الكابيتال كونترول: مقاربة في الاقتصاد السياسي

يحاول مجلس النواب اللبناني تمرير اقتراح قانون الـ"كابيتال كونترول" مجدّداً، على الرغم من مضي أكثر من ثلاث سنوات على توقّف المصارف عن الدفع. يستعرض هذا المقال أربعة جوانب رئيسية للاقتراح المطروح، التي تقوّض مصالح فئات اجتماعية واسعة وتعيد إنتاج النظام السياسي والاقتصادي نفسه.

 

"لم يعد هناك فرق بين الاقتصاد والسياسة، لأن اللغة نفسها تسود في كليهما، من طرف إلى آخر".
جان بودريار - فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي

 

عاد اقتراح الـ"​كابيتال كونترول​" مؤخّراً ليطغى على جلسات اللجان النيابية المعنيّة، وذلك بعد فشل حكومة ما قبل الانتخابات النيابية في تمريره، بعد أن اعتبره كثيرون بمثابة عفوٍ عام مالي عن المرتكبين.

بات معلوماً لدى كثيرين في لبنان أن قانون الـ "كابيتال كونترول" كان يُفترض أن يُقرّ في أولى مراحل الأزمة نظراً لتأثيراته الحاسمة في لجم الانهيار الاقتصادي والمالي في البلاد، أمّا اقتراح القانون بصيغته الحالية اليوم فهو ليس إلا تبرئة لذمّة الحلقة المالية – أي أصحاب المصارف وحاكمية المصرف المركزي – ومن ورائهم الرعاة السياسيون من أي ملاحقة قانونيّة قد تصدر بحقهم لما اقترفوه من ترويضٍ للمجتمع بشتى أطيافه.

ما هو الـ "كابيتال كونترول"؟ وكيف يمكننا أن نقارب اقتراح القانون بصيغته الحالية من وجهة نظر الاقتصاد السياسي؟

ماهية الـ"كابيتال كونترول"

الـ"كابيتال كونترول"، أو ما يُعرف بضبط رأس المال، هو عبارة عن قيود أو ضوابط استثنائية ومؤقّتة يضعها مجلس النواب بموجب قانون ليمنع هروب الرساميل من البلد المعني خلال مرحلة الأزمات، وللحدّ من السحوبات النقدية في الداخل. ولكن يُمكن للكابيتال كونترول أن ينطوي أيضاً على إجراءات للحدّ من تدفّقات رأس المال إلى داخل البلاد في حالات الازدهار.

طبعاً، لبنان بلدٌ فيه أزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة. وقد تم تصنيفها من قبل البنك الدولي من ضمن ثلاث أسوأ أزمات في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. لذلك، فإن اقتراح القانون في الحالة اللبنانية هو للحدّ من هروب الرساميل إلى خارج لبنان.

استطاع النظام السياسي الاقتصادي في لبنان أن يعيد إنتاج نفسه في كل محطّة مفصلية نتيجة غياب العمل السياسي الذي يهدف إلى قلب موازين القوى وتشكيل الاقتصاد الذي يخدم المجتمع

مقاربة الاقتصاد السياسي

في مقاربة هذه المقالة لاقتراح قانون الـ"​كابيتال كونترول​" من وجهة نظر الاقتصاد السياسي، سوف تتطرّق الى أربعة جوانب أساسيّة قد تُساعد على فهم التأثيرات السياسية والاجتماعية التي ينطوي عليها هذا الاقتراح.

أولاً: تصادم الأيديولوجيا المزروعة لدى اللبنانيين واللبنانيات مع واقعهم اليوم

يُشاع بأن الاقتصاد اللبناني قائمٌ على حريّة انتقال السّلع والأموال، وأيضاً على "المبادرة الفردية" وحيوية القطاع الخاص. ولكننا بدأنا نشهد، أقله منذ عام 2019، قيوداً فرضها أصحاب المصارف في لبنان على المودعين بشكل مقنّع وغير معلن رسمياً. وترتّب عنها تدهورٌ في الأوضاع المعيشية للمواطنين والمواطنات، والمؤسّسات التجارية اللبنانية التي تعتمد على الاستيراد، وأوضاع المقيمين، أشخاصاً طبيعيّين كانوا أم معنويّين – أي صناديق نقابات المهن الحرة، والمعلمين، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.

ثانياً: العلاقة الملتبسة بين الـ"كابيتال كونترول" والمصارف

إن الضوابط التي توضع للحدّ من خروج الأموال تتمّ عبر جهاز مصرفي سليم وغير مُفلس. بمعنى آخر، قد يستثني قانون الـ"كابيتال كونترول" في العديد من البلدان عدداً من الأنشطة أو القطاعات من مقتضيات منع التحويل إلى الخارج، لا سيّما تحويل الأموال بهدف التعليم أو استيراد المعدات الطبيّة الضرورية لتأمين استمرارية القطاع الصحّي، أو حتى السلع الرأسمالية اللازمة لتعزيز الإنتاج المحلّي والتصدير.

