هل تغيّر الصندوق حقّاً؟
- الصندوق لم يتغيّر بل عرف كيف يرتدي ثوباً جديداً يُزيّن فيه سياساته التقشّفية
- تلعب المشروطية الناعمة دوراً تخفيفياً ولكنها لا تبني أنظمة للحماية الاجتماعية
عرف صندوق النقد الدولي تغيّرات كبيرة وعميقة منذ تأسيسه في عام 1944، فهو أبعد ما يكون عن الجمود الذي يتهيّأ للكثيرين في الوهلة الأولى. فهذه المنظمة الدولية تأسّست في نهاية الحرب العالمية الثانية، بهدف تأمين الاستقرار النقدي عالمياً على أنقاض الانهيارات الاقتصادية المدفوعة باستخدام الدول أسعار الصرف للتنافس فيما بينها. فقد كان صندوق النقد يُقرِض بشكل أساسي دول الشمال، ويتدخّل بشكل ظرفي وسريع لمنع حدوث أزمات. إلّا أن هذا الدور تغيّر بشكل عميق في ثمانينيات القرن الماضي مع حلول النيوليبرالية كنهج اقتصادي مُهيمن في الدول الغنية، إذ تحوّل الصندوق إلى أحد أهم الأدوات من أجل نشر هذه الأيديولوجية الاقتصادية في جميع أنحاء العالم مُستغلّاً أزمة الديون التي عصفت بالدول النامية. حينها، اضطرت دول عدّة من أفريقيا وأميركا اللاتينية وبعض الدول العربية للجوء إليه، بعدما تعثّرت أو كانت على وشك التعثّر عن سداد ديونها، فاكتسب الصندوق صفته كمقرض الملاذ الأخير، وفرض على الدول المقترضة ما كان يُسمّى ببرامج التكييف الهيكلي، وهي حزمة من السياسات القاسية التي هدفت إلى تفكيك أنظمة الرعاية الاجتماعية بشكل خاص وتغيير الأنظمة الاقتصادية التي كانت قائمة على دور أساسي للدولة. هدفت سياسات الصندوق إلى تحرير حركة الرساميل، وتخفيف النظم التي تقوّض السوق، والخصخصة والانفتاح الاقتصادي، وكان لهذه السياسات نتائج كارثية على العديد من الدول، وتسبّبت بعكس التقدّم المُحرز في الستينيات والسبعينيات من حيث مؤشّرات الفقر واللامساواة. بين عام 1980 وبداية 1990 ارتفع عدد الفقراء في أميركا اللاتينية من 130 مليون إلى 180 مليون شخص، وساهمت برامج التكييف الهيكلي في غرب أفريقيا بتأزيم جائحة الإيبولا القاتلة كونها أدّت إلى تقليص دراماتيكي في عدد العاملين في القطاع العام، من بينهم العاملين في الصحة.
شكلّت الأزمة المالية عام 2008 والاستجابة الكارثية لها صدمةً لإعادة التفكير في سياسات صندوق النقد الدولي ونجاعة تدخّلاته وتأثيرها على الرفاه الاجتماعي. وشكّلت الثورات العربية الفرصة الأولى لتسويق الوجه الجديد للصندوق عبر انضمامه إلى جهود دعم دول الثورات والانتفاضات من أجل إتمام "الانتقال الديموقراطي" مع شراكة "دوفيل" التي جمعت دول مجموعة الثمانية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي بالإضافة إلى مجلس التعاون الخليجي. فتحت هذه الشراكة الباب لعودة صندوق النقد الدولي إلى تونس، ولكن هذه المرّة كأحد مموّلي الانتقال الديموقراطي. أمّا اللحظة المفصلية الثانية فقد أتت عقب النتائج الكارثية للبرامج الإنقاذية التي قادتها الترويكا في أوروبا (أي صندوق النقد والمفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي) في عدد من البلدان الأوروبية، وخصوصاً اليونان، التي شهدت انهيارات اقتصادية عقب الأزمة المالية. والتجلّي الأوضح لذلك هو سماح الصندوق بنشر دراسة كتبها باحثون لديه بعنوان "ذروة بيع النيوليبرالية" ينتقدون فيها الترويج المُفرط للنيوليبرالية من قبل الصندوق كونها أدّت الى تعميق اللامساواة وتهديد النمو المستدام.
