تصحيح الأجور الآن
- إذا جمعنا الحدّ الأدنى للأجور مع بدل النقل فإن قيمتهما معاً، لا تتجاوز حالياً 1.5 إلى 2.5 دولاراً يومياً فقط لا غير، وهذا الحدّ الأدنى هو أدنى من حدّ الفقر المُدقع للفرد الواحد للبقاء على قيد الحياة، طبعاً لعمرٍ أقصر وبظروف بائسة وأشدّ قساوة.
- تخصُّ مسألة الأجور مباشرة نحو 59% من الأسر المقيمة في لبنان، التي مصدر دخلها الرئيس هو أجور ورواتب من العمل الأساسي أو الثانوي. وتخصُّ أكثر نحو 90% من هذه الأسر التي دخلها الرئيس هو بالليرة اللبنانية.
- ينهمك الكثير من الناس في البحث عن مصير الودائع التي تكدّست على دفاتر البنوك ولا يوجد لها أثرٌ، ولكن ماذا عن مصير أكثر من 800 مليار دولار من القيم المُضافة التي أضافها عمل الناس إلى الناتج المحلّي الإجمالي بين عامي 1993 و2019؟
- ما يشهده لبنان هو عملية إعادة تكوين شاملة لبنيته الاقتصادية والاجتماعية. وكما أن المجتمع الذي خرج من الحرب لم يكن هو نفسه الذي دخل إليها، فإن المجتمع في ظل هذه الأزمة ليس هو نفسه قبلها، وهذا المجتمع المُتغيِّر هو الذي سيشكّل القاعدة الاجتماعية لإعادة الإعمار الجديدة.
انهارت قيمة الأجور الحقيقية في لبنان إلى مستويات غير مسبوقة، وتقهقر الأجر الوسطي كثيراً إلى ما دون خطّ الفقر الذي ظلّ واقفاً عند تخومه لمدّة طويلة. فعلى الرغم من ارتفاع مؤشّر غلاء المعيشة بنسبة 2068% (الرقم القياسي لأسعار الاستهلاك بين كانون الثاني/يناير 2019 وكانون الثاني/يناير 2023)، لم تخضع الأجور النقدية الاسمية في هذه الفترة لأي تصحيح «نظامي» وفق ما ينصّ عليه القانون، وإنّما زيدت الأجور الدنيا زيادتين مقطوعتين في العام 2022، فارتفع الحدّ الأدنى للأجور المُصرَّح عنه لصندوق الضمان الاجتماعي بنسبة 385%، أي ما يوازي 20% فقط من نسبة ارتفاع الأسعار. واتفقت هيئات أصحاب العمل والاتحاد العمّالي العام على زيادة مقطوعة ثالثة، لم تطبّق بعد شهرين من إعلانها، ومع هذه الزيادة الجديدة لن تبلغ نسبة الارتفاع التراكمية للحدّ الأدنى الأجور سوى ثلث نسبة ارتفاع نسبة الأسعار. في هذه الفترة أيضاً، زيد بدل النقل الذي يُدفَع من خارج الأجر عن كلّ يوم عمل فعلي بنسبة 1187% (1562% مع الزيادة الجديدة) في حين أن مؤشّر أسعار النقل ارتفع بنسبة 5615%، وبالتالي لم تعوّض زيادة بدل النقل إلّا ربع الزيادة في كلفة الانتقال إلى العمل ومنه. وإذا جمعنا الحدّ الأدنى للأجور مع بدل النقل فإن قيمتهما معاً، على سعر صرف 100 ألف ليرة للدولار، و26 يوم عملي فعلي في الشهر، لا تتجاوز حالياً 50 دولاراً، ولن تتجاوز 77 دولاراً عند تطبيق الزيادة الجديدة المرتقبة، أي أن مجموعهما مع بعضهما يتراوح ما بين 1.5 و2.5 دولار يومياً فقط لا غير، وهذا الحدّ الأدنى هو أدنى من حدّ الفقر المُدقع للفرد الواحد (وليس للأسرة)، وفق تصنيفات الأمم المتّحدة والبنك الدولي المبنية على الحاجات الغذائية الضرورية للبقاء على قيد الحياة، طبعاً لعمرٍ أقصر من متوسّط أعمار بقية السكّان وبظروف بائسة وأشدّ قساوة.
في المقابل، عمد التجّار ومقدِّمي الخدمات، بمن فيهم مقدِّمي الخدمات العامّة، إلى رفع أسعارهم ودولرتها بشكل كلّي. وتمَّ تحرير كلّ الأسعار التي كانت لا تزال مُحدّدة أو مدعومة أو يخضع استيرادها لسعر صرف خاص، بما في ذلك أسعار الخبز والدواء والوقود والكهرباء والاتصالات. وتقلّصت التغذية عبر الشبكة العامّة إلى أقل من ساعتين يومياً، كما تقلّصت التغطية الصحّية عبر وزارة الصحّة وصندوق الضمان الاجتماعي وتعاونية موظّفي الدولة إلى أقل من 20% من كلفة الاستشفاء والدواء. وارتفعت كلفة التعليم في المدارس والجامعات الخاصّة وباتت الأقساط مدولرة بمعظمها، في الوقت الذي عطّل التقشّف التعليم الرسمي والإدارات الحكومية. وارتفعت تكاليف السكن إلى مستويات لم تعد معظم الأسر تقوى على تحمّلها، ليس على صعيد الإيجارات فحسب، بل الخدمات الضرورية المُرتبطة بالمسكن التي صارت توازي مرّة ونصف المرّة بدل الإيجارات في الأحياء السكنية الشعبية.
ارتفعت كلفة الغذاء في ميزانية الأسرة بنسبة 7883%. أي ما كانت تشتريه بألف ليرة صار سعره 78 ألف ليرةما جرى على جبهة الأسعار كان جارفاً اجتماعياً، فالمعروف أن وزن الإنفاق على الغذاء من السلّة الاستهلاكية يرتفع كلّما نزلنا على سلم الدخل. ووفق مؤشّر أسعار الاستهلاك، ارتفعت كلفة الغذاء في ميزانية الأسرة بنسبة 7883%. أي ما كانت تشتريه بألف ليرة صار سعره 78 ألف ليرة. وارتفعت كلفة النقل التي تستنزف جزءاً مهمّاً من الميزانية الاستهلاكية في ظلّ غياب النقل العام المشترك بنسبة 5615%، فما كان يُكلِّف ألفي ليرة صار يُكلِّف 112 ألفَ ليرة. كذلك، ارتفعت كلفة الألبسة والأحذية بنسبة 7350%، وكلفة الصحّة بنسبة 1761%، وكلفة خدمات السكن بنسبة 1977%، وكلفة التعليم بنسبة 451%.
