Preview مصر بعد الانتخابات

ما بعد انتخابات الرئاسة المصرية

لا أحد في مصر أو خارجها ينتظر انتهاء الانتخابات الرئاسية ليعرف ما سوف تسفر عنه، فالنتيجة واضحة حتى قبل بداية الانتخابات، وهي أن حكم الرئيس الحالي عبد الفتّاح السيسي سوف يستمرّ لست سنوات إضافية. ولكن ما يترقبه الكثيرون في مصر هو ما سوف يعقب الانتخابات على الصعيد الاقتصادي.

لم يظهر الأثر الفعلي للاتفاق مع الصندوق إلّا في تراجع سعر الجنيه أمام الدولار من أقل من 25 جنيه إلى أكثر من 30 جنيه للدولار

بذلت السلطة في مصر جهداً واضحاً في استيعاب الأوضاع السياسية والسيطرة عليها قبل الانتخابات الرئاسية، وحقّقت بالفعل نجاحاً ملحوظاً في استيعاب القطاع الأكبر من المعارضة السياسية حول «الحوار الوطني»، الذي انطلق في خلال العام الجاري في مقابل الإفراج عن عدد من سجناء الرأي من مختلف القوى السياسية. 

بالفعل، نجح مسار الحوار الوطني في استيعاب غالبية قوى المعارضة، ولكنّه أسهم أيضاً بترشّح أحد رؤساء أحزاب المعارضة للانتخابات الرئاسية، بالإضافة إلى مرشحين اثنين من صفوف المعارضة، فضلاً عن اثنين محسوبين كمؤيدين للسلطة. وعلى الرغم من غياب المنافسة في الانتخابات، لكن أصبح الجو العام أفضل من انتخابات 2018 التي لم يترشّح فيها سوى أحد مؤيّدي السيسي.

لم يكن للمسار الاقتصادي حظ المسار السياسي نفسه في عام الانتخابات الرئاسية. فعلى الرغم من أن العام 2023 بدأ باتفاق مع صندوق النقد الدولي بعد مفاوضات مطوّلة، لكن هذا الاتفاق لم يحمل حلاً حقيقياً للأزمة. ضَمَنَ الاتفاق مع الصندوق قرضاً صغيراً بقيمة 3 مليارات دولار على دفعات، تُسدد بالتزامن مع شروط فرضها الصندوق وضغوط يمارسها لاتخاذ خطوات أسرع على طريق تحرير سعر الصرف وخصخصة مشروعات الدولة. لم يظهر الأثر الفعلي للاتفاق مع الصندوق إلّا في تراجع سعر الجنيه أمام الدولار من أقل من 25 جنيه للدولار إلى أكثر من 30 جنيه للدولار، وهو ما انعكس بالطبع موجات تضخّمية مُتتالية بسبب ارتفاع كلفة الاستيراد ومدخلات الإنتاج.

مستويات قياسية للتضخّم والديون

تراجع قيمة الجنيه، مصحوباً بعوامل أخرى، دفع التضخّم في عام الانتخابات إلى مستويات قياسية لم تسجّل في تاريخ مصر، وكسر معدل التضخّم حاجز 40% في بعض الأشهر، بعكس ما كان يطمح إليه النظام من محاولة تخفيف آثار الأزمة في خلال عام الانتخابات الرئاسية.

السبب الأوضح لتنامي العجز هو أعباء الديون، التي ارتفعت بنحو الضعف بين الربع الأول من العام الماضي والفترة نفسها من العام الحالي

لم تكن مستويات التضخم القياسية المظهر الوحيد للأزمة الاقتصادية، شكّلت الديون أيضاً عنواناً لوضع الاقتصاد المصري، حيث بلغ الدين الخارجي بدوره مستوى قياسياً وصل إلى 165 مليار دولار، بالإضافة إلى الدين المحلي الذي تضخّم بفعل الإفراط في استخدام أدوات السياسة النقدية ورفع سعر الفائدة مرّات متتالية في عام واحد. تمثّلت النتيجة بإثقال الموازنة العامة بأعباء الديون، بحيث أصبحت أقساط وفوائد الديون تلتهم أكثر من نصف نفقات الموازنة العامة. وبحسب الموازنة العامة للعام المالي الحالي (2023/ 2024)، بلغ العجز في الربع الأول من العام نحو 3.9%، في مقابل 2.1% في الربع الأول من العام المالي السابق، وهو ما يعني زيادة أقرب من الضعف، ومن المتوقع أن يصل العجز بنهاية العام المالي الجاري إلى 7% بالمقارنة مع 6% في العام المالي السابق.

