النفاق المُنظَّم

  • غلبت الروح النيوليبرالية على شروط برنامج الصندوق في مصر منذ عام 2016 
  • يلجأ الصندوق إلى خطابٍ مخالف لأفعاله للإبقاء على إجراءات يجري انتقادها ولا يرغب في تغييرها

حتّى عام 2008، كان خطاب صندوق النقد مُتسقاً مع أفعاله إلى حدّ كبير، فكان الصندوق يُبَشِّر بالمبادئ النيوليبراليّة خطاباً وممارسة أينما ذهب، والتي تشمل حرّية حركة رؤوس الأموال، وسياسات ماليّة محافظة بهدف سدّ عجز الموازنة، وتحرير أسعار الصرف وما يتبعها من سياسات نقديّة إنكماشيّة لمعالجة الآثار التضخميّة لهذا التحرير، فضلاً عن تخفيض معدّلات الضرائب على الأرباح وزيادتها على الاستهلاك، تجسيداً للإيمان النيوليبرالي بأنّ العرض هو الذي يخلق الطلب وليس العكس.

لكن مع بدء أزمة 2008 لم يدخل النظام النيوليبرالي المُهيمن عالمياً في أزمة اقتصاديّة عنيفة فحسب، بل أيضاً في أزمة شرعيّة وهيمنة خطابيّة. تمّ ردّ الاعتبار لسياسات كينزيّة الطابع في دول الشمال العالمي تجلّت في خفض أسعار الفائدة لمستويات تقترب من الصفر، وبرامج تسهيل كمّي وتوسّع كبير في الإنفاق بالعجز لمجابهة التباطؤ الاقتصادي. ففي الفترة الممتدّة بين عامي 2008 و2013، بلغ متوسّط العجز في الولايات المتّحدة 6,8% بعد أنّ بلغ متوسّطه 1,8% في السنوات السبع السابقة على الأزمة. مع صعوبة الدفاع عن النموذج النيوليبرالي خطابياً، بدأ صندوق النقد رحلة مراجعة أركان عقيدته النيوليبراليّة التي شملت الدفاع عن الضرائب التصاعديّة وتقليل اللامساواة وتشجيع عمل النساء في إطار ما يُسمّى النموّ الاحتوائي، وأخيراً بدأ صندوق النقد يُشكّك في نجاعة الحرّية المُطلقة لحركة رؤوس الأموال على حساب أي اعتبار آخر.

تخطّت الوفورات الناتجة عن خفض الدعم الإنفاق على الدعم النقدي ما أدّى إلى زيادة معدّلات الفقرلكن عندما ننظر إلى ممارسات الصندوق على الأرض ونتائج سياساته نجد استمرار تمسّكه شبه العقائدي بالمبادئ النيوليبراليّة، ما أسفر عن فجوة مُتزايدة بين خطاب الصندوق وممارساته. على سبيل المثال، وجدت في بحث أجريته مؤخّرًا أنّ شروط برنامج الصندوق (2016-2019) في مصر غلبت عليها الروح النيوليبراليّة، فمثلاً كلّ شروط البرنامج المُسبقة (وهي الشروط الأهمّ التي يجب تنفيذها قبل توقيع أي اتفاق) كانت شروطاً نيوليبراليّة تقليديّة، تقوم على إلغاء دعم الطاقة، وتحرير سعر صرف الجنيه المصري، وزيادة معدّل ضرائب الاستهلاك من 10% إلى 14%. وجد البحث أيضاً أنّ مكوِّن الحماية الاجتماعيّة في برنامج الصندوق شمل إجراءين رئيسيين، أولهما كان محدود التأثير جدّاً والآخر لم يُنفّذ بشكل فعّال، بحيث أدّت سياسات البرنامج النيوليبراليّة الأخرى إلى عكس النتائج المرجوة فيما يخصّ الإجراء الثاني.

