تشارلز تيلي: نشوء الدول وطبيعة الثورات

  • يجادل تيلي بأن "الحرب صنعت الدولة، والدولة صنعت الحرب". مع ذلك، لا يمكن اعتباره تبسيطياً ولا حتمياً فيما يتعلّق بتشكيل الدولة من الناحية التطبيقية، خصوصاً أن الدولة الحديثة لم تكن حتمية ولا تدريجية في مسار تشكّلها.
     
  • لا يعتبر تيلي الثورة ظاهرة سياسية مُنفصلة، بل تجلّياً لعلاقات القوة النزاعية، وامتداداً لسياسات العمل الجماعي العنفية واللاعنفية – أو الطرق التي يعمل من خلالها الناس "معاً سعياً وراء مصالح مشتركة".

عندما توفّي تشارلز تيلي عام 2008، قال رئيس جامعة كولومبيا، لي سي. بولينغر، إنّه كتب عن الديناميات النزاعية والأسس الإثنوغرافية للتاريخ السياسي، وطوّر أساليب ومفاهيم ونظريات بحثية لدراسة السياسات النزاعية، والحركات الاجتماعية، وتاريخ العمل، وتكوين الدولة، والثورات، والتحوّل الديمقراطي، والهوية وعدم المساواة. لذلك من غير المُستغرب أن يُعتبر تيلي من مؤسّسي علم الاجتماع التاريخي. لكن قلّة من الباحثين في الشرق الأوسط استوحوا من أعماله. لذلك سوف يركّز هذا المقال على مساهمة تيلي في المسألتين الأكثر صلة بالشرق الأوسط، وهما الدولة والثورة.

السياق الفكري

أوّلاً، تُعدُّ إسهامات تيلي حول تشكيل الدولة الأكثر شهرة ضمن أعماله. يجادل تيلي (1975) بعبارات بسيطة وغير مصقولة بأن "الحرب صنعت الدولة، والدولة صنعت الحرب". مع ذلك، لا يمكن اعتباره تبسيطياً ولا حتمياً فيما يتعلّق بتشكيل الدولة من الناحية التطبيقية، خصوصاً أن الدولة الحديثة لم تكن حتمية ولا تدريجية في مسار تشكّلها. يأخذ تيلي بالاعتبار الاحتمالات المختلفة وراء نشوء الدول، حيث برزت أشكال مختلفة من النزاعات في عملية تقاسم الموارد بناءً على تشكيلها الهشّ. على سبيل المثال، تتطلّب عملية ترسيم الحدود والتدعيم الاجتماعي شنّ حربٍ على الصعيدين الداخلي والخارجي لاستخراج الموارد وتعبئتها على نطاق واسع. هكذا، قدَّمت الدولة القومية شكلاً بنيوياً ودائماً من تراكم رأس المال اللازم للحرب. وبهذا المعنى، يعتبر تيلي أن صناعة الحرب وبناء الدولة أمراً واحداً.

ومن مساهماته الأخرى المضيئة، يبرز عمل تيلي عن الثورات التي تُعدُّ غالباً من الظواهر الدخيلة على السياسة، أو نقيضاً للدولة القومية في الأوساط الأكثر تحفّظاً. على عكس هذه الاعتبارات، يرى تيلي أن الثورة جزءٌ من السياسة، لا بل من الطبيعة النزاعية للسياسة خصوصاً في إطار الدول الحديثة. في كتابه "من التعبئة إلى الثورة" (1978)، لا يعتبر تيلي الثورة ظاهرة سياسية مُنفصلة، بل تجلّياً لعلاقات القوة النزاعية، وامتداداً لسياسات العمل الجماعي العنفية واللاعنفية – أو الطرق التي يعمل من خلالها الناس "معاً سعياً وراء مصالح مشتركة" (1978: 1-7).

قدَّمت الدولة القومية شكلاً بنيوياً ودائماً من تراكم رأس المال اللازم للحرب. وبهذا المعنى، يعتبر تيلي أن صناعة الحرب وبناء الدولة أمراً واحداً

تُعدُّ دراسة العمل الجماعي – مثل الثورة – مسألة حسّاسة، لأن "العمل الجماعي يتعلّق بالسلطة والسياسة؛ وهو ما يثير أسئلة حول الصواب والخطأ، العدالة والظلم، الأمل واليأس. ومن المرجّح أن يتضمّن تعريف المشكلة أحكاماً حول من له الحقّ في التصرّف وفائدته" (1978: 1-8). تنعكس هذه الحساسية في الأدبيّات البحثية حيث يُحدّد الثوّار "الجيِّدين" سلفاً، وكذلك الدولة أو الطبقة "السيّئة". لا يتعارض تيلي مع هذه القناعة كلياً، لا سيما عندما يوضح أن طريقة التحقيق الخاصة به هي "بشكل عام معادية لعمل الحكومات الجماعي ومواتية للعمل الجماعي للناس العاديين" (1978: 11-1). ولكن يتميّز في نقده لهذا التحيّز من خلال فضح القيود التي تخلقها وجهات النظر الأخلاقية المُحدّدة مُسبقاً عن دراسات الثورة. يناقش تيلي كيف يُعرَّف مفهوم الثورة بطرق مختلفة، ليس لأن الجانب التطبيقي مُعقّد فحسب، بل لأن التعريف نفسه يفسح المجال لوجهات نظر أخلاقية معيّنة لما هو جيّد أو سيئ (1978: 7-1). السلطة والسياسة هما في قلب الثورة، لذلك ما من تعريف للثورة يمكن أن يسلم من هذه القيود، مع العلم أنه يجب، ولكلّ تعريف، أن تحسم بعض الخيارات حول الذي يمكن والذي لا يمكن اعتباره ثورة: إنقلاب، إرهاب، التغيّر الصناعي البطيء، التغيير من فوق، إلخ (المصدر نفسه).