لا توجد تقديرات جديدة لمتوسّط الأجور اليوم لمقارنتها مع تقديرات ارتفاع الأسعار، ولكن في كلمتها عند إعلان نتائج تحديث مسح القوى العاملة في لبنان للعام 2022، قالت المديرة العامّة لإدارة الإحصاء المركزي مارال توتاليان «أن متوسّط الأجور لم يرتفع إلّا بنسبة 92% فقط، من مليون و200 ألف ليرة في عامي 2018-2019 إلى مليونين و300 ألف ليرة عند جمع البيانات الأخيرة، بين شهري كانون الأول/ ديسمبر 2021 وكانون الثاني/ يناير 2022». ما يعني أن متوسّط الأجور، مُسعَّراً بالدولار وليس بالليرة، تقهقر من نحو 800 دولار إلى 92 دولار (على سعر الصرف في حينه)، وفق ما ذكرته توتاليان.
وفق تحديث مسح القوى العاملة (2022) كان 49% من الأسر يقلُّ دخلها عن متوسّط الأجور المذكور، من ضمنها 8% لم يكن لديها أي دخل على الإطلاق، و6% كان لا يزال دخلها دون الحدّ الأدنى للأجور القديم (675 ألف ليرة).
تخصُّ مسألة الأجور مباشرة نحو 59% من الأسر المقيمة في لبنان، التي صرَّحت في مسح القوى العاملة (2018-2019) أن مصدر دخلها الرئيس هو أجور ورواتب من العمل الأساسي أو الثانوي. وتخصُّ أكثر نحو 90% من هذه الأسر التي صرّحت في العام 2022 أن دخلها الرئيس هو بالليرة اللبنانية. وتخصُّ أكثر وأكثر نحو 10% من الأسر التي تعيلها معاشات التقاعد، ومئات آلاف المضمونين الذين خسروا قيمة تعويضات نهاية الخدمة وفقدوا فعلياً التغطية الصحّية التي كان يوفِّرها صندوق الضمان الاجتماعي.
يمثّل العاملون بأجر نحو ثلاثة أرباع القوى العاملة في لبنان، ويعمل نحو 62.4% منهم في العمل اللانظامي، حيث يتقاضون أجوراً زهيدة لقاء عمل لساعات طويلة، بلا أي تغطية صحّية ولا بدل نقل ولا تعويضات عائلية ولا تعويضات نهاية خدمة أو معاشات تقاعدية، بل أيضاً بلا إجازات أسبوعية وسنوية وإجازات مرض وأمومة مدفوعة.
بكلامٍ آخر، يعاني نصف المجتمع على الأقل من تبخيس قيمة العمل ورخص الأجور في ظل المزيد من التضخّم في الأسعار والأكلاف. وبالتالي هذه ليست مشكلة اجتماعية فحسب، بل مشكلة في السياسة والاقتصاد أيضاً.
49% من الأسر يقلُّ دخلها عن متوسّط الأجور المذكور، من ضمنها 8% لم يكن لديها أي دخل على الإطلاق، و6% كان لا يزال دخلها دون الحدّ الأدنى للأجور القديمهذه اللمحة السوداوية عمّا يصيب الأسعار والأجور في القطاعين العام والخاص، لا تزال خارج جدول الأعمال والمناقشات. فبعد أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة من انهيار الليرة وانكشاف الإفلاس المصرفي وسقوط الاقتصاد اللبناني في «الركود التضخّمي» (أو التضخّم المُصاحب لانكماش الناتج المحلّي الإجمالي (الدخل) وارتفاع البطالة كما هي الحالة في لبنان)، ما انفكّ الاهتمام مُركَّزاً على توزيع الخسائر الواقعة في المصارف، ويتمّ إهمال الخسائر الضخمة الواقعة على فئات الدخل المحدود، التي تضمّ أكثرية الأسر المقيمة في لبنان.
في أحد تقاريره، انتقد البنك الدولي، هذه المؤسّسة المالية الشريرة، التعديل الجاري في القطاع المالي، واعتبره تنازلياً، ويصيب «اليد العاملة المحلّية التي تتقاضى أجورها ورواتبها بالليرة» و«أصحاب الودائع الصغيرة الذين لا يمتلكون مصدراً آخراً للدخل سوى مدّخراتهم في المصارف» و«المؤسّسات الصغيرة» التي تواجه ارتفاع التكاليف وغير قادرة على المنافسة. إذا أمعنا قليلاً بما هو مُتاح من إحصاءات قليلة، سوف يظهر أن هذه الفئات، التي ذكرها تقرير البنك الدولي، تضمّ ثلاثة أرباع سكّان لبنان على الأقل، هم الذين يدفعون الثمن غالياً، وليس لديهم أي إطار يمثّلهم أو صوت يتحدّث باسمهم.
القمع الأيديولوجي
تترك الحركة النقابية، العمّالية والمهنية، شغوراً واسعاً في ميادين الصراع المفتوحة في أماكن العمل وفي أماكن العيش، حيث يشنُّ رأس المال هجومه الكاسح للمحافظة على هوامش أرباحه، والاستحواذ على المزيد من فوائض قيمة العمل، من خلال الإمعان في تخفيض الأجور في الإنتاج ورفع الأسعار في الاستهلاك في آنٍ واحد، بالإضافة إلى سعيه الدؤوب للتراكم من خلال الاستيلاء على الدولة وأصولها واحتكاراتها.
