نحو مجتمع متكامل

  • لدينا الأرض والعمل من بين عوامل الإنتاج، وكلاهما لا يمكن معاملته معاملة السلعة إلّا على أساس صوري إلى حدّ ما. فالعمل يعني البشر الذين يتكوّن منهم المجتمع، والأرض ليست سوى مرادف آخر للطبيعة الأم التي يعتاشون منها.
     
  • سوف تلفظ "الطاحونة الشيطانية" للسوق المجتمع الذي يسمح بتفتيت أرضه أو تركها من دون استخدام، ويسمح باستنزاف قوّة عمله وتركها تكسد، ويسمح بتعريض نظامه الائتماني للتضخّم أو خنق منشآته التجارية بفعل آليةٍ عمياء بعيدة بطبيعتها عن احتياجات الجماعة المتضمّنة في كل مجتمع بشري.

الفصل بين السياسة والاقتصاد

 

قام المجتمع في القرن التاسع عشر على عمادَي الرأسمالية الليبرالية والديمقراطية التمثيلية، وكان المجال السياسي منفصلًا عن المجال الاقتصادي، ومن جراء هذا أتت نهايته السريعة. إذ من الوهم الاعتقاد بأن يستمرّ هذا الوضع إلى الأبد. فالمجتمع الذي ينطوي على مجال اقتصادي منفصل ومنظم ذاتيًا ومستقل ليس إلا يوتوبيا.

قد يبدو هذا القول متناقضًا في ظاهره. فمن البديهي أن يتضمّن المجتمع هذين النظامين المؤسسيَيْن بوصفهما مختلفين ومتمايزين بقدر اختلاف وتمايز ما يلبيانه من حاجات. أليس للبشر احتياجات اقتصادية من قبيل الغذاء واحتياجات سياسية من قبيل الأمن والحماية؟ ومهما آثر المرء الزبدة على البنادق، أو العكس، فإنَّه لن يخلط - ما دام في رشده - بينهما. يبدو وجود مؤسسات اقتصادية منفصلة عن المؤسسات السياسية في المجتمع من طبائع الأشياء.

لكن يتضح لنا عند تعميق النظر أنَّ هذا الافتراض باطل لا تسنده إلا معتقدات وعادات بضعة أجيال. لا بدّ للمرء من تحصيل الغذاء والأمان، لكنَّه لا يحتاج إلى مؤسسات منفصلة لتلبية هاتين الحاجتين، أي مؤسّسات قائمة على دافعٍ خاص تديرها مجموعة مستقلّة من الأفراد وتتصرّف على أساس هذا الدافع. على العكس من ذلك، فإذا غضضنا الطرف عن التجربة المحدودة لبعض المجتمعات في القرن التاسع عشر، نجد أنَّ جميع المجتمعات البشرية في الماضي قامت على الوحدة المؤسسية، أي تأسيس مجموعة واحدة من المؤسسات لتلبية احتياجات المجتمع الاقتصادية والسياسية.

 

اقتصاد السعر / السوق

 

تُعدُّ الرأسمالية الليبرالية في جوهرها اقتصاد سعر (سوق)، بمعنى أنَّ إنتاج البضائع وتوزيعها محكوم بالأسعار الناتجة عن عمل السوق.

توجد سوق لكلّ نوع من أنواع البضائع: سوق السلع لكلّ أنواع السلع، وسوق رأس المال لاستخدام رأس المال وسوق العقارات لاستخدام الأرض، وسوق العمل لاستخدام قوة العمل. بهذه الطريقة، يحظى كل عامل من عوامل الإنتاج بسوقه.

وبالتبعية يوجد سعر لكل نوع من أنواع البضائع: أسعار للسلع تدعى أسعار السلع، وأسعار لاستخدام رأس المال تدعى فائدة، وأسعار لاستخدام الأرض تدعى ريوع، وأسعار لاستخدام العمالة تدعى أجور. هكذا، يحظى كل عامل من عوامل الإنتاج بسعره.