من أجل توضيح الأرضية المفاهيمية، يميّز تيلي بين "الوضع الثوري"، أي وجود أكثر من كتلة سياسية تمارس السيطرة بشكل فعّال على جزء كبير من أجهزة الدولة، و"النتيجة الثورية"، أي إزاحة تحالف من قوى السلطة من قبل تحالف ثوري معارض (1978: 7-3). في الواقع، يصبح صراعٌ سياسي معيّن ثورياً حين يقدّم التحالف المعارض خطاباً ومساراً سياسيين يناقضان وجودياً الخطاب والمسار السياسيين اللذين تلتزم فيهما قوى السلطة. بمعنى آخر، يتحقّق "الوضع الثوري" عندما تصبح طبيعة النزاع على الحكم حصرية ووجودية. مع ذلك، يمكن حصول وضع ثوري من دون أن ينتج عنه بالضرورة نتائج ثورية. على سبيل المثال، قد يهزم الائتلاف المسيطر على الحكومة تحالفاً من المعترضين بعد فترة من الوضع الثوري، أي بعد فترة من المطالبات الفعّالة والمتنافسة والحصرية لكلّ طرف على الحكومة. أيضاً، يمكن من الناحية المنطقية أن تحدث نتيجة ثورية من دون وضع ثوري عبر إضافة طرف أو إخراج طرف آخر تدريجياً من التحالف الحاكم (1978 : 7-8).

عادة، في مرحلة ما، ينتهي الوضع الثوري في مكانٍ ما بين انقسام الدولة الى دولتين وبين تثبيت حاسم لأحادية الحكم. على نحو مماثل، وفي وقت معيّن، غالباً ما تكمن النتيجة الثورية بين القضاء التام على قوى السلطة والحفاظ على الوضع القائم أو استعادته. بناءً على هذه المتغيّرات، يحاجج تيلي بأن "السياسة كالمُعتاد"، أو في وضعها الطبيعي، هي عندما لا تشهد الصراعات النزاعية وضعاً ثورياً دائماً، وحيث لا تلحظ النتائج الثورية حسماً لصالح قوى ما. بعبارات أخرى، تُعتبر الثورة في نظرية تيلي تكثيفاً للسياسة لا أكثر، والتي هي بطبيعتها نزاعية. عندما يكون لقوى النزاع مطالبات ومسارات متناقضة وحصرية، أي وجودية، يصبح الوضع السياسي ثورياً. وبالتالي، يضع تنظير تيلي عن الثورة في سياق علاقات القوّة، وفهم هذه الظاهرة ضمن المجال الأوسع للسياسة.

في تطبيق النظريات

قبل أن يبلور تيلي نظريته عن الثورة، شرع في دراسة مستفيضة عن الثورة المُضادة في منطقة فونديه، غرب فرنسا، لمواجهة الثورة الفرنسية. وبدل أن يقع في الفصل المُعتاد والمُسبق بين ما هو جيّد وما هو سيئ في الثورة والثورة المُضادة، ركّز على فهم دوافع المجموعات المُنخرطة لتأييد طرف مُحدّد من الصراع، مع التركيز على التناقضات والانقسامات والنزاعات داخل المجموعات المعنيّة، ودوافعها ومصالحها المتنوّعة والمُتغيّرة (تيلي 1964).

في السياق، يظهر أن عمّال النسيج الريفيين تضرّروا من الأزمة الصناعية التي لحقت بهم جرّاء القوانين الإصلاحية الاقتصادية للثورة الفرنسية، والتي جعلت السلطة مُتمركزة في أيدي التجّار وملّاك الأراضي، فانضمّوا إلى المعسكر المضاد للثورة. وعلى الرغم من أنّ هذا المعسكر كان تحت قيادة النخبة من رجال الدين المُعادين للدولة الثورية، فلا يعني ذلك أن عمّال النسيج كانوا داعمين لنظام الحكم القديم الذي يقوده رجال الدين بحسب تيلي، لأن في هذه القراءة لتعبئة عمّال النسيج سطحية ما، في حين أنّ معارضتهم للتجّار الثوريين هي الدافع الرئيسي لموقفهم المعادي للثورة (1964). تُظهِر هذه الحالة كيف أن تحديد أيديولوجية (أو هوية) مجموعة ما لا يقدّم تفسيراً وافياً عن سياستها. ووفقاً له، فإن الوصول إلى الموارد هو الأمر الحاسم في تحديد ذلك (1973a:28). لا يعتبر تيلي أن "الموارد" هي المادة فحسب، بل تشمل أيضاً، من بين أمور أخرى، الأسلحة، والمعرفة، وأدوات ومهارات التواصل، والشبكات الاجتماعية، والولاءات، والحقوق التشريعية، والمصادر الأدبية، والامتيازات القانونية والثقافية (1973:38).