فما عدا الإضراب المفتوح الذي نفّذه المعلّمون والمعلّمات في التعليم الرسمي للمطالبة بتصحيح أجورهم، قبل أن تتخلّى عنهم روابطهم، وبعض التحرّكات التي تركّزت في القطاع العام والنقل وأمام بعض البنوك والانفعالات الفردية المُتفرِّقة... لم تظهر في لبنان ملامح مُحدَّدة لحركة عمّالية صاعدة. حتى في الهبّة الشعبية في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، لم تظهر هذه الملامح إلّا على شكّل رغبات تنظيمية لم ينجح أصحابها في تحقيقها. وعلى الرغم من الشكوى العارمة من الغلاء والاحتكار والفساد، لم تظهر ملامح لحركة شعبية تقاوم سياسات إلغاء الدعم والتحرير الكلّي لأسعار السلع والخدمات ودولرتها، بما فيها أسعار السلع الأساسية (خبز ودواء ومحروقات) والخدمات الاجتماعية (صحّة، تعليم، نقل، سكن) والخدمات العامّة (كهرباء ومياه واتصالات). بل ربّما ظهر ميلٌ بالعكس، نحو الاستغناء عن كلّ ذلك في مقابل وعود بمدفوعات نقدية لفترة مُحدّدة ضمن ما يُسمّى «برامج الفئات الأكثر فقراً»، التي لا تفعل شيئاً سوى تسكين الطبقات الأدنى وزيادة تشتُّتها وممارسة أقسى أشكال الضبط لها، أمّا مستوى المعيشة العام فيواصل انخفاضه وتواصل آليّات اللامساواة عملها في تعميق التفاوتات الاجتماعية وتخريب الاقتصاد. لقد كان هذا الميل في الأوساط الشعبية دليلاً إضافياً على النجاح الأيديولوجي الباهر للطبقة الأوليغارشية الحاكمة في لبنان، حيث يقتنع الكثير من الناس أن «الدولة» مخلوق فاسد، عبء أو كلفة يجب التخلّص منها، ولا ضير من فرض المزيد من التقشّف والشراكات مع القطاع الخاص والتنازل عن المزيد من الأصول والإيرادات العامّة لتسديد خسائر الجهاز المصرفي. ولكن، ماذا عن مسؤولية الدولة (حتى إشعار آخر) في توفير الأجور الاجتماعية؟ يكاد يختفي كلّ ميل نحو المطالبة بالتغطية الصحّية الشاملة، نظام التقاعد، التأمين ضدّ البطالة، التعليم الإلزامي المجّاني، السكن الاجتماعي، النقل العام المُنخفض الكلفة، مياه الشرب المأمونة والكهرباء الدائمة بتعريفات تصاعدية تحمي فئات الدخل الأدنى والمتوسّط، نظام ضريبي عادل، واقتصاد كفوء يلبّي هذه الحقوق والحاجات... كلّ هذه الحقوق والحاجات تبدو للكثير من الناس شعارات خيالية أو طوباوية، غير قابلة للتحقّق، ويشعرون فعلاً أنهم لا يرون طريقة لتحقّقها.
يعكس هذا الغياب تاريخاً طويلاً من «القمع النيوليبرالي» للنقابات والأحزاب العمّالية والحركات الشعبية، وتبخيس الأفكار التي تحاول إعادة تخيّل الحياة من خارج آليّات إعادة إنتاج اللامساواة وتعميق اغتراب المجتمع عن جهده الذي لا يجد طائلاً فيه. ولكنه يعكس أيضاً غياب الأفق، أو الفراغ الذي يجد الناس أنفسهم عالقين فيه. ينتابهم القلق الشديد، ويتوتَّرون إلى حدود الانفجار، ولكنّهم يتجمّدون أمام هول التهديد الذي تشي به تعويذة «الآتي أعظم»، واللازمة الدائمة عن «عدم وجود بديل»، فلا يبقى أمامهم سوى التمني ألّا تسوء الأوضاع أكثر ممّا هي سيئة الآن.
يعاني نصف المجتمع على الأقل من تبخيس قيمة العمل ورخص الأجور في ظل المزيد من التضخّم في الأسعار والأكلاف. وبالتالي هذه ليست مشكلة اجتماعية فحسب، بل مشكلة في السياسة والاقتصاد أيضاًهذا القمع الأيديولوجي ليس مُستجدّاً في الأزمة، بل هو قمع عالمي تعاظم في لبنان، لا سيما في مرحلة إعادة الإعمار بعد الحرب، في ظل ما تُطلق عليه نعومي كلاين مصطلح «العلاج بالصدمة»، الذي «جعل المستحيل سياسياً لا مفرّ منه سياسياً». لقد طغت «عقيدة ميلتون فريدمان»، وصار الجميع يقبل «أن المسؤولية الاجتماعية للأعمال التجارية هي زيادة أرباحها فقط»، و«أن حرية أسواق رأس المال هي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الحرّيات السياسية والاقتصادية»، و«أن واجب الحكومات ينحصر فقط بالسماح لهذه الأسواق بممارسة سحرها».
فعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، قامت الحكومات اللبنانية بالواجب على أكمل وجه، مارست الأسواق السحر الأسود، وتحمّلت الأعمال التجارية مسؤوليّتها الاجتماعية بجني الأرباح الطائلة. يمكن تشبيه ما جرى في لبنان بعملية «تراكم رأسمالي أوّلي» طويلة المدى، قامت على إعفاءات ضريبية واسعة للثروة والريوع والأرباح وعمليّات تجريد للسكّان من ملكيّاتهم الخاصة (شركة سوليدير مثلاً) وملكيّاتهم العامّة (الأملاك البحرية والنهرية مثلاً) والاستيلاء على المال العام (الفوائد والمقاولات والفساد مثلاً) والمال الخاص (الودائع في المصارف مثلاً). أُخضِع المجتمع اللبناني للاقتصاد القائم على الديون والهجرة واحتكار القلّة والمضاربات المالية والعقارية، وحصلت في ظل كلّ ذلك واحدة من أكبر عمليات إعادة التوزيع العكسية من الأفقر إلى الأغنى في تاريخ لبنان الحديث.
ينهمك الكثير من الناس الآن في البحث عن مصير الودائع التي تكدّست على دفاتر البنوك ولا يوجد لها أثرٌ، ولكن قلّة قليلة جدّاً تتجرّأ على السؤال أين ذهب أكثر من 800 مليار دولار من القيم المضافة التي أضافها عمل الناس وجهودهم إلى الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 1993 و2019؟ هذا السؤال ليس أحجية صعبة، فكلّ التقديرات، ومنها دراسة نشرها مختبر اللامساواة العالمية في العام 2018، تشير إلى أن 10% الأكثر ثراءً في لبنان كسبوا لوحدهم ما بين 49 و54% من مجمل الدخل الوطني، فيما لم يحصل الـ50% الأكثر فقراً إلّا على ما بين 12 إلى 14% فقط. واستحوذ الـ10% الأغنى على 70% من مجموع الثروات، وقُدِّرت حصّة الـ1% الأكثر ثراء بنحو 45% من الثروات، فيما لم يتبقَّ لشريحة الـ50% الفقيرة سوى أقل من 5%.
