شي فاشل

  • 2/3 من برامج صندوق النقد فشلت في البلدان الثرية و3/4 في البلدان الفقيرة
  • أدرِج الإنفاق الاجتماعي ضمن شروط الصندوق كمسكّنات لتمرير رفع الدعم

يكاد ينطبق المثل الشعبي "في كلّ عرس له قرص" على علاقة صندوق النقد الدولي بالأزمات المالية والنقدية المُتدحرجة عبر العالم. فلا تشتعل أزمة إلّا ويصبح موضوع طلب المساعدة من الصندوق على لسان صنّاع القرار والخبراء الاقتصاديين والإعلاميين.

تعاظم دور الصندوق منذ اندلاع الأزمة الماليّة العالمية عام 2007 حتّى وصل إلى درجة غير مسبوقة مع رزمة المساعدات التي أطلقها لمحاربة جائحة كوفيد-19 عام 2021 وبلغت قيمتها 650 مليار دولار أميركي. ويشمل هذا الدور المُتعاظم الدُول الثريّة التي استحوذت على القسم الأكبر من مساعدات كوفيد بعد أنّ كانت دول الجنوب قد نالت حصّة الأسد من برامج الصندوق في الربع الأخير من القرن العشرين.

وفي المنطقة العربيّة، تدخّل صندوق النقد في العقد الأخير بشكل حاسم في مصر عام 2016 عبر قرض بلغ 12 مليار دولار، ومجدّداً عام 2020 عبر تسهيلات ائتمانيّة تعدّت 5 مليارات دولار. والصندوق ناشط كذلك في العراق وتونس. وفي لبنان، رُبِطت خُطّة التعافي من الإنهيار المالي والاقتصادي باتفاق مع صندوق النقد على الرغم من وجود تمنُّع عند الأوليغارشية اللبنانية حفاظاً على مصالحها الضيّقة التي قد تتعارض مع بنود اتفاق مماثل. وتتبنّى كذلك معظم القوى اللبنانية التي تُصنّف نفسها في خانة المعارضة الرواية المُهيمنة عن ضرورة الاستعانة بصندوق النقد. وعندما ترتفع بعض الأصوات المُعترضة على سياسة الصندوق، يتمّ تصنيفها مباشرة بالأيديولوجية أو الطوباوية.

أجرى صندوق النقد مراجعة شاملة لبرامجه وشرطيّتها عام 2018 بيّنت أن نسبة الفشل في هذه البرامج مرتفعة جدّاً هناك أسباب أيديولوجية وجيهة لمعارضة صندوق النقد مثل التشبّث بمبدأ العدالة الاجتماعية. لكن لا حاجة لاستحضار المفهوم القِيَمي الذي يتبرّأ منه جزافاً مناصرو الاقتصاد الحرّ للتحذير من برامج صندوق النقد. فالصندوق نفسه قام بمراجعة شاملة عام 2018 عبر تفويض فريق من الباحثين إجراء دراسة عن برامجه وشرطيّتها، كانت الأولى من نوعها بعد الأزمة الماليّة العالمية في 2007. تشير هذه الدراسة، وبالأرقام، إلى نسبة الفشل المُرتفعة لهذه البرامج في العقد الثاني من الألفية الثالثة. وتحوي الدراسة كذلك مسوحاً ومقارنات وخلاصات عن الشرطيّة (أي الشروط التي يفرضها الصندوق مقابل منحه القروض). تساعد هذه الخلاصات على فهم أوفى لأسباب الفشل والنجاح من منظور الصندوق نفسه. وهي معرفة ضرورية لاتخاذ موقف منهجي في وجه سياسة الصندوق والبحث عن بدائل.

نسبة نجاح برامج الصندوق لم تتعدّ 33%

يستخدم الصندوق أدوات إقراض مُتعدّدة تتناسب مع تصنيفه لاقتصاديّات البلدان المعنيّة ونوعية الأزمة التي تمرّ بها. ولكلّ أداة شرطيّتها. وفي تقريره لعام 2018، تبرز أداتان رئيسيتان. الأولى هي "حساب الموارد العامّة"، وهو الحساب الذي استدانت منه الدول "المُتقدّمة،" أي الدول الثرية، التي لجأت إلى الصندوق بعد الأزمة المالية في 2007. والثانية هي "الصندوق الائتماني للنمو والحدّ من الفقر" وهو مُخصّص للدول ذات الدخل المنخفض. تنحصر أهداف الفئة الأولى من البرامج التي طالت الدول الثرية في تصحيح ميزان المدفوعات في المدى القصير، بينما تأخذ الفئة الثانية بالاعتبار عناصر اقتصادية أكثر شمولية كمعدّلات النمو. ويقاس النمو المستدام بدوره عبر قياس عدد من المؤشّرات الاقتصادية والمالية التي تعتمد عليها الدراسة لتقييم نجاح برامج الإقراض. من هذه المؤشّرات: الحساب الجاري (بما فيها حجم الصادرات والواردات) ونسب النمو والاحتياطي الأجنبي والموازنة العامة والدَّيْن العام والقدرة على الولوج إلى السوق وحجم الديون المتعثّرة.

