معاينة الانتخابات المصرية

الاقتصاد المصري: مُسكِّنات جديدة لأمراض قديمة

مع عملية طوفان الأقصى وبدء العدوان الإسرائيلي على غزّة والضفّة الغربية، برز تحوّل واضح في خطاب الأطراف الدولية والإقليمية بشأن الاقتصاد المصري، من الانتقاد والتحذير إلى الحديث عن أهمّية دعمه.

قبل الأحداث في غزّة، كانت التصريحات الرسمية لمسؤولي صندوق النقد الدولي لا تخلو من الانتقادات لطريقة إدارة الاقتصاد المصري، وتحذّر من عواقب وخيمة على الأوضاع الاقتصادية ما لم تتخذ مصر خطوات جدّية في اتجاه التحرير الكامل لسعر الصرف وخصخصة المشروعات العامّة. وكان خطاب دول الخليج، التي دعمت الاقتصاد المصري سابقاً، أقل ودّاً، وظهرت التصريحات الأكثر عملية، لتؤكّد أنه لا مزيد من الدعم المجّاني والمساعدات للاقتصاد المصري، ولكن هناك تبادل مصالح، في إشارة إلى شراء أصول مصرية مقابل الدعم، ولكن أيضاً بشرط تحرير سعر الصرف لتقييم الأصول بشكل واقعي.

الموقف العالمي والإقليمي وضعا الاقتصاد المصري في مأزق حقيقي، ولكن مع تصاعد الأحداث في المنطقة تغيّر الحديث عن الاقتصاد المصري بوضوح، فبدأ مسؤولو صندوق النقد الدولي في الحديث عن الخطوات الإصلاحية التي خطاها الاقتصاد المصري والإشادة بتلك الخطوات، كما بدأ الحديث عن إمكانية زيادة القرض الذي تمّ الاتفاق عليه بين القاهرة والصندوق. من ناحية أخرى، بدا الحديث أكثر وداً من جانب دول الخليج تجاه دعم الاقتصاد المصري، وجدّدت دول الخليج ودائعها لدى البنك المركزي المصري، وظهرت تقارير صحافية عن دعم الاتحاد الأوروبي لمصر بتسعة مليارات يورو، سواء في شكل مساعدات أو استثمارات لمواجهة آثار الصراع المتفجّر في المنطقة، وما قد يتبعه من زيادة أعداد اللاجئين.

هذا التغيّر في التعاطي مع الاقتصاد المصري من كبار الداعمين تم ربطه بأهمية مساندة مصر لمواجهة الآثار الاقتصادية لتفجّر الصراع في المنطقة، خصوصاً مع احتمال تدفّق موجات هجرة ولجوء إلى الأراضي المصرية، وفق ما أشارت بعض التقارير إليه، فيما اعتبر مراقبون بمثابة حوافز لمصر للقبول بمشروع تهجير الفلسطينيين إلى سيناء.

ولكن من الصعب تصوّر أن المرونة التي يبديها داعمون للاقتصاد المصري، سواء إقليمين أو دوليين، ترتبط على نحو مباشر بآثار انفجار الوضع في فلسطين على الاقتصاد المصري.

تأثيرات الحرب على غزّة

الحرب الجارية على حدود مصر لها تأثير على الاقتصاد المصري بالتأكيد، ولكن هذه الآثار لا يمكن مثلاً مقارنتها بآثار الحرب الروسية-الأوكرانية، التي أدّت إلى طفرات فورية في أسعار القمح والحبوب والطاقة، وألقت بأعباء ثقيلة على الاقتصاد المصري، خصوصاً ما يتعلّق بفاتورة الواردات التي استنزفت احتياطي النقد الأجنبي للبلاد في وقت قياسي. ومع ذلك، لم تستدعِ تلك الآثار أي مرونة في تعامل الداعمين للاقتصاد المصري مع تلك الأوضاع، بل على العكس، بدا صندوق النقد الدولي متشدّداً في مفاوضات استغرقت عام 2022 بالكامل، وانتهت أخيراً بالموافقة على قرض بقيمة 3 مليارات دولار فقط، لم يقدّم منها حتى الآن سوى دفعة واحدة، فيما يحجز باقي الدفعات حتى تلبّي مصر الشروط اللازمة، والتي تتضمّن تحرير سعر الصرف وتسريع وتيرة الخصخصة. ولكن مع الحرب على غزة، بدا الصندوق أكثر مرونة، وحتى استعداداً، لرفع قيمة القرض بقيمة تقترب من 5 مليارات دولار وفق ما أوردته بعض التقارير.

