5 أسباب للمعارضة

  • التزمت الحكومة باتفاقها الأولي مع الصندوق على تطبيق وصفته بحذافيرها، وما يدور الكباش حوله اليوم هو الطريقة التي ستعتمدها الحكومة في تطبيقها
     
  • يمنع الاتفاق مع صندوق النقد أي تدخّل من البنك المركزي لفرض استقرار سعر الصرف، فكل تدخّل يجب أن يكون موضعياً ومحدوداً ولا يغيّر في اتجاه السعر

 

يمكن لمن يسمع خطب السياسيين والخبراء أن يتخيّل الشعب اللبناني برمّته يطالب بتدخّل الصندوق النقد الدولي فوراً، بوصفه طوق النجاة من الأزمة الخانقة. إلّا أن أحداً لا يخبر الشعب اليائس شيئاً عن مضمون البرنامج المطروح والشروط التي تتفاوض عليها السلطة اللبنانية مع الصندوق، ليسعفها بقروضه ويمنحها شهادة حسن سلوك للحصول على المزيد من الديون.

للأسف، لم ترتفع أصوات ذات تأثير تعارض برنامج صندوق النقد الدولي في لبنان. بل بالعكس تماماً، فمعظم ردود الفعل، التي صدرت منذ الإعلان عن التوصّل إلى اتفاق معه "على مستوى الموظّفين"، تعاملت مع هذا الاتفاق على أنه يمثّل "الصح" الذي نحن بأمس الحاجة إليه. عبّرت أكثرية التعليقات عن شكوك عميقة بأن تقبل "السلطة" به أو أن تكون قادرة على تنفيذه. وفي الوقت نفسه، سادت الريبة من توقيت إعلانه قبل 5 أسابيع من موعد الانتخابات النيابية في أيار/مايو الماضي، بالإضافة إلى الخيبة من قيمة القروض التي سيحصل عليها لبنان بموجب برنامج "تسهيل الصندوق المُمدّد"، والتي لا تتجاوز 3 مليارات دولار على 46 شهراً، تُدفع تباعاً على إيقاع التقدّم بتنفيذ الشروط والالتزامات الواردة في الاتفاق.

يجري تقديم الصندوق على أنه ضدّ "السلطة الفاسدة"، ويجسّد الأداة لإجبارها على "إصلاح الوضع الذي خرّبته". وبذلك، نجحت الآلة الإعلامية في تحويل إخضاع المجتمع اللبناني للوصفة التقشّفية والتضخّمية والانكماشية إلى "مطلب عامّ"، بل "مطلب مُعارض"، ليس من أجل تلبية الحاجة الضرورية إلى المال (القروض بالعملة الصعبة) فحسب، بل من أجل إجبار "السلطة" على تنفيذ "إصلاحات" لا ترغب بها، وكل ذلك من دون إثارة أي نقاش جدّي لماهية هذه الإصلاحات ونتائجها والمصالح التي تحقّقها. 

لقد خضع أكثرية اللبنانيين لهذا الخطاب المُخادع. وبدا لهم أن صندوق النقد الدولي مهما جرى تصويره كوحش كاسر فهو سيبقى في نظرهم أقل وحشيّة ممن يحكمهم ويقضي على لقمة عيشهم وجنى عمرهم وينهب قرشهم الأبيض في يومهم الأسود. واعتبر البعض أن الشروط القاسية لتعويم سعر العملة كلّياً، وزيادة الضرائب على الاستهلاك، وإلغاء كل أشكال الدعم المُعمّم، وضبط الأجور، وتقليص القطاع العام وفتح أسواق الخدمة العام للقطاع الخاص الربحي... تبقى أرحم من السياسات المتّبعة حالياً، التي جرّدت أكثرية الأسر من قدراتها الشرائية ومدّخراتها وثرواتها وحرمتها من الخدمات العامة والحماية الاجتماعية. 

فيما يلي 5 أسباب لمعارضة برنامج صندوق النقد الدولي في لبنان. طبعاً، ليس المقصود أنها تمثّل كل أسباب المعارضة، ولكن اختيارها مقصود في سياق تفنيد المزاعم التي تتردّد حول الصندوق وبرامجه لوأد أي معارضة شعبية له.

1
الأزمة في ميزان المدفوعات

 

"المهم أن نلاحظ أن برامج صندوق النقد الدولي ليست مُصمّمة لزيادة رفاهية السكّان، هي مصمّمة لتحقيق التوازن في حساب المدفوعات الخارجية… صندوق النقد الدولي هو الحارس النهائي لمصالح الرأسماليين والمصرفيين الذين يقومون بأعمال تجارية دولية". 

هذا ما تلفت نظرنا إليه أستاذة الاقتصاد في جامعة ماكغيل في مونتريال، كاري بولاني ليفيت. فقبل أي حديث عن الصندوق، معه أو ضدّه، علينا أن نعرف أن الوظيفة الرئيسة التي يؤدّيها، هي تقديم قروض قصيرة الأجل بالعملة الصعبة لتمكين البلد المُقترض من تسوية حسابات ميزان مدفوعاته الخارجية وليس أي أمر آخر. 

في هذا السياق، يتفق صندوق النقد مع تشخيص الحكومة للأزمة في لبنان، فوفق ما ورد في مذكّرة السياسات الاقتصادية والمالية، نتجت الأزمة من "العجز الضخم المزدوج (في الميزان الجاري كما في المالية العامة) الذي استمر لفترة طويلة، إلى جانب الهشاشة الهيكلية في الاقتصاد، وغياب مؤسّسات قوية، ما تسبّب في تفاقم أزمة ميزان المدفوعات". وبالتالي، يضع الاتفاق هدفه مسبقاً، أي تخفيض القدرة الشرائية والإنفاق العام للحدّ من تفاقم أزمة ميزان المدفوعات.