وبحسب الدراسة، فإن النتائج أتت على الشكل التالي: نحو 33% من البرامج التي طالت الدول الثرية صُنّفت ناجحة، و25% صُنّفت فاشلة، والباقية صُنّفت "ناجحة بشكل جزئي". في المقابل، نحو 25% من البرامج التي طالت الدول الفقيرة نجحت، و25% فشلت، والباقية، أي 50%، كانت ناجحة بشكل جزئي، أي فشلت بشكل جزئي (فالنجاح الجزئي هو الوجه الآخر للفشل الجزئي). وعليه، وفي أحسن الأحوال، اقتصر النجاح الواضح إلى مجرّد الثلث في حالة الدول الثريّة والربع لدى الدول الفقيرة، بينما كان الفشل الكامل أو الجزئي من نصيب ثلثي الدول الغنيّة وثلاثة أرباع الدول الفقيرة. ولو طبّقنا هذه النسب على حظوظ نجاح عملية جراحية، لما أقدم معظم الناس عليها، فما بالك عندما يتعلّق الأمر بمعيشة ونجاة مجتمع بأكمله.
 

شروط أكثر وانصياع أكبر ونمو مُخيِّب

عند التدقيق في أسباب هذا الفشل، تبرز مجموعة من المُعطيات تستحق التوقّف عندها. أوّلها أن كمّية الشروط الهيكلية المرافقة لعملية الإقراض ازدادت في السنوات الأخيرة. وقد تزامن ذلك مع نسبة التزام مُرتفعة من قِبَل جميع الدول بتلك الشروط وصلت إلى 80%. بكلام آخر، غالبية الحكومات المعنية لم تعارض شروط الصندوق بل استمرّت بالالتزام بها على الرغم من زيادة هذه الشروط. وقد يدلّ ذلك على تبنّي النخب الحاكمة مقاربة الصندوق لمفهوم الإصلاح الاقتصادي من تلقاء نفسها.

في المقابل، سجّلت الدراسة ارتفاعاً "ملحوظاً" في عدم استكمال البرنامج حتى النهاية، وعزت ذلك إلى ضعف الإحساس بملكية المشروع الإصلاحي لدى المجتمعات المعنيّة، واعتبرت أن للمجتمع المدني دور مُهم في تسويق البرنامج لدى الرأي العام لمحاربة ذلك. وهذا يفسّر لنا الفارق بين التزام الأنظمة بتعليمات الصندوق من جهة، وعدم قدرتها على الاستمرارية في البرامج في وجه المعارضة الشعبية. على أهمّية هذا العامل في خفض نسب النجاح، يبقى السبب الرئيسي في عدم نجاح العديد من البرامج هو معدّلات النمو المخيّبة للآمال. وهنا بيت القصيد.

تعترف الدراسة أنّ العديد من المؤشّرات المتدفّقة مثل الحساب الجاري والميزانية العامّة ونسب الاحتياطي كانت مُشجّعة، وفي بعض الحالات لامست أهدافها. كذلك حقّقت الشرطية النقدية نتائج جيّدة، من وجهة نظر الصندوق، فحافظت على معدّلات منخفضة للتضخّم. لكن ذلك لم يُترجَم بشكل إيجابي في المؤشّرات الثابتة، مثل الدَّيْن العام والخاص (ويقاس الأخير عبر قياس حجم الديون المتعثّرة). والسبب، بحسب الدراسة، هي التوقّعات المتفائلة لنسب النمو التي لم تتحقّق. واللافت أن الدراسة نفسها تعتبر أن برامج صندوق النقد أساءت "وبشكل منهجي" تقدير تأثير إعادة الهيكلة على النمو.

