الأجور عبء في نظر صندوق النقد

  • يرى صندوق النقد أنّ الأجور عبء على الاقتصاد. من ناحية، يعتبر أن أجور القطاع العام معوّق أمام تحقيق الفوائض العامّة لسداد خدمة الدَّيْن. ومن ناحية أخرى، يرى أن أطر المفاوضة الجماعية والحدّ الأدنى للأجور عبءٌ على تنافسية الاقتصاد والقطاع الخاص.
     
  • السياسات التي يدفع بها الصندوق في برامجه يمكن أن تستهدف الأجور صراحة أو بشكل غير مباشر. في الحالة الأولى، غالباً ما تكون عبر المشروطيات المتعلّقة بفاتورة الأجور في القطاع العام، وفي الحالة الثانية عبر توصيات ومشروطيّات تطال حوكمة العمل في القطاع الخاص.

يُعدُّ صندوق النقد الدولي «مقرض الملاذ الأخير» للدول التي تواجه أزمات مالية واقتصادية حادّة. يتدخّل عبر برامجه لإعادة الاستقرار الى هذه الاقتصاديات وضمان استدامة دينها، أي استمرارية دفع الديون والفوائد المترتبة عليها. تتضمّن برامج الصندوق سياسات مالية ونقدية على الدول المُقترضة تنفيذها من أجل الحصول على قروضه. وتهدف هذه السياسات، وهي في غالبيتها تقشّفية، إمّا إلى الحدّ من العجز المالي أو تحقيق فوائض مالية لتأمين استمرارية خدمة الدَّيْن. وتهدف إلى إرساء أسس نموّ اقتصادي مُستدام وفق منطق مدرسة اقتصادية مُحافظة تدعو إلى تقليص حجم الدولة، أي القطاع العام، وإتاحة المجال أمام القطاع الخاص للعب دور أكبر في الاقتصاد وتحفيز ربحيّته. يندرج هذا المنطق ضمن سياسات تحفيز جانب العرض، أي الشركات أو القطاع الخاص، التي دفعت بها النيولبيرالية على مدى عقود.

ومن هذا المنطق علينا فهم مواقف صندوق النقد الدولي من مسألة الأجور، أي بمعنى آخر، كيف يمكن للسياسات التي تستهدف الأجور والعمل أنّ تخدم أهداف برامج الصندوق؟ 

يُعلِّل الصندوق مواقفه والسياسات التي يدفع بها من منطلق اقتصادي تقني له علاقة بعجز القطاع العام، وإنتاجية الاقتصاد، ونموّ القطاع الخاص وقدرته على توفير فرص عمل. ولا نزعم أنّ صندوق النقد الدولي ليس له موقف سياسي أو أيديولوجي حول الأجور، بالعكس، ولكن، كما فسّرنا في مقال سابق، لم تعد سياسات الصندوق وتعبيراتها الأيديولوجية بالعنف والصراحة نفسهما كما تعودنا عليهما قبل الأزمة المالية العالمية وتجلّياتها التي اندلعت في العام 2008.

أوصى الصندوق خلال السنة الأولى من الجائحة 31 دولة باحتواء أو تخفيض فاتورة الأجور في القطاع العام

يُعبّر صندوق النقد الدولي عن موقفه من سياسات الأجور عبر وسائل عدّة، منها تقاريره الرسمية، ولا سيما تقارير المادة الرابعة التي تُعنى بمراقبة الاقتصاد العالمي واقتصادات بلدان معيّنة، والأوراق التي تصدر عن موظّفي الصندوق ولا تعبّر دائماً عن مواقف رسمية، والأهمّ هي برامج القروض التي تمثّل تطبيقاً حيّاً لموقف الصندوق. في كثير من الأحيان يمكن لتقارير الصندوق وتصريحات مسؤوليه أنّ تكون مُشجّعة وتبدو كما لو أن هناك تغيير في الأيديولوجيا الاقتصادية الطاغية، ولكن عند تطبيق البرامج يبيّن العكس، وهذا التعبير الأصدق عن اتجاهات الصندوق. فالسياسات التي يدفع بها الصندوق في برامجه يمكن أن تستهدف الأجور صراحة أو بشكل غير مباشر. في الحالة الأولى، غالباً ما تكون عبر المشروطيات المتعلّقة بفاتورة الأجور في القطاع العام، وفي الحالة الثانية عبر توصيات ومشروطيات تطال حوكمة العمل في القطاع الخاص.