عالم ما بعد الأزمة: التغيّر في الخطاب
شكّلت تقارير مكتب التقييم المستقل، وهو مؤسّسة تابعة للصندوق ولكن ذات إدارة مستقلّة تُعنى بتقييم عمله، أحد أبرز مؤشّرات التغيير التي شهدتها هذه المؤسّسة، إذ أن نتائج التقييم تأتي غالباً لتعكس تغييراً ما طرأ داخل أجواء الصندوق أو محفِّزاً لها من أجل إعادة النظر بسياساته وتدخّلاته. فإدارة الصندوق مُجبرة على التفاعل مع توصيات التقرير وعليها أن تقدّم خطّة عمل من أجل تطبيقها. وهذا لا يعني بالضرورة أن الإدارة ستطبّق التوصيات بحذافيرها، بل في الكثير من الأحيان تفسّرها بما يتناسب مع توجّهات وانحيازات مجلسها التنفيذي، الذي هو انعكاس لمصالح واتجاهات الدول الأقوى في الصندوق.
في تقييمه لنفسه، أشار الصندوق إلى أن سياسات التقشّف لم تبيّن فعالية تامّة للتعافي بل زادت من التداعيات السلبية للأزماتفي عام 2014، خلص التقييم حول استجابة صندوق النقد الدولي للأزمة المالية إلى أن "دعم الصندوق لسياسات الضبط المالي (أي التقشّف) في بعض الاقتصاديات المُتقدّمة كان سابق لأوانه، وهذه السياسات لم تبيّن فعالية تامّة للتعافي وزادت من التداعيات السلبية"، وأضاف أنه "كان بمقدور السياسة المالية أنّ تكون أكثر فعالية في تحفيز الطلب (أي سياسة توسعيّة وغير تقشّفية)، عدا أن صندوق النقد الدولي لم يفصّل نصائحه بشكل كافٍ وفق ظروف البلدان المختلفة".
في عام 2016 صدر تقييم آخر حول أداء الصندوق في أزمات اليونان وإيرلندا والبرتغال، وكان قاسيًا في استنتاجاته التي خلصت إلى أن الصندوق افتقر للعمق التحليلي وفشل في تحديد الحلول المناسبة، كما أن موظّفي الصندوق كانوا قريبين جدّاً من الخطّ الرسمي الأوروبي ما قوّض من فعاليتهم واستقلاليتهم. بالإضافة إلى ذلك، قال التقرير إن الصندوق أخطأ في منح اليونان القرض في 2010 من دون البحث في إعادة هيكلة الديون غير المستدامة، وأن دور مجلس الإدارة كان سطحياً في قرارته، فضلاً عن أن برامج الصندوق لليونان والبرتغال بالغت بتقديراتها التفاؤلية لأثرها على النمو (وهذه ملاحظة وجِّهت أيضاً في تقييم صدر السنة الماضية حول برامج الصندوق قبل عام 2018). أتت تقارير مكتب التقييم المستقل للتأكيد على الانتقادات التي طالت نصائح وتدخّلات صندوق النقد الدولي، ليس عقب الأزمة المالية العالمية فحسب، بل أيضاً للفترة التي سبقتها.
حديث متزايد عن اللامساواة
ساهمت هذه التطوّرات إلى تغيّر ملحوظ في خطاب قادة صندوق النقد الدولي، وانعكست بشكل متزايد في العديد من الدراسات التي نشرها باحثو المؤسّسة. شكّل قدوم كريستين لاغارد عام 2011 على رأس المؤسّسة بداية فترة التحوّل هذه. ففي مؤتمر دافوس عام 2013 صرّحت لاغارد: "الآن، لدينا جميعاً - وصندوق النقد الدولي ضمناً - فهماً أفضل بأن توزيعاً أفضلاً للدخل يسمح باستقرار اقتصادي أفضل ونمو اقتصادي أكثر استدامة". وتبع هذا التصريح صدور دراسة عن الصندوق عام 2014 بعنوان "إعادة التوزيع، اللامساواة والنمو" لتبيّن عكس ما روَّج له الفكر النيوليبرالي، فالبيانات الاقتصادية المُتاحة تفيد أن إعادة التوزيع لا تساهم بإضعاف النمو.