لا تقتصر إعادة الهيكلة تلك على سياسات التقشّف التقليدية أو السياسات الضريبية النيوليبرالية التي اعتمدتها غالبية الدول الفقيرة كزيادة الضريبة على القيمة المضافة بدلاً من زيادة الضرائب التصاعدية. بل تشمل سياسات تُصنَّف عادة بالتقدّمية مثل الإنفاق الاجتماعي على الفئات المُهمّشة. يشير التقرير إلى أن نسبة البرامج في فترة 2011-2018 التي تبنّت أهدافاً حول الإنفاق الاجتماعي وصلت أربعة أضعاف الفترة السابقة. وكان الإنفاق الاجتماعي بنداً من بنود الشرطية في 90% من برامج الصندوق للدول الفقيرة وأُنفِقت النسب المرجوّة في 70% من البرامج. لكن الدراسة تشير الى أن التركيز على نوعية هذا الإنفاق وعلى الحماية الاجتماعية والمساواة كانت محدودة بشكل عام. وفي بعض الحالات كان هذا الدعم محاولة لمعالجة آثار رفع الدعم عن سلع الطاقة على الطبقات الأكثر هشاشة. في المقابل، لم ينجح سوى 20% من البرامج في إنفاق النسب المرجوّة في مجال الإنفاق الاستثماري، مثل تجديد البنية التحتيّة للبلد المعني والذي يحفّز عادة الاستثمار الطويل الأمد في المشاريع الصناعية والخدماتية ويخلق طلباً على اليد العاملة، وبالتالي يحرِّك دورة الاقتصاد.

هذا الفارق بين الإنفاقين الاجتماعي والاستثماري يعكس المقاربة النيوليبرالية للصندوق لمفهوم العدالة الاجتماعية، والتي تتبنّاها غالبية المنظّمات غير الحكومية. بحسب هذه المقاربة، تتجسّد العدالة الاجتماعية في المساعدات العينية للفئات "المُهمّشة". وهي في معظمها مُسكّنات تهدف إلى تمرير سياسات تقشّفية مثل رفع الدعم عن المواد الأساسية. يغيب عن هذه المقاربة المفهوم التنموي الذي يعتمد على تفعيل القدرات الإنتاجية للاقتصاد من خلال الإنفاق الاستثماري على البنية التحتية وكلّ ما يمكنه أن يحُفّز الإنتاج.

يغيب كذلك عن هذه المقاربة البُعد السياسي لنجاح أو فشل برامج صندوق النقد. تكشف الدراسة نفسها عن دور السياسة بشكل مباشر وغير مباشر. بالمباشر، تشير الدراسة في إحدى بياناتها إلى أن الدول التي تعاني من تحوّلات سياسية أو اقتصادية كبيرة ليس لديها حلول وسط. فهي لم تشهد أي نجاح أو فشل جزئيين. أي أن برنامج الصندوق كان إمّا ناجحاً بالمطلق أو فاشلاً بالمطلق، ونسبة الفشل كانت 55% مقابل 45% لنسبة النجاح.

وبالتالي، يكاد يكون الفشل مؤكّداً في دولة كلبنان، تعاني من تحوّلات سياسيّة واقتصاديّة سلبيّة وتخضع لسلطة سياسيّة تعيق بدل أنّ تُسهّل الحلول. أمّا في غير المباشر، تُبيّن الدراسة الفارق الكبير بين مجموعة الدول الثريّة التي اعتمدت أداة الحساب الجاري وتلك "النامية" التي اعتمدت أداة "الصندوق الائتماني للنموّ والحدّ من الفقر" فيما يخصّ أدوار اللاعبين الدوليين في دعم الدول المأزومة. ففي مقابل دور هامشي للتمويل المالي الدولي للدول الثريّة خارج نطاق ما يقدّمه الصندوق (حوالي 20% من مجمل التمويل)، يلعب التمويل الثنائي وتمويل المؤسّسات الماليّة الدوليّة دوراً حاسماً فيما يخصّ الدول "النامية" يصل إلى حوالي 70% من مجمل الدعم، بينما لا يتعدّى التمويل المتأتي من صندوق النقد 10%.