هذه العملية ما كانت لتنجح على هذا المدى الطويل لولا تعاون النخبتين السياسية والاقتصادية من أجل نزع كلّ أسلحة المقاومة من أيدي الناس، وتقويض قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم في مواجهة الحرب الطبقية التي شنّت عليهم ولا تزال.
حرب طبقية
طبعاً، لا يحتاج الانهيار السحيق والمتمادي للأجور الاسمية والحقيقية، النقدية والاجتماعية، إلى إثبات، فالمؤشرات الكمّية والكيفية كلّها، ومن المصادر المختلفة جميعها من دون استثناء، تؤكّد الطابع التدميري للعملية التضخّمية الجامحة على الحياة الاجتماعية، بل على العلاقات الرأسمالية برمّتها، وفق ما ذهب إليه الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز، الذي اعتبر «أن العملية التضخّمية، إذا تفلَّتت من محاولات السيطرة عليها، فإنها تنزع إلى توليد عمليّات لا يمكن التكهّن بها سلفاً». وهذا تماماً ما نواجهه في الحالة اللبنانية، وهي الحالة التي يجري التعبير عنها محلّياً بمصطلح فيزيائي يفيد أن الاقتصاد اللبناني في حالة «السقوط الحرّ»، أو بالعبارة الإشكالية التي تقول أن «لا سقف لسعر الدولار»، أي أن الأسعار تسبح في الفضاء اللامتناهي أو اللامحدود، أو يجري التعبير عنها عبر النظرة الأبوكاليبسية لنهاية لبنان، حيث يُقدّم انهيار الليرة أو إفلاس المصارف كمخاطر وجودية...
ما يحتاج إلى إثبات، هو أن انهيار الأجور الحقيقية ليس مجرّد عارض من عوارض التضخّم المتفلّت من عقاله، وإنّما هو الطريقة التي يجري بواسطتها حلّ التناقضات الشديدة بين الطبقات الاجتماعية. فالتضخّم لا يصيب الجميع بالطرق نفسها، وإنّما ينطوي على عملية تحويل للدخل من الأجور إلى الأرباح، من العمّال إلى أصحاب العمل، ومن المُستهلكين إلى التجّار ومقدّمي الخدمات والمصرفيين والملّاك العقاريين، وبالتالي هو عملية توزيع تنازلية، أو ضريبة خشنة، تُفرَض على أكثرية السكّان بغرض «التكيّف» في «الأزمة». أي التكيّف مع أجور أقلّ وأسعار أعلى، بهدف المحافظة على الأرباح وزيادة هوامشها أحياناً. وهذا التكيّف لا يعني القبول بمستوى معيشي أدنى فحسب، بل القبول أيضاً بحرّية أكبر لرأس المال وقمع أشد للمطالب التي يرفعها الناس، بحجّة دائمة مفادها أن مطالب الناس هي مصدر التضخّم.
لم تظهر في لبنان ملامح مُحدَّدة لحركة عمّالية صاعدة. حتى في الهبّة الشعبية في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، لم تظهر هذه الملامح إلّا على شكّل رغبات تنظيمية لم ينجح أصحابها في تحقيقها«بالطبع هي حرب طبقية، تشنُّها طبقة الأغنياء وتنتصر فيها»، على حدّ تعبير الملياردير الأميركي الشهير وارن بافيت، صاحب خامس أكبر ثروة شخصية خيالية في العالم على قائمة «فوربس»، وهي قائمة تضمّ 6 من أصحاب المليارات اللبنانيين المعروفين، الذين تقدّر ثرواتهم وحدهم بنحو 11.8 مليار دولار، وعلى رأسهم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وشقيقه طه.
لا ينحصر عدد الأثرياء اللبنانيين بهؤلاء، فهذه القائمة ناقصة بشكل فادح، ولا تضمّ إلّا أصحاب المليارات ولا تحتسب إلّا الثروات المُصرّح عنها. ولكنها تُبيّن أن الأثرياء حافظوا على ثرواتهم وزادوها، في حين جرى تحميل الفئات الفقيرة والمتوسّطة كلفة انهيار النموذج الاقتصادي الذي لم يكن يُلبِّي حاجاتها أصلاً.
ففي غضون ثلاث سنوات ونصف السنة، بين آب/ أغسطس 2019 وآذار/ مارس 2023، تمّ تخفيض سعر صرف الليرة في مقابل الدولار بنسبة تتجاوز 98%، من 1507.50 ليرة إلى نحو 100 ألف ليرة. وتمّ اعتماد سياسات تضخّمية وانكماشية وتقشّفية مُتعمّدة، أسفرت عن معدّل تضخّم تراكمي بلغ متوسّطه 413.8% بين عامي 2019 و2022. وانكماش في الناتج المحلّي الإجمالي إلى ثلث قيمته تقريباً في العام 2018، من نحو 55 مليار دولار إلى نحو 20 مليار دولار. وانكماش حصّة الفرد من هذا الناتج من نحو 8 آلاف دولار سنوياً إلى أقل من 3 آلاف دولار. وتخفيض الإنفاق في الموازنة العامّة من أكثر من 15 مليار دولار في العام 2019 إلى أقل من 500 مليون دولار حالياً.
في هذه الفترة، نجح الأغنياء النافذين بحماية جزء مهمّ من ثرواتهم، فعمدوا إلى التخلّص من نحو 28 مليار دولار من القروض التجارية والشخصية بالعملات الأجنبية المُترتبة عليهم، من خلال شراء الشيكات بسعر 15% من قيمتها الاسمية، أو من خلال السماح لهم بتسديدها بالليرة على سعر الصرف الثابت (1507.50 ليرة)، الذي حافظ عليه البنك المركزي والحكومة حتى مطلع شباط/ فبراير 2023، حيث تمّ رفعه جزئياً إلى 15 ألف ليرة (أي 15% من السعر في السوق الفعلية). كذلك نجح هؤلاء الأغنياء بإخراج جزء مهمّ من ودائعهم المُكدّسة في البنوك، إذ تشير الإحصاءات إلى سحب أكثر من 26 مليار دولار من الحسابات المصرفية التي يحتوي كلٌّ منها على 3 ملايين دولار وما فوق في الفترة بين نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2017 (أزمة اعتقال رئيس الحكومة سعد الحريري في السعودية) ونهاية 2021، إذ تمّ إقفال 2731 حساباً من هذه الحسابات (84% منها أقفلت بعد تشرين الأول/ أكتوبر 2019).