ولكن في ضوء إفلاس القطاع المصرفي – وإن لم تُعلن جمعية المصارف اللبنانية بصريح العبارة عن ذلك – سوف يكون القانون بمثابة ذريعة للحلقة المالية للامتناع عن تحويل الأموال الى الخارج، سواء لهدفٍ استراتيجي أو لا، وبشكلٍ مُقوْنَن.

ثالثاً: إشكالية الوحدة النقدية في الداخل والخارج

يفترض بأي قانون "كابيتال كونترول" أن ينهي تعدّدية أسعار الصرف المُعتمدة من مصرف لبنان، والتي وصلت إلى نحو خمسة أسعار، لا سيما أن سعر الصرف المعتمد في التبادلات الخارجية يتحدّد من خلال منصّة "صيرفة" التي لا أساس أو تعريف قانوني لها.

وهو ما يعني أن السياسة النقدية في لبنان باتت عبارة عن فرمانٍ غير مُعلن، أي أن سعر الصرف الرسمي لا يتحدّد من خلال آليّة واضحة مثل العرض والطلب في سوق القطع، بل يتدخّل مصرف لبنان لتحديده بمعزل عن التطوّرات الحاصلة على مستوى القيمة الشرائية للعملة الوطنية وارتفاع أسعار الدولار الأميركي تجاهها.

ومن أبرز تداعيات ذلك هو فصل الوحدة النقدية للمعاملات الداخلية عن الوحدة النقدية للتبادلات الخارجية بسبب غياب الوضوح في سعر الصرف. فكيف يمكن للقيّمين على السياستين المالية والنقدية في البلاد أن يدّعوا دعم التصدير إذا لا يوجد أي استثناء للواردات التي تعدُّ من مدخلات الأنشطة التصديرية؟ أم أن هذه الاستثناءات سوف تضعها اللجنة الخاصة المنصوص عنها في مشروع القانون، وعلى نحوٍ استنسابي؟ يُذكر أن هذه اللجنة سوف تتشكّل بموجب هذا القانون، وتتحدّد آلية عملها بقرار يصدر عن مجلس الوزراء لوضع هذا القانون موضع التنفيذ.

رابعاً: إبطال أي إجراء قضائي بحق المصارف

ينصّ اقتراح القانون في المادة الثانية عشرة منه على إبطال أي إجراء قضائي بحق المصارف والمؤسسات المالية مهما كانت طبيعة الدعاوى أو مكان تقديمها أو نوعها أو درجاتها، والمتعلقة بالسحوبات والتحاويل. ما يعني أن الدعاوى التي تمّ تقديمها بحقّ المصارف من أجل استعادة المودعين لأموالهم ستكون بحكم المُلغاة. وهذه إشكالية أساسية من شأنها أن تُعزّز الموقع التفاوضي للحلقتيْن المالية والسياسية في مقابل المجتمع، فتتعزّز بذلك احتمالية إعادة إنتاج النظام السياسي-الاقتصادي لنفسه؛ أي استعادة النموذج القائم على الثلاثيّة المتمثّلة بهجرة البشر، والاعتماد المفرط على التحويلات الخارجية، كما الاستثمار في العقارات وغيرها من الأنشطة التي لا تعتمد على المهارات والإنتاج والتصدير، وهي ثلاثيّةٌ مسؤولة بالدرجة الأولى عما آلت إليه الأمور من سوء.

إن إقرار قانون الـ"كابيتال كونترول"، أو أي قانون آخر ينعكس تقويضاً أو تعويماً لمصالح الفئات الاجتماعية المتنوّعة، يشترط وجود دولة. فلا يوجد حلّ قانوني، أو اقتصادي-اجتماعي تقني منفصل في الواقع عن السياسة والمجتمع. لعلّه من نافلة القول إن النظام السياسي الاقتصادي في لبنان قد استطاع أن يعيد إنتاج نفسه في كل محطّة مفصلية نتيجة غياب العمل السياسي المنظّم والرامي إلى قلب موازين القوى بهدف التأسيس لشرعية الدولة القادرة ليس فقط على توزيع الخسائر الماليّة بشكل عادل وهادف، وإنما أيضاً على المساهمة في تشكّل الاقتصاد الذي يخدم المجتمع، فتقوم بتعبئة الموارد بطيفها الواسع وإدارتها لهذا الغرض.