Preview التهجير إلى سيناء

خطّة ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء
هل تتحكّم الأزمة الاقتصادية بقرار مصر؟

الحرب الإسرائيلية على غزّة، التي أعقبت عملية «طوفان الأقصى»، هي بالتأكيد حرب وحشية تنطوي على جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، ولكنها ليست حرباً عمياء بلا هدف. فالعدوان المستمرّ على مدار الساعة، للأسبوع الثاني على التوالي، والذي لا يترك متراً مربعاً من الأرض في غزة، بما في ذلك المستشفيات، يبدو هدفه واضحاً، وهو دفع سكّان غزة للنزوح نحو سيناء، المنفذ الوحيد الذي قد يتاح أمامهم بعيداً من المذبحة المتواصلة.

لم تخف إسرائيل هذا الهدف منذ بداية العدوان، وهو هدف مدعوم أميركياً، إلا أن تحقيقه متوقّف على القرار المصري، الذي بدا رافضاً لمناقشة الأمر من حيث المبدأ، وفق بيان مجلس الأمن القومي المصري، وتصريحات كبار المسؤولين في مصر.

أزمة الديون وإغراء الدعم المالي

يُصعب تجاهل أمرين أساسيين في الحديث عن تهجير سكان غزة إلى سيناء. أولهما، يتعلّق بالازمة الاقتصادية التي تعاني منها مصر، وحاجتها إلى دعم دولي للتعامل مع أزمة الديون المتعاظمة. وثانيهما، يتعلّق بالمواقف السابقة للنظام المصري، إذ كان للشأن الاقتصادي الوزن الحاسم في القرار السياسي.

مصر مطالبة بسداد حوالي 37 مليار دولار، في حين أن احتياطي النقد الأجنبي يقدّر بنحو 35 مليار دولار، ويقدّر العجز في الميزان التجاري غير النفطي بنحو 31.6 مليار دولار في العام 2022-2023

تعاني مصر حالياً من أوضاع اقتصادية صعبة، فحجم الدين الخارجي تجاوز 165 مليار دولار. ووفق تقرير الوضع الخارجي للبنك المركزي المصري الصادر أخيراً يستحق على مصر في خلال العام 2024 حوالي 29 مليار دولار من الديون الطويلة والمتوسطة الأجل، بالإضافة إلى 8 مليارات على الأقل تمثل ديون قصيرة الأجل مستحقة حتى آذار/ مارس المقبل، أي أن مصر مطالبة بسداد حوالي 37 مليار دولار، في حين أن احتياطي النقد الأجنبي يقدّر بنحو 35 مليار دولار، ويقدّر العجز في الميزان التجاري غير النفطي بنحو 31.6 مليار دولار في العام 2022-2023. في ظل هذه الوقائع، يحتاج الوضع الاقتصادي للدعم، لا سيما مع مماطلة صندوق النقد الدولي في صرف دفعات القرض المتفق عليه مع مصر منذ نهاية العام الماضي بقيمة 3 مليارات دولار، بحجة عدم تنفيذ مصر توصيات الصندوق وفي مقدّمتها تحرير سعر الصرف بالكامل.

اللافت، أنه مع تصاعد الحرب في فلسطين ظهرت تقارير تفيد باحتمال رفع قيمة قرض صندوق النقد الدولي لمصر إلى 5 مليارات بدلاً من 3 مليارات، مع إشادة من الصندوق بالسياسات التي تطبّقها الحكومة المصرية، في إشارة ضمنية إلى الحوافز التي قد تقدّم لمصر عبر صندوق النقد الذي تتمتّع الولايات المتحدة بالنفوذ الأكبر فيه.

هذا الوضع يبدو نموذجياً للضغط على النظام المصري لقبول تهجير الفلسطينيين إلى سيناء مقابل حوافز تحتاجها مصر بشدّة، خصوصاً مع تخفيض عدد من وكالات التصنيف الائتماني والمؤسّسات المالية تصنيفها لمصر مثل موديز ومورغان ستانلي.

تجارب سابقة: من «كامب ديفيد» إلى «تيران وصنافير»

من ناحية أخرى، لدى الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة، خبرة مع النظم المصرية في الحصول على قرار سياسي عبر الحوافز الاقتصادية أو الضغط الاقتصادي.

تتمثل التجربة الأهم في هذا الصدد باتفاقية كامب ديفيد نفسها، التي أبرمت بين مصر وإسرائيل بإشراف أميركي في العام 1979، والتي كان جانبها الاقتصادي هو حصول طرفي الاتفاقية على دعم سنوي من أميركا، هذا الدعم جعل مصر ثاني بلد متلقي للمساعدات الأميركية بعد إسرائيل، بحيث حصلت مصر بعد اتفاقية كامب ديفيد على 1.3 مليار دولار سنوياً كمساعدات عسكرية، بالإضافة إلى المساعدات المدنية. لم يرتبط هذا الدعم الكبير بالصلح مع إسرائيل وتبادل العلاقات الدبلوماسية فحسب، بل كذلك بتحوّل ملحوظ في سياسات مصر وتوجّهاتها الإقليمية والدولية، وكذلك في سياساتها الاقتصادية.

