Preview الثورة المصرية

إزاحة عمّال مصر عن ذاكرة الثورة

في كتابها «ثورة 1919 في الأدب والسينما»، تشرح الكاتبة دينا حشمت كيف سعت الروايات الرسمية وغير الرسمية إلى رسم صورة لثورة 1919 بوصفها ثورة «أفندية المدينة»، وبالتالي إزاحة النضالات الفلاحية والعمّالية من مشاهد الثورة. وبعد ما يقرب من 100 عام على ثورة 1919، تكرّر الأمر نفسه مع ثورة يناير 2011، التي عمدت مختلف الروايات على تصويرها كـ«ثورة شباب»، مستبعدة التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية كافة، التي أدّت إليها وأثّرت فيها، كما لو أن الثورة هي حالة تمرّد لجيلٍ غاضب وليست نتاج عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية متداخلة بشدّة.

إن اختصار ثورة يناير في كونها ثورة الشباب، واختزال مشاهد الثورة في اعتصام 18 يوماً في ميدان التحرير إلى حين رحيل الرئيس المصري السابق حسني مبارك، ليس سوى استبعاداً جديداً للطابع الاجتماعي للثورة وإخفاء التناقضات التي فجّرتها.

ثورة يناير

تكشف إطلالة سريعة على الحركة العمالية السابقة للثورة عن أن الانتفاضة الثورية التي شهدتها مصر في كانون الثاني/يناير 2011، كانت لها الكثير من المقدّمات في المجتمع. ويمكن القول إن السنوات التي سبقت الثورة مباشرة شهدت أكبر موجة من الإضرابات والاحتجاجات العمّالية في تاريخ الحركة العمّالية المصرية، حتى أن احتجاجات العمّال أصبحت من المعطيات الرئيسة للأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر، في السنوات الخمس السابقة على الثورة.

موجة الاحتجاجات المتصلة

تضاعفت الاحتجاجات العمالية بوتيرة متسارعة منذ العام 2004، وبلغت ذروتها في العام 2007، وعلى الرغم من تراجعها النسبي، بقيت أعدادها أعلى قياساً بالسنوات الأولى من الألفية. وهنا يجدر القول إن الحركة العمّالية في فترة تسعينيات القرن الماضي اتسمت بالسكون، ولم يتخلّلها سوى إضرابات متناثرة وقصيرة الأمد. بينما تحوّلت الحركة العمالية بعد العام 2006 إلى موجة متصلة واسعة الانتشار.

لا تعبّر إحصائيات الاحتجاجات العمّالية عن كل شيء، فقد كان هناك تغيّرات نوعية لا يمكن إهمالها. شهدت الحركة العمالية انتشاراً جغرافياً وقطاعياً غير مسبوق، وامتدّت إلى محافظات الوجه البحري والصعيد والقاهرة ومدن القناة، وشملت أنحاء الجمهورية المصرية كافة. كما امتدّت في المؤسّسات الصناعية الكبرى، إلى جانب القطاعات الخدمية مثل السكة الحديد والنقل العام ومترو الأنفاق والبريد، بالإضافة إلى شركات القطاع الخاص في المناطق الاستثمارية. وانتقلت عدوى الاحتجاجات العمّالية إلى موظّفي الدولة، الذين يعدون تاريخياً أبعد من ممارسة الاحتجاجات الجماعية.

تحوّل الإضراب والاعتصام والتظاهر إلى ثقافة يومية في أوساط الطبقة العاملة في السنوات الخمس السابقة على الثورة، ومع امتداد الحركة العمّالية، تطوّرت أدواتها وقدرتها على التنظيم والتعبئة، فبدأت مشاهد الاعتصام في مناطق رئيسة مثل محيط مجلس الوزراء وبوابة البرلمان، بالإضافة إلى التظاهر في الشوارع. وظهر دور بارز للنساء سواء كمحرّكات للإضرابات مثلما فعلت عاملات شركة غزل المحلة في كانون الأول/ديسمبر 2006، عندما بادرن بالدعوة للإضراب في الشركة واستجاب العمال لهن، أو بالمشاركة في قيادة الإضرابات والاعتصامات كما حدث في اعتصامات موظّفي الضرائب العقارية وإضرابات شركة الحناوي، أو بالمشاركة في الاحتجاجات نفسها بين جموع العمّال مثل عاملات شركة المنصورة أسبانيا. شكّلت طبيعة المشاركة النسائية في الحركة العمّالية تطوراً ثقافياً هاماً وتحدّياً لتقاليد اجتماعية راسخة خصوصاً مع مبيت النساء في الاعتصامات.