قامت جميع المجتمعات البشرية على الوحدة المؤسسية، أي تأسيس مجموعة واحدة من المؤسسات لتلبية احتياجات المجتمع الاقتصادية والسياسيةونتيجة عمل السوق هي ذات شقّين:

تحديد مقادير الإنتاج من البضائع وأنواعها المختلفة، والتصرّف التلقائي بموارد البلد من أراضٍ وعمل ورأس مال وسلع.

وبالتبعية، يتحدّد توزيع البضائع المُنتَجة بالآلية نفسها. تمثِّل بعض هذه الأسعار دخل مَن يبيع بضائعَ معيّنة. هكذا، يحصل باعة رأس المال على الفائدة، وباعة الأراضي على الريع، وباعة قوة العمل على الأجر، ولدينا في النهاية الربح لباعة السلع المختلفة. ويتكوّن الربح من فائض أسعار البيع عن التكاليف (والأخيرة هي بالطبع أسعار البضائع اللازمة لإنتاج السلع المعنية). يشتري مجمل هذه المداخيل مجملَ البضائع المُنتَجة في فترة زمنية محدّدة. وعلى هذا النحو، يوزِّع نظام الأسعار البضائع المُنتَجة في ظلّه تلقائياً.

لا تختلف آليّة عمل اقتصاد السوق في جوهرها عن آليّة نظام الأسعار. إذا تصوّرنا للحظة أنَّ مئات آلاف السلع المُعقّدة ينتجها ملايين الأشخاص، وتتوزّع لاحقًا عليهم عن طريق هذه الآليّة التي تنظّم كلّ تفصيل تكنولوجي ومالي واستهلاكي، حريٌ بنا عندئذٍ الاعتراف بأنَّ هذا إنجازٌ للعقل البشري، تبدو أهرامات مصر تافهة بالمقارنة معه. ولا عجب إذًا إنْ أبهرَ الإنسانَ وحيَّره حين أشرق في وعيه تماماً كما تُبهر عينيه عند النظر بالشمس الصافية. هكذا، صارت الثورة الصناعية وعصر الآلة، المعتملان في أحشاء مجتمعنا الأوروبي، مصدرَ إلهامٍ قوي وكافٍ ليجتاز بالإنسانية جحيم التحوّل الصناعي في مستهله إلى بداية الظهور الفعلي للمكاسب المادية الهائلة للنظام.

بيد أنَّ لدوغمائية (الجمود الفكري) الاقتصاديين الليبراليين سببٌ آخر أيضًا. إذ مع تطوّر اقتصاد السعر (السوق) وجب على هذا الاقتصاد تشديد تطبيق مبادئه. وإذا بدت الدوغمائية على أنصار التجارة الحرّة الأوائل، من أمثال آدم سميث، فإنَّها لا تُقارن بدوغمائية مدرسة مانشستر اللاحقة. كان ليبراليو هذه المدرسة بين متردّد ومتنازل بالمقارنة مع أبطال الرأسمالية الليبرالية الحاليين. يبدو أمثال كوبدن وبرايت مجرّد انتهازيين عند مقارنتهم مع تعصّب ليونيل روبنز ولودفيغ فون ميزس.

والسبب وراء هذا الأمر بسيط جدًا. يشتغل اقتصاد السوق، إذا اشتغل أصلًا، ما دامك لا تتدخّل في الأسعار، سواء أسعار السلع أو الريوع أو الأجور أو الفائدة. وإذ يعتمد نظام الأسعار في عمله على وجود فائض في أسعار البيع عن التكاليف، فإنَّه ما من شيء يمكن إنتاجه ما لم يوجد هذا الفائض. بالتالي، إذا انخفضت الأسعار لا بدّ من السماح بخفض التكاليف أيضًا، بمعزل عن مشيئة المرء ومشاعره وقيمه العليا. بهذا، تستبعد قواعد اللعبة بطريقة تلقائية الإنتاجَ بخسارة دائمة.

