التضخّم العالمي: الأسباب والتداعيات

  • التضخّم الحالي ليس نتاج «الطلب المُفرط» (النظرية الكينزية) أو «الضخّ النقدي المُفرط» (النظرية النقدية)، بل إنه نتيجة «صدمة العرض» أي نقص الإنتاج وعدم تلبيته الطلب.
     
  • معدّلات التضخّم المرتفعة  في بلدان مثل مصر ولبنان ليست ناتجة عن الأجور «المُفرطة»، بل عن محاولة رأسماليي تلك البلدان الحفاظ على أرباحهم عبر رفع الأسعار في الداخل وخفض قيمة العملة لتعزيز الصادرات.

لقد تضاعفت أسعار الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والوقود والطاقة والإسكان، ثلاث مرّات في العامين الماضيين. أدّت جائحة فيروس كورونا إلى انخفاض حادّ في الإنتاج، وعرقلت النشاط الاقتصادي في جميع أنحاء العالم حيث مات الملايين، وأصبح الكثيرون مرضى وغير قادرين على العمل. في نهاية المطاف، اكتُشِفت بعض اللقاحات الفعّالة نسبياً ووزِّعت، ولا سيما في بلدان الشمال الغنيّة، بينما كانت اللقاحات أقل توفّراً للمليارات المقيمين في الجنوب. 


أسعار السلع العالمية

بدأت أسعار الطاقة والغذاء في الارتفاع، وعلى الرغم من عودة الاقتصادات إلى نشاطها والتعافي، إلّا أنّ العديد من الملايين لم يعودوا إلى وظائفهم السابقة، إمّا بسبب المرض المستمرّ أو الخوف من المرض، أو بسبب الفشل في استعادة مستويات الإنتاج السابقة بسبب الصعوبات التي واجهت سلاسل التوريد والتجارة. نتيجة لذلك، بدأت الأسعار في الارتفاع بشكل حادّ، بحيث بلغت تكاليف الطاقة 13% من الناتج المحلّي الإجمالي العالمي.

ثمّ جاء الغزو الروسي لأوكرانيا ممّا أدّى إلى تفاقم نقص النفط والغاز والحبوب، وهي سلع تُعدُّ روسيا وأوكرانيا من الدول الرائدة في إنتاجها وتصديرها. عانت دول الشرق الأوسط مثل مصر ولبنان بشكل خاصّ من الارتفاع الحادّ في أسعار الغذاء والطاقة.


تضخم أسعار الطاقة والغذاء

يضرّ التضخّم المُرتفع والمُتصاعد بشدّة بسبل عيش وازدهار معظم الأسر في الاقتصادات الرأسمالية المتقدّمة، لكنّه يُعدُّ مسألة حياة أو موت لمئات الملايين في البلدان الفقيرة في ما يُسمّى بالجنوب العالمي. أن يصبح المرء عاطلاً عن العمل هو بالتأكيد أمرٌ مدمِّر لمن فقدوا وظائفهم وعائلاتهم. لكن البطالة تؤثّر عادة على أقلية من العاملين فقط، بينما يؤثّر التضخّم على الغالبية، لا سيّما من ذوي الدخل المُنخفض حيث تكون السلع الأساسية مثل الطاقة والغذاء والنقل والإسكان ذات أهمّية أكبر.

ينفق الناس في مصر وتونس وسوريا والجزائر والمغرب بين 35 و55% من دخلهم على الغذاء. لذلك، حتّى الزيادات الطفيفة في الأسعار تؤدّي إلى الفقر والجوع

وفقاً لدراسة جديدة، سوف تدفع أسعار الوقود المُرتفعة نحو 141 مليون شخصٍ إلى الفقر المُدقع على مستوى العالم. تدهورت الأحوال المعيشية في 90% من دول العالم في العام 2021 وفق برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي، وانخفض المؤشّر عالمياً لمدّة عامين مُتتاليين منذ بدء احتسابه للمرّة الأولى قبل 32 عاماً. وبحسب تقرير برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي، فقد أدّى الأمر إلى محو «مكاسب السنوات الخمس الماضية». وقال رئيس البرنامج، أكيم شتاينر، إنّه حتّى في ذروة الركود العالمي الأخير الذي اندلع في العام 2008، انخفض المؤشّر في دولة واحدة فقط تقريباً من بين كلّ عشر دول. وقال شتاينر إنّنا «نعيش أوقاتاً عصيبة للغاية، سواء كان عالماً تحت الماء، أو عالماً بلا ماء، أو عالماً يحترق، أو عالماً في خضم الوباء».