إذا أردنا أن نعرّف ميزان المدفوعات بتبسيط، فهو أداة قياس تُظهِر الحصيلة النهائية لمجمل معاملات المقيمين في البلد مع غير المقيمين فيه، أي مع الخارج. بتبسيط  أكثر، يقيس ميزان المدفوعات مجمل الأموال (بأي عملة كانت) التي تدخل إلى البلد والتي تخرج منه (لأي غرض كان سواء للتجارة أو خدمة الديون الأجنبية أو التحويلات أو الاستثمار أو تدفّقات النقد والذهب أو هروب الرساميل والودائع... إلخ). ولذلك، إذا كان هذا الميزان يُسجِّل عجزاً سنوياً متتالياً ولفترات طويلة، كما هو حاصل في لبنان منذ عام 2011، فهذا يعني أن احتياطاته بالعملات الاجنبية تُستنزف، وسعر عملته المحلّية مُضخّم، وقدرته على تسديد مدفوعاته إلى الخارج تضمحل، حتى يصبح في حالة توقّف عن الدفع لأطراف المعاملات المقيمين في الخارج.

قد لا يفي هذا التعريف البسيط بحاجتنا إلى فهم الأسباب التي تجعل صندوق النقد مهتمّاً بتسوية حسابات ميزان المدفوعات في لبنان، ومستعدّاً لتقديم قروضه لهذه الغاية. الأمر يبدو أكثر تعقيداً، ولا سيما أن الاقتصاد اللبناني لا يساهم إلّا بنسبة 0.01% فقط من مجمل الناتج العالمي، وفق بيانات البنك الدولي في عام 2021، وبالتالي لا يشكّل أي خطر فعلي على السوق العالمية وتداول رأس المال فيها. 

إلّا أن هذا التعريف يساعد جدّاً على فهم طبيعة برنامج صندوق النقد، الذي التزمت الحكومة بتنفيذه في حال تمّ التوقيع النهائي على الاتفاق بينهما. فالسياسات والإجراءات التي يتضمّنها تريد من الدولة أن تقرّر في النهاية أي مصالح ستبدّيها وأي مصالح ستفرّط بها. لمن الأولوية في الدفع، أو بالأحرى: كيف سيتم صرف قروض الصندوق والقروض الأخرى المرتبطة به؟ هل ستُخصص لضمان الإمدادات للسكّان أم لتسديد أقساط الديون وفوائدها؟ هل الأولوية للتجارة وتحويل رأس المال أم لتمويل الحاجات الضرورية للاستهلاك والإنتاج؟

لا شكّ أن ميزان المدفوعات مهمّ، واستمراره في حالة عجز تراكمي يعني المزيد من النزف في احتياطات البلد من العملات الأجنبية، وبالتالي تناقص القدرة على استيراد السلع والخدمات التي نحتاجها من الخارج، فضلاً عن المزيد من الانهيار في سعر الصرف وارتفاع التضخّم. إلّا أن صندوق النقد ليس مُضطراً ليُشغِل باله بهذه المخاطر، فكلّ شروطه لتسوية حسابات ميزان المدفوعات يبرِّرها على الشكل التالي: إذا كانت الدولة بحاجة إلى إسعافها بقروض خارجية لتسدّد التزاماتها بالعملات الأجنبية في السوق العالمية، عليها إذاً أن تعيد النظر في حسابات ميزان مدفوعاتها الخارجية، ماذا تنفق؟ وعلى ماذا؟ ووفق أي ترتيب للمصالح؟ والهدف هو أن تصبح الدولة قادرة على تسديد قروضه وفوائدها عند استحقاقها، وكذلك التزاماتها تجاه الدائنين الآخرين والرأسماليين والمصرفيين. وإلّا لن تحصل على قرشٍ واحدٍ.

عانى لبنان دائماً من العجز التوأم (الحساب الجاري والمالية العام)، إلّا أن ميزان المدفوعات بقي يسجّل فوائض سنوية (ما عدا في سنوات قليلة مُتفرّقة)، بلغ مجموعها التراكمي بين عامي 1990 و2010 (20 سنة) نحو 28.6 مليار دولار، نتيجة تدفّق رساميل وتحويلات وقروض تفوق قيمتها العجز التجاري والتدفّقات والتحويلات إلى الخارج، وهو ما كان يُعدّ في السابق بمثابة العجيبة التي يقوم بها النموذج الاقتصادي اللبناني. انقلبت الآية اعتباراً من عام 2011 لأسباب كثيرة، بنيوية وظرفية، إذ بدأت الرساميل والودائع الكبيرة بالهروب من لبنان، بالتزامن مع استمرار تزايد الاستيراد وخدمة الديون الخارجية، بما فيها ودائع غير المقيمين وتوظيفات المضاربين، فضلاً عن تباطؤ النمو الاقتصادي وانكماشه اعتباراً من عام 2018  وتدهور التنافسية إلى مستويات متدنّية جدّاً. ما أسفر عن عجز سنوي متراكم في ميزان المدفوعات، بلغ حتى شهر آب/أغسطس 2022 نحو 34.5 مليار دولار. أي أن العجز المتراكم في العقد الأخير استنزف كلّ الفوائض المُحقّقة في العقدين اللذين سبقاه وأكثر.