العين البصيرة واليد القصيرة
تظهر الأزمة الحالية بمثابة إعلان مأساوي عن نهاية إعادة الإعمار السابقة بعد الحرب، ليس على صعيد البنى التحتية المادية والمالية المُنهارة فحسب، بل على صعيد الخيارات السياسية والتغيّرات طويلة المدى التي أحدثتها في البنى الاجتماعية والاقتصادية والعلاقات الداخلية والخارجية.
لقد أحدث الانهيار النقدي والمصرفي في العام 2019 تغيّراً كمّياً ونوعياً في الدخل وتوزيعه وفي الثروة وتوزيعها. تمّ تجريد أكثرية الأسر من قدراتها الشرائية. وفي الوقت نفسه، تمّ تجريد أسر كثيرة من مدّخراتها المودعة في المصارف، بما في ذلك المدّخرات الجماعية المُتمثّلة بتعويضات نهاية الخدمة وادخارات صناديق النقابات المهنية. وبالتالي، ما يشهده لبنان هو عملية إعادة تكوين شاملة لبنيته الاقتصادية والاجتماعية. وكما أن المجتمع الذي خرج من الحرب لم يكن هو نفسه الذي دخل إليها، فإن المجتمع في ظل هذه الأزمة ليس هو نفسه قبلها، وهذا المجتمع المُتغيِّر هو الذي سيشكّل القاعدة الاجتماعية لإعادة الإعمار الجديدة، كما شكّل مجتمع الحرب القاعدة الاجتماعية لإعادة الإعمار السابقة.
التضخّم لا يصيب الجميع بالطرق نفسها، وإنّما ينطوي على عملية تحويل للدخل من الأجور إلى الأرباح، من العمّال إلى أصحاب العمل، ومن المُستهلكين إلى التجّارتقع مسألة الأجور في صلب هذا الحديث تحديداً، أي في صلب الحديث عن المجتمع الذي تجري هندسته، وإعادة الإعمار التي ستقوم عليه؟ ما هو مطروح أمامنا بوضوح هو أن على أكثرية الناس أن تستمرّ بالتضحية لكي تؤمِّن للأقلية قوارب النجاة، ونبقى عالقين في الأوضاع السيِّئة التي نحن فيها الآن.
لم يُطرح انهيار الأجور طيلة الفترة الماضية بوصفه المشكلة التي تحتاج إلى الحلّ، بل أن بعض السياسيين والاقتصاديين ورجال الأعمال يتعاملون مع هذا الانهيار بوصفه فرصة للحصول على أمور كثيرة، تحتاجها إعادة الإعمار الجديدة، في ظل أزمة ميزان المدفوعات وحالة نقص التمويل بالدولار وانكماش الاقتصاد اللبناني، وعلى رأس هذه الأمور زيادة الاعتماد على يد عاملة محلّية رخيصة، تستبدل جزءاً من اليد العاملة الوافدة، وتخضع لشروط العمل القاسية نفسها، وبما يسمح بجعل الصادرات اللبنانية أكثر تنافسية، وبما يشجّع على المزيد من هجرة اليد العاملة المرتفعة الأجر للحصول على تحويلاتها ومساهماتها في تمويل الاستهلاك والمضاربات العقارية. يقول هؤلاء أن علينا أن نصبر ونصمد حتّى نكتشف الغاز في البحر، وبعدها يعمّ الازدهار.
يجري إقناع الناس أن انهيار الأجور تحصيلٌ حاصل، عارضٌ جانبي لانهيار سعر الصرف، والأخبث هو إقناعهم أن المطالبة بتصحيح أجورهم تضرّهم ولا تفيدهم.
حلزون تضخّمي!
يتمتّع رئيس التجّار، نقولا شمّاس، بميزة عن غيره من الرأسماليين اللبنانيين، أنّه في كلّ مرّة ينطق فيها، يحاول أن يطمُس طبقيّته بمزاعم العلم. فهو يقدّم نفسه (ويقدّمه الإعلام) كخبير في الاقتصاد وليس كتاجرٍ ومستوردٍ كبير، ورث ثروة طائلة ووكالات حصرية وامتيازات كثيرة واستثمارات في المصارف والعقارات والسياحة وغيرها. ففي 6 آذار/ مارس 2023، لم يتوانَ هذا التاجر عن إطلاق تحذير حازم باسم هيئات أصحاب العمل، يقول إن «على الدولة أن تفهم، لمرّة واحدة، أنها أدخلت القطاعات الاقتصادية والتجارية في حلزون تضخّمي مُخيف ما بين الأسعار والأجور».
يشير مصطلح «الحلزون» في الطبيعة إلى كائن رخوي لطيف يحتمي بقوقعة على شكل لولبي، إلّا أنه في النظرية الاقتصادية عن التضخّم يشير إلى «مخلوق مخيف»، كما يقول شمّاس، «دوّامة» تخلقها زيادة الأجور التي تؤدّي إلى زيادة الأسعار، وزيادة الأسعار التي تؤدّي إلى زيادة الأجور، وهكذا دواليك. وتزعم هذه النظرية أن زيادة الأجور تُمثِّل ارتفاعاً في تكاليف الإنتاج، وفي الوقت نفسه تزيد الطلب على السلع والخدمات من خلال زيادة عرض النقود في التداول، ما ينتج منه ضغوطاً تصاعدية على الأسعار. وتتكرَّر هذه العملية مرّة بعد مرّة، في سباق محموم بين مستوى الأجور ومستوى الأسعار.