فاتورة الأجور: الاستهداف المفضّل للصندوق

يمكن وصف الغالبية الساحقة من برامج قروض صندوق النقد الدولي بالتقشّفية. غالباً تلجأ الدول إلى الصندوق حين تواجه أزمة حادّة تطال ميزان المدفوعات والمالية العامّة ممّا قد يؤدّي إلى تخلّفها عن خدمة الدَّيْن. فيتدخّل الصندوق من أجل تمكين الدول من «ضبط» ماليّتها العامّة أي تخفيض إنفاقها. وفي هذا الإطار، يكون تخفيض فاتورة الأجور في القطاع العام أحد أبرز المشروطيّات التي تتضمّنها برامج الصندوق. على سبيل المثال، أوصى الصندوق خلال السنة الأولى من الجائحة 31 دولة باحتواء أو تخفيض فاتورة الأجور في القطاع العام. ومنطق هذه السياسات بسيط ومباشر جدّاً: من أجل تخفيض العجز وتحقيق الفوائض في الميزانية العامّة، يجب تخفيض كلفة الأجور كونها غالباً ما تنال الحصّة الأكبر من الإنفاق العام. وهذا يحقق نتائج سريعة بغض النظر عن التبعات الاجتماعية لهكذا سياسة وتأثيرها على اللامساواة وحسن سير الخدمات العامّة. فيمكن العثور على المشروطية المتعلّقة بفاتورة الأجور في كلّ برامج الصندوق في المنطقة من تونس إلى الأردن ومصر. بالإضافة إلى ذلك، كان الصندوق يُكرِّر هذه التوصية سنوياً في تقارير المادة الرابعة الخاصّة في لبنان قبل الانهيار المالي والاقتصادي الذي فرض بفعل الأمر الواقع توصيات صندوق النقد بفعل التضخّم وانهيار الليرة.

غالباً يتمّ التعبير عن المشروطيات المُتعلّقة بكتلة الأجور في القطاع العام بشكل ملطّف وغير مباشر. فلا يوجد هناك مشروطيّات تقول إنّه يجب تخفيض أجور العاملين في القطاع العام، يحدث ذلك بظروف استثنائية مثل حال اليونان في أعقاب الأزمة المالية العالمية وأثرها في برامج الترويكا (الاتحاد الأوروبي، البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد)، حيث خُفِّضت أجور العاملين في القطاع العام والأجور التقاعدية باعتبارها أحد الشروط للحصول على قروض الترويكا. وذلك لأسباب عدّة، منها أن اليونان في منطقة اليورو، أي لا يمكنها تخفيض قيمة العملة كونها فقدت سيادتها على السياسة النقدية بانضمامها إلى منطقة اليورو مثل غيرها من الدول الأوروبية.

كيف تخفّض الأجور في القطاع العام من دون تخفيضها؟

في الحالات «العادية» يطلب الصندوق من الدول في برامجه «احتواء فاتورة الأجور» أو «تخفيض فاتورة الأجور» في القطاع العام نسبة للناتج المحلّي. وفي هذه الحال، يترك للسلطات الوطنية تقرير كيفية تنفيذ هذه المشروطية، فهناك طرق عدّة. أولاً، تجميد التوظيف في القطاع العام ممّا يؤدّي إلى عدم ملء الوظائف الشاغرة أو تلك التي سوف تصبح شاغرة بفعل التقاعد. وغالباً ما ينجم عن ذلك، كما حصل في الأردن على سبيل المثال، تنامي ظاهرة التعاقد الهشّ في القطاع العام، مثل المياومين، بأجور متدنّية ومن دون أي حماية. ثانياً، قد تخفّض السلطات قيمة الأجور الحقيقية، إمّا عبر تجميدها من خلال إلغاء الزيادات السنوية التي تُمنَح وفق نسب التضخّم، أو تتم زيادة الأجور بشكل أقل من نسبة التضخّم. وبالتالي تنخفض القيمة الحقيقية للأجور وتتدهور ظروف معيشة العاملين في القطاع العام كما يحصل حالياً مع درجات التضخّم العالية.