طبعاً، هذا الوضع خطير، ولا بدّ للدولة أن تتدخّل لمنع تفاقمه وتهديده بانقطاع الإمدادات التي يحتاج إليها السكّان للبقاء، مثل الغذاء والدواء والطاقة. إلّا أن المسألة المُتعلّقة ببرنامج صندوق النقد الدولي تخصّ الطريقة التي سيتم اتباعها لمعالجة هذا الوضع الخطير. من يجب ان يربح وعلى حساب مَن؟

مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية، التي تفاوضت عليها الحكومة اللبنانية والصندوق وجرى الاتفاق الأولي عليها "على مستوى الموظّفين"، تتضمّن ما يكفي من الإثباتات على أن أسر الطبقات الوسطى والطبقة العاملة والفقراء عموماً سيدفعون ثمناً باهظاً جدّاً، وسيجّرد معظمها من أي حماية أو دعم للصمود في محنتها. في حين أن الرأسماليين، تجّاراً ومصرفيين ودائنين، سيلتقطون أنفاسهم مجدّداً ويحظون بالسيولة المُتاحة لمواصلة الترسمل وأعمال التجارة الدولية.

2
وصفة الصندوق الشهيرة

 

"القنابل تُلقى من ارتفاع 15,000 مترٍ كي لا يحسّ الطيّار بما يفعل، الأمر هكذا في إدارة الاقتصاد: من فوق فندقٍ فخمٍ، تُفرض بلا هوادة، سياسات كان ينبغي التفكير فيها مرّتين لو أن أصحابها كانوا يعرفون الكائنات البشرية التي يهتمّون بتدمير حياتها".

هكذا يصف الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، جوزف ستيغلتز، طريقة عمل صندوق النقد الدولي المتعالية، وبرامجه التي تقع مثل القنابل فوق رؤوس الناس. ولا يوجد في هذا الوصف أي مبالغة، إذ أن واحداً من أهم الانتقادات لعمل صندوق النقد أنّه لا يكترث للتداعيات الاجتماعية التي يخلّفها ورائه، إلّا بمقدار ما تحتاج إليه العملية الجارية لتسوية الحسابات، ويعتبرها عوارض جانبية يجدر التعامل معها للحدّ من تأثيرها على العملية نفسها، وليس بوصفها أهداف يجب أن تكون في صلب برنامج "التعافي".

سيدفع سكان لبنان ثمناً باهظاً لعدم إعلان إفلاس المصارف، والصندوق لا يمانع أبداً إعادة رسملتها على حساب السكانكيف توضع برامج الصندوق؟ هي من القصص المهمّة لأي موقف موضوعي منها. يأتي عدد قليل من الموظّفين، لا يتجاوز عدد أصابع اليدين، من مقرّ صندوق النقد في شارع 19 في واشنطن، ويقيمون في فنادق خمس نجوم لفترة من الزمن، ويعقدون محادثات مع الموظّفين المحلّيين الذين كلّفتهم الحكومة بالتفاوض معهم للحصول على قروض من الصندوق تعينها في إدارتها للأزمة القائمة. يحمل هؤلاء الموظّفين ورقة تعليمات مُحدّدة مُسبقاً: وصفة الصندوق الشهيرة. وما يجري التفاوض عليه فعلياً هو الطريقة التي تقبل الحكومة، بما تمثّل من مصالح، أن تطبّق فيها الوصفة. 

تريد الحكومة وصندوق النقد الدولي تسوية حسابات ميزان المدفوعات، عبر ضبط عجز الحساب الجاري وعجز المالية العام، وهناك طرق عدّة ومختلفة لتحقيق ذلك، وفقاً للخيارات والمصالح والمواقع الاجتماعية، إلّا أن وصفة الصندوق تفرض اعتماد الطريقة التالية: تخفيض القدرة الشرائية، تعويم سعر الصرف، التقشّف، إلغاء الدعم، ضبط الأجور ومعاشات التقاعد، تقليص القطاع العام، إعادة هيكلة الديون ورسملة الجهاز المصرفي... لقد التزمت الحكومة باتفاقها الأولي مع الصندوق على تطبيق وصفته بحذافيرها، وما يدور الكباش حوله اليوم هو الطريقة التي ستعتمدها الحكومة في تطبيقها، إذ من الواضح أن النخبتين السياسية والاقتصادية تسعيان إلى اعتماد الطريقة التي تجنّبهما تحمّل قسطهما من الكلفة والمسؤولية، ولا يزال الجناح المصرفي يحظى بالنفوذ السياسي الكافي ليعرقل أي طريقة لا تناسبه.

كيف تجري الأمور في الواقع بعيداً عن الأوهام؟ يزعم صندوق النقد أنه لا يفرض برنامجه على الدولة، وإنّما يطلب منها أن تضع هي بنفسها هذا البرنامج الذي تلتزم فيه بتطبيق وصفته المذكورة. ولكن موظّفي الصندوق يضعون نماذج رياضية، تتضمّن عدداً من المعايير الكمّية والهيكلية التي تنصّ عليها ورقة التعليمات، وبالتالي يصبح همّهم مُنصبّاً في المفاوضات مع الحكومة على بلوغ هذه المعايير أكثر من طريقة بلوغها، وبالتالي يرفضون أو يوافقون على ما تقترحه الحكومة تبعاً لنتيجة النماذج الرياضية وليس حرصاً على مصالح اجتماعية لأكثرية المستهدفين بهذه التعليمات.

حتّى الذين يعتقدون أن صندوق النقد هو المُنقّذ، عليهم أن يتحلّوا قليلاً بالشكّ في أن بضعة موظّفين أجانب كافيين لرؤية ما يحدث، من دون معرفة عميقة بالاقتصاد السياسي والاجتماعي للبلد وميزان القوى الذي يفرضه. فكيف إذا كان هؤلاء الموظّفين مؤدلجين بما يكفي لينحازوا إلى مصالح رأس المال ومُدرّبين ليقبلوا في النهاية بما تمليه عليهم إدارتهم العليا.