تُعدُّ أسعار المواد الغذائية غالباً ذات دورٍ حاسمٍ من الناحية التاريخية. وهي تؤثّر بشكل خاصّ على الأشخاص المقيمين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي منطقة تستورد كمّيات من القمح أكثر من أي منطقة أخرى، وحيث تُعتبر مصر أكبر مستورد للقمح في العالم. تتحدّد أسعار هذه الواردات من خلال بورصات السلع الدولية في شيكاغو وأتلانتا ولندن. وحتّى مع الدعم الحكومي، ينفق الناس في مصر وتونس وسوريا والجزائر والمغرب بين 35 و55% من دخلهم على الغذاء. لذلك، حتّى الزيادات الطفيفة في الأسعار تؤدّي إلى الفقر والجوع.

من أين يأتي التضخّم؟

في الواقع، عندما نفكّر في أسعار المواد الغذائية، وهي أحد المساهمين الرئيسيين، إلى جانب أسعار الطاقة، في دوّامة التضخّم الحالية، فإنّها تكشف عن أوجه قصور في التفسيرات السائدة للتضخّم وعلاجاتها السياسية. لا يُعدّ التضخّم الحالي نتاج «الطلب المُفرط» (النظرية الكينزية) أو «الضخّ النقدي المُفرط» (النظرية النقدية)، بل إنّه نتيجة «صدمة العرض»، أي نقص الإنتاج وعدم تلبيته الطلب، وقد اشتدّ الأمر بسبب انهيار سلاسل التوريد نتيجة تفشّي جائحة كورونا ثمّ الصراع بين روسيا وأوكرانيا.

حتّى خبراء الاقتصاد في صندوق النقد الدولي يوافقون على ذلك. لقد قاسوا المساهمات النسبية للعرض والطلب في ارتفاع التضخّم في العام 2021. ويعتقد الخبراء أن «نحو نصف التأرجح الصعودي (للتضخّم) على الصعيد العالمي جاء من التغيّر في مكوّن صدمة العرض، الذي مارس في الغالب ضغطاً هبوطياً على أسعار السلع المُصنّعة في سنوات ما قبل الجائحة. وتُقدَّر الحصّة التي تُعزى إلى صدمات العرض بنحو 50% في منطقة اليورو، و60% في ألمانيا، وبين 45 و50% في الولايات المتّحدة وبريطانيا، ونحو 40% في فرنسا وإيطاليا».

تُعدُّ «صدمة» العرض، في الواقع، استمراراً للتباطؤ في الإنتاج الصناعي والتجارة الدولية والاستثمار التجاري والنمو الحقيقي للناتج المحلّي الإجمالي الذي حُقِّق بالفعل في العام 2019 قبل اندلاع الجائحة، لأن ربحية الاستثمار الرأسمالي في الاقتصادات الكبرى انخفضت إلى ما يقرب من أدنى مستوياتها التاريخية. وفي النهاية، الربحية هي التي تدفع الاستثمار والنمو في الاقتصادات الرأسمالية.

عموماً يتبع عرض النقود تغيّرات الأسعار، لذا فإنّ المحاولات المُتعمّدة لتغيير المعروض النقدي سوف تفشل في تحديد تضخّم الأسعار

يدّعي مؤيّدو النظرية النقدية أنّ عرض النقود غير المُنضبط هو الذي يتسبّب في ارتفاع التضخّم. وكما قال مؤسّس النظرية النقدية، ميلتون فريدمان: «التضخّم هو - دائماً وفي كلّ مكان - ظاهرة نقدية، بمعنى أنّه لا يحصل إلّا من خلال زيادة سريعة في كمّية النقد تفوق الإنتاج». لكن هذه النظرية تعكس الأمور، لأنّ عرض النقود مدفوع بالطلب عليها من الشركات المُنتجة وبيع السلع والخدمات ومن الأسر التي تشتريها، وليس العكس. كما أنه يمكن تخزين الأموال و/أو استخدامها في شراء الأصول المالية مثل الأسهم والسندات وغيرها، بدلاً من شراء السلع. لذا فإن عرض النقود لا يرفع الأسعار، بل العكس هو الصحيح.