تشير الإحصاءات إلى سحب أكثر من 26 مليار دولار من الحسابات المصرفية التي يحتوي كلٌّ منها على 3 ملايين دولار وما فوقلو أن في لبنان سجالاً جدّياً في الاقتصاد، يتوسّل الحقائق والنظريات والممارسات، لكان تحذير رئيس التجّار قد أثار قدراً كبيراً من السخرية، ليس لأن هذه النظرية افتقدت إلى دليل على صحّتها في الدراسات المختلفة التي حاولت رصد العلاقة بين الأجور والتضخّم على فترات زمنية طويلة، بل لأنها تفتقد في الحالة اللبنانية إلى أي أساس موضوعي لطرحها، حيث مصادر التضخّم الحالي بعيدة كلّ البعد عن الأجور، باعتراف نقولا شمّاس نفسه في تصريح آخر له، اذ اعتبر أن «التضخّم في العام 2022 هو نتيجة جملة أسباب: أولها، انخفاض سعر الصرف بشكل كبير (...) وثانيها، هو التضخّم المستورد بسبب الحرب بين أوكرانيا وروسيا والمشاكل والاضطرابات المُتأتية من ذلك كارتفاع أسعار الشحن والمحروقات. أمّا السبب الثالث، فهو عدم القدرة على إنجاز الاستحقاقات السياسية كتشكيل الحكومة والانتخابات الرئاسية ممّا يؤدّي إلى ارتفاع معدّلات التضخّم». لم يذكر شمّاس الأجور كسبب من أسباب التضخّم، لأنها ببساطة لم تزداد بمقدار ازدياد الأسعار، ولكنّه ذكرها كموقفٍ أيديولوجي ضدّ زيادة الأجور بالمطلق، وضدّ تدخّل الدولة لزيادة الأجور تحديداً. وهو بذلك يعلن أن طبقته، طبقة الأغنياء، غير مُهتمة بأسباب التضخّم بقدر اهتمامها بالطريقة التي سيتم التعامل بها معه، لمصلحة من؟ الأجور أم الأرباح؟ المجتمع أم رأس المال؟ وهذا هو جوهر الموضوع.
«من العبّ إلى الجيبة»
في التاسع من آذار/ مارس 2023، أطلق الأمين العام لحزب الله موقفاً أثار انتقادات كثيرة، إذ دعا المعلّمين والمعلّمات إلى «مواصلة العام الدراسي، وعدم العودة إلى الإضراب»، على الرغم من عدم استجابة الدولة لمطالبهم بتصحيح أجورهم المُنهارة كلّياً. قال لهم: «اعتبروها مساهمة إنسانية، ومساهمة أخلاقية، ومساهمة جهادية وإيمانية (...) هذا من العمل الصالح الذي تجدونه حاضراً أمامكم يوم القيامة». خاطبهم بعبارة: «لا أُريد الآن أن أتكلّم نظريات»، ولكنّه في الحصيلة ردّد «نظرية الحلزون» نفسها ولكن بطريقة أخرى، تتوسل الأخلاق بدلاً من مزاعم العلم لتقول الأمر نفسه: على الأجور أن تدفع الثمن، وعلى الطبقات العاملة أن تستمرّ ببذل التضحيات.
قدّم قائد الحزب الأكبر والأقوى في لبنان المسألة على الشكل التالي: مطالب المعلّمين والمعلّمات مُحقّة، «لا يستطيع أي أحد أن يناقش بأحقّية مطالبهم، ولو طلبوا أكثر ممّا يطلبونه أيضاً معهم حقّ، هذا لا يوجد فيه نقاش». وإنّما «أنا لا أدافع عن الحكومة ولا أدافع عن الدولة، لكن كُلّنا نَعرف اليوم ما هو الوضع المالي، ونعرف أن زيادة الرواتب تعني زيادة الضرائب، يعني من العب إلى الجيبة، من دهنه سقيله، يعني نزيد الرواتب ونذهب إلى مزيد من الغلاء».
يظهر «حلزون نقولا الشمّاس» مثل الكاريكاتور عن الأيديولوجيا المُهيمنة في لبنان، ولعل أبلغ تعبير عن هذا الطابع الكاريكاتوري هي العبارة التي توجّه بها رئيس التجّار إلى رئيس الاتحاد العمّالي عندما خرجت بعض المطالب بزيادة الأجور: «نحن نحميكم من هذه المطالب العشوائية لأنها تخلق نوعاً من التضخّم».
لحس المبرد أم لحس السمّ؟
التضخّم ليس «ظاهرة نقدية بحتة في كلّ مكان وزمان»، وفق تصوّرات الاقتصاديين النقدويين، وإنّما يُعبِّر عن أزمات أكثر عمقاً في النظام الاقتصادي، وما إن يمسك التضخّم بخناق هذا النظام حتى يُسمِّمه كلّياً، ولا يعود الشفاء منه سهلاً، وربّما غير مُمكن على المدى الطويل.
جري إقناع الناس أن انهيار الأجور تحصيلٌ حاصل، عارضٌ جانبي لانهيار سعر الصرف، والأخبث هو إقناعهم أن المطالبة بتصحيح أجورهم تضرّهم ولا تفيدهم.ولكن الحديث يدور كلّ الوقت عن أن التضخّم في لبنان سببه طبع الليرات، أو النقد في التداول. وكما يقول رئيس التجّار فإنّ «التضخّم من خلال التوسّع في الكتلة النقدية يشبه لحس المبرد». هذا التشخيص يخلط السبب بالنتيجة، فزيادة النقد في التداول هو نتيجة للتضخّم أكثر ممّا هو سببٌ له، فكل الليرات الموجودة في السوق يمكن شرائها بنحو 800 مليون دولار حالياً، وكلّ عجز الموازنة العامّة لا يصل إلى 100 مليون دولار. ومع ذلك يتمّ التركيز على النتيجة لا السبب، وتكثر المطالبات بالتوقّف عن طبع الليرات، أو الذهاب إلى الدولرة الشاملة، أو ما يُسمّى مجلس النقد. ويصبح المطلوب القضاء على الليرة نفسها التي تُدفع بها أجور أكثرية الناس، وهذا معناه بوضوح تجميد الأجور وعدم ربطها بارتفاع الأسعار، ريثما تجد «السوق» نقطة توازنها من دون أي تدخّل من خارجها.