في حالة لبنان، تتسم الإدارة العليا للصندوق بأهمّية سياسية مضاعفة، إذ أن هيكلية الصندوق تحفظ للولايات المتّحدة الأميركية دور المُهيمن، وبالتالي لا يمكن أن يكون الموقف من الصندوق موضوعياً ما لم يتخذ هذه المسألة في الحسبان. فالاتفاق على مستوى الموظّفين لن يُعرض على المجلس التنفيذي للصندوق إلّا بعد استيفاء شروط عدّة مسبقة، ولن يوافق عليه المجلس إلّا إذا وافقت الإدارة الأميركية عليه، ولذلك، ومهما تكرّرت معزوفة ألا وجود لشروط سياسية للاتفاق، فإنّ الموافقة على أي اتفاق يسمح للقوى المُهيمنة على الدولة والاقتصاد بالتقاط الأنفاس لا بدّ أن تكون سياسية قبل أي أمر آخر، نظراً للصراعات الجيوسياسية التي يعدّ لبنان طرفاً فيها من خلال حزب الله والصراع مع إسرائيل والتجاذب بين النفوذين الإيراني والسعودي والحرب في سوريا... إلخ. علينا أن نتذكّر دائماً ان الولايات المتّحدة تتمتّع، ومع الأعضاء الآخرين في مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي، بسلطة كافية لتشديد الشروط لإقراض الدولة اللبنانية أو تسهيلها وتليينها، تبعاً لما تعتقد الولايات المتحدة أنه مفيدٌ لها ولمصالحها. 

في بلد متوتّر كلبنان، وهشّ ومنكشف كثيراً على العوامل والظروف الخارجية، يصبح واجباً وضع هذا الجانب في صدارة الاهتمام بالاتفاق مع صندوق النقد، ليس لأنها تبيّن استعداد الصندوق لمسايرة القوى المُسيطرة عندما يُطلب منه ذلك، بل لأن تنفيذ هذا الاتفاق في حال حصل سيبقى خاضعاً لإيقاع الصراعات المفتوحة، فأي توبيخ من الصندوق قد يؤدّي إلى وقف التمويل وتعليق الاتفاق. على قاعدة المثل الشعبي: "دخول الحمام مش زي خروجه"، فما أن تتفق الدولة مع الصندوق نهائياً، وتبدأ بتنفيذ برنامجه، سيكون خروجها منه وإخراجها وبالاً عليها، لأنه سيكون إشارة سيّئة جدّاً للمتعاملين مع البلد في شتّى المجالات، وبالتالي سيكون عليها أن تجد مصادر للحصول على احتياجاتها الطارئة من غير الأسواق المالية التي يؤثّر الصندوق على اتجاهاتها والقرارات فيها. وهذه قصّة كبيرة جدّاً ليس المجال هنا للخوض فيها، ولكن يكفي أن نعلم أن شعارات "الاتجاه شرقاً"، أو الرهانات على اكتشاف الغاز في البحر، تنطوي على خيارات جذرية وترتيبات تبدو أصعب وأكثر تعقيداً من برنامج الصندوق نفسه.

3
من أجل إعادة رسملة المصارف

 

"وهكذا بدلاً من امتلاك الدًّيْن العام عن طريق استثماراتهم المالية، سيستطيع الأكثر ثراءً أن يصبحوا الملّاك المباشرين للمدارس والمستشفيات وأقسام الشرطة وخلافه. ثمّ سيتوجّب على الحكومة بعد ذلك أن تدفع إيجاراً كي تتمكّن من استخدام هذه الأصول كي تواصل تقديم تلك الخدمات العامّة".

يحذّرنا الاقتصادي الفرنسي، توماس بيكيتي، من أن الأثرياء بإمكانهم أن يكسبوا دائماً، فهم الذين يقرضون الدولة، وهم الذين كان يتوجّب عليهم أن يُسدِّدوا الضرائب، وهم الذين سيتملّكون الأصول العامّة التي يطالبون بها عندما تتخلّف الدولة عن السداد.

الصراعات الجارية حالياً تتعلّق بسعي المصارف وكبار المودعين والدائنين للحصول على أفضل الشروط  في هذا السياق، يجري وضع اللوم كلّه على الإسراف في الاستهلاك والإنفاق العام، وتصوّر السردية الشائعة أنّ المصارف هي ضحيّة من جملة الضحايا لهذا الإسراف، الذي تتحمّل مسؤوليته الدولة وسكانها، في حين أن المصارف هي الأداة في إعادة توزيع هذا الإسراف وسبباً من أسبابه. تقول مذكّرة السياسات الاقتصادية والمالية التي جرى الاتفاق عليها مع صندوق النقد (حرفياً) إن "النظام المالي عانى من جرّاء تدهور الوضع الاقتصادي، وانهيار سعر الصرف، والعجز عن سداد الديون السيادية. أضف إلى ذلك، الخسائر الضخمة التي تراكمت على ميزانية مصرف لبنان، نتيجة لعمليات جذب تدفّقات رأس المال بغية المحافظة على ثبات نظام سعر الصرف وتمويل عجز الخزينة". 

بهذه العبارات القليلة، يتفق صندوق النقد مع الحكومة على أن إفلاس المصارف لم يكن نتيجة مُخطّط احتيالي فيها بل في الدولة، وسببه الديون السيادية: الدَّيْن العام الحكومي وديون (أو خسائر) مصرف لبنان. تقول المذكّرة إن "إجمالي احتياجات إعادة رسملة النظام المصرفي تزيد عن 72 مليار دولار أميركي (أي ما يزيد عن 300 في المئة من تقديرات الناتج المحلي الإجمالي لعام 2021). هذه الخسائر إذا لم توضع في الحسبان أوّلاً، وإذا لم نقم بتنفيذ استراتيجية تهدف إلى اعادة النظام المصرفي إلى وضعه الصحّي على وجه السرعة، فإننا لن نتمكّن من استعادة الثقة بالقطاع، أو حتّى تهيئة الظروف لنمو اقتصادي قوي". 