عارض ماركس النظرية الكمية للنقود لسببين: 1) لأنّ النقود تنشأ داخلياً، أي من خلال البنوك وليس بأمر من الدولة. 2) لأنها تمثّل في النهاية قيمة في إنتاج السلع وليست مستقلّة عنه. يجادل مؤيّدو النظرية النقدية بأنّ العرض النقدي «الزائد» عن الحدّ الأقصى للإنتاج يُسبّب التضخّم. لكن النقود ليست كياناً أسطورياً مُنفصلاً عمّا يحدث للإنتاج في الاقتصاد. إذ يرتفع عرض النقود عموماً أو ينخفض تبعاً لطلب العمّال لشراء احتياجاتهم، وطلب الرأسماليين للاستثمار وتوظيف العمّال من أجل الإنتاج. إنّ اتجاه التأثير السببي لا يتدفّق من النقود إلى الإنتاج، بل من الإنتاج إلى النقود. فالنقود هي عامل داخلي للإنتاج الرأسمالي، وأسعار الإنتاج تتشكّل من خلق القيمة وليس من خلق النقود.

عموماً يتبع عرض النقود تغيّرات الأسعار، لذا فإنّ المحاولات المُتعمّدة لتغيير المعروض النقدي سوف تفشل في تحديد تضخّم الأسعار. والأدلة تدعم ذلك. فمنذ الثمانينيات كان معدّل التضخّم العالمي آخذٌ في الانخفاض، ومع ذلك كان نمو المعروض النقدي بالنسبة للناتج المحلّي الإجمالي العالمي ثابتاً.


المعروض النقدي والتضخم العالمي

النظرية الأخرى السائدة هي نظرية الكينزيين. وهم يجادلون بأن التضخّم ينشأ من التوظيف الكامل الذي يؤدّي إلى ارتفاع الأجور، ومن «الطلب المُفرط» عندما تنفق الحكومات «أكثر من اللازم» في محاولة إنعاش الاقتصاد. إذا كان هناك توظيف كامل، فلا يمكن زيادة العرض ويمكن للعمّال رفع الأجور، ممّا يُجبر الشركات على رفع الأسعار ويُدخلنا في «دوّامة الأسعار - الأجور».

لنأخذ وجهة نظر الاقتصادي الأميركي الرائد جيسون فورمان على سبيل المثال، حيث يقول «عندما ترتفع الأجور يؤدّي ذلك إلى ارتفاع الأسعار. وإذا ارتفعت أسعار وقود الطائرات أو مكوِّنات الطعام، ترفع شركات الطيران أو المطاعم أسعارها. وبالمثل، إذا ارتفعت أجور مضيفات الطيران أو عاملي المطاعم سوف تترفع الأسعار أيضاً. وأي شخص لديه حسّ اقتصادي سليم، أو حتّى حسّ عام سليم سوف يدرك ذلك».

إن المزيج بين إنتاج القيمة الجديدة وخلق المعروض النقدي سوف يقرّر في النهاية معدّل التضخّم في أسعار السلع

لكن هذا هراء من الناحية النظرية ولا تدعمه الأدلّة. إذ لا يؤدّي ارتفاع الأجور إلى ارتفاع الأسعار، كما قال ماركس في مخطوطته بعنوان «القيمة والسعر والربح»، في معرض نقاشه للنقابي ويستون الذي جادل بأنّ ارتفاع الأجور من شأنه أن يُسبِّب التضخّم «فإنّ النضال من أجل زيادة الأجور يأتي فقط في أعقاب التغيّرات السابقة، وهو النتيجة الضرورية للتغيّرات السابقة في كمّية الإنتاج، والقوى الإنتاجية للعمالة، وقيمة العمل، وقيمة النقود، ومدى أو كثافة العمل المُستخرج، وتقلّبات أسعار السوق التي تعتمد على تقلّبات العرض والطلب، وبما يتفق مع مختلف مراحل الدورة الصناعية، أي بكلمة واحدة، كردّ فعل للعمل ضدّ فعل رأس المال. من خلال تناول النضال من أجل زيادة الأجور بمعزل عن كلّ هذه الظروف، أي من خلال النظر إلى تغيير الأجور فقط، وتجاهل جميع التغييرات الأخرى التي تنشأ عنه، فإنك تنطلق من فرضية خاطئة من أجل الوصول إلى استنتاجات خاطئة». وبشكل عام، فقد جادل ماركس بأنّ «الارتفاع العام في معدّل الأجور من شأنه أن يؤدّي إلى انخفاض المعدّل العام للربح، ولكن لن يؤثّر على أسعار السلع».