تلا ذلك إقدام الصندوق على ترجمة هذا التحوّل الى خطوات عملية، وتحديداً من خلال وظيفته الرقابية أي تقارير الفصل الرابع. فمشاورات الفصل الرابع هي من أساسيات عمل الصندوق، فهو يجري رقابة سنوية على مستوى البلدان من أجل تحديد المخاطر والاختلالات التي قد تهدِّد الاستقرار المالي والنقدي والنمو الاقتصادي، وعلى أثرها يطرح توصيات سياساتية للبلدان، عادة ما تشكِّل أساساً لمشروطيات الصندوق في برامج القروض.
أطلق الصندوق تقارير تجريبية ضمن الفصل الرابع تتناول اللامساوة في العشرات من البلدان، وتطرّق إلى مسألة اللامساواة وعمقها واقترح سياسات لمعالجتها، من ضمنها تصاعدية الأنظمة الضريبية والإدماج المالي وأثر رفع الضريبة على القيمة المضافة. ولكن لم تُجرَ هذه التقييمات بشكل مستمرّ ومنهجي، بل بشكل متفرّق وفق البلدان وتفضيلات رؤساء البعثات ومدى إعطاءهم الأهمية لهذه المسألة. استمرت الجهود داخل الصندوق من أجل إعطاء المسألة الاجتماعية حجماً أكبر عبر خطوات أخرى مثل إصدار أدلة للموظّفين حول كيفية التعاطي مع اللامساواة الاقتصادية والجندرية في تقييمهم لأوضاع البلدان المختلفة. ولكن تمثّلت الخطوة الأهم في اعتماد صندوق النقد الدولي للمرّة الأولى عام 2019 استراتيجية حول الإنفاق الاجتماعي، تفصّل نظرة الصندوق لهذه المسألة وأهمّيتها في البرامج، كما تستعرض المعايير التي يجب اتباعها لتحديد متى يُفترض وضع مشروطيات متعلّقة بالإنفاق الاجتماعي داخل برامج الصندوق.
الصندوق وأزمة كوفيد-19
مثّلت استجابة صندوق النقد الدولي لأزمة كوفيد-19 (تحديداً في عام 2020) انعطافة بالمقارنة مع تعاطيه مع الأزمات السابقة، وخصوصاً أزمة 2008. فكانت رسالة الصندوق إلى الدول أن ينفقوا قدر المستطاع، ولا سيما على حماية الفئات الأكثر هشاشة من تداعيات الأزمة. كما جنّد الصندوق مبالغ كبيرة وصلت إلى 107 مليارات دولار بين آذار 2020 وآذار 2021 على شكل قروض طارئة وسريعة غير مشروطة لتمكين الدول من الاستجابة للجائحة من دون أن تتدهور احتياطاتها.
يُبيّن الصندوق في إحدى دراسته أن إعادة التوزيع لا تساهم بإضعاف النمو، على عكس ما يروِّج له الفكر النيوليبراليأيضاً، أقدم الصندوق على إصدار 650 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة (أكبر إصدار في تاريخ الصندوق)، وتوزّعت على الدول وفق الكوتا الخاصّة بها لتتصرّف بها من دون أي شروط، وكان ذلك بمثابة ضخّ سيولة في الاقتصاد العالمي كما تفعل المصارف المركزية. بالإضافة إلى ذلك نشر الصندوق سلسلة إصدارات تقترح على الدول إجراءات ضريبية لمواجهة الجائحة والتعافي، مثل الضريبة على الأرباح الاستثنائية التي تمّ جنيها خلال الجائحة والتلميح إلى اللجوء للضريبة على الثروة.
جذبت كلّ هذه الخطوات الاستثنائية الانتقادات من اقتصاديين محافظين اتهموا صندوق النقد بالتحوّل إلى وكالة عون والتخلّي عن دوره كمقرض مما يضرّ بمصداقيته، وذهبت الفاينشل تايمز إلى القول إنّه تمّ دفن التقشف.
