Preview الاقتصادي في ظل السيسي

الاقتصاد في ظل السيسي: عشر سنوات من التقشّف والديون

جولة انتخابية فاترة لا تتوفر بها أي منافسة ونتيجتها معروفة سلفاً، هكذا تبدو الانتخابات الرئاسية الجارية في مصر على إيقاع خافت، لا يكاد يلمحه أحد. والحقيقة أنه طالما بدت الانتخابات الرئاسية المصرية هكذا، والاستثناء الوحيد كان في العام 2012، أي عقب ثورة يناير عندما شهدت الانتخابات الرئاسية منافسة شرسة أفضت إلى جولة إعادة واستمرّت الإثارة حتى الإعلان الرسمي للنتيجة.

قبل الانتخابات تعالت كالعادة خطابات الإنجازات التي استعرضت ما أنجزه الرئيس في السنوات العشر الماضية، بما يعني أن برنامج الرئيس الاقتصادي هو الاستمرار في السياسات الاقتصادية نفسها التي طبقها على مدار عقد

الانتخابات الرئاسية الهادئة والمحسومة مسبقاً للرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، لا تستدعي بالطبع تكبّد عناء وضع برنامج انتخابي للمرشّح الأوفر حظاً. وحتى الوضع الاقتصادي الذي أصبح يعاني من تراجعات متتالية في قيمة العملة المحلية، وارتفاع مستويات الدين إلى حدود تنذر بالخطر، وتسارع معدلات التضخّم على نحو غير مسبوق، لم يحظ من الرئيس الحالي، ليس ببرنامج اقتصادي، بل حتّى بخطط واضحة للخروج من الأزمة. 

واقع الأمر أنه لا حاجة بالفعل لبرنامج انتخابي لا فيما يتعلّق بالاقتصاد، ولا غير الاقتصاد، فقبل الانتخابات تعالت كالعادة خطابات الإنجازات التي استعرضت ما أنجزه الرئيس في السنوات العشر الماضية، بما يعني أن برنامج الرئيس الاقتصادي هو الاستمرار في السياسات الاقتصادية نفسها التي طبقها على مدار السنوات العشر الماضية.

وربما أهم ما تتميّز به السياسة الاقتصادية في مصر على مدار العقد الماضي، والذي تولّى السيسي فيها الحكم، هو الوضوح الشديد، فمنذ بداية توليه السلطة رسمياً في العام 2014 عمد إلى تطبيق سياسة تقشّفية ستكون عنواناً للسنوات التالية.

سياسات تقشفية

من أول الإجراءات التي اتخذها هي عودة الموازنة العامة التي أقرّها البرلمان للعام المالي 2014/2015، لتطبيق حزمة تقشفية تمثّلت في خفض دعم الطاقة بهدف تقليص الإنفاق، ما أدّى وقتها إلى رفع أسعار الوقود.

لازمت السياسات التقشفية السياسات الاقتصادية للسيسي طوال السنوات العشر، فبعد خفض دعم الطاقة في 2014/2015، اتجهت تلك السياسة نحو إلغاء الدعم بالكامل، تدريجياً، عن الطاقة. ووصلت ذروتها مع إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي في نهاية العام 2016، حصلت مصر بموجبه على قرض بقيمة 12 مليار دولار، وتطبيق حزمة من السياسات التقشفية، أبرزها تحرير سعر الصرف، وإلغاء دعم الطاقة على مراحل، وتطبيق ضريبة القيمة المضافة بنسبة 14% على مرحلتين. كانت تلك السياسات كفيلة بتحقيق قفزة تاريخية في معدلات التضخم.

ولكن طفرة التضخم تلك لن تكون الأخيرة، فبينما صاحب إجراءات الصندوق ارتفاع معدّلات التضخم إلى 32%، استمرت السياسات الاقتصادية التقشفية في دفع التضخّم صعوداً ليصل في خلال العام 2023 إلى مستوى 40%، مسجّلا أعلى مستوى تاريخي.

طفرات التضخّم المتتالية لم يواكبها ارتفاع حقيقي في الأجور يعوّض انخفاض الأجور الحقيقية، فبحسب الموازنات العامة المتتالية تراجعت نسبة الأجور من إجمالي مصروفات الموازنة على مدار السنوات العشر الماضية، من 25.5% في العام 2013/2014، إلى 15% في العام المالي الجاري 2023/2024.

الاقتصاد في ظل السيسي

إن التوسّع في تحصيل الضرائب غير المباشرة، بما يعنيه من ارتفاع التضخّم، وتقلص نصيب الأجور في الموازنة العامة كان يصاحبه من ناحية أخرى تضخم بندين في الإنفاق، الأول هو بند الاستثمارات، والذي ارتفعت نسبته إلى المصروفات من 7.5% في العام المالي 2013/2014، إلى 19% في العام المالي الجاري 2023/2024. 