تقول الحجّة الكينزية إن مع انخفاض البطالة، يمكن للعمّال المساومة للحصول على أجور أعلى وبالتالي رفع الأسعار. يمكن وصف هذه «المقايضة» بين البطالة والتضخّم في منحنى بياني، سُمِّي على اسم الاقتصادي البريطاني فيليبس. لكن يتعارض الدليل التاريخي مع منحنى فيليبس كتفسير لدرجة التضخّم. في السبعينيات، وصل تضخّم الأسعار إلى أعلى مستوياته بعد الحرب، لكن البطالة ارتفعت. وشهدت معظم الاقتصادات الكبرى «ركوداً تضخّمياً». ومنذ نهاية الركود الكبير في العام 2008 إلى حين تراجع فيروس كورونا في العام 2020، انخفضت معدّلات البطالة في الاقتصادات الكبرى بشكلٍ كبير، لكن التضخّم تباطأ أيضاً. لا توجد علاقة بين انخفاض البطالة وارتفاع الأسعار. إن منحنى فيليبس ليس منحنى في الواقع ولكنّه خط ثابت.


التصخم العالمي والمعروض النقدي

لماذا يستمرّ الاقتصاديون ومحافظو البنوك المركزية في الترويج لنظرية ليس لها دعم تجريبي؟ أوضح جافين ديفيز، أحد الكينزيين وكبير الاقتصاديين السابق في بنك غولدمان ساكس أن «من دون منحنى فيليبس، تبدو الأدوات المعقّدة التي تدعم السياسة النقدية للبنك المركزي مُتزعزعة للغاية. لهذا السبب، لن يتخلّى صانعو السياسات بسهولة عن منحنى فيليبس».

أمّا أتباع ما بعد الكينيزية فينظرون إلى الأرباح باعتبارها سبباً لارتفاع الأسعار. «من وجهة نظر نظرية التوزيع ما بعد الكينزية، فإن تأثير إعادة التوزيع الوظيفي للتغيّرات في أسعار الفائدة يتركّز مباشرة على استجابة الربح لأسعار الفائدة. والذي من المفترض أن يعتمد على حجم تغيّرات أسعار الفائدة والاستمرارية المتوقّعة له». لذلك، فإن قدرة الشركات (الاحتكارية) على تحديد الأسعار والانخراط في التلاعب بالأسعار هي التي تسبّب التضخّم.

صحيح أن زيادة الأرباح ساهمت بأكبر قدر في ارتفاع الأسعار في فترة ما بعد الجائحة. لكن الشركات والتكتّلات الاحتكارية كانت موجودة منذ تطوّر الشكل الناضج للرأسمالية وتسجيل تزايد في تراكم رأس المال، كما توقّع ماركس. لكن هذا لم يتبعه دائماً تضخّم متسارع. في الواقع، منذ أوائل التسعينيات وحتى الركود الكبير وما بعده، انخفضت معدّلات التضخّم في الاقتصادات الرئيسية بينما زاد تراكم رأس المال.


أرباح الشركات الكبرى

ما هي النظرية الماركسية للتضخّم؟

لذا إذا لم يكن التضخّم المتسارع ناتجاً عن العرض النقدي المُفرط (النقديون)، أو ارتفاع التكاليف والأجور (الكينزيون)، أو حتّى هوامش الربح الاحتكارية (ما بعد الكينزية)، فما الذي يسبِّبه؟ ما هي النظرية الماركسية للتضخّم؟

كما قال ماركس، يسعى العمّال للحصول على أجور أعلى عندما ترتفع الأسعار، وليس العكس. وتميل الأسعار إلى الارتفاع إذا زاد وقت العمل الذي يستغرقه إنتاج السلع والخدمات. بعبارة أخرى، وفق النظرية الماركسية، سوف ترتفع تكلفة الإنتاج إذا ارتفعت قيمة السلع (مُقاسة بوقت العمل). هناك ميل عام لانخفاض قيمة السلع على المدى الطويل لأنّ التراكم الرأسمالي هو عملية موفّرة للعمل. لذلك سوف تنخفض قيمة السلع بالنسبة إلى كمّية السلع والخدمات المُنتجة. ومع ارتفاع إنتاجية العمل المُقاسة بالوحدات المُنتجة، سوف تنخفض القيمة المُتضمّنة في تلك الوحدات. لذلك هناك ميل لتباطؤ التضخّم في أسعار السلع بل وحتّى للانخفاض، حيث سوف تنخفض القيمة الإجمالية بالنسبة إلى إجمالي الإنتاج بمرور الوقت.