يمكن القول إن السنوات التي سبقت الثورة شهدت موجة كبرى من الإضرابات والاحتجاجات العمّالية، التي أصبحت من المعطيات الرئيسة للأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر، في السنوات الخمس السابقة على الثورة

أدّى امتداد الحركة العمّالية على مدار سنوات إلى تطوّر المطالب العمّالية، من مطالب جزئية بسيطة لكلّ موقع عمّالي، إلى مطالب أكثر شمولاً، مثل مطلب رفع الحد الأدنى للأجور على المستوى القومي، ووقف عملية الخصخصة التي انطلقت في تسعينيات القرن الماضي، وتطهير المؤسّسات من الفساد وإقالة المسؤولين الفاسدين ومحاسبتهم. كما أسهم هذا الامتداد في تطوّر الحركة تنظيمياً وبروز جيل جديد من القادة العمّاليين في المواقع، وهو ما انتقل بالحركة العمّالية لاحقاً إلى السعي لبناء نقابات مستقلة، وهي المحاولات التي بدأها موظّفو الضرائب العقارية في العام 2008 وتبعتهم مواقع أخرى، وعشية اندلاع الثورة كانت قد تشكّلت نقابات مستقلة عدّة، منها نقابة الضرائب العقارية ونقابة المعلّمين ونقابة الفنيين الصحّيين واتحاد أصحاب المعاشات.

كان لهذا التطوّر التنظيمي للحركة العمّالية معنى عميقاً في السياسة المصرية، لا سيما أن التنظيم النقابي الموالي كان أحد أهم أدوات سيطرة الدولة. فالتنظيم الذي أسّسه جمال عبد الناصر في العام 1957 كان أكبر وأهم تنظيم جماهيري تسيطر عليه السلطة، وحافظت عليه الأنظمة المتتالية التي أعقبت عبد الناصر كونه من أهم أدوات الحشد والتعبئة في أي مناسبة، بدءاً من الانتخابات والاستفتاءات وصولاً إلى القرارات السياسية الكبرى مثل الصلح مع إسرائيل وخصخصة شركات القطاع العام. وساهم بدء خروج العمّال عن سيطرة الاتحاد الرسمي أحد أهم أوجه إضعاف سلطة نظام حسني مبارك وفقدانه أدوات السيطرة.

انعكست مظاهر وأدوات الحركة العمّالية في الثورة عبر احتلال الشوارع والميادين والمشاركة الواسعة للنساء، وكذلك عبر الآليات التي اعتمدت في تنظيم الإضرابات، وحماية أماكن الاعتصام من الهجمات الأمنية، وحراسة المنشآت والمؤسّسات ووسائل الإنتاج، وحتى مشاهد الصدامات العنيفة مع قوات الأمن التي شهدتها الثورة سبقتها صدامات مشابهة، وإن كان على نطاق ضيّق في انتفاضة مدينة المحلة العمّالية في نيسان/أبريل 2008.

المشاركة العمالية في ثورة يناير

لم يقتصر دور الحركة العمّالية في الثورة على التأثير الذي أحرزته في السنوات السابقة على انتفاضة يناير. ففي خلال الثورة كان الوجود العمّالي بارزاً، والمحافظات الأكثر زخماً في الانتفاضة هي نفسها التي شهدت في السنوات السابقة صعوداً عمالياً ملحوظاً، مثل السويس والإسكندرية والمحلة. لكن الدور الأكثر مباشرة وتأثيراً هو الإضرابات التي نظّمها العمّال في خلال الثورة وأعلنوا من خلالها الانضمام إلى الثورة. 