الهدف واضح، فالأولوية لتسوية حسابات ميزان المدفوعات، وبالتالي دعمه بالقروض الأجنبية، وفق ما ورد في المذكّرة، هي من أجل:

(1) "إعادة تكوين رأس مال مصرف لبنان، وتشير التقديرات إلى ضخامة رأس المالي السلبي المُتراكم الذي يزيد عن 60 مليار دولاراً"، أي أن الاتفاق مع صندوق النقد يستهدف شطب ما يوازي هذا المبلغ من التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية إزاء البنوك التجارية، ويرمي إلى "إعادة رسملة مصرف لبنان جزئياً بسندات سيادية قدرها 2.5 مليار دولاراً، يمكن زيادتها إذا اتسق ذلك مع قدرة الدولة على تحمّل أعباء الدَّيْن العام. أمّا ما تبقى من الخسائر السلبية في رأس المال، فستلغى تدريجياً على مدى 5 سنوات".

(2) "إعادة رسملة البنوك التجارية لتسوية الخسائر الناجمة عن إعادة هيكلة الديون السيادية والتزامات مصرف لبنان، وتعثّر مَحَافظ قروض القطاع الخاص، ووَقِع توحيد سعر الصرف على ميزانيات هذه المصارف، وسوف يتطلّب ذلك إسهامات كبيرة من المساهمين والدائنين للبنك من غير أصحاب الودائع. ومع ذلك، لن يكفي هذا لإعادة البنوك إلى حالتها الصحية، لا سيما إذا نظرنا إلى حجم الخسائر. وبالنظر إلى عدم وجود خيارات أخرى فسوف يستلزم الأمر مساهمات ضخمة من كبار المودعين".

الصراعات الجارية حالياً لا تتعلّق بهذه الأولوية، بل بسعي المصارف وكبار المودعين والدائنين للحصول على أفضل الشروط لهم، فالجميع يعلم أن هناك أكثر من 72 مليار دولار بالعملات الأجنبية لا بدّ من شطبها من ميزانيات المصارف، ولكن كيف؟ الجميع يسعى إلى تقليل خسائره عبر تحميلها إلى الآخرين: المصرفيون لا يريدون خسارة رساميلهم كلّها ويقاتلون للاحتفاظ بسيطرتهم على مصارفهم، والدائنون لا يريدون خسارة سنداتهم كلّها وهم مستعدّين لعملية قصّ الشعر ولكنهم يحاولون أن لا تكون كبيرة ويريدون أن يضمنوا حصولهم على ما تبقى منها بعد عملية القص، وكبار المودعين يريدون تعويضات ملموسة في مقابل ودائعهم ويعرضون شراء الأصول العامة ويطالبون بتخصيص جزء من موارد الدولة لهم. 

لا يعارض صندوق النقد الاقتراح الرامي إلى إنشاء "الصندوق السيادي" أو "صندوق التعافي" وتمليكه أصولاً وموارد عامّة لردّ جزء من الودائع الكبيرة. كلّ ما في الأمر، أن النموذج الرياضي الذي يعتمده موظّفو الصندوق لا يعطي النتيجة الحسابية التي تجعل منه اقتراحاً مجدياً. فهو يؤدّي إلى تقليص إضافي لإيرادات الدولة، وبالتالي زيادة عجز المالية العامّة، وهو يدرّ عوائد بالليرة وليس بالعملة الأجنبية ولن يعفي عن شطب كمّية أكبر بكثير من الودائع التي قد يمكن استردادها بواسطة هذا الصندوق. لذلك، وعلى عكس ما يُشاع، لا يتخذ الصندوق موقفاً صارماً ضدّ نقل الخسائر المصرفية إلى الناس المنكوبة، إذ لا يدرج مثل هذا الموقف كمعيار هيكلي ملزم للدولة، بل مجرّد تمنّي ورد في مذكرة السياسات يدعو الدولة إلى "الحدّ من أي مسار يتسبّب في اللجوء إلى الموارد العامّة، بما يتماشى مع القدرة على تحمّل الدين، وبصورة لا تهدف إلّا إلى تحسين الوضع الرأسمالي لمصرف لبنان". 

اللعب على الكلام لا ينحصر هنا، بل يتجاوز إلى الخطاب المركّز الموجّه لأصحاب الودائع الصغيرة والمتوسّطة، الذين يجري حشدهم عبر إيهامهم أن استغلال الأصول والموارد العامة هو لردّ ودائعهم وادخاراتهم، وهذا يناقض ما اتفق عليه الصندوق مع الحكومة، إذ أن كل وديعة ستكون مضمونة حتى 100 ألف دولار، وهذا المبلغ ستتم تسويته عبر الأصول التي لا تزال قائمة بالفعل في الجهاز المصرفي، أي لا علاقة البتّة بين تسديده وبين الصندوق المذكور، الذي سيكون مخصّصاً حصراً لتعويض أصحاب البنوك وأصحاب الودائع الكبيرة، التي نعلم أن معظمها تراكم بطرق غير مشروعة وغير أخلاقية.

سيدفع سكان لبنان ثمناً باهظاً لعدم إعلان إفلاس المصارف، والصندوق لا يمانع أبداً إعادة رسملتها على حساب السكان، ولا يريد من الحكومة إلّا أن تقدّم له حسابات تصحّ، وفي هذه الحالة يشبه الصندوق مدير أي بنك يريد أن يتأكّد أن عميله سيكون لديه ملاءة كافية لتسديد قروضه.

لا يوجد سحر في المعادلة المطروحة، فكل تقليص لخسائر المصرفيين والدائنين يقابله زيادة في خسائر المجتمع، وهذا ما تعنيه وصفة التقشّف التي اتفق الصندوق عليها مع الحكومة.

