الهجوم المُزمِن على الأجور

  • تشير المؤشرات إلى انخفاض مستويات معيشة العمّال وأسرهم مع حصول تآكل حادّ في دخلهم الحقيقي، في حال لم يتمّ تعديل الأجور وأنواع الدخل الأخرى بما يتماشى مع التضخّم
     
  • حتى لو تمّ تعديل الأجور لتتماشى مع ارتفاع التضخم، فإن الأسر المنخفضة الدخل ستستمر بالمعاناة في العديد من البلدان نتيجة  تآكل قدرتها الشرائية

لم يكن العالم قد تعافي من تبعات تفشّي جائحة كوفيد-19، حتّى اندلعت الحرب الروسية-الأوكرانية وتسبّبت بارتفاع جنوني في أسعار المواد الغذائية والطاقة. طبعاً لم يتحمّل الجميع وزر الأزمات المُتلاحقة بطريقة متساوية. بالإضافة إلى الضحايا والمُتضرّرين المباشرين من الوباء والحرب، قد يكون العمّال ثاني الكتل الأكثر تأثّراً بهذه الأزمات التي أكلت من أجورهم. تبيّن الأرقام الواردة في تقرير الأجور العالمية لعام 2022-2023 والصادر عن منظمة العمل الدولية انخفاض معدّل نموّ الأجر الشهري العالمي بنحو 0.9% في النصف الأول من العام 2022، وهو النموّ السلبي الأول منذ نحو 15 عاماً، علماً أن هذا الانخفاض قد يصل إلى 1.4% في حال استثنيت الصين التي تسجّل النموّ الأعلى في الأجور بالمقارنة مع البلدان الأخرى.


نمو التضخّم العالمي

تشير الأدلة المتوفّرة لعام 2022 إلى أن «النمو السلبي في الأجور يعود إلى ارتفاع معدّل التضخّم الذي يُضاف إلى الخسائر الكبيرة التي تكبّدتها فاتورة أجور العمّال وأسرهم خلال أزمة كوفيد-19»، وبحسب منظّمة العمل الدولية يُقلّل هذا التأكل المُستمرّ في الأجور العالمية «من القوّة الشرائية للطبقة الوسطى، ويضرب المجموعات ذات الدخل المنخفض بشكل خاص». وبالفعل، تعدُّ التوقّعات الاقتصادية متشائمة للغاية، فبحسب صندوق النقد الدولي، من المرجّح أن ينخفض النمو الاقتصادي في العام 2023 بين 2 و2.7%، في حين تشير منظّمة العمل الدولية إلى استمرار الموجة التضخّمية، ولو بحدّة أقل، وبلوغها نحو 6.5% في 2023. بمعنى آخر، وبحسب تحليل منظّمة العمل الدولية قد تؤدّي هذه المؤشّرات إلى «انخفاض مستويات معيشة العمّال وأسرهم مع حصول تآكل حادّ في دخلهم الحقيقي، في حال لم يتمّ تعديل الأجور وأنواع الدخل الأخرى بما يتماشى مع التضخّم، والذي يؤدّي أيضاً إلى ارتفاع حدّة اللامساواة، ويُهدِّد الانتعاش الاقتصادي ويزيد احتمال حدوث اضطرابات اجتماعية».


النمو العالمي

اتجاهات الأجور

تبيّن الإحصاءات أن نموّ الأجور الحقيقية انخفض بنحو 2.2% في الاقتصادات المتقدّمة لبلدان مجموعة العشرين التي تضمّ 60% من الموظّفين بأجر في العالم، فيما سجّل نمو إيجابي في الاقتصادات الناشئة بنسبة 0.8%. وهو ما يشير إلى أن الأجور الاسمية لم تعدّل في العديد من البلدان بما يتماشى مع الارتفاع المستمرّ في كلفة المعيشة.

في أميركا الشمالية، تأرجح نمو الدخل الحقيقي بين 0 و1% في مجمل السنوات المُمتدّة بين عامي 2006 و2019. وبعد أن قضت الجائحة على ملايين الوظائف المتدنية الدخل، سجّل متوسّط الأجور الحقيقية قفزة في خلال العام 2020 بنسبة 4.3% مع عودة العمّال المتدنّيي الأجر إلى أشغالهم. لكن سرعان ما تراجع نموّ الأجور إلى 0% في العام 2021 ومن ثمّ إلى -3.2% في النصف الأول من العام 2022.