يحتوي الإجراء الاجتماعي الأوّل للبرنامج على زيادة الإنفاق على الدعم النقدي المباشر للفئات الأكثر احتياجاً بنسبة 1% من الناتج المحلي الإجمالي (25 مليار جنيه مصري في ذلك الوقت)، وعلى الرغم من تنفيذ هذا الإجراء، فإنّ الوفورات الناتجة عن خفض أنماط الدعم المُعمَّم الأخرى ومعدّلات التضخّم المُرتفعة تخطّت زيادات الإنفاق على الدعم النقدي، ما أدّى إلى زيادة معدّلات الفقر عمّا كانت عليه قبل البرنامج وفقاً للإحصاءات الرسميّة نفسها. 

عادةً، يشير خطاب صندوق النقد الداعم للتحوّل من الدعم المُعمّم (مثل دعم الطاقة والغذاء) إلى الدعم الموجّه (مثل التحويلات النقديّة المباشرة)، إلى أنّ الدعم المُعمم يستفيد منه الجميع وبالتالي لا يصل لمستحقّيه حصرياً، على عكس الدعم الموجّه الذي تستفيد منه بشكل حصري الفئات الأكثر احتياجاً في المجتمع. لكن وجدت دراسة لمؤسّسة فريدريش إيبرت، عُرِضت نتائجها في ورشة عمل نظّمتها المؤسّسة في تونس في آذار/مارس 2022 (على أنّ تصدر في سبتمبر/ أيلول المقبل)، أنّ دعم الغذاء المُعمّم هو في الواقع دعم تدريجي ومنصف، أي تستفيد منه الفئات الاجتماعيّة المختلفة بقدر احتياجها له، وأنّ أثر دعم الغذاء المُعمّم في السيطرة على معدّلات الفقر أكبر بكثير من برنامج التحويلات النقدية التونسي. ووجدت أيضاً أنّ معدّل استهداف برامج التحويل النقدي يطال أقلّ من نصف المستحقّين، على عكس أنواع الدعم المُعمّمة التي تصل نسبة استهدافها إلى 100% بطبيعة الحال. على حد علمي لم تُطلَق دراسة شبيهة عن أنماط الدعم المختلفة في مصر، لكن لا يوجد سبب للظنّ أنّ النتائج سوف تختلف كثيراً بل غالباً سوف تكون أكثر حدّة في مصر بسبب زيادة معدّلات الفقر بالمقارنة مع تونس، ما يصعّب دقّة الاستهداف بسبب كثرة عدد مستحقّي الدعم المباشر، فضلاً عن تواضع جودة بعض المواد الغذائيّة المدعومة وصعوبة الحصول عليها، ما يستبعد ذاتياً القادرين من استهلاك السلع المدعومة.

أمّا الإجراء الاجتماعي الثاني فارتبط بزيادة مشاركة النساء في سوق العمل عن طريق زيادة عدد الحضانات العامّة المُدعّمة، بهدف تحرير النساء من مسؤوليّات الأمومة لفترة تسمح لهم بالذهاب إلى العمل. وعلى الرغم من كونه مكوِّناً مركزياً من مكوِّنات الحماية الاجتماعية في برنامج 2016، إلّا أنّه لم يتمّ بناء عدد كافٍ من دور الحضانة العامّة لإحداث أي تغيير جوهري يسمح بزيادة ملحوظة في مشاركة النساء في سوق العمل. بين عامي 2016 و2018، ارتفع عدد الحضانات الحكومية بنسبة 4.2% من 19,229 إلى 20,040 حضانة، بحسب الأرقام الرسميّة الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامّة والإحصاء (CAPMAS)، وهو معدّل مطابق للزيادة السكّانية في الفترة نفسها، وأقلّ من معدّل نموّ الناتج المحلّي الإجمالي في الفترة نفسها أيضاً.