لنتخيّل المدى الذي سوف تستغرقه «السوق» في ظل النموذج الاقتصادي المُنهار، الذي نشأ أصلاً من الموجات التضخّمية العارمة بين عامي 1986 و1992 وتطوّر بعدها في ظل نظام سعر الصرف الثابت والربط بالدولار والهندسات المالية ومزاعم العملة القويّة والفوائد السخيّة والأجور المُجمّدة. هذا الاقتصاد خاضعٌ لاحتكار القلّة، ومكشوف على العوامل الخارجية (الاستيراد، التحويلات وتدفّقات العملة الصعبة، السياحة)، ويتّسم بدرجة عالية جدّاً من التركّز الشديد على المستويات كلّها (أكثر من 70% منه في أنشطة الخدمات، وفي الوسط المديني الساحلي، وفي أيدي شريحة الـ10% الأغنى من السكّان)، وتُهيمن عليه المصالح التجارية والمالية والعقارية تاريخياً، وتعاني الطبقات العاملة فيه من ضعف بنيوي وضمور وظيفي ومستوى مرتفع جدّاً من الاستغلال (62.4% من القوى العاملة هم في العمل اللانظامي المنخفض الإنتاجية، يتقاضون أجوراً متدنية جدّاً في مقابل ساعات عمل طويلة ومضنية، بلا أي ضمان صحّي أو بدل نقل ومنح تعليمية وتعويضات عائلية، وبلا أي حقوق أو حمايات قانونية أو نقابية...)، وحيث الهجرة تستنزف العمالة الماهرة المُتاحة، وتصيب البطالة أكثر من ثلث القوى العاملة، ونحتاج إلى خلق وظائف يساوي عددها نصف القوى العاملة الموسّعة (الحالية والمُحتملة) للوصول إلى التشغيل الكامل.
إن تخيّل هذه الصورة التي نحن فيها لا يسمح أبداً بالتفكير أن هناك نقطة توازن ما سنصل إليها بعد الكثير من التضحيات والآلام، بل يدفع إلى توقّع إعادة إعمار جديدة على الأسس نفسها التي انهارت. لذلك الصراع في ميدان الأجور هو أساسي لأي فعل سياسي تغييري، فالسعي إلى تصحيح الأجور وفرض الأجور الاجتماعية هما من السبل إلى منع إعادة إعمار هياكل الاستغلال والسيطرة نفسها، وبالتالي منع إعادة إنتاج الأوضاع القديمة بأشكال جديدة.
حصّة الأجور من الدخل
لا تقدّم السلطات في لبنان ولا الجهات الأكاديمية والبحثية معلومات وافية لتقدير حصّة الأجور من الناتج المحلّي الإجمالي. حتى إدارة الإحصاء المركزي، التي تتولّى نشر الحسابات القومية دورياً، لا تعتمد سوى طريقتين من ثلاث لاحتساب هذا الناتج: القيمة المضافة لكلّ قطاع اقتصادي، الاستعمالات (استهلاك، تكوين رأس المال، والميزان التجاري)، وتهمل الطريقة الثالثة المُتعلّقة بالدخل، أو توزيع الناتج بين أجورٍ وأرباحٍ وعناصر أخرى. ولكن، توجد تقديرات، مُستقاة من مصادر عدّة، تفيد أن حصّة الأجور تتقلّص باضطراد لصالح تضخّم حصص الأرباح والفوائد والضرائب غير المباشرة، من 58% قبل الحرب في العام 1975،1 إلى 35.5% في مرحلة إعادة الإعمار بعد الحرب،2 ثمّ إلى 24.3% في العام 2003 بعد مؤتمر باريس والدعم الخارجي،3 ثمّ إلى 20% عشية آخر تصحيح «نظامي» للأجور في العام 2012.4 منذ ذلك الحين، لم تظهر أي تقديرات جديدة، ومن الواضح أن الأمور ساءت أكثر فأكثر وصولاً إلى العام 2019، ففي هذه الفترة تهاوى الناتج المحلّي الإجمالي برمّته، بكلّ عناصره، ولم يعد يساوي سوى ثلث قيمته تقريباً قبل 4 سنوات.
زيادة النقد في التداول هو نتيجة للتضخّم أكثر ممّا هو سببٌ له، فكل الليرات الموجودة في السوق يمكن شرائها بنحو 800 مليون دولار حالياً، وكلّ عجز الموازنة العامّة لا يصل إلى 100 مليون دولارفي الواقع، تتآكل الأجور الحقيقية باطراد، وتخسر الأجور الاسمية دائماً في السباق المحموم مع ارتفاع الأسعار ودولرتها منذ زمن بعيد جدّاً، ولم يحصل يوماً أن عوّضت تصحيحات الأجور في لبنان الخسائر التي سبق أن مُنِيت بها من جرّاء التضخّم. أقلّه منذ القبض على النقابات العمّالية وإبرام صفقة تجميد الأجور في القطاعين العام والخاص اعتباراً من العام 1996. فمنذ ذاك الحين لم تُصحَّح الأجور بالشكل النظامي، أي وفقاً لما تنصُّ عليه الأحكام القانونية، إلّا مرّة واحدة في العام 2012، تلاها تعديل سلسلة الرتب والرواتب في القطاع العام في العام 2017، علماً أن متوسّط معدّلات التضخّم السنوية بين عامي 1996 و2011 قدّر بنحو 120%.
ما عدا ذلك، حصلت زيادات مقطوعة وفق إملاءات أصحاب العمل، اقتصرت على رفع جزئي للأجور المتدنية وضربت الأجور المتوسّطة، وهي لم تحصل أصلاً إلّا 3 مرّات في ربع قرن، واحدة فقط في العام 2008 جرى حسمها من تصحيح العام 2012، واثنتان مماثلتان في العام 2022، وهناك زيادة رابعة مُماثلة فقِدت قيمتها الحقيقية قبل أن يبدأ تطبيقها.
نحو سياسات الأجور الاجتماعية
تقوم الفكرة الأساسية على أن تأثيرات التضخّم على الطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة ليست متساوية أبداً. لسنا جميعنا على المركب نفسه. كلما نزلنا على الهرم الطبقي سوف نجد أن تأثيرات ارتفاع الأسعار والأكلاف أكبر وأفدح وأشدّ وطأة. وأول من أصابهم التضخّم المُصاحب لانهيار سعر العملة والانكماش الاقتصادي كما هي الحالة اللبنانية، ليس الفئات الأكثر فقراً التي تزداد اتساعاً فحسب، بل معها أكثرية العاملين والعاملات بأجر، بأشكاله المختلفة، وطيف واسع من العاملين والعاملات لحسابهم أو أصحاب المؤسّسات الصغيرة والمتناهية الصغر، الذين فقدت مداخيلهم بالليرة قدرتها الشرائية. يعيل هؤلاء نحو 72.9% من الأسر المقيمة في لبنان. لذلك، على سياسات الأجور أن تلعب دورها التوزيعي لصالح هذه الأسر. وهذا بيت القصيد.