حصلت مصر بعد اتفاقية كامب ديفيد على 1.3 مليار دولار سنوياً كمساعدات عسكرية، بالإضافة إلى مساعدات مدنية. لم يرتبط هذا الدعم الكبير بالصلح مع إسرائيل وتبادل العلاقات الدبلوماسية فحسب، بل أيضاً بتحوّل ملحوظ في سياسات مصر

كذلك يبدو قريباً من الذاكرة الموقف المصري في العام 1990، عندما انضمّت مصر إلى التحالف الدولي لتحرير الكويت تحت القيادة الأميركية، وساهمت بقوات عسكرية في حرب عاصفة الصحراء. وقتها أيضاً كانت مصر تعاني من أوضاع اقتصادية صعبة، حيث كانت بالفعل على شفا الإفلاس، وأنقذها من هذا المأزق إسقاط جانب من الديون المستحقة عليها في مقابل المشاركة في حرب عاصفة الصحراء، وعلى الرغم من أن التحالف الدولي وقتها ضمّ كبرى جيوش الغرب، أي أنه لم تكن هناك حاجة فعلية لقوّات مصرية، إلّا أن وجود قوات عربية ضمن التحالف أضفى شرعية على الحملة.

الحقيقة، أن الأوضاع الاقتصادية كثير ما قادت القرار المصري، وليس بعيداً من ذلك اتفاقية المناطق المؤهلة (الكويز) بين مصر وإسرائيل وأميركا، والتي تعطي ميزة تفضيلية في الأسواق الأميركية للسلع المصرية ذات المكوّن الإسرائيلي، كذلك اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، أهم داعمي مصر عقب 2013، والتي تخلّت مصر بموجبها عن السيادة على جزيرتي تيران وصنافير، وهذه الاتفاقية حوّلت ممراً بحرياً هاماً مثل مضيق تيران إلى ممر دولي لا سلطة لمصر عليه.

ولكن السؤال هل يمكن أن يقود الاقتصاد القرار المصري الآن أيضاً، بحيث تقبل بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، مقابل حوافز اقتصادية تخفّف عن مصر أعباء الأزمة التي باتت قاسية؟

مخاطر الترحيل أكبر بكثير من منافع مصر

إن القياس السطحي المباشر على مواقف سابقة، قد لا يفيد كثيراً في حساب الموقف المصري الحالي من قضية تهجير الفلسطينيين إلى سيناء. فعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها مصر حالياً وتتبدّى في كل مناحي الحياة، لا أن هناك الكثير من العوامل التي لا يمكن إسقاطها من حسابات القرار المصري.

القرارات والمواقف التي اتخذتها أنظمة مصر سابقاً، تحت ضغط الأزمة الاقتصادية، وفي مقابل حوافز جعلها تستطيع تجاوز المعارضة الشعبية لهذه القرارات، كان يمكن تسويقها على نحو ما.

تضم محافظة شمال سيناء المرشّحة لاستقبال نزوح الفلسطينيين، نحو 114 ألف نسمة فقط، ما يعني أن أي نزوح جماعي من غزّة لسيناء سيعني تغيّر سريع وفوري في التركيبة السكّانية لهذه المنطقة

فاتفاقية الصلح مع إسرائيل سوّقها النظام كاتفاقية سلام من موقع المنتصر بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر، وكإنهاء لصراع ممتدّ كبّد البلاد الكثير على المستويات كافّة، وعلى الرغم من معارضة الاتفاقية إلا أن الشرعية التي اكتسبها النظام بقرار الحرب ساهمت في قدرتها على تحويل الدفة وقتها.

كذلك المشاركة في حرب عاصفة الصحراء تحت القيادة الأميركية، كان يبرّرها النظام أمام المعارضة الشعبية وقتها بأنها حرب لتحرير الكويت بعد غزو صدام حسين، كذلك لم تكن مظاهر الدمار التي لحقت بالعراق جراء الحرب قد ظهرت بعد.

أما قضية تهجير الفلسطينيين إلى سيناء فهناك أكثر من عقبة تكفى أحداها لمنع اتخاذ قرار كهذا. فتهجير الفلسطينين لسيناء لا يعني في حقيقة الأمر إلا إزاحة خط المواجهة بين إسرائيل والفلسطينيين إلى الحدود المصرية، أي أنه قرار ينقل صراع ممتد ولا ينهي أي أزمة. سيكون على الجانب المصري أن يكون في المواجهة مع الفلسطينيين بدلاً من إسرائيل، فانتقال الفلسطينيين إلى سيناء لا يعني انتهاء المقاومة، بل على العكس سيعني امتدادها. وفيما ظل النظام المصري لسنوات يحارب «الجماعات المسلّحة» و«الإرهاب» في سيناء بتكلفة بشرية واقتصادية باهظة، سيكون عليه أن يقلق مجدّداً بشأن سيناء ولفترة لا يمكن تحديدها.

إن طموحات النظام بشأن سيناء ومحور قناة السويس ومستقبل المنطقة الاستثماري، تجعل أي حوافز اقتصادية محتملة تتسم بالضآلة أمام المخاطرة بوضع ملتهب في سيناء بالقرب من المناطق التي يعول عليها النظام اقتصادياً.

من ناحية أخرى، تعد سيناء من أقل مناطق مصر لجهة الكثافة السكانية، حيث تضم حوالي 600 ألف نسمة، بينما تضم محافظة شمال سيناء المرشّحة لاستقبال نزوح الفلسطينيين، نحو 114 ألف نسمة فقط، ما يعني أن أي نزوح جماعي من غزّة لسيناء سيعني تغيّر سريع وفوري في التركيبة السكّانية لهذه المنطقة، وستكون على نحو ما منطقة فلسطينية وليست مصرية، وسيصعب بسط السيادة المصرية عليها.

هناك ما يمكن أن تكسبه مصر بصفقة تهجير الفلسطينيين من غزة لسيناء، ولكن خسائر تلك الصفقة ستكون أفدح من أي مكاسب محتملة وقصيرة المدى، فضلاً عن أزمة ستولد بمجرد اتخاذ قرار كهذا ولن تلبث أن تتضخم.