نمو الأجور في أميركا الشمالية

في أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، كان الاتجاهات المُسجّلة في نموّ الأجور الحقيقية متشابهة. إذا ارتفع معدّل الأجور بنحو 3.3% في العام 2020، وهو الارتفاع الأعلى حتّى بالمقارنة مع معدّلات ما قبل الجائحة. في العام 2021 انهار نمو الأجور الحقيقية إلى -1.4%، مدفوعاً بانهيار نمو الأجور في البرازيل إلى -7%، ومن ثمّ استمرّ معدّل نمو الأجور الحقيقية بالانخفاض وسجّل -1.7% في النصف الأول من 2022.

نمو الاجور في أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي

لا يختلف المشهد كثيراً في بلدان الاتحاد الأوروبي. تأرجح نمو الأجور الحقيقية بين 1 و2% قبل تفشّي الجائحة. وفي العام 2020، انخفض إلى 0.4% نتيجة تفشّي الجائحة، ويعود ذلك إلى عوامل عدّة أهمها تراجع أجور بعض العمّال، وخسارة ملايين الوظائف المتدنية الأجر. في العام 2021، حقّقت الأجور تعافياً طفيفاً إذا نما معدّلها بنسبة 1.3% قبل أن يعاود الانخفاض إلى -2.4% في العام 2022. 

نمو الأجور في الاتحاد الأوروبي

في أوروبا الشرقية، كانت الأجور الحقيقية تنمو بسرعة نسبية قبل تفشّي الجائحة، وبنسب تتجاوز 5% بين عامي 2017 و2019، ووصلت إلى أكثر من 8% في العام 2018. إلّا أن تفشّي الجائحة قضى على هذا المسار التصاعدي، بحيث تراجع نموّ الأجور إلى 4% في العام 2020 ومن ثمّ إلى نحو 3.3% في 2021 ويعود ذلك إلى مستويات التضخّم المنخفضة في تلك البلدان بالمقارنة مع باقي دول العالم. وأمّا في النصف الأول من العام 2022 فقد انخفض نموّ الأجور الحقيقية مجدداً ووصل إلى -3.3% متأثّراً بشكل رئيسي بالحرب الروسية-الأوكرانية وانفجار التضخّم.

نمو الأجور في أوروبا الشرقية

في آسيا والمحيط الهادئ، لطالما كان نموّ الأجور المرتفع متأثراً بالنموّ المحقّق في الصين قبل تفشّي الجائحة، وقد تراوح بين 3 و5%. لكن في العام 2020 تباطئ نمو الأجور الحقيقية إلى 1%، وإذا استثنيا الصين يصبح النمو سلبياً ويصل إلى -1.7%. في العام 2021، حقّقت المنطقة قفزة كبيرة، إذ ارتفع نموّ الأجور الحقيقية إلى 3.5% مدفوعاً بعودة النشاط إلى الصين، قبل أن يعاود التباطؤ إلى 1.3% في النصف الأول من العام 2022. 

نمو الأجور في آسيا والمحيط الهادئ

في آسيا الوسطى والغربية، حقّقت الأجور الحقيقية نمواً سريعاً نسبياً منذ العام 2010، قبل أن يتباطئ هذا النمو قليلاً قبل تفشّي الجائحة. لكن في العام 2020 انخفضت معدّل النمو إلى -1.6% نتيجة الجائحة، قبل أن يحقّق قفزة كبيرة في العام 2021 وصلت إلى 12.4%، قبل أن يتراجع مجدّداً إلى 2.5% في النصف الأول من العام 2022 متأثراً بارتفاع معدّلات التضخّم عالمياً.

نمو الاجور في آسيا الوسطى والغربية

في أفريقيأ، تُعدّ إحصائيات الأجور غير مكتملة في العديد من البلدان، وفي بعض الأحيان تسجّل تأرجحات كبيرة ومفاجئة. مع ذلك، تشير الأدلة المستقاة من الإحصائيات المتوفرة إلى تسجيل نموّ سلبي في الأجور الحقيقية في السنوات التي سبقت الجائحة. ومع بدء تفشّي الجائحة في العام 2020، شهدت بلدان القارة الأفريقية انخفاضاً حاداً في نمو الأجور الحقيقية وصل إلى -10.5%. استمر النموّ السلبي في السنوات التالية ولكن بأقل حدّة إذ بلغ -1.4% في العام 2021، ونحو  -0.5% في النصف الأول من العام 2022. 

نمو الأجور في أفريقيا

في البلدان العربية، كما في أفريقيا، تُعد إحصائيات الأجور غير مكتملة ومحدودة. إلا أن البيانات القليلة المتاحة تبيّن حصول نمواً ضعيفاً في الأجور في السنتين اللتين سبقتا تفشّي الجائحة تراوحت بين 0.4% و2%. أما في العام 2020 فقد تراجع النموّ إلى 0.8%، ومن ثم إلى 0.65% في العام 2021، قبل أن يرتفع بشكل طفيف إلى 1.2% في النصف الأول من العام 2022. 