على الرغم من الهدف المُعلن لتحسين نسبة مشاركة النساء في القوى العاملة من خلال توفير حضانات عامّة، فقد انخفض معدّل مشاركة النساء في القوى العاملة (أي نسبة العاملات من مجمل السكّان الإناث في سنّ العمل) بشكل حادّ منذ بدء البرنامج من 23% في عام 2016 إلى نحو 16% في عام 2019، وفقاً لموقع إحصاءات البنك الدولي. ثمّ انخفض مجدداً إلى 15% بعد عام 2020 على إثر جائحة كورونا. هناك أيضاً علاقة مباشرة بين سياسات الصندوق في برنامج 2016 وانخفاض معدّل مشاركة النساء في سوق العمل بسبب خفض الإنفاق على قطاعات الصحّة والتعليم والحكومة كثيفة التشغيل للنساء، ودعم سياسات الصندوق غير المُعلنة لزيادة الاستثمارات في القطاعات الاستخراجيّة والماليّة والعقاريّة التي إمّا تُشغِّل ذكوراً بشكل أساسي (مثل قطاع الإنشاء) أو القطاعات كثيفة رأس المال التي لا تخلق وظائف سواء للذكور أو الإناث مثل الأنشطة الإستخراجيّة أو الماليّة.

لماذا يفعل الصندوق ما لا يقوله؟

ما هي إذن حاجة الصندوق للانتصار لخطاب اجتماعي لا يُطبَق في الممارسة الفعليّة ولا يبدو أنّ هناك أي نوايا عمليّة لتطبيقه؟ 

يجادل نيلز برَنسون، أستاذ الإدارة في جامعة أوبسالا السويديّة، بأنّ مثل هذه الفجوات بين الخطاب والممارسة تمثّل "نفاقاً منظماً" organized hypocrisy. لا يتعامل برَنسون مع مفهوم "النفاق المُنظّم" كسُبة، بل يطرحها كآليّة للتعامل تلجأ إليها المنظّمات لتبنّي خطاب مخالف لأفعالهم، عند انتقاد أفعال لا يرغبون في تغييرها. يهدف ذلك "النفاق المُنظّم" إلى تسهيل استمرار الأفعال كما هي، من دون الفقدان الكامل لشرعيّة كلّ من الفاعل والأفعال المعنية. في هذا السياق، فإنّ إعادة تسويق الممارسات القائمة من صندوق النقد الدولي من خلال إضافة طبقات متزايدة من الإصلاحات الخطابيّة يسمح له بمراوغة الانتقادات من دون تغيير المنطق الكامن وراء السياسات القائمة. مع ذلك، هذا "النفاق" - أي الفجوة بين الخطاب والممارسة - ليس حتميّة ولا ثابتة، بل تختلف حدّته بوضوح، كما يتضح من فترات مثل الثمانينيّات والتسعينيّات عندما كان خطاب صندوق النقد الدولي أكثر اتساقاً بكثير مع أفعاله (مثل أنشطة الصندوق في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي خلال تسعينيات القرن العشرين).

يعمد خطاب الصندوق عن الحماية الاجتماعية إلى إظهار نوايا حسنة تزامناً مع تمرير تدابير نيوليبرالية غير شعبيةيلاحظ برونسون أنّه عندما يستلزم البناء الخطابي التمييز بين الأفكار والنوايا من ناحية، والعمل الملموس من ناحية أخرى، قد تحتفظ المنظّمات بالشرعية على الرغم من اختلاف خطابهم عن الممارسة العمليّة عن طريق إبعاد أنفسهم عن مجال الفعل المباشر، مثل القول بأنّ برامج الإصلاح مُعدَّة من الحكومات الوطنيّة أو أنّ المشاكل طرأت بسبب عدم الالتزام الكافي بشروط البرنامج، أو عن طريق تبرير الإجراءات التي لا تحظى بشعبيّة من خلال الوعد بنتائج إيجابيّة في مستقبل بعيد بما يكفي للتهرّب من مسئوليّتهم عن نتائج تلك الإجراءات. وفقًا لذلك، فإنّ العلاقة بين خطاب صندوق النقد الدولي وممارساته هي مزيج من هاتين الآليتين. فمن الواضح أنّ التكوينات الخطابيّة لصندوق النقد الدولي تختلف عن ممارساته في السنوات الأخيرة، وتحديداً ما بعد أزمة 2008. ثانياً، يُظهِر تحليل وثائق برنامج صندوق النقد الدولي في حالة مصر، أنّه غالباً ما يؤجِّل الأهداف المُعلنة لبعض الوقت في المستقبل، ما يبرّر تطبيق الإجراءات الأقل شعبيّة من خلال إلقاء الضوء على أهدافها المستقبليّة النبيلة مثل "تحقيق الاستقرار المالي" أو "النموّ الاحتوائي" أو "وصول الدعم إلى مستحقّيه". يعتبر خطاب صندوق النقد الدولي عن الحماية الاجتماعيّة أمراً بالغ الأهمّية في هذا الصدد، لأنّه يساعد قادة صندوق النقد على إظهار "نواياهم الحسنة" تزامناً مع تمرير تدابير نيوليبراليّة غير شعبيّة كشروط مُسبقة لا بدّ منها لتحقيق نتائج اجتماعيّة مواتية في المستقبل.