يمكننا حشد الكثير من الحجج التي تدعم وجهة النظر القائلة إنه، على الرغم من كلّ شيء، لا تزال توجد مساحة كبيرة لزيادة الأجور من خلال تخفيض هوامش الأرباح وفرض الضرائب التصاعدية عليها، إلا أن ذلك لن يكون كافياً لأسباب عدّة، أهمّها أن ميزان القوى يميل بشكل حاسم لصالح أصحاب العمل، ولا يمتلك العمّال والعاملات القوة التي تسمح لهم بقلب هذا الميزان، وبالتالي لن تكون زيادة الأجور في مطلق الأحوال بالقدر المطلوب لتعويض خسائرها من جراء التضخّم وانهيار العملة المحلية. ثمّ إن التصحيح النظامي للأجور لن يشمل إلى حدّ بعيد سوى العمالة النظامية في القطاعين العام والخاص، وهي لا تشكّل حالياً سوى ثلث القوى العاملة تقريباً، في حين إن الحاجة الملحّة هي إلى تصحيح فوري وسريع لأجور أكثرية السكّان ورفع مستوى المعيشة العام. وتعترض سياسة رفع الأجور النقدية أهدافاً متضاربة، فبعض الاقتصاديين يؤيّدون وجهة نظر أصحاب العمل التي تعتبر أن زيادة الأجور النقدية تؤدّي إلى زيادة البطالة، وهذا يجب تفاديه. ولكن البعض الآخر يقول إنها تؤدّي إلى تخفيض الهجرة، وهذا يجب العمل على تحقيقه، كما تؤدّي إلى زيادة الاستثمار في النشاطات ذات الإنتاجية المرتفعة، وهذا ما نصبو إليه في تخيّل اقتصاد كفوء وعادل يؤمِّن الحاجات الفعلية لأكثرية السكان. كما أن بعض الاقتصاديين يرى أن تقليص هوامش الأرباح من دون حدّ مُعيّن قد يعطّل الوظيفة التي تؤدّيها هذه الهوامش في تحفيز الاستثمار في اقتصاد رأسمالي مثل الاقتصاد اللبناني، حيث الدولة لا تلعب أي دور ملحوظ في تعويض نقص الاستثمار الخاص، إلّا أن هذه الحجّة تعني البحث عن دور تؤدّيه الدولة في هذا المجال، لا تحويل عملية تصحيح الأجور إلى كبش فداء النمو الاقتصادي، وتصوير نضال العمّال والعاملات لتحسين مستوى معيشتهم أو المحافظة على المستوى السابق في ظل التضخّم المُتسارع هو المشكلة بدلاً من التفكير به على أنه الحلّ أو المدخل لبناء نموذج اقتصادي جديد مغاير للقديم وأكثر استقراراً واستدامة.
قبل أن يصبح «الانهيار» محسوساً ومتسارعاً اعتباراً من منتصف العام 2019، كان 53.1% من سكّان لبنان يعانون من الفقر، وفق الدليل المتعدد الأبعاد لقياس الفقر، وكان 16.2% من السكان يُعتبرون فقراء جدّاً، ويشكّلون الفئة الأكثر فقراً وحرماناً. وكان الحرمان من الضمان الصحّي هو الأكثر مساهمة في الفقر، يليه الاستغلال في العمل (البطالة، العمل اللانظامي، الأجور المتدنية، التمييز ضد النساء العاملات، انعدام الحمايات القانونية والاجتماعية...)، والحرمان من التعليم، والحرمان من الخدمات العامّة والبنية التحتية (الكهرباء، المياه، النقل...). في العام 2021، ارتفعت نسبة الفقر وفق هذا الدليل إلى 82% من سكّان لبنان، 40% منهم في حالة فقر مُدقع. وبقيت الصحة والخدمات العامة والعمل والدخل والتعليم هي المصادر الأساسية للفقر.
الفعل السياسي الذي نحتاج إليه هو أشمل وأوسع، ضد التقشّف والغلاء والاحتكار والفساد، وضدّ التحرير الكلّي لأسعار السلع والخدمات ودولرتها، ولا سيّما أسعار السلع الأساسيةإذاً، على سياسات الأجور أن تتصدّى لكلّ ذلك في وقتٍ واحدٍ، وهذا لا يحصل بالتبشير أو التمنيات، وإنّما بخوض الصراعات المفتوحة وتعبئة فراغ «البديل». وهذا يحتاج إلى فعل سياسي منظّم وتراكمي، يتمسّك بالأسلحة التي لا تزال متاحة، ومنها القانون:
- رفع الحدّ الأدنى للأجور إلى مستوى «يكون كافياً ليسدّ حاجات الأجير الضرورية وحاجات عائلته»، وفق ما تنصّ عليه المادة 44 من قانون العمل.
- تصحيح الأجور الوسطية وفق ما تنصّ عليه المادة 6 من القانون رقم 16/67، أي «أن تحدّد الحكومة بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء، عند الاقتضاء وكلما دعت الحاجة، نسبة غلاء المعيشة وكيفية تطبيقها بناء على الدراسات وجداول تقلبات أسعار كلفة المعيشة التي تضعها إدارة الإحصاء المركزي».
ولكن، الفعل السياسي الذي نحتاج إليه هو أشمل وأوسع، ضد التقشّف والغلاء والاحتكار والفساد، وضدّ التحرير الكلّي لأسعار السلع والخدمات ودولرتها، ولا سيّما أسعار السلع الأساسية (خبز ودواء ومحروقات) والخدمات العامّة (كهرباء واتصالات). فعل سياسي يتصدّى لمحاولات تحميل الدولة مسؤولية تسديد خسائر الجهاز المصرفي، ويعمل لعكس الاتجاه، نحو تحميل الدولة مسؤولية توفير الأجور الاجتماعية (التغطية الصحّية الشاملة، معاشات التقاعد، التأمين من البطالة، التعليم الإلزامي المجّاني، السكن الاجتماعي، النقل العام المنخفض الكلفة، بالإضافة إلى تأمين مياه الشرب المأمونة والكهرباء الدائمة بتعريفات تصاعدية تحمي فئات الدخل الأدنى والمتوسّط والعاطلين عن العمل وتمكّنهم من الوصول إلى حاجاتهم ضمن الحدود المقبولة).
سيبقى البعض ينظر إلى هذه «الوصفة» كما لو أنها أحلام، ولكن أليست السذاجة هي التي تجعل هذا البعض يعتقد أن التغيير، إصلاحاً أو ثورة، لا تحرّكه إلّا الأحلام.