مراسيم زيادة الأجور تدفع إلى المزيد من الفقر
حظيت القوى العاملة اللبنانية بزيادة على الحدّ الأدنى لأجورها بنسبة 385% في خلال سنة واحدة وإنّما على دفعتين؛ الزيادة الأولى بتاريخ 12/5/2022 وهي عبارة عن مبلغ مقطوع قدره مليون و235 ألف ليرة ولا يتجاوز الـ4 ملايين بحسب شريحة الدخل. أمّا الزيادة الثانية فتلتها بعد خمسة أشهر بتاريخ 19/10/2022 وبلغت قيمتها 600 ألف ليرة.
لكن للمفارقة، لا يعرف العاملون والعاملات مقدار الخسائر التي سوف يتعرّضون لها في مستويات أجورهم، بعد الاتفاق بين وزير العمل والاتحاد العمّالي العام والهيئات الاقتصادية المُمثّلة لأصحاب العمل على زيادة الأجور.
زيادات وهمية على الحدّ الأدنى للأجور
تُعدُّ معدّلات زيادة الأجور قياسية نسبة إلى ما كانت عليه، ففي العام 2008 ارتفع الحدّ الأدنى من 300 ألف إلى 500 ألف ليرة وفق زيادة مقطوعة بلغت 200 ألف ليرة، أي ما يشكّل 66% من الحدّ الأدنى للأجور. وفي العام 2012 ارتفع الحدّ الأدنى بنسبة 225%، ووصل إلى 675 ألف ليرة بعد تنزيل الـ200 ألف المُضافة في الزيادة السابقة. صحيح أنّ الأجور كانت تتضاعف عند كلّ تعديل قبل انهيار سعر الصرف، ولكنّها لم تكن كافية أصلاً لتأمين الاحتياجات الأساسية للأجراء ولم تتماشَ مع مستويات التضخّم.
وبالتالي، يُعتبر معدّل الزيادات التي حصل عليها القطاع الخاصّ حتّى اليوم اعتيادية تبعاً لنمط الزيادات، ولكنّها لم تعد كافية إطلاقاً لتأمين الاحتياجات الأساسية، وبعيدة جدّاً عن مستويات التضخّم القياسية. فعلى الرغم من الزيادة، انخفضت قيمة الأجر بالدولار من حدّ أدنى بقيمة 450 دولاراً قبل العام 2019 إلى حدّ أدنى يقلّ عن 28 دولاراً في آذار/ مارس 2023، وحتّى مع إصدار مرسوم الحدّ الأدنى المُزمع إقراره بقيمة 4.5 ملايين ليرة، لن يتجاوز الحدّ الأدنى الجديد 48 دولاراً.
على الرغم من الزيادة، انخفضت قيمة الأجر بالدولار من حدّ أدنى بقيمة 450 دولاراً قبل العام 2019 إلى حدّ أدنى يقلّ عن 28 دولاراً في آذار/ مارس 2023في المحصلة، حقّقت المفاوضات التي قادها الاتحاد العمّالي العام زيادة اسمية على الأجور بالليرة في مقابل هبوط حادّ في القيمة الفعلية لهذا الأجر. وكذلك لم ينجُ الذين يتقاضون أجورهم بالدولار من انخفاض قيمة أجورهم في ظل ارتفاع الأسعار عالمياً في بلد يعتمد بشكل أساسي على الاستيراد.
التجّار يحقِّقون المزيد من الأرباح على حساب الأجور
يُبرِّر رئيس الاتحاد العمّالي العام، بشارة الأسمر، قبول الاتحاد بهذه «الزيادات» بحجتين أساسييتين؟ تدّعي الحجّة الأولى الارتكاز إلى مبدأ نقابي يقول «خذ وطالب». وبمعزل عن النقاش حول فعالية هذا المبدأ، إلّا أن الأسمر جعل منه «مهزلة» بعد أن طالب بحدّ أدنى قيمته 20 مليون ليرة وأخذ في النهاية 4.5 ملايين ليرة فقط لا غير. ويستكمل الأسمر تبرير الزيادة الهزيلة بحجّة ثانية تقوم على تكتيك «فن المُمكن»، ولكنّه يخضع بشكل كلّي لسردية التجّار القائلة بأنهم يتكبّدون خسائر، ومن غير الممكن زيادة الأجور أكثر، في حين اتسعت عملية دولرة الأسعار واتخذت شكلاً رسمياً وأصبحت غالبية السلع المعروضة في السوق مُسعّرة بالدولار، سواء في قطاعات الاستشفاء أو التعليم أو الأدوات المنزلية أو في السوبرماركت ومحطّات الوقود وفواتير المولِّدات والاتصالات، وتوسّعت الدولرة لتطال الخدمات العامّة نفسها مثل فواتير الكهرباء والمياه الحكومية وغيرها. وفي هذه الحالة لا يمكن القول إنّ التجّار يعيدون تكوين رساميلهم بل هم في الحقيقة يزيدون من نسبة أرباحهم.