الحرب الجارية على حدود مصر لها تأثير على الاقتصاد المصري بالتأكيد، ولكنها لا تقارن بآثار الحرب الروسية-الأوكرانية، التي أدّت إلى طفرات فورية في أسعار القمح والحبوب والطاقة

والواقع قد يكون هناك بعض التأثير على الاقتصاد المصري جرّاء الحرب على غزّة، ولاسيّما على قطاع السياحة، ولكنّه تأثير محدود. بحسب وزير السياحة المصري، أحمد عيسى، ما تم إلغاؤه من حجوزات بعد أربعة أسابيع من اندلاع الحرب لم يتجاوز 10% من مجمل الحجوزات فقط، مبدياً تفاؤله بتحقيق المستهدفات التي وضعتها وزارة السياحة وتفادي التأثيرات الإقليمية.

تمثّل الجانب الآخر من التأثيرات في انقطاع الغاز الإسرائيلي عن مصر، والذي أدّى إلى وقف تدفّق الغاز إلى المصانع كثيفة الاستهلاك للطاقة مثل مصانع الأسمدة، فضلاً عن عودة جداول انقطاع الكهرباء عن المنازل، ولكن لم يستمرّ توقّف ضخّ الغاز الإسرائيلي لمصر لفترة طويلة، وسرعان ما عاد للتدفّق وفق معدّلاته قبل الحرب. هناك تأثير محتمل بالطبع لمهاجمة حركة «أنصار الله» للسفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، وهو ما قد ينعكس على الملاحة في قناة السويس، ولكن هذا الأثر لم يظهر بعد ويتوقّف حجمه على مسار الأحداث.

الحقيقة أن مسألة دعم الاقتصاد المصري في مواجهة آثار الحرب على غزّة لا تتفق لا مع حجم تلك الآثار، ولا مع تجاهل الهزّة الأشد التي تعرّض لها الاقتصاد المصري في وقت سابق على إثر الحرب الروسية-الأوكرانية.

رفض تهجير الفلسطينيين إلى سيناء

المبرر الثاني لمرونة الداعمين هو تحفيز مصر والضغط عليها في الوقت نفسه للقبول بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، وهو ما لا يصمد كثيراً أمام ما أعلنه النظام المصري بالفعل من رفضه القاطع لوضع قنابل موقوتة داخل حدوده. والحقيقة أنّ النظام المصري تعامل بحذر دائماً إزاء التورّط في صراعات إقليمية ممتدّة، وقاوم بحزم الكثير من الإغراءات والضغوط في سبيل ذلك. وربّما كان موقفه من الحرب في اليمن أقرب مثال على ذلك، فعلى الرغم من اعتماد النظام المصري وقتها على الدعم المباشر من الإمارات والسعودية، وعلى الرغم من إلحاح الدولتين على مشاركة مصر في هذه الحرب، إلا أن النظام المصري قاوم الضغوط حتى النهاية رافضاً التورّط فيما أطلق عليه وقتها «المستنقع اليمني»، وبالتأكيد لن يقبل النظام تحت أي ضغط ومقابل أي إغراء استقدام صراع آخر داخل حدوده. ولا يمكن طبعاً إغفال الرفض الفلسطيني القاطع لأي محاولة تهجير من غزّة.

لن يقبل النظام تحت أي ضغط ومقابل أي إغراء استقدام صراع آخر داخل حدوده. ولا يمكن طبعاً إغفال الرفض الفلسطيني القاطع لأي محاولة تهجير من غزّة

الحقيقة أن الدعم الذي تبدي أطراف إقليمية ودولية استعدادها لتقديمه لمصر في الوقت الحالي يرتبط بشكل مباشر بالدور الإقليمي الذي ارتبط به النظام المصري على مدار السنوات الماضية. فقد أثبت النظام المصري مرّات متتالية أنه الطرف الأكثر قدرة على تأدية دور الوسيط بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية. وكونه الوحيد صاحب الحدود المباشرة مع غزة، فقد منحه ذلك وضعاً خاصاً في اتفاقيات مع المقاومة.

ليست هذه المرّة الأولى التي يتغيّر فيها التعاطي مع النظام المصري على خلفية الصراع في غزة. فالرئيس الأميركي جو بايدن، الذي بدأ ولايته في مطلع 2021 بموقف مُعلن من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على خلفية ملف حقوق الإنسان والديمقراطية، سارع في آيار/ مايو من العام نفسه إلى التواصل معه على خلفية الدور المصري في وقف التصعيد في قطاع غزّة، وأرسل بعدها وزير خارجيته أنتوني بلينكن إلى القاهرة لإجراء مباحثات في هذا الشأن.

الواضح أنه في كلّ مرة تشتعل الأوضاع في فلسطين يتراجع النقد للنظام المصري، وتظهر أهمّية دعم استقرار النظام المصري ودوره الإقليمي على المستويين الإقليمي والدولي، والملاحظ بالطبع عدم بروز أي ملاحظات على الأجواء التي تجري فيها الانتخابات الرئاسية المصرية الحالية أو انحيازات أجهزة السلطة، فضلاً عن الصمت الكامل تجاه قضايا الحبس وملف حقوق الإنسان. والواضح أن التحوّل في الموقف الإقليمي والدولي من دعم الاقتصاد المصري لا يأتي سوى في سياق أهمّية الدور الإقليمي للنظام المصري وأهمّية دعم استقراره.

