير الكمي، آثار توزيعية مباشرة أبرزها تعميق عدم المساواة، إذْ يزيد التيسير الكمّي من قيمة الأصول المالية ويمكّن عمليات إعادة شراء الأسهم والمضاربة بما يفيد أولئك الذين يمكنهم شراء الأصول المالية والاحتفاظ بها. علاوة على ذلك، فإنّ توسيع أهداف السياسة النقدية لتشمل عمليات الإقراض المباشر وشراء الأصول يضع البنوك المركزية في وضع يسمح لها باختيار الفائزين والخاسرين ما يقوِّض استقلاليتها.

أما عند الحديث عن تراكم احتياطي العملات الأجنبية والتكاليف المُرتبطة به في دول الجنوب، فلا بد من توسيع النقاش وعدم الاكتفاء بالنظر في ممارسات البنوك المركزية، بل النظر في الترتيبات النقدية والمالية الأوسع نطاقاً التي تندرج ضمنها هذه البنوك. بالنظر إلى هرمية النظام النقدي الدولي، لا تتمتّع البنوك المركزية في الجنوب إلّا بهامش ضيّق لتحدّي مطلب تأمين الاستقرار المالي الائتماني. تفرض التبعية النقدية على البلدان هشاشة متزايدة أمام الخارج، وهيمنة على تدفّقات محافظها قصيرة الأجل الساعية وراء عائدات مرتفعة، فضلً عن أزماتٍ بنيوية في ميزان المدفوعات. يجب أن تسفر هذه العقبات أمام التنمية عن مناقشات ترمي إلى إعادة تصوّر النظام النقدي الدولي وإعادة تشكيله بطريقة تمكِّن دول الجنوب من الوصول إلى الاحتياطيّات لسدّ العجز، وتعطيها القدرة والمجال لممارسة السيادة على تدفّقات رأس المال.

لقد صار تحويل المخاطر من ميزانيات القطاع الخاص إلى البنوك المركزية جزءاً لا يتجزّأ من التمويل الحديث. ومثلما هو الحال معها تاريخياً، فإنَّ الممارسة في البنوك المركزية تسبق النظرية. في الممارسة، يبدو أنَّ هذه البنوك تتفق على هدف واحد: التصدّي لاضطرابات السوق. لكن من الصعب التمييز بين أدوات المُقرض الأخير من ناحية وأدوات السياسة النقدية أو حتّى سعر الفائدة من ناحية أخرى. تنفق البنوك المركزية في الاقتصادات الغنية وفي دول الجنوب مواردَ هائلة لضمان عمل الأسواق عبر توفير السيولة في السوق من خلال شرائها الأصول، لكنَّنا نفتقر إلى نظريات تكشف لنا مبرّر هذا النشاط والتدخّل على المدى الطويل، وبالتحديد في غير أوقات الأزمة.

تواصل ميزانيات البنوك المركزية تضخّمها مع عدم امتلاكها استراتيجية واضحة لبيع الأوراق المالية من دون إثارة الذعر في الأسواق. يجاهد البنك الاحتياطي الفيدرالي، حتّى مع خطر التضخّم، لتحقيق هدفه في إنقاص ميزانيته العمومية، فالفائدة الواجب عليه دفعها على التزاماته تزداد مع رفعه معدّل الفائدة للسيطرة على التضخّم، ما يهدّده بتسجيل خسائر. وأغلب الظن أنَّ سياسة رفع الفائدة في المركز ستعزّز الحاجة لمراكمة الاحتياطيات في دول الجنوب بسبب تفضيل المستثمرين الاحتفاظ بأصول بالعملة الصعبة. بالنظر إلى ترسّخ ميزانيات البنوك المركزية في الأسواق المالية وما تحمله من مخاطر باسم الصالح العام، فإنَّ مهمّة دراسة وتمحيص عمليات شراء الأصول والتنظير لها لم تَعُد تحتمل التأجيل.

نُشِر هذا المقال في Phenomenal World في 24 آب/أغسطس 2022.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.