الاقتصاد في ظل السيسي

إن ارتفاع الإنفاق على الاستثمارات على هذا النحو ارتبط بتوسّع الدولة في المشروعات الضخمة، والتي لم ترتبط على نحو مباشر بضرورات التنمية الاقتصادية، ولم تمثّل إضافة حقيقية للطاقة الإنتاجية، بل على العكس، شهدت تلك الفترة تصفية مشروعات ضخمة، مثل مجمع الحديد والصلب، وشركة الكوك، والتي لم تكن مؤسّسات إنتاجية ضخمة وحسب، بل كانت مشروعات مرتبطة بتوفير مدخلات الإنتاج الصناعي للكثير من المشروعات الإنتاجية. فيما انصبت استثمارات الدولة المتزايدة على مشروعات الطرق والكباري، وحتى السجون. وهو بالطبع ما رافقه هشاشة في التوظيف، فبينما كانت مشروعات الدولة تنصب على الإنشاءات، غلبت على الوظائف التي توفرها الطابع المؤقت الذي يرتبط بتلك المشروعات، على عكس المشروعات الإنتاجية التي توفر وظائف دائمة.

انفجار المديونية العامة

أما البند الثاني الذي تضخّم على مدار السنوات العشر الماضي، هو بند أعباء الديون، فأكثر ما اجتهدت فيه الدولة في السنوات العشر الماضية هو الاقتراض، حتى أصبحت مصر هي ثاني أكبر مقترض من صندوق النقد الدولي بعد الأرجنتين، وذلك بعد حصول مصر على أربعة قروض منذ العام 2016 وحتى مطلع العام الجاري، بإجمالي 25 مليار دولار.

وقد ارتفعت أعباء الدين بالنسبة لاستخدامات الموازنة العامة من 34% في العام 2013/2014 إلى 56% في العام المالي الجاري 2023/2024، أي أن أكثر من نصف موارد الموازنة العامّة تذهب إلى الدائنين. ولكن الجانب الأخطر، والذي يظهره الجدول هو الديون الجديدة التي يتم اقتراضها، والتي تتجاوز أقساط الديون القديمة، أي أن الأزمة لم تصل ذروتها بعد.

الاقتصاد في ظل السيسي

وعلى مدار السنوات العشر الماضية ارتفع الدين الخارجي من 43.4 مليار دولار في العام 2013 إلى أكثر من 165.361 مليار دولار في العام 2023، أي ما يقرب من أربعة أضعاف، ولكن مع ارتفاع قيمة الدولار في سوق الصرف المصرية من أقل من سبعة جنيهات في 2013، إلى ما يقرب من 31 جنيه (في السوق الرسمية بينما يتجاوز 45 جنيه في السوق الموازية)، تصبح القيمة الفعلية للدين الخارجي أكبر كثيراً من قيمته الإسمية.

المؤشرات التي تظهر على الاقتصاد المصري لم تكن كافية في أي لحظة لمراجعة تلك السياسات، بل على العكس، كلما زادت أعباء الديون، اتجهت الدولة للمزيد من الاستدانة، وكلما دفعت سياسات التقشف المزيد من المصريين للفقر اتجهت الدولة للمزيد من التقشف، وبدلاً من إعادة النظر في السياسات المطبّقة، كانت دائماً هناك أسباب قدرية لا دخل للدولة بها، من وباء كورونا للحرب الروسية الأوكرانية وأخيراً الحرب في غزّة، كما لو كانت تلك الأحداث موجّهة للاقتصاد المصري وحده.

على مدار السنوات العشر الماضية اعتمد السيسي في إدارة الاقتصاد على الاستدانة والتقشف، وازداد الاعتماد على الضرائب غير المباشرة وتراجعت حصة الأجور، وتراكمت الديون ملقية أعباء استثنائية على المالية العامة لتزاحم الإنفاق على الصحة والتعليم، لينعكس كل ذلك في أعباء ثقيلة على الطبقات الفقيرة والمتوسطة.

وقبيل الانتخابات الرئاسية نشطت وسائل الإعلام، في استعراض الإنجازات التي تم تحقيقها في ظل حكم السيسي، كتل خرسانية لانهائية ومسافات طويلة من الطرق والكباري. فيما كانت نتائج السياسات الاقتصادية التي طبقت على مدار السنوات العشر تدخل كل بيت مصري في هيئة معدلات تضخم غير مسبوقة ومعدّلات فقر اقتربت من ثلث السكان حسب إحصاءات أجهزة الدولة نفسها.

وفيما ترسم الانتخابات الباهتة ملامح السياسات الاقتصادية لست سنوات قادمة، فإن ما تحقق من نتائج لتلك السنوات في الماضي يلقي بظلال الغموض على السنوات التالية.