تضمّن برنامج تونس الذي سُرِّب في العام 2021، حين بدأت المفاوضات مع الصندوق، إجراءات تشجّع تقاعد الموظّفين العموميين بموجب تسهيلات معيّنة على إنشاء شركاتهم الخاصّة

على سبيل المثال، تمهيداً لتنفيذ برنامج صندوق النقد في تونس، أبرمت السلطات التونسية اتفاقاً مع الاتحاد العام التونسي للشغل يقضي بزيادة الأجور على مدى السنوات الثلاث المقبلة ولكن بنسبة أقل بكثير من نسب التضخّم، ممّا أدّى إلى خفض فعلي في الأجور. ولكن نظراً لأسباب عدّة لم يصوّت مجلس إدارة الصندوق على قرض تونس ولم يدخل حيز التنفيذ بعد. ثالثاً، تُقدِم الحكومات، بالإضافة إلى تجميد التوظيف، إلى تشجيع أو إكراه العاملين في القطاع العام لترك وظائفهم عبر طرق عدّة مثل تقديم حزم سخيّة للتقاعد المُبكر. على سبيل المثال، تضمّن برنامج تونس الذي سُرِّب في العام 2021، حين بدأت المفاوضات مع الصندوق، إجراءات تشجّع تقاعد الموظّفين العموميين بموجب تسهيلات معيّنة على إنشاء شركاتهم الخاصّة. وفي مصر، في إطار تنفيذ البرنامج الأول في العام 2016، عُدِّلت قوانين تنظيم العمّال في القطاع العام للسماح للحكومة بإنهاء عقد التوظيف في خلال فترة تجريبية تمتدّ 6 شهور، كما إلى تغيير مكان عمل الموظّفين من منطقة إلى أخرى مع إمكانية تخفيض الأجر.

وفي كثير من الأحيان، تُعتمد هذه الطرق المختلفة معاً من أجل الوصول إلى أهداف البرنامج بتخفيض فاتورة الأجور. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه يمكن تنفيذ مشروطية الصندوق بتخفيض فاتورة الأجور نسبة إلى الناتج المحلّي عبر زيادة حجم الناتج المحلّي من دون المساس في العاملين في القطاع العام. ولكن نظراً إلى أن برامج الصندوق تقشّفية، أي انكماشية بالتالي لديها أثر سلبي على النموّ، على الأقل على المدى القصير، ممّا لا يترك الخيار أمام الدول إلّا باستهداف الأجور في القطاع العام.

خفض الأجور في القطاع العام لتحفيز القطاع الخاص

تلقى مسألة أجور القطاع العام اهتماماً خاصاً من الصندوق، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لأن التوظيف العام شكّل عموداً أساسياً في العقود الاجتماعية بين أنظمة ما بعد الاستقلال وشعوبها كجزء من تحقيق الحقوق الأساسية في العمل. ولذلك كانت آثار تدخّلات الصندوق في هذا المجال كارثية في العديد من الدول. ولكن قبل التطرّق إلى عواقب هذه المشروطيّات، من المفيد عرض بعض التبريرات المُعلنة للصندوق حين يتعرّض لمسألة الأجور في القطاع العام. 

يزعم الصندوق في ورقة نشرها عن الشرق الأوسط، أنّ التوظيف المرتفع في القطاع العام يزاحم القطاع الخاص، أي أنّ القطاع الخاص لا يستطيع منافسة القطاع العام من حيث الأجور والتقديمات الاجتماعية ممّا يدفع العديد من الباحثين عن العمل، وخصوصاً النساء، إلى البحث عن عمل في القطاع العام، واذا لم يتوفّر ذلك سوف يفضلون الانتظار على العمل في القطاع الخاص. بالتالي، وفق منطق الصندوق يجب تقليص التقديمات الاجتماعية «السخية» والأجور في القطاع العام من أجل إنعاش العمل في القطاع الخاص وخصوصاً مشاركة النساء فيه. بمعنى آخر، عوضاً عن تحسين ظروف العمل في القطاع الخاص، يجري الدفع نحو تدهور ظروف العمل في القطاع العام. لا ينمّ هذا المنطق عن قصور في قراءة واقع سوق العمل فحسب، بل من منطلق أيديولوجي يقول إنّ النمو الاقتصادي وتطوير القطاع الخاص يمرّ حتماً عبر تقليص حجم القطاع العام مهما كان دوره. فالقطاع الخاص في المنطقة وفي معظم الدول النامية هو قطاع تتفشّى فيه العمالة غير النظامية، أي أنه ينتج وظائف متدنّية الأجر والمهارة بظروف عمل بالغة الهشاشة، ممّا يجعلها غير جذّابة لأي عامل أو عاملة، وهذا لا يعود إلى حقوق العمل المُصانة بالحدّ الأدنى في القطاع العام، بل إلى السياسات الاقتصادية العامّة، وغياب الاستثمار في البنى التحتية، وغياب السياسات الصناعية، إلخ.