لهذا السبب لا بدّ في ظل هذا النظام من وجود سوق حرّة لجميع عوامل الإنتاج، أي أنَّها لا تقتصر على السلع، بل أن تشمل الأرض ورأس المال أيضًا. ما لم يكن نظام الأسعار مرنًا ويسمح بحرّية حركة الأسعار بما يتماشى وتفاعل الأسواق المختلفة، فإنَّ النظام يتوقّف عن كونه ذاتي التنظيم، حتّى من حيث المبدأ، ويتحتم عندئذٍ فشل الآلية برمّتها، لتُترَك البشرية مع خطر البطالة العامّة وتوقّف الإنتاج وفقدان الدخل وما يترتّب على هذا من فوضى وتفكّك اجتماعي.

 

المجتمع والسوق

 

بيد أنَّ الافتراض البسيط، في ظاهره، عن ضرورة وجود سوق حرّة لعوامل الإنتاج، ينطوي من الناحية العملية على وجوب إخضاع المجتمع بأسره لاحتياجات نظام السوق. لدينا الأرض والعمل من بين عوامل الإنتاج، وكلاهما لا يمكن معاملته معاملة السلعة إلّا على أساس صوري إلى حدّ ما. فالعمل يعني البشر الذين يتكوّن منهم المجتمع، والأرض ليست سوى مرادف آخر للطبيعة الأم التي يعتاشون منها. هكذا، يخضع المجتمع بأسره لاحتياجات اقتصاد السوق عند محاولة إقامة اقتصاد سوق منفصل داخل المجتمع. لقد ظهر بمحض الصدفة تقريبًا شيء لم يُسمَع به من قبل: مجتمعٌ اقتصادي، أي مجتمع بشري يقوم على افتراض أنَّ المجتمع يعتمد في وجوده على البضائع وحدها.

أنَّ الافتراض البسيط عن ضرورة وجود سوق حرّة لعوامل الإنتاج، ينطوي من الناحية العملية على وجوب إخضاع المجتمع بأسره لاحتياجات نظام السوق

إنَّ هذا الافتراض خاطئ بكل وضوح. لا تقل أهمّية التأمين على الحياة والجسد عن أهمّية تأمين القوت اليومي، وما من مفاضلة بين الخبز والزبدة إذا كان البديل قتلك على الفور. لكن إذا شاء المجتمع البقاء، عليه الوفاء بمجموعة أخرى من المتطلّبات من قبيل العلاقات المستقرّة مع بيئتنا، أي مع الطبيعة، وجيراننا، وحرفتنا، والمؤهلات القتالية لأعضاء المجتمع بما فيها المؤهّلات الصحية والبدنية، ونظرة مستقرّة نحو المستقبل لإرساء أسس الشخصية البشرية وتنشئة جيل جديد. من الواضح أنَّ هذه المتطلّبات لا يمكن إحلال البضائع وحدها مكانها. فسوف تلفظ "الطاحونة الشيطانية" للسوق المجتمع الذي يسمح بتفتيت أرضه أو تركها من دون استخدام، ويسمح باستنزاف قوّة عمله وتركها تكسد، ويسمح بتعريض نظامه الائتماني للتضخّم أو خنق منشآته التجارية بفعل آليةٍ عمياء بعيدة بطبيعتها عن احتياجات الجماعة المتضمّنة في كل مجتمع بشري.

هكذا تصبح الطبيعة الحقيقية للأخطار واضحة ولا يمكن فصلها عن يوتوبيا السوق. لا بد من تقييد آلية السوق لتحقيق مصلحة المجتمع، لكن يلزم عن تقييدها تعريض الحياة الاقتصادية ومعها المجتمع بأسره لخطر جسيم. بتنا الآن أمام خيارين أحلاهما مرّ، فإمّا الاستمرار على مسار اليوتوبيا المتّجهة نحو الدمار، أو وقف هذا المسار والمخاطرة بعرقلة هذا النظام الباهر والمصطنع في آنٍ.