4
التقشّف فكرة خطرة

 

"واضح أن التقشّف لا يفيد إذا كانت هذه العبارة تعني تقليص الدَّيْن وتعزيز النمو (...) التقشّف ببساطة غير مفيد، وهذا السبب الأوّل لكونه فكرة خطرة، وهو فكرة خطرة أيضاً لأن الشكل الذي يقدّم فيه من السياسيين ووسائل الإعلام، باعتباره ردّاً على شيء اسمه أزمة الديون السيادية المفترض أن سببها دول أفرطت في الإنفاق، هو تمثيل للحقائق خاطىء جذرياً إلى حدّ كبير. هذه المشاكل بدأت مع المصارف وستنتهي معها. الفوضى الحالية ليست أزمة ديون سيادية سببها إنفاق مُفرط لأي طرف، المشكلة هي المصارف التي على الجهات السيادية أن تتحمّل المسؤولية عنها".

بهذه العبارات يُحدِّد أستاذ علم الاقتصاد السياسي في جامعة براون، مارك بليث، الطبيعة المُخادعة لوصفة التقشّف، التي تعمل على تجنيد الناس تحت عنوان تخفيض العجز المالي من أجل شطب الخسائر وإعادة رسملة الجهاز المصرفي، وبالتالي تسوية حسابات ميزان المدفوعات بما يخدم الهدف الذي يسمّيه الصندوق "استدامة الديون"، أي استعادة القدرة على خدمة الدَّيْن الخارجي. 

الاتفاق بين الحكومة وصندوق النقد يذهب في اتجاه مواصلة إعادة التوزيع العكسية من تحت إلى فوق، من الأكثر فقراً إلى الأكثر غنىفي هذا السياق، يتّفق صندوق النقد مع الحكومة على معايير كمّية، هدفها "تقليل الدين العام إلى ما دون 100% من الناتج المحلّي الإجمالي بحلول العام 2026، وإلى 76% بحلول 2032، وسيتحقّق ذلك من خلال مجموعة من الإجراءات منها ضبط أوضاع المالية العامة، وإعادة هيكلة الدَّيْن، وتقليص الحاجات التمويلية الإجمالية إلى نحو 9% من الناتج المحلّي الإجمالي للفترة بين عامي 2022 و2032. ونظراً لعدم قدرة لبنان على الوصول إلى أسواق المال العالمية، سيكون جميع ما تحصل عليه الدولة من تمويل تقريباً من المصادر الدولية الرسمية".

كيف ستتحقّق هذه المعايير الكمّية؟ 

وفق مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية، ستتحقّق عبر "إجراء تعديلات تراكمية في الرصيد الأولي تساوي 6% من الناتج المحلّي الإجمالي". 

ما يعنيه الرصيد الأوّلي في موازنة الدولة هو الفارق بين ما تجبيه الدولة من الناس (الضرائب تحديداً) وما تنفقه عليهم (الإنفاق العام من دون احتساب الفوائد على الدَّيْن). ولا نحتاج إلى شرح طويل لنفهم أن السعي وراء تحقيق فائض أولي يتطلّب أن يُسدِّد الناس ضرائب ورسوم مرهقة من دون أي مقابل من جانب الدولة، وذلك لمنحها مساحة مالية كافية لمواصلة الاستدانة وخدمة هذه الديون ووضع الدائنين، وليس السكّان، في مرتبة الأفضلية على حاجات السكّان في تخصيص الإنفاق العام.

لا يتحقّق الفائض الأوّلي بالتمنّي أو الرجاء، وإنّما عبر وصفة التقشّف التي يحملها موظّفو الصندوق أينما حلّوا. أي عبر زيادة إيرادات الدولة من جهة، وتخفيض نفقاتها من جهة أخرى. وهذا يمكن القيام به بطرق مختلفة، فالضرائب يمكن أن تصيب الرابحين وليس الخاسرين، وتخفيض الإنفاق العام يمكن أن يصيب مدفوعات الفائدة والفساد وسخاء عقود الشراكة مع القطاع الخاص، لا أن يصيب الإنفاق الاجتماعي والاستثماري وأجور الموظّفين والمتقاعدين وبرامج الرعاية والدعم... إلّا أن الاتفاق بين الحكومة وصندوق النقد يذهب في اتجاه مواصلة إعادة التوزيع العكسية من تحت إلى فوق، من الأكثر فقراً إلى الأكثر غنى.

من جهة الإيرادات، يتضمّن الاتفاق سلسلة من التدابير الضريبية، منها:

  • "زيادة الضريبة على القيمة المضافة من 11 إلى 15% على مدى عامين، وإصلاح سياسات التعرفة الجمركية". ولا يوجد في هذا الاتفاق أي ذكر لزيادة الضريبة على الدخل المرتفع والثروة والأرباح والامتيازات والاحتكارات، التي تعدّ معدّلاتها متدنّية جدّاً في المقارنات الدولية. 
  • "زيادة تعرفة الكهرباء إلى مستوى استرداد التكاليف بحلول عام 2025. إذ سيتم زيادتها إلى 12 سنتاً /كليوواط ساعة في المرحلة الأولى، ثمّ إلى 18 سنتاً في المرحلة الثانية، وصولاً إلى اعتماد آلية لتعديل التعريفة شهرياً تبعاً لتقلّبات أسعار النفط العالمية وسعر الصرف". وهذه الزيادة الهائلة في سعر الكهرباء ليست مقترنة أبداً بتوفير الكهرباء على مدار ساعات اليوم عبر مؤسّسة كهرباء لبنان، بل مقابل وعد بأن تصل ساعات التغذية إلى 20 سنة بحلول عام 2025، أي أن السكان سيجبرون على تسديد فاتورتين للكهرباء مرتفعتين جدّاً، واحدة للمؤسسة والثانية لمولّد الحيّ، وسيكون معظمهم في حالة عجز كلّي عن تحمّل الكلفة الباهظة، والأرجح أن الكثيرين سيعيشون من دون كهرباء إذا نظرنا إلى مستوى الأسعار الحالي وقارناه بمستوى الأجور المنخفض جدّاً، والذي سيبقى منخفضاً على المدى الطويل وفق ما يريده الاتفاق مع الصندوق.