تخفيض الأجور لمحاربة اللامساواة

يسوق الصندوق تبريراً آخر لتخفيض كتلة الأجور في القطاع العام، وهو أن كلفتها العالية تمنع الدولة من الإنفاق المطلوب على الحماية الاجتماعية والصحة والتعليم والاستثمار في البنية التحتية الاجتماعية. على سبيل المثال، وفي إحدى المرات النادرة التي أقدم فيها الصندوق على إجراء تقييم لسياسات برامجه على اللامساواة في الإكوادور، خلُص هذا الأخير إلى أنّ تخفيض كتلة الأجور في القطاع العام وزيادة الضريبة على القيمة المُضافة سوف يؤدّي إلى تخفيض اللامساواة!

وفق منطق الصندوق يجب تقليص التقديمات الاجتماعية «السخية» والأجور في القطاع العام من أجل إنعاش العمل في القطاع الخاص

هذا النوع من التبرير في أفضل الأحوال ضعيف جداً، وفي أسوأ الأحوال خداع. فصندوق النقد الدولي ليس مشهوراً ببناء أنظمة الحماية الاجتماعية في البلدان النامية بل على العكس. من دون الرجوع إلى ما فعله في حقبة التكييف الهيكلي في الثمانينيات، رُبِطت برامج الصندوق بتفشّي جائحة الإيبولا في غرب أفريقيا نتيجة برامجه التقشّفية التي فرضت تخفيض كتلة الأجور في القطاع العام، وكان ضحيتها العاملين في الصحّة ممّا شلّ جهود التصدّي للإيبولا. فكما ذكرنا آنفاً، حين يشترط الصندوق على الدول تخفيض فاتورة الأجور العامّة لا يدخل دائماً في التفاصيل حول كيفية تحقيق الهدف. يكون العاملين والعاملات في الخدمات العامّة مثل الصحة والتعليم أول ضحايا هذه السياسات لأنهم في غالبية الأحيان أضعف من العاملين الآخرين في الدفاع والأمن على سبيل المثال، أو الموظّفين الرفيعين الذين يتمتعون بحماية الطبقة الحاكمة ودوائر النفوذ في الحكومة. على سبيل المثال، وجدت دراسة طالت 15 دولة لديها برنامج مع صندوق النقد الدولي أن المشروطيّات المُتعلّقة بكتلة الأجور في القطاع العام توازي ما قيمته 10 مليار دولار من الاقتطاع في الأجور، أي ما يساوي تخفيض اليد العاملة في القطاع العام بـ3 ملايين عامل في القطاعات التي تتصدّر مواجهة الأزمات (مثل الصحة والتعليم).