مع تعرّض 60% من البلدان منخفضة الدخل لخطر ضائقة الديون، وفقاً لصندوق النقد الدولي، سوف يتبع ذلك المزيد من التخفيضات في قيمة العملات

إذن فإن مسألة ما إذا كان التضخّم سوف يرتفع أم ينخفض تعتمد على التغيّرات في القيمة الجديدة التي تمّ خلقها في الإنتاج. تنقسم القيمة الجديدة إلى أجور وأرباح. تشتري أجور العمّال السلع الاستهلاكية وتشتري الأرباح الرأسمالية سلعاً رأسمالية أو سلعاً استثمارية. لذا فإن التغيّرات في الأجور والأرباح سوف تؤدي إلى تغيرات في الأسعار أو تضخّم.

لكن السلع تُقاس بالنقود وليس بساعات العمل. وفي الاقتصاد الرأسمالي الحديث حيث يمكن زيادة المعروض النقدي بقرارات الحكومة والبنوك المركزية. لذلك يمكن للتغيّرات في عرض النقود أن تؤثّر أيضاً على التضخّم. في اقتصادات «النقد الإلزامي Fiat money» الحديثة، تصبح النقود التي أنشأتها الحكومات والبنوك المركزية عاملاً مُضاداً للميل إلى انخفاض الأسعار في الإنتاج الذي يخلق القيمة. إن المزيج بين إنتاج القيمة الجديدة وخلق المعروض النقدي سوف يقرّر في النهاية معدّل التضخّم في أسعار السلع.

في الواقع، تُظهر الدراسات أن هناك ارتباط كبير بين التغيّرات في مزيج الأجور والأرباح والمعروض النقدي والتضخّم في الاقتصادات الكبيرة. بين عامي 1960 و1980، كان كلّ من المعروض النقدي ونمو القيمة الجديدة مرتفعين، وبالتالي كان تضخّم الأسعار مرتفعاً. بعد ثمانينيات القرن الماضي وحتى تراجع جائحة كورونا، تباطأ النمو في القيمة الجديدة والمعروض النقدي، وبالتالي تراجعت معدلات التضخّم.

ولكن هناك أيضاً سبب قوي آخر لارتفاع التضخّم في البلدان الأفقر في العالم، وهو انخفاض قيمة العملة المحلّية مقابل العملات الرئيسية التي تُسعَّر بها معظم الواردات والاستثمارات الأجنبية. حيث لا تتحكّم البلدان الفقيرة في المعروض النقدي الخاصّ بها لأنّها لا تتحكّم في تجارتها وتمويلها. في الواقع، يتحكّم الدولار أو اليورو في التجارة والتمويل.

يتوقّع المستثمرون والمُصدّرون الأجانب عائداً بالدولار أو اليورو. لكن العديد من البلدان الفقيرة، حتّى تلك التي تمتلك وفرة من الموارد الطبيعية أو الأشخاص الذين يعملون بجدّ، لا يمكنها إنتاج ما يكفي بأسعار تنافسية بالدولار أو اليورو ما لم تخفِّض قيمة عملتها. لكن تخفيض قيمة العملة يؤدّي إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات في الاقتصاد (التضخّم) ويزيد من صعوبة سداد الديون المُسعَّرة بالعملة الأجنبية (أزمات الديون).