ومن الجهة الثانية، يتضمّن الاتفاق سلسلة من التدابير تهدف إلى إعادة هيكلة الدولة بأكملها، بما في ذلك، تقليص القطاع العام والموظّفين العامّين وإلغاء كلّ أشكال الدعم المُعمّم، ولا سيما دعم الكهرباء. وتلتزم الحكومة بتنفيذ التدابير التالية (على سبيل المثال لا الحصر):

  • "فرز جميع الشركات المملوكة من الدولة، وتقسيمها إلى شركات من أجل (1) الاحتفاظ بها تحت إدارة الدولة (2) أو خصخصتها (3) أو تصفيتها".
  • "إجراء سلسلة متعاقبة من المراجعات المركزة، تتناول الحكومة المركزية بأكملها على مدى فترة عامين. وتشمل موظّفي الخدمات المدنية وحصر جميع المناصب الحكومية والعامة والأجور والأوصاف الوظيفية".
  • "رفع سنّ التقاعد، وإلغاء التقاعد المُكبر، وفصل المعاشات التقاعدية عن الأجور في القطاع العام، وإزالة المضاعف (multiplier) فيما يخصّ القطاع العسكري على وجه التحديد".

يوجد طرق عدّة لتخفيض العجز المالي. شطب الديون وفرض الضريبة التصاعدية على الدخل والثروة هما الأكفأ والأكثر عدلاً. وهناك التضخّم الذي يُعدُّ بمثابة ضريبة غير مباشرة يقع ثقلها على كاهل الطبقات الوسطى والفقيرة، ويوجد التقشّف الذي يلجأ إليه برنامج صندوق النقد، وهو الأسوأ من حيث العدالة والكفاءة معاً، إذ أن جرعات كبيرة من التقشّف تؤدّي إلى زيادة الفقر من دون أن تؤدي إلى زيادة النمو الاقتصادي.

يعترف صندوق النقد والحكومة أن الوصفة التقشّفية غير قابلة للتحمّل من شرائح اجتماعية واسعة، وستكون أعراضها خطيرة، إلّا أن الاتفاق بينهما واضح لإلغاء كلّ شكل من أشكال الدعم أو الحماية الاجتماعية المُعمّمة، والاستعاضة عنه بلملمة بعض الضحايا عبر "برامج استهداف الفئات الأكثر فقراً الذين تأثّروا بشدّة بهذه الأزمة". 

حسناً، تقول مذكّرة السياسات الاقتصادية والمالية ما معناه أن الأكثر فقراً سيبقون أكثر فقراً من دون أن يموتوا جوعاً، ولكن العدد الكبير جدّاً من الأسر ذات الدخل المتوسّط والمحدود سيجرفها التقشّف إلى الفقر بسبب حرمانها من أي أجر اجتماعي أو دعم في ظلّ التضخّم والبطالة وانكماش الاقتصاد وانهيار الخدمات العامّة والبنية التحتية. فزيادة الضرائب على الاستهلاك من دون زيادة الإنفاق على التغطية الصحّية والتعليم والنقل العام والسكن الاجتماعي وغيرها من الخدمات والضمانات... هي وصفة إفقار، فكيف إذا تزامنت مع تخفيض القوى العاملة في التعليم الرسمي والمستشفيات الحكومية ومراكز الرعاية الاجتماعية؟ علينا أن نحذر كثيراً من الكلام عن ضخامة القطاع العام في لبنان، إذ أن أكثر من نصف العاملين في الدولة هم في عداد الجيش وأجهزة الأمن، وأكثر من الربع في التعليم والصحّة، والباقي موزّع على كل إدارات ومرافق تشغيل الدولة، التي تعاني ملاكاتها من شغور واسع وليس من فوائض كما يجري تصوير الأمور.

5
هندسة اجتماعية عنيفة

 

"ليس ثمّة وسيلة أكثر خبثاً وضماناً لقلب الأسس القائمة لوجود المجتمع من تخريب العملة".

يحذّرنا الاقتصادي البريطاني الشهير، جون مينارد كينز، من أن العملية التضخّمية، إذا تفلتت من محاولات السيطرة عليها، فإنها تنزع إلى توليد عمليات لا يمكن التكهّن بها سلفاً، الأمر الذي يقوّض بشدّة أسس العلاقات الرأسمالية نفسها. إلّا أن برنامج صندوق النقد الدولي لديه إيمان مُغايرٌ، فهو يعتبر أن تعويم سعر الصرف وتحريره كلّياً وإبقاء أسعار الاستهلاك مُرتفعة هو السبيل لتقليص الحاجات التمويلية بالعملات الأجنبية وتخفيض القدرة الشرائية عموماً، وبالتالي الحدّ من العجز التوأم وتسوية حسابات ميزان المدفوعات.

يُسدِّد السكان فاتورة باهظة من دون أي وعد بأن تضحياتهم ستؤمّن لهم مستوى معيشة أفضل في المستقبلووفق مذكّرة السياسات الاقتصادية والمالية، سيتم تعويم سعر الصرف عبر تدابير متزامنة، منها:

  • "توحيد سعر الصرف للمعاملات المُصرَّح بها بعد تحويل منصّة صيرفة إلى منصّة تداول ملائمة تجري من خلالها جميع المعاملات المُصرّح بها ويحدّد سعر الصرف فيها على أساس يومي".
  • "فرض تدابير مؤقّتة لإدارة تدفّقات رأس المال. وتطبيق قيود على سحب الودائع. وسيكون تخفيفها التدريجي مرهوناً بتحسين ميزان المدفوعات والسلامة المالية للمصارف وعلى وجه الخصوص، سيعتمد تقييم حدود سحب الودائع، على مستوى سيولة القطاع المالي تبعاً للتطوّرات المستقبلية، بما يضمن إمكانية الالتزام بتلك الحدود بمرور الوقت".