 

يستحضر مناصرو الصندوق هذه النسب أحياناً للردّ على من يشير إلى صغر الكوتا التي يمكن سحبها من الصندوق بالقول إن برنامج صندوق النقد هو مجرّد عامل مُسهِّل لجذب التمويل من مصادر أخرى. وهو كلام ظاهره صحيح. لكنّه يتجاهل أن ذلك يعني موافقة تلك الجهات المعنيّة بإعطاء الدعم، وبالتالي الارتهان إلى سياسات دول خارج إطار آليّات الصندوق. وما لبنان سوى مثالاً فاقعاً حيث تتمنّع الدول المانحة التقليدية مثل دول شبه الجزيرة العربية والدول الغربية مثل فرنسا والولايات المتّحدة عن تقديم أي دعم أو ضمانات من باب العقاب السياسي المُتّصل بمقاومة إسرائيل والوقوف في وجه المحور الأميركي في المنطقة وليس من باب محاربة الفساد الذي لا يختلف إثنان على تغلغله عند السلطة السياسية في لبنان. وحتى في الحالات التي لا تتضمّن صراعات دولية على مستوى الحروب التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، يبرز دور السلطة السياسية في تحديد مسار النجاح والفشل كما كانت الحال في اليونان وماليزيا، والأخيرة قلّما يأتي على ذكرها مروِّجو الصندوق.

خلاصة: ماليزيا والمسار البديل

تُشكّل اليونان التي عانت من أزمة مالية عام 2009 مثالاً حيّاً على فشل سياسة الصندوق. لا يقتصر هذا التقويم على وزير المالية اليوناني السابق، يانيس فاروفاكيس، الذي أسهب في شرح هذا الفشل من موقعه كمشارك في الأحداث واقتصادي متمرّس في قضايا المال، بل يشمل مدير عمليّات الصندوق في أوروبا بول تومبسون نفسه الذي وجّه انتقادات عدّة لبرنامج الصندوق في اليونان. ففي خطاب له عام 2019، إعترف تومبسون أنّ تقديرات الصندوق حول آثار التقشّف على النمو في اليونان كانت متفائلة أكثر من اللزوم. لقد قدّر الصندوق أن معدّلات النمو في اليونان سوف تعود إلى معدّل ما قبل الأزمة بعد نحو 8 سنوات من البدء بتطبيق البرنامج. مرّت عشر سنوات وبقي معدّل النمو أقل بـ22% من معدّل ما قبل الأزمة. أعاد الصندوق النظر في توقّعاته فاعتبر أن اليونان بحاجة إلى 15 سنة إضافية، أي حتى عام 2034، كي تعود نسبة النمو إلى ما كانت عليه قبل الأزمة. وبحسب تومبسون، لعبت التقلّبات السياسية في اليونان دوراً في إطالة الأزمة، فقد توقّفت اليونان عن تنفيذ البرنامج في منتصف الطريق نتيجة الاحتجاجات الشعبية. ولم تقتصر الخلافات بحسب تومبسون على الصندوق والحكومة اليونانية حول سياسات الأخيرة، بل تعدّتها لتشمل خلافات بين الصندوق وشركائه الأوروبيين فيما يخصّ التعاطي مع الدَّيْن.

بخلاف اليونان، تُشكّل ماليزيا مثالاً يُحتذى به للخروج من الأزمة من دون مساعدة الصندوق. لقد كانت ماليزيا البلد الوحيد من بين دول آسيا التي تعرّضت إلى أزمة حادّة عام 1997 ورفضت تدخّل الصندوق. في بداية الأزمة، اتّبعت الحكومة الماليزيّة برئاسة مهاتير محمد وإشراف وزير المال أنور إبراهيم وصفة الصندوق التقشّفيّة من دون صندوق. لكن النتائج المُخيّبة سرعان ما حثّت محمد على قلب المعادلة. فاتّبع سياسة توسعية لا تقشّفية ترافقت مع مجموعة من التدابير للحدّ من أي آثار انكماشية قد تتعارض مع هدف السياسة التوسعيّة. على رأس هذه التدابير وضع قيود على تحويلات رأس المال لمنع خروج الأموال الأجنبية. لقد أدرك محمد، وهو من دعاة السوق الحرّة، مخاطر ربط الاقتصاد الماليزي بشكل أكبر بالاقتصاد العالمي من خلال سياسات التقشّف ومن دون ضبط الأسواق المالية. والأهمّ أن السلطة في ماليزيا عدّلت مقاربتها بحسب تطوّر الأزمة وقامت بتفصيل التدابير على قياس اقتصادها وليس بحسب الوصفة المعروفة للصندوق. وقد حافظت بذلك على سيادتها وأضفت شرعية على برنامج التعافي التي وضعته، جنّبها التبعية المُدمِّرة التي عانت منها اليونان، وتعاني منها غالبية دول المنطقة العربية. فهل من يعتبر؟