مراوحة في النهج
الصورة أكثر تعقيداً مما تبدو عليه. لم يكن التغيّر المُسجّل في خطاب الصندوق تعبيراً عن تغيّر جذري بطريقة عمله ونوع السياسات التي يدفع البلدان المختلفة إليها بواسطة برامجه. ففي خلال العقد الأخير تعلّم الصندوق أهمية الإعلام والتواصل بعد عقود من عزل نفسه عن الرأي العام، واتقن صياغة رسالته الإعلامية. بمعنى آخر، حافظ الصندوق بشكل كبير على نهجه التاريخي وإنما بصورة مُلطّفة. صحيح، أن الانتقادات من داخل الصندوق كانت مُستبعدة في الثمانينيات والتسعينيات، إلّا أن صدورها اليوم لم يُترجم بشكل ملحوظ في تدخّلاته على مستوى البلدان بعيدًا من المقرّ في واشنطن.
دور الصندوق بعد الثورات العربية
مثّلت الثورات العربية أول الانعكاسات الشعبية لأزمة 2008 المالية والاقتصادية، وعبّرت أبرز شعاراتها عن رفض واضح للنموذج الاقتصادي المُتبع منذ عقود في المنطقة والذي ساهم فيه الصندوق بشكل كبير. ليس صدفة أن تندلع الموجات الاحتجاجية الأبرز في بلدان خضعت لبرامج التكييف الهيكلي للصندوق في الثمانينيات والتسعينيات مثل تونس ومصر والمغرب والأردن، وأسّست لاقتصاديات هذه البلدان عشية الثورات والاحتجاجات. شكّلت الموجات الاحتجاجية ضربة للسياسات التي اتبعها الصندوق في المنطقة ودفعت به لأن يكون جزءاً أساسياً من الجهود الدولية لتمويل المرحلة الانتقالية. في عام 2011، أعلن اجتماع مجموعة الثمانية في فرنسا عن "شراكة دوفيل مع الدول العربيّة في حالة انتقاليّة"، وهي مبادرة أُريد لها أن تكون عالمية لدعم الدول التي تعيش مرحلة ديمقراطية انتقالية من ضمنها الأردن. جرت المصادقة على المبادرة ودُعِمت بواسطة أدوات التمويل التي يؤمّنها صندوق تعاون الخليج وصندوق النقد الدولي. بات إطار عمل "دوفيل" الأداة والمظلّة التي سمحت لصندوق النقد الدولي بالدخول من جديد إلى المنطقة مع برنامج في الأردن عام 2012، وآخر في تونس عام 2013، ومصر في عام 2016، لتدخل هذه البلدان في سلسلة برامج على مدى سنوات حتّى يومنا هذا.
ما نجحت فيه شراكة "دوفيل" - ودور الصندوق فيها أساسي - هو فصل المسار السياسي للثورات والانتفاضات عن المسار الاقتصادي. إذ أن برامج الصندوق في هذه الدول فرضت سلسلة من السياسات التقشّفية التي استهدفت بشكل أساسي القطاع العام وأنظمة الدعم والأنظمة الضريبية مع نكهة اجتماعية سنتطرّق لها لاحقاً.
فصلت "الشراكة" التي أقامها الصندوق ومجموعة الثمانية مع الدول العربية المسار السياسي للثورات والانتفاضات عن المسار الاقتصادي أدت السياسات التي دفع بها الصندوق في هذه البلدان الى تعميق الأزمة الاجتماعية وتأجيج اللامساواة. تركّزت سياسات الصندوق في الأردن على رفع الدعم، إذ ألغي دعم الكهرباء كلّياً تحت حجة أنه غير فعّال ويخدم الأغنياء، وعوضاً عن ذلك شرعت الحكومة في استخدام جزء من الأموال التي تم توفيرها من أجل استهداف الفقراء عبر شبكات الأمان الاجتماعي. فكانت النتيجة أنه بين عامي 2012 و2017 انخفض اجمالي الدعم على السلع بنسبة 88.4% بينما انخفضت المساعدات الاجتماعية المستهدفة أيضاً بنسبة 9% عوضاً عن الارتفاع كما وعدت به الإصلاحات. وفي مصر أيضاً أزيل الدعم على الكهرباء والغاز، بالتوازي مع تعويم العملة ما أدّى إلى ارتفاع جنوني بالأسعار: على سبيل المثال ارتفعت أسعار الفواكه والخضار بنسبة 203% بين عامي 2014 و2019، وفي سنة 2018 ارتفعت تعرفة المترو بنسبة 600%، وشهدت مصر ارتفاعاً بنسبة الفقر من 27.8% عام 2015 إلى 32.5% عام 2018. أمّا في تونس فقد أدّت السياسات التي دفع بها الصندوق إلى تخقيض الضرائب على الشركات وزيادة الضرائب غير المباشرة، فأدّى ذلك إلى انخفاض مساهمة الشركات في العوائد الضريبية بنسبة 37% بين عامي 2010 و2018 بينما ارتفعت مساهة الأسر في الفترة نفسها بنسبة 10%.