ولكن الأهم من أسباب ودوافع دعم الاقتصاد المصري في المرحلة الحالية، هو جدوى ذلك الدعم.

العلاج نفسه لمرض متفاقم

من المؤكّد أن الاقتصاد المصري بحاجة ملحّة للدعم العاجل مع مستويات دين خارجي تتجاوز 165 مليار دولار، واستحقاقات دين للعام المقبل تبلغ 29 مليار دولار من الديون القصيرة الأجل بالإضافة إلى 8 مليار دولار ديون طويلة الأجل، بمجموع يصل إلى نحو 37 مليار دولار، فيما لا يتجاوز احتياطي النقد الأجنبي 35 مليار دولار، ويُسجّل عجز مزمن في الميزان التجاري وميزان المدفوعات، ويتجاوز سعر الدولار في السوق الموازية 50 جنيهاً بارتفاع حوالى 60% عن قيمته في السوق الرسمية التي لا تتجاوز 31 جنيهاً للدولار، ومعدّلات تضخّم قياسية.

ما تعد به الجهات الداعمة هو المزيد من القروض والودائع وشراء الأصول الإنتاجية، والحقيقة أن هذا الدعم نفسه الذي استمر طوال العقد الماضي لم يؤدِ إلى علاج الاقتصاد المصري

ولكن طبيعة الدعم الذي تعرضه الجهات الداعمة اليوم هو ما تلقّاه الاقتصاد المصري بالفعل على مدى السنوات العشر الماضية. فما تعد به الجهات الداعمة هو المزيد من القروض والمزيد من الودائع والمزيد من شراء الأصول الإنتاجية، والحقيقة أن هذا الدعم نفسه الذي استمر طوال العقد الماضي لم يؤدِ إلى علاج الاقتصاد المصري، بل على العكس فاقم أزماته، والأهم أنه كفّ بالفعل قدرته على تسكين الأزمات.

لقد أدّى ضخّ الديون في الاقتصاد المصري من أجل سدّ عجز الموازنة ودعم الاقتصاد إلى تحويل الاقتصاد المصري إلى اقتصاد مثقل بالديون، يحتاج دائماً إلى ديون جديدة لسداد الديون القديمة، وأدّى بشكل مباشر إلى استنزاف أكثر من نصف استخدامات الموازنة العامّة من أجل خدمة الدين.

أمّا بيع الأصول الإنتاجية المملوكة للدولة فقد أدّى إلى إخضاع قطاعات إنتاجية هامّة لمصالح المستثمرين، الذين جنوا أرباحاً طائلة من حيازة الأصول، هي الأرباح نفسها التي خسرتها الدولة، وقد يكون المثل الأقرب هو بيع حصة 30% من الشركة الشرقية للدخان والسجائر لشركة غلوبال الإماراتية. والصفقة التي بلغت قيمتها 625 مليون دولار جعلت الشركة الإماراتية أكبر مساهم في الشركة الرئيسة المنتجة للسجائر والدخان في مصر التي تتمتّع بوضع شبه احتكاري لسلعة مبيعاتها مؤكدة. والحقيقة أن ما صاحب الصفقة من ندرة في السجائر في السوق المصري وتضاعف أسعارها هو مؤشر واضح على حجم الأرباح التي سيجنيها المستثمر الذي أبرم الصفقة، والأعباء التي ستضاف على المستهلكين، فضلاً عما ستفقده الدولة من أصول إنتاجية كانت تدرّ أرباحاً هائلة. هذا مجرّد مثال على ما تعنيه عمليات بيع الأصول من جني مكسب سريع بالعملة الصعبة من صفقات وفقدان قدرات إنتاجية ضخمة في المقابل.

ما تعد به اليوم الجهات الداعمة للاقتصاد المصري، سواء الإقليمية منها أو الدولية، ليس سوى المزيد من الديون التي أصبحت هي نفسها الأزمة، والمزيد من بيع الأصول لسداد الديون وفقدان القدرات الإنتاجية، ولكن الأسوأ هذه المرة هو أن تلك الخطوات لم تعد حتى قادرة على تسكين الأزمة التي يمر بها الاقتصاد، فكل خطوة على طريق الدعم تعني بالضرورة المزيد من تحرير سعر الصرف والمزيد من بيع الأصول الإنتاجية، وهو ما ينعكس على الفور في معدلات تضخّم قياسية جديدة وزيادة في أعباء الدين واستنزاف الموازنة العامة وتراجع الإنفاق الاجتماعي.