صحيح لا توجد أرقام عن نموّ أرباح التجّار، ولكن لنا أن نتخيّل حجم هذه الأرباح إذا ما أضفنا إلى الأرباح التي كان التجّار يتقاضونها سابقاً، الإيرادات الناجمة عن الفارق في الضريبة الجمركية، أو ما يُعرف بـ«الدولار الجمركي»، التي بقيت تحتسب على أساس 1,500 ليرة، إلى حين إقرار الموازنة العامّة في نهاية العام 2022 ورفعه إلى 15 ألف ليرة، ومن ثمّ إلى 45 ألف مؤخراً، وهو ما يوازي أقلّ من نصف قيمة الدولار في السوق. بالإضافة إلى توسّع أسواق المؤسّسات التي استمرّت في السوق بعد أن ابتلعت حصص الشركات والمؤسّسات التي غادرتها بفعل الأزمة. والأهم إضافة فارق انخفاض القيمة الفعلية لأجور العاملين الذين يتقاضون أجورهم بالليرة.
قرار الهيئات الاقتصادية فوق القانون
في ظل هذه الأرباح الإضافية التي يحقّقها التجّار والانخفاضات الفعلية للأجور، لا يجب الحديث عن المُمكن وغير الممكن بل عن المقبول وغير المقبول. ولا تقتصر المسألة على الزيادات في الحدّ الأدنى للأجور بل على متوسّط الأجور وحجم القوى العاملة المستفيدة من هذه الزيادات. وهنا نتحدّث عن الزيادات على الشطور.
في العام 2017 أعلن رئيس الهيئات الاقتصادية المُمثِّلة للتجّار محمد شقير أن «لا الاتحاد العمّالي العام ولا الحكومة ولا أي انسان له حقّ التدخّل بموضوع الشطور»، مؤكّداً أنه «من غير المُمكن أن نرضى بموضوع الشطور».
توسّعت الدولرة لتطال الخدمات العامّة نفسها مثل فواتير الكهرباء والمياه الحكوميةومن المهمّ الإشارة هنا إلى أننا عندما نتحدّث عن الشطور، فالمقصود هو «زيادة غلاء المعيشة»، لأن ارتفاع الأسعار لا يقع فقط على من يتقاضى الحدّ الأدنى للأجر بل على جميع العاملين بأجر. ومن المُفترض وفق هذا المنطق أن تلحق زيادة الأجور جميع العاملين بما يتوافق مع معدّل زيادة غلاء المعيشة. وهذا ما عبّر عنه القانون 36/67 في المادة السادسة التي أعطت الحكومة حقّ تحديد نسبة غلاء المعيشة وكيفية تطبيقها. ولهذا السبب ألغى مرسوم زيادة الأجور في العام 2012 الزيادة المقطوعة في المرسوم السابق لعام 2008 لأنها غير قانونية ولم تحدِّد نسبة غلاء المعيشة وكيفية تنفيذها على مختلف مستويات الأجور.
في المقابل، لم يُثِر الأسمر قضية الشطور، وخضع لـ«ممكن الهيئات الاقتصادية»، ولم يبادر إلى أي معركة ولو كلامية. وبعد 5 سنوات على تصريحات شقير، صدر مرسوم غلاء المعيشة رقم 9129 الذي أعطى زيادة مقطوعة على الأجر بقيمة مليون و325 ألف ليرة على أن لا تزيد قيمتها الـ4 ملايين ومن ثمّ صدر المرسوم رقم 10598 الذي منح زيادة مقطوعة قدرها 200 ألف ليرة من دون أي زيادات إطلاقاً على الشطور الأعلى للأجر، بخضوع كلّي من الاتحاد العمّالي العام يكرّس الهيمنة المُطلقة لهيئات التجّار على قراره، ما يفتح الباب أوسع أمام استبداد سلطة رأس المال والاضمحلال الكلّي لمكتسبات العمّال في سائر التقديمات الاجتماعية.علماً أنّ الاتحاد العمّالي العام كان بإمكانه على الأقل تقديم دعوى أمام مجلس شورى الدولة للطعن بالقرار وإلزام الهيئات الاقتصادية بالزيادة على الشطور.
يكرّس خضوع الاتحاد العمّالي العام مخالفة للقوانين، ويحرم العمّال من حقّ أساسي ويدفعهم نحو المزيد من الفقر. فعلى سبيل المثال، وعند إقرار الحدّ الأدنى الجديد فإنّ من يتقاضى أكثر من 4.5 ملايين ليرة لن يحصل على أي زيادة وسوف يصبح أجره أقرب إلى مستويات الدخل الأدنى ويجرفه نحو المزيد من الفقر. وهذا ما سوف يعيد تشكيل المجتمع تتسع فيه الهوة أكثر وأكثر بين طبقتين إحداهما فاحشة الثراء وأخرى شديدة البؤس.