أيضاً تركّز الجهد في الدول الثلاث على تخفيض عدد العاملين في القطاع العام أو ما يُعرف بفاتورة الأجور تحت حجج كثيرة، من بينها أن شروط العمل فيه سخيّة جدّاً ما يؤدّي إلى عزوف العمّال عن العمل في القطاع الخاصز وتحت حجّة تشجيع عمل النساء اللواتي يذهبن للقطاع العام بسبب تأمين حدّ أدنى من شروط العمل اللائقة، فتخفيض التوظيف فيه وشروط العمل يمكن أن يدفع النساء إلى البحث عن عمل في القطاع الخاص مما سيزيد من نشاطهن الاقتصادي! ودفع الصندوق بهذا الاتجاه عبر سياسات عدّة: في مصر عُدِّل قانون العمل في القطاع العام ليسمح بصرف العاملين ضمن فترة تجربة تدوم 6 أشهر، وأعطت الصلاحية للدولة بتغيير مكان عمل الموظّفين تحت تهديد تخفيض أجرهم في حال الرفض. في الأردن تعهّدت الحكومة بموجب برنامج صندوق النقد الدولي بإبقاء الزيادة الاسميّة في الأجور في القطاع العام عند نسبة 1.25% بين عامي 2017 و2019 في حين وصلت معدّلات التضخّم إلى نحو 3% ما خفَّض عملياً من قيمة الأجور.
هذه عيّنة من السياسات التي دفع بها صندوق النقد في هذه البلدان. والمفارقة أن الأردن تطبّق برامج الصندوق منذ 2012 من دون انقطاع، ومصر مُقدمة على برنامجها الثالث منذ 2015، وتونس تفاوض الصندوق حول برنامج مرتقب. كل ذلك من دون الوصول إلى نتائج ملموسة تسمح لاقتصاديات هذه الدول بالاستقرار والنمو وتحسين الأوضاع الاجتماعية بحدّها الأدنى.
أرضيّة الإنفاق الاجتماعي: المشروطية الناعمة
غالباً ما يزعم الصندوق أنه مهتمّ بالمسألة الاجتماعية ومعالجتها في البلدان الثلاث المذكورة أعلاه، عبر إدخاله لمشروطية تعنى بالحماية الاجتماعية، ولكنها تقتصر على "أرضية الإنفاق الاجتماعي". يتم ذلك عبر الاتفاق بين الحكومة والصندوق على مبلغ محدّد من الإنفاق لا يجب النزول تحته عوضاً عن أن يكون نسبة من الإنفاق العام. وتحيد بنود هذا الإنفاق في إطار البرنامج، إذ يمكن أن يتضمّن برامج مكافحة الفقر، وبرامج شبكات الأمان الاجتماعي، والإنفاق على برامج تخصّ القطاع التربوي مثل الوجبات المجّانية للتلاميذ، وبرامج تلقيح وبرامج صحية بشكل عام، إلخ...
لا "تعاقب" الدول على عدم تنفيذ شروط الإنفاق الاجتماعي بوقف البرامج معها كما هي الحال فيما لو لم تلتزم بشروط التقشّفولكن تشوب هذه الأرضية نواقص عدّة تجعلها في الكثير من الأحيان من دون تأثير. فأولاً، لأنها تندرج تحت ما يُسمّى بالمشروطية الناعمة، ما يعني أن عدم تنفيذها لا يُهدّد استمرار التمويل، على عكس المشروطيّات المتعلّقة بتخفيض الإنفاق العام، أو تحقيق فوائض في الميزانية العامة، أو تلك المُتعلّقة بإلغاء الدعم التي يمكن أن توقف البرنامج برمّته وتعلّق التمويل كما حصل مع تونس. بالتالي إنها مشروطية من دون أنياب.