السبب الأوضح لتنامي العجز هو أعباء الديون، التي ارتفعت من 216.9 مليار جنيه في الربع الأول من العام الماضي إلى 477.5 مليار جنيه في الربع الأول من العام المالي الحالي، أي بزيادة تتجاوز الضعف. أدّت هذه المؤشّرات، بطبيعة الحال، إلى تخفيض الحكومة توقّعاتها لنمو الاقتصاد المصري في العام المالي الجاري إلى 3.5% بدلاً من 4.2%.

الفشل في تخفيف آثار الأزمة

لم تنجح الحكومة في ترميم الأوضاع الاقتصادية قبل جولة الانتخابات الرئاسية، على الرغم من محاولاتها تخفيف آثار الأزمة مرّات عدّة، سواء عبر حزم الحماية الاجتماعية، وآخرها في أيلول/سبتمبر الماضي عندما أطلق الرئيس السيسي حزمة حماية اجتماعية تضمّنت رفع الحدّ الأدنى للأجور وزيادة المعاشات ورفع حدّ الإعفاء الضريبي وزيادة الدعم النقدي. كذلك تفادت الحكومة طوال العام الحالي إجراء تخفيضات إضافية في سعر الصرف، ما أدّى إلى تأجيل مراجعة صندوق النقد الدولي للاتفاق مرّتين في شهري آذار/مارس وأيلول/سبتمبر الماضيين، كما أطلق رئيس الوزراء مصطفى مدبولي مبادرة لخفض أسعار عدد من السلع الأساسية قبيل انطلاق انتخابات الرئاسة، وحاولت الحكومة الامتناع عن رفع أسعار الوقود بعدم عقد اجتماع لجنة تسعير الوقود في موعده في تموز/يوليو الماضي، ولكنها اضطرت لعقده في الموعد التالي بعد ثلاثة أشهر ورفعت أسعار الوقود.

بحسب تقديرات المصرف المركزي، سوف يتعيّن على مصر سداد أكثر من 42 مليار دولار على خدمة ديونها في خلال العام 2024، فيما احتياطي العملات الأجنبية لا يتجاوز 35 مليار دولار

لم تفلح محاولات الحكومة في تخفيف أو حتى إخفاء مظاهر الأزمة الاقتصادية وأثرها على الحياة اليومية للمواطنين. امتصت معدّلات التضخّم القياسية حزم الحماية الاجتماعية سريعاً، ولم تتوقّف مستويات المعيشة عن التراجع، فيما لم يحل تفادي تحرير سعر الصرف وتأجيل مراجعات صندوق النقد دون ارتفاع سعر الدولار في السوق الموازية حيث تجاوز 50 جنيه في مقابل 30.8 جنيه في السوق الرسمية. وحتى مبادرة رئيس الوزراء لخفض أسعار عدد من السلع لم يستجب لها السوق وارتفعت أسعار السلع الأساسية.

إن مظاهر الأزمة التي تغلّبت على الإجراءات الحكومية عشية انتخابات الرئاسة، تعني في حقيقة الأمر أن الأوضاع لن تتحسّن في المدى المنظور، وأن ما بعد الانتخابات الرئاسية سيكون أسوأ. ويبدو ذلك واضحاً من تفاقم عجز الموازنة العامّة في الربع الأول، وخفوت مؤشّرات النمو. كذلك يبدو أن أزمة الديون سوف تكون أكثر إلحاحاً عقب الانتخابات الرئاسية. وبحسب تقديرات المصرف المركزي المصري سوف يتعيّن على مصر سداد أكثر من 42 مليار دولار على خدمة ديونها في خلال عام 2024، الذي يلي الانتخابات الرئاسية. إذ يستحق على مصر نحو 32.8 مليار دولار من الديون المتوسّطة والطويلة الأجل في خلال العام 2024، ونحو 9.5 مليار دولار من الديون قصيرة الأجل في خلال النصف الأول من العام نفسه، وهو ما يعني أن مستحقّات الديون قصيرة الأجل في النصف الثاني من 2024 قد ترفع أعباء الدين عن 42 مليار دولار.