نمو الأجور في البلدان العربية

الأجور تتآكل عالمياً

يبدو واضحاً من هذه الإحصائيات – مع بعض الاستثناءات – أن النموّ الحقيقي للأجور كان ضعيفاً حتّى قبل تفشّي جائحة كورونا وتوقّف الاقتصاد العالمي، وقبل اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية وارتفاع أسعار السلع الأساسية. في الواقع، تبيّن سلسلة «تقرير الأجور العالمية» أن «متوسّط نمو الأجور تخلّف عن متوسّط نمو إنتاجية العمل منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي في العديد من الاقتصادات المتقدّمة الكبيرة». بمعنى آخر، لم تترافق زيادات العمل والإنتاج مع زيادة متساوية في نمو أجور العمّال. وهو ما يُعبّر عن المعضلة الأساسية في الرأسمالية التي تنتعش ويتراكم فيها رأس المال نتيجة استغلال قوّة العمل والاقتطاع من الأجور.

الأجور الاسمية لم تعدّل في العديد من البلدان بما يتماشى مع الارتفاع المستمرّ في كلفة المعيشةتبيّن الأرقام أن «نمو الأجور الحقيقية في 52 دولة مرتفعة الدخل كان أقل من نمو الإنتاجية منذ العام 2000». وفي حين أدّى الانخفاض الحادّ في نمو إنتاجية العمل خلال العام 2020 إلى تقليص الفجوة مؤقّتاً، إلّا أن عودة الإنتاجية بعد انحسار الجائحة وتأكل الأجور الحقيقية في النصف الأول من العام 2022، أدّى إلى زيادة الفجوة مجدّداً». في الواقع، وصلت الفجوة بين نموّ الإنتاجية ونموّ الأجور إلى نحو 12.6% في العام 2022، وهي أوسع نقطة لها منذ بداية القرن الواحد والعشرين. 

كلٌ لا يدفع بحسب دخله

غالبًا يناقش ارتفاع التضخّم كما لو أن الزيادة في تكلفة المعيشة تؤثّر على جميع الأسر بالتساوي. في حين تبيّن إحصاءات الأجور العالمية أن ارتفاع التضخم يمكن أن يكون له تأثير أكبر على تكلفة معيشة  الأسر المنخفضة الدخل، التي تنفق معظم دخلها المُتاح على السلع والخدمات الأساسية، التي تشهد عموماً زيادات في الأسعار أكبر من الزيادة في أسعار السلع غير الأساسية.

في المكسيك، على سبيل المثال، تنفق الـ10% من الأسر الأقل دخلاً 42% من دخلها على الغذاء، بينما تنفق الـ10% من الأسر الأعلى دخلاً 14% فقط على الغذاء.

نمو الأجور الحقيقية في 52 دولة مرتفعة الدخل كان أقل من نمو الإنتاجية منذ العام 2000أيضاً يتبيّن بالمقارنة أن أسعار المواد الغذائية والسكن والنقل ارتفعت بوتيرة أعلى من ارتفاع مجمل الأسعار في 100 بلد.  وقد شهدت الأسر المنخفضة الدخل زيادة في تكلفة معيشتها بنسبة 1 إلى 4% أعلى من الأسر المرتفعة الدخل. وهذا يعني أنه حتى لو تمّ تعديل الأجور لتتماشى مع ارتفاع التضخم، فإن الأسر المنخفضة الدخل ستستمر بالمعاناة في العديد من البلدان نتيجة  تآكل قدرتها الشرائية.

وفي حين يُعدُّ الحدّ الأدنى للأجور أداة لحماية الدخل والقوة الشرائية للعمّال ذوي الأجور المنخفضة، يتبيّن أنها لم تحقّق الغاية منها في مختلف البلدان، إذ أدّى تضخّم الأسعار المتسارع، إلى انخفاض الحدّ الأدنى للأجور بالقيمة الحقيقية حتى عند قياسه مقابل متوسط مؤشر أسعار الاستهلاك. 

وبالاعتماد على بيانات من 28 دولة تمثّل مناطق وفئات دخل مختلفة، تبيّن الإحصاءات أن فاتورة الأجور انخفضت في 20 بلداً بنسبة تتراوح بين 1 و26% في خلال العام 2020، أو بمتوسّط 6.2% لمجمل البلدان المدروسة، وهو ما يوازي 4 أسابيع من الأجور في العام 2020 وأسبوعين في العام 2021. ما يعني ضمناً أن العمّال في هذه البلدان عملوا شهراً ونصف الشهر في هذين العامين من دون أي أجر فعلي.