لكن التجربة المصرية – بالإضافة إلى تجارب أخرى عديدة – تُبيِّن أنّ الإحالة إلى المستقبل قلّما تؤتي ثمارها، وربّما خير دليل على ذلك هو معدّل التواتر العالي لبرامج الصندوق في البلدان التي ينشط فيها، ما يدلّ على استمرار الأزمة وفشل شروط الصندوق في علاجها عبر برامجه العديدة. تجادل مثلاً سرديّة صندوق النقد بأنّ الفئات الأكثر احتياجاً تحتاج فقط إلى الدعم في أعقاب الإصلاح مباشرة، وأنّه بمجرّد إزالة "التشوّهات" الناجمة عن التدخّل الحكومي المُفرِط، سيحدث النموّ، وبالتالي ستنخفض معدّلات ​​الفقر. مع ذلك، من الواضح أنّ القضايا التي تستحق الحماية الاجتماعيّة لا تزال موجودة، بل زادت حدّتها منذ إطلاق برنامج الصندوق للتكيّف الهيكلي والإصلاح الاقتصادي قبل أكثر من ثلاثة عقود عام 1991. ولا يمكن أنّ تُعزى النتائج غير المرجوة إلى عدم اكتمال تنفيذ البرامج من قبل الحكومات فحسب، خصوصاً أنّ المؤسّسات الماليّة الدوليّة اعتبرت أنّ برنامجي 1991 و2016 نجحا نجاحاً باهراً. على سبيل المثال، ذكر بنك التنمية الأفريقي - وهو مؤسّسة تمويليّة إقليميّة شاركت الصندوق في تمويل برنامج عام 1991 - في تقريره الختامي لبرنامج 1991 الصادر عام 1999 أنّ البرنامج "كان ناجحاً وساعد في وضع الاقتصاد المصري في وضع سليم ومستدام حيث استمر في تحقيق معدّلات نموّ مرتفعة بلغت في المتوسّط ​​5 في المائة منذ 1992/1993 حتّى الآن". وبالمثل، بشَّر تقرير المراجعة النهائيّة لبرنامج صندوق النقد الدولي لعام 2016 بالأمر نفسه، مشيراً إلى أنّ "مصر أكملت بنجاح البرنامج الذي استغرق ثلاث سنوات وحقّقت أهدافه الرئيسيّة"، وادّعى التقرير أنّه تمّ التغلّب على التحدّيات الأساسيّة التي تواجه البلاد: "لقد نجحت إصلاحات الاقتصاد الكلّي الحاسمة في تصحيح الاختلالات الكبيرة الخارجيّة والمحليّة، وتحقيق استقرار الاقتصاد الكلّي وتعافي النموّ والتوظيف، ووضع الدَّيْن العام على مسار هبوطي واضح".

لا يبدو إنّنا على وشك الإنتهاء من هذا العود الأبدي لبرامج الصندوق، فمنذ انتهاء البرنامج "الناجح" في 2019 وقّعت مصر إتفاقيتين جديدتين معه، وهي بصدد توقيع إتفاق ثالث قد يشمل تخفيض دعم الخبز وإدخال زيادة إضافيّة إلى أسعار الطاقة، وبالطبع لن يخلو البرنامج من الإشارات المعنية بالحماية الاجتماعيّة للفئات الأكثر هشاشة، وغالباً ما سيُكلل أيضاً بالنجاح قبل أنّ تبدأ دورة جديدة من المفاوضات لتوقيع إتفاق إنقاذ جديد مع الصندوق.