أدّى امتداد الحركة العمّالية إلى تطوّر المطالب من مطالب جزئية بسيطة لكلّ موقع عمّالي، إلى مطالب أكثر شمولاً، مثل رفع الحد الأدنى للأجور على المستوى القومي، ووقف عمليات الخصخصة، وتطهير المؤسّسات من الفساد

وعلى الرغم من أن تلك الإضرابات لا تذكر عادة عند الحديث عن أحداث ثورة يناير، إلا أنها تصاعدت بسرعة البرق في الأيام الأخيرة قبل رحيل حسني مبارك، ومن أبرز المواقع العمّالية التي شهدت إضرابات داعمة للثورة كانت مدينة السويس مع إعلان عمّال 10 شركات الإضراب والانضمام إلى الثورة، منها شركات الصلب والسماد وأربع شركات تابعة لقناة السويس وشركة الأسمنت وشركة الزجاج. واحتل بعض العمّال الشركات رافعين مطلب رحيل مبارك. ومن بين تلك الإضرابات أيضاً، برزت إضرابات عمّال بعض المؤسّسات الصحافية، مثل روزاليوسف والجمهورية، وانضم أيضاً عمّال هيئة النقل العام وعمّال الشركة المصرية للاتصالات الذين نظّموا مظاهرات أمام السنترالات في القاهرة والمحافظات، وعمّال ورش السكة الحديد، وعمّال شركات النسيج في المحلة، وعمّال النظافة والتجميل في محافظة الجيزة الذين قطعوا الشوارع الرئيسة في المحافظة. كما أعلن عمّال البريد الانضمام إلى الثورة وتظاهروا أمام المقر الرئيسي لهيئة البريد في ميدان العتبة في القاهرة، وانتقلت الإضرابات والاحتجاجات العمّالية الداعمة للثورة من محافظة إلى أخرى ومن قطاع إلى آخر. وقبل يوم 11 شباط/ فبراير، كان في مصر ما يشبه الإضراب العام في كافة المحافظات وكافة القطاعات.

أدّت الحركة العمّالية دوراً أساسياً، سواء في حرث الأرض قبل الثورة بسنوات، أو في الانتفاضة الثورية نفسها إلى حين الإطاحة بحسني مبارك. والأهم أن دورها لم يتوقّف عند الإطاحة بمبارك، بل استمرّت الموجة العمّالية في الصعود وتحوّلت إلى طوفان من الاحتجاجات العمّالية عقب الإطاحة بمبارك، وتنوّعت مطالب العمّال بين تحسين أوضاع العمّال والأجور، وتطهير المؤسّسات من القيادات التابعة لنظام مبارك، ومحاسبة المسؤولين الفاسدين في المؤسّسات والإضرابات التضامنية، والحق في التنظيم النقابي المستقل، وغيرها من المطالب، والتي كانت في إجمالها تطبيق عملي لشعارات الثورة: «عيش، حرية، عدالة إجتماعية».

شرط نجاح الثورة المضادة 

يعد استمرار صعود الحركة العمالية عقب الإطاحة بمبارك استمراراً للثورة وتعميقاً لها، خصوصاً في جانبها الاجتماعي والاقتصادي، وهو ما انتبهت له السلطة الجديدة في حينها، أي المجلس العسكري الحاكم، وبدأت الدعاية المعادية للاحتجاجات العمّالية في الانتشار سريعاً، بدءاً من استخدام مصطلح «الاحتجاجات الفئوية» لوصف الحركة العمّالية، وصولاً إلى فصلها عن الثورة، ثم اتهامها بتعطيل عجلة الإنتاج وتهديد المجتمع.

إن الدعاية المضادة للحركة العمّالية التي راجت في أعقاب الإطاحة بمبارك، كانت في حقيقتها تمهيداً لقمع الحركة. ومن القرارات الأولى التي اتخذها المجلس العسكري الحاكم في آذار/مارس 2011، هو تجريم تعطيل العمل وإحالة المضربين والمحرّضين على الإضراب إلى المحاكمة العسكرية.