مصر ولبنان كأمثلة

لنأخذ مصر على سبيل المثال. في العام 2016، قدّم صندوق النقد الدولي قرضاً بقيمة 12 مليار دولار لتمكين الحكومة من الوفاء بديونها للدائنين الأجانب، لكن بشرط تخفيض قيمة الجنيه المصري. ارتفع معدّل التضخّم إلى 30% ودُفِع الملايين نحو الفقر. في العام 2023، بات يمكن تصنيف 60% من سكّان مصر، البالغ عددهم 105 ملايين نسمة، على أنّهم فقراء وفقاً للبنك الدولي. عادت الأزمة الآن بعد الركود الوبائي حيث أدّت الحرب على أوكرانيا إلى ارتفاع أسعار الواردات. ومرّة أخرى، طالب صندوق النقد الدولي بتخفيض قيمة الجنيه وخصخصة الصناعات الحكومية لإرضاء المستثمرين الأجانب. قال جيمس سوانستون، أحد الخبراء الاقتصاديين في «كابيتال إيكونوميكس»، وهي شركة استشارات استثمارية مقرّها لندن: «لقد جادلنا لبعض الوقت أنّ إحدى الخطوات الحاسمة لتحفيز نموّ أسرع في الإنتاجية ونمو اقتصادي أعلى على المدى الطويل تتمثّل في الحدّ من تأثير كلّ من الدولة والجيش في الاقتصاد. وهو ما سوف يسمح بمزيد من المنافسة، ويجذب المستثمرين الأجانب إلى مصر، ويؤدّي بالتالي إلى نقل التكنولوجيا والمعرفة لتعزيز النمو الاقتصادي على مدى أطول». يبلغ معدل التضخّم في مصر الآن 27% سنوياً، ممّا يجبر الحكومة على تأجيل الزيادات المُخطّط لها في أسعار الكهرباء للتخفيف من آثار التضخّم. وكان تخفيض قيمة العملة المصرية بنسبة 23% في كانون الثاني/ يناير الماضي هو الثالث منذ آذار/ مارس من العام الماضي. وخسر الجنيه منذ ذلك الحين نحو نصف قيمته بالدولار.

تحتاج الحكومات إلى استعادة السيطرة على السياسة النقدية وإدخال النظام المصرفي في نطاق الملكية العامّة والسيطرة الديمقراطية

ونصادف القصة نفسها في لبنان. فبعد عامين من ظهور الوباء، فقدت عملة البلاد أكثر من 90% من قيمتها ويعيش نحو ثلاثة أرباع سكّانها تحت خطّ الفقر وفقاً للأمم المتّحدة. وحالياً كجزء من إتفاقية للحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، وعدت الحكومة الصندوق بأنها سوف تنفذ «إصلاحات واسعة النطاق» كما هو الحال في مصر.

ومع تعرّض 60% من البلدان منخفضة الدخل لخطر ضائقة الديون، وفقاً لصندوق النقد الدولي، سوف يتبع ذلك المزيد من التخفيضات في قيمة العملات. فقد زادت أوكرانيا، التي دُمِّر اقتصادها وعائداتها الحكومية من الهجمات الروسية على البنية التحتية المدنية، تدخّلاتها الشهرية في أسواق العملات من 300 مليون دولار إلى 4 مليارات دولار بين شباط/ فبراير وحزيران/ يونيو من العام الماضي. ومع نفاد الأموال، تركت عملتها (الهريفنيا) تنخفض بنحو 25% في مقابل الدولار في تموز/ يوليو. وسمحت تركيا على مضض بانخفاض عملتها، ممّا تسبب في ضغوط تضخّمية شديدة يواجهها السكّان، والتي سوف تتضاعف بسبب الزلزال الأخير.

استنزف البنك المركزي الغاني احتياطياته لدعم عملته لسنوات. وفي كانون الأول/ ديسمبر الماضي، تخلّت الحكومة عن هذه الجهود وقالت إنّها لن تخدم ديونها الخارجية بعد الآن. وخسرت عملتها (السيدي) منذ ذلك الحين نصف قيمتها بالدولار. وقد تكون نيجيريا هي التالية.

لذلك، فإن معدّلات التضخّم المُرتفعة بشكلٍ قياسي في بلدان مثل مصر ولبنان ليست نتيجة مطالب الأجور «المُفرطة»، ولكنها ناتجة عن محاولة الرأسماليين في تلك البلدان الحفاظ على أرباحهم من خلال رفع الأسعار في الداخل وخفض قيمة العملة لتعزيز الصادرات.

حلول التضخّم المُتسارع

ليس لدى البنوك المركزية سوى القليل من السيطرة على «الاقتصاد الحقيقي» في الاقتصادات الرأسمالية، وهذا يشمل أي تضخّم في أسعار السلع أو الخدمات. لقد اتضح أنّ جميع البنوك المركزية أخذتها غفوة بينما كانت معدّلات التضخّم ترتفع. لكن لماذا حدث ذلك؟ بشكل عام، لأنّ نمط الإنتاج الرأسمالي لا يتحرّك بطريقة ثابتة ومتناغمة ومخطّط لها، وإنما بطريقة مُتقطّعة وغير مُنتظمة وفوضوية تتأرجح بين فترات من الازدهار والركود. ولكن أيضاً، لأنّ البنوك المركزية تعتمد على نظريات غير صحيحة عن التضخّم.