تشير الأبحاث إلى أنه على الأكثر تم تنفيذ نصف الأهداف المتعلّقة بأرضية الإنفاق الاجتماعي في البرامج المُمتدة بين عامي 2000 و2014. ولكن الأهم هو أن أرضيات الإنفاق الاجتماعي هذه تنوجد ضمن برامج تقشّفية حيث تكون الأولوية لتخفيض الإنفاق العام من أجل تأمين استمرارية القرض الممنوح من الصندوق، وغالباً ما تجد الحكومات نفسها في وضع صعب تضطر إلى التضحية بالإنفاق الاجتماعي من أجل تخفيض العجز أو تحقيق الفوائض الأولية التي ينص عليها البرنامج. بالإضافة إلى ذلك تكون هذه الأرضيّات غير كافية من أجل تأمين الإنفاق الاجتماعي المناسب، وفي غالبية الأحيان يقتصر دورها على حماية إنفاق اجتماعي متدنٍ في الأصل وأن تحول دون تدنيه أكثر في ظل البرنامج التقشّفي الذي يفرضه الصندوق. لذلك تلعب هذه المشروطية الناعمة دوراً تخفيفياً في أفضل الحالات إذا نجحت، ولكنّها لا تبني أنظمة حماية اجتماعية وبنى تحتية اجتماعية.
تقشّف حتى في الجائحة
كانت الانعطافة التي أخذها الصندوق عام 2020 موجزة جدّاً. وعلى الرغم من خطاب إدارته حول أهمّية إرساء العدالة الضريبية، والحديث عن الضريبة على الثروة وأهمية الإنفاق الاجتماعي وبناء أنظمة الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، لم يتخلَ صندوق النقد عن ما أجاده ودعى له لسنوات عديدة، أي التقشّف. ففي خضم الجائحة، لم يتوانَ الصندوق عن التوصية بالضبط المالي (أي التقشّف) في اتفاقيات القروض الطارئة وغير المشروطة التي لجأت إليها دول عدّة.
بين آذار 2020 وآذار 2021، تضمّنت 85% من القروض المُخصّصة للاستجابة للجائحة توصيات للدول بالعودة إلى التقشّف بعد أن تخفّ وطأة الأزمة الصحّية. وبتناقض صريح مع دعوته الدول إلى إرساء أنظمة ضريبية أكثر تصاعدية، نصح الصندوق 14 دولة تلقّت القروض أعلاه بزيادة الضريبة على القيمة المضافة، أو توسيع نطاقها أو إلغاء الاستثناءات على سلع معيّنة مثل السلع الأساسية. كذلك ذهب الصندوق في الإكوادور للقول إن زيادة الضريبة على القيمة المضافة وتخفيض كتلة الأجور في القطاع العام سيقلّص اللامساواة!
أمّا في السنة الثانية من الجائحة، أي بين 2021 و2022، تراجع الصندوق عن القروض الطارئة ليعود إلى عمله المُعتاد أي البرامج التقليدية، وتبيّن أن 87% من هذه القروض تضمّنت مشروطيات تقشّفية تتعلّق بتخفيض الإنفاق نسبة للناتج المحلّي، في حين أن معظم الدول النامية ما زالت تعاني من آثار الجائحة. فمثلاً تضمّن البرنامج المُبرم مع كينيا عام 2021 تجميداً لأجور عمّال القطاع العام على 3 سنوات، كما تضمّن توسيع قاعدة الضريبة على القيمة المضافة لتشمل الغاز المُستخدم للطبخ وسلع غذائية، وطُبّقت هذه الإصلاحات في وقت كانت تتصاعد فيه أسعار الغذاء والطاقة عالمياً.