الانقضاض على مؤسّسات العمل

من الطرق الأساسية التي يؤثّر فيها الصندوق على الأجور هي التدخّل على مستوى المؤسّسات التي تعنى بحوكمة العمل، ومن ضمنها الآليّات التي يتم من خلالها تحديد الحدّ الأدنى للأجور، وتحديداً بنى المفاوضة الجماعية. وهذا طال بشكل أساسي الدول المتقدّمة كونها تتميّز بوجود آليّات مفاوضة قويّة عكس الدول النامية. هذا لا يمنع موظّفي صندوق النقد من إصدار أوراق تدافع عن دور النقابات وأهمّية المفاوضة الجماعية. على سبيل المثال، مع تنامي انتباه الصندوق إلى قضايا المساواة، نشر بعض الموظّفين ورقة بحثية تُعيد أسباب ازدياد اللامساواة في البلدان المتقدّمة إلى تدهور الانتساب إلى النقابات وضعف آليّات المفاوضة الجماعية. والسخرية بالموضوع أنّ هذه الدراسة صدرت في العام 2015 في خِضَم صراع الترويكا مع الحكومة اليونانية اليسارية الجديدة حول البرامج التقشّفية التي فرضها صندوق النقد والاتحاد الأوروبي على اليونان. وإحدى شروط هذه البرامج «الإنقاذية» المُتكرّرة كانت تستهدف تحديداً الحدّ الأدنى للأجور والمفاوضات الجماعية. على الرغم من إصدار العديد من الدراسات التي يمكن أن تشير إلى انعطافة في تفكير الصندوق، عبر النظر إلى ممارساته في أرض الواقع فقط، يمكن كشف الانحياز الأيديولوجي لهذه المؤسّسة المالية. في هذا الإطار، شكّلت أزمة اليونان فرصة مثالية للترويكا والصندوق لتطبيق أحلامهم الجامحة. أجبرت الترويكا اليونان على تخفيض الحدّ الأدنى للأجور بنسبة 22%، وتعليق المفاوضات الجماعية من خلال البرامج التقشّفية، وأجبرت الحكومة على إقرار قوانين لإضعاف آليّات المفاوضات الجماعية، ممّا أضعف قوّة العمّال وقدرتهم على الضغط من أجل أجور أعلى. وعلى الرغم من النتائج الكارثية لبرامج اليونان التقشّفية ما زال الصندوق متمسّكاً بإنجازاته.

وجدت دراسة طالت 15 دولة لديها برنامج مع صندوق النقد الدولي أن المشروطيّات المُتعلّقة بكتلة الأجور في القطاع العام توازي ما قيمته 10 مليار دولار من الاقتطاع في الأجور

في تقرير له عن اليونان صادر في العام 2019، يقول الصندوق إنه «بين عامي 2009 و2018 أعادت اليونان التنافسية في كلفة العمل عبر إصلاحات في سوق العمل بدأت في العام 2012، وتضمّنت تخفيض الحدّ الأدنى للأجور بنسبة 22% وتجميده لعام 2019، وإصلاحات أخرى لزيادة المرونة في سوق العمل تطال المفاوضة الجماعية (...)، نتيجة ذلك انخفضت الأجور الاسمية في القطاع الخاص بنحو 20% منذ العام 2010. وفي العام 2020، حاولت الحكومة اليونانية عكس بعض الإجراءات المتعلّقة بسوق العمل ولا سيّما المفاوضة الجماعية، ولكن ضغط صندوق النقد من أجل منع ذلك داعياً اليونان إلى التمسّك بـ«الإصلاحات». وأبدى الصندوق في العديد من الأحيان مواقف غير مُسانِدة لزيادة الحدّ الأدنى للأجور تحت مسوغات تقنية طبعاً، لأن «حدّ أدنى للأجور عالي وسخي يمكن أن يؤدّي إلى زيادة البطالة» كما يقول اقتصاديو الصندوق الرفيعون. بالنسبة لهم هناك مستوى مثالي للحدّ الأدنى غير مُضرّ بالرفاه العام وتنافسية الاقتصاد، كأنّ المسألة تقنية بحت وليست سياسية واجتماعية بشكل أساسي. فهذه المواقف ليست غريبة عن الصندوق، بل هي طبيعية إن أدركنا الخلفية الأيديولوجية التي تنتمي إليها المؤسّسة ومعظم اقتصادييها.

باختصار، يتجلّى موقف صندوق النقد من الأجور من خلال ممارسته في البلدان التي لديه برامج فيها، وتُبيّن هذه الأخيرة كيف أنه يرى الأجور بوصفها عبئاً على الاقتصاد: من ناحية، يعتبر أن أجور القطاع العام معوقٌ أمام تحقيق الفوائض العامة لسداد خدمة الدَّيْن، ومن ناحية أخرى، يرى أن أطر المفاوضة الجماعية والحد الأدنى للأجور عبء على تنافسية الاقتصاد والقطاع الخاص. وفي الحالتين، كما في مجمل برامج الصندوق التقشّفية، يدفع ثمن الأزمة والخروج منها من لم يتسبّب بها.