في هذا السياق، يبرز تدبيران خطيران جدّاً، التزمت الحكومة بهما:

الأوّل، يقضي بالسماح لسعر الصرف الرسمي بالتحرّك، وعدم التدخّل إلّا "لتجنّب اضطراب السوق من دون الحؤول بتغيير اتجاهه (...) وإذا تجاوز البيع التراكمي للعملات الأجنبية خلال خمسة أيام 100 مليون دولار أميركي، سنعقد مشاورات مع صندوق النقد الدولي للوقوف على مدى لزوم إجراء تعديلات بالسياسة النقدية".

والثاني، يقضي بوضع تشريع جديد ينصّ صراحة على "منع مصرف لبنان من تمويل عجز الخزينة".

إن تعويم سعر الصرف وحرمان الخزينة العامّة من مصدر تمويل أساسي لها هما وصفة تضخّمية بامتياز، تُضاف إلى وصفة تقشفية، الأولى تخفض القدرة الشرائية للأجور والثانية تخفّض ما كان موجوداً من أجور اجتماعية. هاتان الوصفتان تشكّلان الأساس الذي يقوم عليه اتفاق الحكومة مع صندوق النقد. حيث يُسدّد السكّان فاتورة باهظة من دون أي وعد بأن تضحياتهم ستؤمّن لهم مستوى معيشة أفصل في المستقبل.

يمنع الاتفاق مع صندوق النقد أي تدخّل من البنك المركزي لفرض استقرار سعر الصرف، فكل تدخّل يجب أن يكون موضعياً ومحدوداً ولا يغيّر في اتجاه السعر، فإذا كان سعر الليرة ينهار عليه فقط أن يدير الانهيار لا أن يوقفه، وفي أحسن الحالات، عليه أن يخفّف سرعة الانهيار فقط.

تفيد أرقام الإحصاء المركزي، المستخرجة من بحث على عيّنة من السكّان في عام 2022، أن ثلاثة أرباع القوى العاملة في لبنان يعملون بأجر (شهري، أو أسبوعي، أو يومي، أو على القطعة)، وأن 90% منهم يتقاضون أجورهم بالليرة، وقد تكون هذه النسبة مضخّمة قليلاً، ولكننا نعلم أن الطبقة العاملة (بما فيها شرائح واسعة من الطبقات الوسطى) هي الضحية رقم واحد للتضخّم وانهيار سعر الصرف.

في الوقت نفسه، يمنع الاتفاق مع الصندوق أي تمويل للدولة من بنكها المركزي منعاً باتاً، أي أن مصرف لبنان لن يكون بمقدوره شراء سندات خزينة من الحكومة لتعويض أي نقص في التمويل، بينما سيظل مسموحاً له أن يطبع الليرة كلما احتاجت المصارف للسيولة. ماذا لو وقع زلزال وليس أزمة طاحنة كالتالي نمرّ بها؟ هل سيقول البنك المركزي أنه غير معني ولا يهمه تأمين التمويل المطلوب لإنقاذ من يمكن إنقاذهم وانتشال الضحايا من تحت الركام؟ ويصطفل المجتمع المدني بهذه المهمّة؟

لا يجب أن يكون منع تمويل الدولة من البنك المركزي منعاً تاماً وشاملاً ومطلقاً. ويجب وضع حدود وشروط كالتي يفرضها قانون النقد والتسليف المطبّق استنسابياً، فالدولة ستبقى بحاجة، لفترة غير قصيرة، إلى تمويل العجز بطبع العملة، وبالتالي لا يجب الركون كلّياً إلى التمويل بالقروض الخارجية لتمويل الإنفاق العام، لأن ذلك يزيد الضغوط على ميزان المدفوعات لا يخفّفها، بسبب مدفوعات أقساط وفوائد القروض الأجنبية، وفي ظل نقص القروض الخارجية، كما هو متوقّع، سيكون معنى ذلك تخفيض الإنفاق العام بصورة متتالية ومستمرّة، فلنتذكّر مجدّداً أن التقشّف فكرة خطرة.
 

أخيراً، كي لا يُساء فهم المقصود في استعراض هذه الأسباب الخمسة لمعارضة صندوق النقد في لبنان. فنحن بحاجة إلى تمويل من الخارج والصندوق مصدر من مصادر التمويل المُتاح، ولكن البرنامج الذي يوافق عليه هو حصيلة مفاوضات مع الحكومة بما تُمثّل. ففي النهاية، سيجد الصندوق والحكومة قواسهما المُشتركة عندما تكون ظروف الاتفاق قد تحقّقت. 

صندوق النقد، هو أقوى مؤسّسة مالية في العالم، ولكنّه أيضاً صاحب أكبر سجل أسود يُلطِّخ سمعته منذ تأسيسه في أواخر الحرب العالمية الثانية. أحياناً، استخدمت بعض الحكومات قروضه لدعم سياسات مقبولة في ظل الأزمة، إلّا أنّ الغالب في تجارب الدول التي لجأت إليه أنها أفضت إلى زيادة الوضعين الاقتصادي والاجتماعي سوءاً، وتم استخدام قروضه لإنقاذ الدائنين والمصرفيين وكبار المودعين، وأدّت السياسات المُتبعة تحت عنوان "الإصلاح" إلى المزيد من الفقر والديون، وغذّت العداء للإصلاح والتغيير.

لهذا، معارضة الصندوق واجبٌ، ولا تنفصل عن معارضة النظام القائم.