والمفارقة التاريخية أن حكومة حزب الوفد بقيادة قائد ثورة 1919، حلّت اتحاد العمّال وقمعت الحركة العمّالية بعنف في  العام 1923، بعد الدور الذي أدّته الحركة العمّالية في ثورة 1919، وأدّت إلى وصول حزب الوفد إلى السلطة. لكن حكومة الوفد بقيادة سعد زغلول لم يتسع صدرها للحركة العمّالية. وربما تكرر الأمر على نحو آخر مع الضباط الأحرار في العام 1952، إذ على الرغم من إعلان النقابات العمّالية تأييد حركة الضباط الأحرار في تموز/يوليو 1952، لم يتردّد الضبّاط الأحرار في قمع مظاهرات عمّال شركة «كفر الدوار» للغزل والنسيج في أيلول/ سبتمبر من العام نفسه، وبلغ الأمر حدّ محاكمة العمّال وإصدار حكم بالإعدام على اثنين منهم في محاكمة عاجلة وتنفيذه سريعاً.

الذروة الأعلى التي وصلت إليها الحركة العمالية كانت في العام 2013، ولكن هذا العام كان أيضاً عام نجاح الثورة المضادة في استعادة السلطة، وبعدها بدأ منحنى الحركة العمّالية في الهبوط عبر سياسات قمع منهجية

كان واضحاً للثورة المضادة أن الحركة العمّالية التي تطوّرت قبيل الثورة وخلالها هي العائق الأهم أمام سيطرتها. وعلى الرغم من الدعاية المعادية للحركة العمّالية، والقمع الذي انتهج ضدها، استمرّت الحركة في مسارها الصعودي عقب الإطاحة بمبارك، ليس فقط عبر تنظيم الاحتجاجات ورفع المطالب، ولكن أيضاً عبر تطوير القدرات التنظيمية التي ظهرت قبل الثورة. بدأت النقابات المستقلة في التوسّع والانتشار في القطاعات والمحافظات كافة، وبدأ تشكيل اتحاد للعمّال في وقت مبكر، وأطلق في ميدان التحرير في 30 كانون الثاني/يناير، كما تشكّلت نقابات مستقلة جديدة وانضمت للاتحاد المستقل، فيما تشكل اتحاد نقابي آخر على أسس الاستقلال أيضاً ولكن وفقا لآليات تنظيمية أخرى حالت دون اندماجه في الاتحاد الأول.

الذروة الأعلى التي وصلت إليها الحركة العمالية كانت في العام 2013، عندما بلغ عدد الاحتجاجات العمّالية 2239. ولكن هذا العام كان أيضاً عام نجاح الثورة المضادة في استعادة السلطة، وبعدها بدأ منحنى الحركة العمّالية في الهبوط عبر سياسات قمع منهجية استخدمتها السلطة في مواجهة كل احتجاج. ومع رفع شعار الحرب على الإرهاب أطلقت السلطة يد الأمن في التعامل مع احتجاجات العمّال واعتقال قيادات الإضرابات . ليست الاحتجاجات فقط هي التي تراجعت ولكن النقابات المستقلة أيضاً. بعد العام 2013، ماطلت السلطة في إصدار قانون جديد يقونن وضع النقابات المستقلة، ويمنحها وضعاً دائماً، واستمرت المماطلة حتى صدر قانون النقابات العمالية الجديد في العام 2017، والذي منح صلاحيات واسعة لوزارة القوى العاملة في التحكم في إجراءات تشكيل وإعلان النقابات العمّالية، ما أدى إلى محاصرتها بالإجراءات البيروقراطية وشلّ حركتها وإجهاض تجربة استقلال النقابات. وترافق ذلك مع إجراءات اقتصادية عنيفة، انعكست في ارتفاع استثنائي للتضخّم، وتآكل القيمة الحقيقية للأجور، وتنامي الفقر. وهي سياسات ما كان لها أن تمر لو كان هناك وجود لحركة عمّالية نشطة. في الواقع، كانت السيطرة على الحركة العمّالية خطوة ضرورية ما كانت السلطة من دونها لتتمكّن من تطبيق السياسات الاقتصادية القاسية. 

لم يدرك أي طرف الدور الذي لعبته الحركة العمالية في ثورة يناير، وأهمّية الحركة العمّالية لاستمرار الثورة وتجذّرها على المستويين الاجتماعي والاقتصادي بقدر ما أدركته الثورة المضادة، كما أدركت أن قمع الحركة العمّالية سريعاً، ومحوها من ذاكرة الثورة هو شرط ضروري لنجاح الثورة المضادة.