فاقم الغزو الروسي لأوكرانيا والعقوبات التي فرضتها دول الناتو على روسيا من الأزمة الاقتصادية، وعزّزت دفع صندوق النقد الدول نحو التقشّف. ففي اجتماع مجموعة العشرين في بالي في تموز/ يوليو 2022، ألقت المديرة العامة للصندوق، كريستالينا جيورجييفا، كلمة حول ما يجب أن تفعله الدول لمواجهة الأزمة الاقتصادية وأزمة الديون وكان بمثابة دعوة لجميع الدول لتطبيق التقشّف، وشدّدت على المصارف المركزية أن تتبع سياسية نقدية متشدّدة، وعلى السياسة المالية أن تتبعها من أجل التخفيف من الطلب وكبح جماح التضخّم، وشدّدت أيضاً على أن أي إجراء جديد لا يجب أن يزيد من عجز الخزائن العامة، بالتالي كان إعلاناً صريحاً لربط الأحزمة، ومرّة أخرى سيكون العمّال وعموم المجتمع من سيدفع ثمن كبح جماح تضخّم سببه الرئيسي ليس طلباً مفرطاً بل يكمن في مشاكل متعلّقة بالعرض وبالحرب القائمة.
تغيير الثوب لا النهج
هل تغيّر صندوق النقد الدولي؟ ربّما، لكن المؤكّد أنه أثبت قدرته على التأقلم مع المتغيّرات التي هدّدت راهنيته في الحقبات المختلفة. من الأزمات العميقة التي مرّت بها الرأسمالية مثل الأزمة المالية العالمية في 2008 إلى الجائحة في 2020 وحاليًا مع أزمة الديون والتضخّم عالمياً، لم يعد الصندوق فقط إلى محور النظام المالي والاقتصادي العالمي فحسب، بل يمكن أيضاً المحاججة أنه بات الآن أقوى مؤسّسة دولية عالمية، ويلعب دوراً أساسياً في تحديد الاستجابة للأزمات والتحديّات التي تواجه النظام الاقتصادي العالمي. حالياً يتبيّن أن إقراض الصندوق للدول النامية وصل إلى ذروته وسجّل أرقاماً قياسية لم نشهدها من قبل.
نجح الصندوق بالاستيلاء على القضايا الاجتماعية التي طرحتها الحركات الاجتماعية واستخدمها ليتوسّع نحو مجالات خارج صلاحيّتهعلى الرغم من التغيّرات الكثيرة التي طرأت على الاقتصاد العالمي وعمليات الصندوق وطريقة استجابته للانتقادات وتعاطيه مع منظّمات المجتمع المدني وغيرها، أبقى الصندوق على خبزه اليومي، أي السياسات التقشّفية التي تشجّع العرض وتضغط على الطلب، وتختار الإجراءات الأسهل من أجل تخفيض العجز وتحقيق الفوائض المالية. فمن الأسهل بكثير رفع الضريبة على القيمة المضافة بدلاً من إرساء ضريبة على الثروة وتعزيز التصاعدية في الضرائب المباشرة، والأسهل أيضاً تخفيض حجم القطاع العام بدلاً من تطويره، أو رفع الدعم واستبداله ببرامج لاستهداف الأكثر فقراً عوضاً عن إرساء أنظمة حماية اجتماعية تضمن الجميع. وسهل جدّاً اقتراح مقاربات تقنية جُرِّبت في كل البلدان وفرضها مجدّداً عوضاً عن فهم الاقتصاد السياسي لكل بلد واقتراح السياسات المناسبة انطلاقاً من هذا الفهم.
إذا كان السؤال حول تغيّر الصندوق يقبل النقاش، فالأكيد أن الصندوق يتوسّع بشكل مُقلق إلى مجالات عدّة لم تكن تاريخياً ضمن صلاحيّته أو خبرته التقنية، إذ نجح بشكل بارع بالاستيلاء على القضايا الاجتماعية التي طرحتها الحركات الاجتماعية ومنظّمات المجتمع المدني عبر تبنّيها واستخدامها لكي يوسّع نطاقه. كما ذكرنا أعلاه، أصبح الصندوق يتدخّل في تحديد سياسة الحماية الاجتماعية، والتطرّق إلى القضايا الجندرية، والتغيّر المناخي وغيرها من القضايا، وإدماج كلّ هذه المحاور الأساسية ضمن أطره التقشّفية. أدّى احتضان هذه القضايا إلى قلب الطاولة ليدمج الصندوق القضايا الجندرية والمناخية واللامساوة في إطاره التقشّفي بدلاً من إعادة النظر بالتقشّف.