لكن تبقى مقاربة تيلي في التركيز على الموارد مبنية على الاقتصاد السياسي للسياسات النزاعية. في حالة فونديه، ربّما لم يكن لعمّال النسيج أن يتحرّكوا تحت راية الثورة المضادة بقيادة رجال الدين لو توفّرت لديهم الموارد الكافية للتعبئة والسعي وراء مصالحهم بطرق أخرى، أي من خلال المعارضة غير الثنائية للثورة الفرنسية. أدّى احتكار الموارد من قِبَل النخبة الفرنسية، لا سيّما رجال الدين والبرجوازية، إلى استقطاب براغماتي للإمكانات السياسية التي يمكن أن تقيّد قدرة مجموعات المصالح والتنظيمات القاعدية على التعبئة خارج الثنائية التي ترعاها النخبة.

مثلما يُظهِر تحليله لحالة فونديه، فإن تفسيرات النزاع الاجتماعي - سواء كان طائفياً أو غير ذلك - التي تركّز على دور المجموعات التي يُفترض أن مصالحها موحّدة، تتغاضى عن الطبيعة النزاعية للسياسة، وتحول دون الأخذ بالحالات الطارئة التي تصوغ دوافع المجموعات والأفراد ومصالحهم، بما فيها الأنواع المختلفة للموارد التي يسعى الأفراد، في تجمّعاتهم، إلى الوصول إليها.

صعوبة استخدام تيلي

بدأ تيلي بمقاربة بنيوية إلى حدّ ما لدراسة الدولة مثل العلاقة بين نشوء الدولة والحروب. لكن، بحلول عام 1990، تحوّل عمله بشكل أساسي إلى المقاربات "العلائقية"، مع توجيه اهتماماته نحو الحركات الاجتماعية والتعبئة (تارو 2018). وبالتالي، ان اللجوء إلى أعمال تيلي يطرح تحدّياً حقيقياً بسبب اتساع نطاقه المنهجي (أو تباينه)، فضلاً عن انتقاله باستمرار من المستويات الكلّية إلى "المستويات الجزئية للواقع الاجتماعي"، مع محاولة ربط كلا المستويين (المصدر نفسه :515)، ما يزيد من صعوبة استبانة عمله. أين يلتقي عمله حول الثورة - والسياسة النزاعية بشكل أوسع - مع عمله المُتعلّق بالدولة وصناعة الحرب؟

من المذهل ألّا يتم الربط بين المجالين الرئيسين اللذين ساهم بهما تيلي. ينظر إلى المجال الأوّل بوصفه مشاركة تيلي في علم الاجتماع، فيما يُنظر إلى المجال الثاني على أنه تدخّل تيلي في العلوم السياسية.

ما قام به تيلي هو غالباً ما يعجز المنظّرون الاجتماعيون الآخرون على فعله، وهو إثبات أنّ المظاهر الأكثر عنفاً أو تفجّراً للنشاط الجماعي تكمن في جوهر السياسة

ملاحظات أخيرة

إذا أردنا توليف عمل تيلي الواسع فقد نجد حلّاً لمعضلة القدرة والبنية التي تشغل العديد من الباحثين والطلّاب. بشكل عام، تمكّن تيلي من تحقيق توازن بين البنى التي تتجلّى من خلالها السياسات النزاعية وخصوصاً الدولة والمجتمع، وبين المسار التفاعلي الذي يحدّد آفاق التنظيم السياسي والتعبئة. تبتعد هذه القراءة للمجال السياسي عن التصنيفات والافتراضات الجامدة للخير والشر، الدولة واللادولة، البنية والقدرة، لأنها تدرك التفاعل المُعقّد بين الظواهر التي يمكن التنبؤ بها بنيوياً وتعدّد احتمالات أو حالات التفاعل البشري.

لا شكّ، يمكن الارتكاز إلى تيلي لحلّ تعقيدات سياسات الشرق الأوسط وما تفرزه من سخطٍ ونزاعات، فهو لا يقدّم مخرجاً من معضلة القدرة والبنية فحسب، بل يراعي الحساسية التي تنمّ عن دراسة السياسات النزاعية، وخصوصاً الثورة، التي تدعو حتماً إلى التحيّز الأخلاقي والأيديولوجي. باختصار، ما قام به تيلي هو غالباً ما يعجز المنظّرون الاجتماعيون الآخرون على فعله، وهو إثبات أنّ المظاهر الأكثر عنفاً أو تفجّراً للنشاط الجماعي تكمن في جوهر السياسة.
 
نُشِر هذا المقال في SEPAD في 29 حزيران/يونيو 2022.