استحقاقات الدين الضخمة على مصر في العام 2024، يقابلها احتياطي متواضع من النقد الأجنبي لا يتجاوز 35 مليار دولار، علماً أن قسماً كبيراً من هذا الاحتياطي هو عبارة عن ودائع لدول الخليج. ويترافق ذلك مع عجز في الميزان التجاري تجاوز 31 مليار دولار في العام المالي 2022/ 2023، وهو مرشّح للارتفاع في العام المالي الجاري بسبب تراجع صادرات الغاز. في الخلاصة، ما تعنيه هذه المعطيات أن استحقاقات الدين في العام 2024 لن تكون أقل من كابوس حقيقي.

مواصلة تجريب المجرّب

تتفاقم المصاعب التي قد يواجهها الاقتصاد المصري عقب الانتخابات الرئاسية نتيجة محدودية خيارات الحكومة المصرية. تتمسّك الأخيرة بالخيارات المجرّبة نفسها التي تقوم على الاستدانة وبيع الأصول العامّة لتوفير بعضاً من النقد الأجنبي، وكلّها خيارات ثبت فشلها في معالجة شحّ العملة الشديد، وارتفاع أعباء الدين إلى حدود يصعب تحمّلها، ولجم قفزات الأسعار المتتالية، وتفاقم عجز الموازنة العامّة وانخفاض معدّلات النمو، وهو ما ينبئ باحتمال تضاعف حدّة الأزمة.

ما تلقاه الاقتصاد المصري من دول الخليج وصندوق النقد  في السنوات السابقة هو أضعاف ما يتوقّعه الآن، ومع ذلك لم تحلّ الأزمة بل ساهم هذا الدعم في تعقيدها

إن الأوضاع السياسية المتفجّرة في المنطقة بحكم العدوان الصهيوني على غزّة، نشّطت الدور السياسي المصري، وجعلت صندوق النقد الدولي أكثر مرونة تجاه الحكومة المصرية. فقد أعربت مديرته، كريستينا جورجييفا، عن دعمها الخطوات الاقتصادية التي تقوم بها مصر، واستعداد الصندوق لرفع قيمة القرض المتفق عليه، كما أشارت في تصريحاتها في قمة المناخ بالإمارات إلى عدم إصرار الصندوق على ربط دعمه لمصر بتحرير سعر الصرف، ما يعني أن مصر لن تكون مضطرة لتحرير سعر الصرف قبل الحصول على القسط الثاني من القرض، وقيمته 700 مليون دولار. أيضاً، بدورها، بدت دول الخليج أكثر حرصاً على مساندة الاقتصاد المصري في هذه المرحلة، حتى وإن اقتصرت هذه المساندة، حتى الآن، على تجديد أجل ودائعها في المصرف المركزي المصري.

من ناحية أخرى، تسعى الدولة لطرح مجموعة من المشروعات أمام المستثمرين بهدف الحصول على بعض من النقد الأجنبي. وأبرز تلك المشروعات بيع حصّة من الشركة القابضة للفنادق، وطرح بيع محطات توليد كهرباء بالغاز ومزارع الرياح، بالإضافة إلى بيع الشركة الوطنية لبيع وتوزيع المنتجات البترول المملوكة لجهاز الخدمة الوطنية للقوات المسلّحة.