 

وحدة المجتمع الأصلية والتوجّه الحالي نحو التكامل

 

يتميّز مجتمعنا الحالي عن غيره من المجتمعات بانفصال المجال الاقتصادي عن السياسي، وهو ما لم تعرفه المجتمعات القَبَلية ولا مجتمعات الدولة-المدينة ولا المجتمعات الإقطاعية. فقد عملت مجموعة واحدة من المؤسّسات في جميع هذه المجتمعات على تلبية الاحتياجات الإنسانية المختلفة من قبيل الأمن والحماية والعدالة والنظام والبضائع والحياة الجنسية والإنجاب. إنَّ المؤسسات الدينية والشعائرية والأسرية وغيرها من مؤسّسات المجتمع القَبَلي أو الإقطاعي لا تنصّ على مثل هذا الانفصال. وبالمثل، كان المذهب التجاري "المركنتالي"، وهو السلف المباشر لمجتمعنا الحالي، عقيدةً سياسية اقتصادية قائمة على الوحدة المؤسّسية للمجتمع.

تفسّر الطبيعة الطوباوية لاقتصاد السوق استحالة وضعه موضع التنفيذ الحقيقي. فقد كان على الدوام أقرب إلى الأيديولوجيا منه إلى الواقع الفعلي. كانت تشريعات المصانع والحمائية والنقابات العمّالية والكنيسة من العناصر البارزة في ردّ الفعل العنيف على افتراضات سوقٍ بلا قيود للأراضي والعمل. بعبارة أخرى، لم يطبّق الفصل بين الاقتصاد والسياسة بالكامل. بدأ تكامل المجتمع من قبل حتّى أن تبلغ الحركة من أجل اقتصاد السوق ذروتها.

بيد أنَّ هذا التطوّر لم يزِد سوى الضغط على النظام الاجتماعي. إذْ إنَّ التدخّل المتبادل بين الصناعة والدولة، الاقتصاد والسياسة، لم يخضع لمبدأ أعلى. فقد استخدمت الطبقة العاملة مؤسّسات الدولة الديمقراطية لحماية نفسها من أسوأ آثار النظام التنافسي، واستغل مقرضو الشركاتِ الملكيةَ الصناعية والتمويل لإضعاف الديمقراطية السياسية. هذا التكامل خاطئ، وقد أظهر المجتمع في أواخر القرن التاسع عشر عدة أمثلة عليه. يشير أتباع اقتصاد السوق عن حق إلى أنَّ سياسة التعريفات الجمركية والممارسات النقابية الاحتكارية كانت في الغالب المسؤول المباشر عن تفاقم الركود وتقييد التجارة. لكن ما لا يرونه أنَّ هذه الإجراءات الحمائية من الدولة والمنظّمات التطوعية كانت الوسيلة الوحيدة لإنقاذ المجتمع من الدمار على يد آليّة السوق العمياء.

تفسّر الطبيعة الطوباوية لاقتصاد السوق استحالة وضعه موضع التنفيذ الحقيقي، فقد كان على الدوام أقرب إلى الأيديولوجيا منه إلى الواقع الفعلي

لقد استحال فصل السياسة عن الاقتصاد في أوروبا بعد الحرب إلى أوضاع داخلية كارثية. فقد أضعفَ قادة الصناعة سلطة المؤسّسات الديمقراطية، في حين تدخّلت البرلمانات الديمقراطية باستمرار في عمل آليّة السوق. ومع احتمالية حدوث شلل مفاجئ للمؤسّسات الاقتصادية والسياسية في المجتمع، ظهرت أوضاع جديدة. وباتت الحاجة إلى إعادة توحيد المجتمع واضحة.

ومن رحم هذه الأوضاع أتت الثورات الفاشيّة. فقد انحصر الخيار بين توحيد المجتمع من خلال السلطة السياسية على أساس ديمقراطي، أو توحيده، حال ثبت ضعف الديمقراطية، على أساس سلطوي في مجتمع شمولي على حساب التضحية بالديمقراطية.

لا يواجه النظام الاجتماعي الأميركي، برأيي، هذه المعضلة المأساوية، لكنَّه إذا شاء تجنّب فقدان حرّيته، فإنَّ عليه اتخاذ خطوتين في آن معًا: التسليم بالحاجة إلى التوحيد وتحقيق هذا التوحيد بالوسائل الديمقراطية.

تمثّل هذه المحاضرة واحدة من خمسة محاضرات ألقاها كارل بولاني في خريف 1940 في كلية بينينغتون، ڨيرمونت بعنوان "التحوّل في عصرنا الحالي".

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.