إذا كان ارتفاع التضخّم مدفوعاً بالعرض الضعيف بدلاً من الطلب القوي بشكل مُفرط، فلن تنجح السياسة النقدية. من المُفترض أن تعمل السياسة النقدية من خلال محاولة رفع «إجمالي الطلب» أو خفضه بالمصطلح الكينزي. إذا كان الإنفاق ينمو بسرعة كبيرة بحيث يتعذّر على الإنتاج مواجهته وبالتالي يؤدّي إلى حدوث تضخّم، فمن المفترض أن يؤدّي ارتفاع أسعار الفائدة إلى إضعاف رغبة الشركات والأسر في الاستهلاك أو الاستثمار عن طريق زيادة تكلفة الاقتراض. ولكن حتّى لو كانت هذه النظرية صحيحة (والأدلة لا تدعمها)، فإنّها لا تنطبق عندما ترتفع الأسعار بسبب انهيار سلاسل التوريد أو ارتفاع أسعار الطاقة أو وجود نقص في العمالة. وكما قال أندرو بيلي محافظ بنك إنكلترا: «السياسة النقدية لن تزيد المعروض من رقائق أشباه الموصلات، ولن تزيد كمّية الرياح، ولن تنتج المزيد من محرّكات شاحنات النقل».

مع ذلك، تواصل السلطات النقدية والاقتصاديون الكينزيون المُهيمنون على المشهد التأكيد على «الطلب المُفرط» باعتباره السبب الرئيسي للتضخّم. يدعو مؤيِّدو المدرسة النقدية المتشدِّدون إلى زيادات حادّة في أسعار الفائدة لكبح الطلب، في حين أن الكينزيين قلقون بشأن تضخّم «زيادة الأجور» حيث «تجبر» زيادة الأجور الشركات على رفع الأسعار. وكما قال الكاتب الكينزي مارتن وولف، فإن «ما يتعيّن على (محافظي البنوك المركزية) فعله هو منع دوّامة الأسعار-الأجور، التي تزعزع استقرار توقّعات التضخّم. يجب أنّ تكون السياسة النقدية مُحكمة بما يكفي لتحقيق ذلك. بعبارة أخرى، يجب أن تخلق/تحافظ على بعض الركود في سوق العمل». بعبارة أخرى، يجب أن تكون المهمّة هي خلق البطالة من أجل تقليل القدرة التفاوضية للعمّال، ومعارضة التوظيف الكامل وزيادة الأجور. يزعم وولف ومحافظ بنك إنكلترا بيلي أن الهدف هو وقف التضخّم الجامح. بينما في الواقع، يهدف الأمر إلى الحفاظ على الربحية، كما أوضح ماركس في مناظرته مع ويستون.

إنّ حلّ التضخّم المُتسارع هو السيطرة على مُنتجي الوقود الأحفوري الذين يحقِّقون أرباحاً هائلة، وبدلاً من دفع أرباح ضخمة للمساهمين، يمكن لشركات الطاقة ذات الملكية العامّة أن تخفِّض الأسعار وتستثمر في الطاقة المُتجدِّدة لتقليل انبعاثات الكربون وإنقاذ الكوكب. بدلاً من رفع أسعار الفائدة الذي يُفتَرض أنه يحدّ من التضخّم، تحتاج الحكومات إلى استعادة السيطرة على السياسة النقدية وإدخال النظام المصرفي في نطاق الملكية العامّة والسيطرة الديمقراطية. ثمّ يمكن وضع خطّة استثمار عام لزيادة الإنتاجية وخفض تكاليف الإنتاج (وقت العمل المطلوب)، وبالتالي التضخّم.

كل ذلك يحتاج إلى تنسيق عالمي من الحكومات الاشتراكية التي تعهّدت بإزالة عبء أزمة تكلفة المعيشة من على عاتق العمّال، ولا سيّما في الجنوب. لا يمكننا الاعتماد على الهيئات الدولية للرأسمالية مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية أو مجموعة العشرين للقيام بذلك. إنّ النضال من أجل إحداث تحوّلٍ جذري في البنية الاجتماعية للاقتصاد العالمي أمرٌ ضروري.