مع ذلك، إن الشكوك المحيطة بقدرة تلك الخطوات على كبح الأزمة الاقتصادية مشروعة، فما تلقاه الاقتصاد المصري من دول الخليج وصندوق النقد الدولي في السنوات السابقة هو أضعاف ما يتوقعه الآن، ومع ذلك لم يحلّ ذلك الدعم الأزمة بل ساهم في تعقيدها وإثقال الدولة بالديون. كما أن طرح أصول الدولة للبيع سواء في البورصة أو لمستثمر رئيس هي من السياسات المستمرّة منذ عقود وألقت بعواقب وخيمة على الاقتصاد. والملاحظ هنا أن الدولة المصرية تسعى إلى طرح محطّات كهرباء تعمل بالغاز والريح امام استثمارات القطاع الخاص، في الوقت الذي تعاني فيه من نقص في توليد الكهرباء يدفعها إلى التقنين. كذلك من الملاحظ أن المشروعات التي تطرحها الدولة للخصخصة سواء كانت إنتاجية أو خدمية هي مشروعات مُدرّة للربح، وبعضها يدرّ نقداً أجنبياً، مثلما حدث في شركة «الرباط والأنوار» التابعة لشركة «قناة السويس والفنادق». وهذا يعني أن الحكومة تفضّل الحصول على دفعة واحدة من النقد الأجنبي ولو على حساب قطع مورد دائم للربح والنقد الأجنبي، وهو ما يعني تراجع إيرادات الدولة على المدى المتوسط.

الأهم هو أن المرونة التي يبديها صندوق النقد الدولي ودول الخليج تجاه دعم الاقتصاد المصري، بعد خطاب متشدّد، ترتبط بشكل واضح بالتوتر الذي تشهده المنطقة على خلفية العدوان الإسرائيلي، وأهمّية دعم استقرار النظام المصري ودعم دوره النشط في الوساطة، ما يعني أنها مرونة مؤقّتة يمكن أن تزول مع تراجع هذا التوتر.

الآتي أسوأ

الحقيقة التي يمكن رؤيتها بوضوح هي أن فشل محاولات الحكومة في كبح الأزمة الاقتصادية وتخفيف آثارها عشية الانتخابات الرئاسية، تعني أن الأزمة أكبر من الخطوات المتخذة. وربما يكون سعر الصرف مثالاً على ذلك، فمقاومة الدولة لتحرير سعر الصرف طوال العام الجاري لتفادي موجة تضخّمية كبيرة قبيل الانتخابات، أدّت إلى صعود أكبر على سعر الدولار في السوق الموازية، وهو السعر المعتمد فعلياً في التعاملات وليس السعر الرسمي. إذن، إن محاولات السيطرة على سعر الصرف من دون توفير موارد حقيقية ومستدامة للنقد الأجنبي ودعم القدرات الإنتاجية ليست أكثر من محاولات غير مجدية.

فشل محاولات الحكومة في كبح الأزمة الاقتصادية وتخفيف آثارها عشية الانتخابات الرئاسية، تعني أن الأزمة أكبر من الخطوات المتخذة

والأمر نفسه ينسحب على مساعي مواجهة أزمة الديون من خلال اقتراض المزيد منها، سواء عبر الاتفاق مع صندوق النقد أو الاقتراض من دول الخليج أو محاولات جذب الأجانب إلى أدوات الدين الحكومية. فتلك السياسة التي اتبعتها الحكومة لسنوات لم تؤدِ سوى إلى مضاعفة أعباء الدين.

يبدو المشهد الاقتصادي المرتقب عقب الانتخابات الرئاسية واضحاً، فمحاولات الحكومة تخفيف آثار الأزمة سوف تتراجع بعد انتهاء الانتخابات، والمرونة التي يبديها بعض «الأصدقاء» اليوم سوف تتراجع مجدّداً مع انخفاض التوتر، وسوف يكون على الدولة تدبير أكثر من 42 مليار دولار لسداد أقساط الديون في خلال العام التالي على الانتخابات، وهو ما يعني إضافة أعباء جديدة على مالية الدولة، وهي أعباء تنتقل تلقائياً إلى كاهل المواطنين. ومع اللجوء إلى مزيد من القروض لسدّ العجز وبيع أصول الدولة لتوفير النقد الأجنبي، ستصبح ذرا الأزمة أكثر تواتراً وأكثر ارتفاعاً.