Preview التضخم في مصر

التضخّم في مصر: الذروة الجديدة ليست الأولى ولا الأخيرة

سجّلت مؤشّرات التضخّم في مصر في خلال آب/ أغسطس الماضي رقماً قياسياً جديداً، بلغ 39.7% على أساس سنوي وفق نشرة التضخّم الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامّة والإحصاء، بالمقارنة مع 15.3% في الشهر نفسه من العام الماضي. هذه الذروة التي بلغها معدّل التضخّم في مصر ليست الأولى، فعلى مدى الشهور الماضية حقّق أرقاماً قياسية مُتتالية، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة لأسباب عدّة.

Previewتطور المعدل الشهري للتضخم

 

تضخّم أسعار الغذاء يتجاوز التضخّم العام

أكثر ما يلفت النظر في معدّل التضخّم المُسجّل في آب/أغسطس ليس ارتفاع الرقم القياسي فحسب، ولكن تركيبة التضخّم نفسها بما تحمله من دلالات هامّة على الصعد الاقتصادية والاجتماعية. فبينما بلغ معدّل التضخّم العام 39.7% في آب/ أغسطس الماضي، شهد التضخّم في قسم الأغذية والمشروبات ارتفاعاً أكبر بلغ 71.9%. تسجّل هذه الطفرة في أسعار الغذاء منحى تصاعدياً على مدى الشهور الماضية، وقد قادت معدّل التضخّم العام نحو مستويات قياسية.

ومن ضمن السلع الغذائية، سجّلت مجموعة اللحوم والدواجن الارتفاع الأعلى بنسبة 97%، فيما ارتفعت مجموعة الأسماك بنسبة 85.9%، بينما سجّلت مجموعة الحبوب والخبز ارتفاعاً بنسبة 48.6%، بكلّ ما لهذه الارتفاعات من أثر على توفير الكفاف للفقراء. كذلك ارتفعت مجموعة منتجات الألبان بما تعنيه من تغذية الأطفال بنسبة 69.5%، وارتفعت الخضروات بنسبة 98.4%. 

أما بالنسبة لقسم الرعاية الصحية فقد ارتفع معدّل التضخّم فيه بنسبة 22.8%، في مقابل 23.6% في قسم الملابس والأحذية.

Previewمعدل التضخم وفق أبواب الإنفاق

 

دخل الأسر لم يعد كافياً لسدّ حاجاتها الغذائية

يعود تأثير ارتفاع أسعار الغذاء بالأساس إلى حصّته الوازنة من دخل الأسر المصرية، فكلّما انخفض مستوى الدخل كلّما ارتفعت نسبة الإنفاق على الغذاء من إجمالي الدخل. وبحسب بحث الدخل والإنفاق الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامّة والإحصاء في نهاية العام 2020، يبلغ متوسّط إنفاق الأسر المصرية على الغذاء 31% من مجمل دخلها. ولكن عند النظر إلى حصّة الإنفاق على الغذاء من مجمل الدخل وفق شرائح الدخل المختلفة، يتبيّن التفاوت الكبير بين الأسر المصرية. فبينما تبلغ نسبة الإنفاق على الغذاء وسط الشرائح الاجتماعية العليا نحو 11.8% من دخلها، تبلغ نحو 84% وسط الشرائح الفقيرة. وهذه النسبة الهائلة تعني ببساطة أن أي ارتفاع في أسعار الغذاء سوف ينعكس على قدرة نسبة كبيرة من الأسرة الفقيرة على تأمين غذائها، إذ لن يكفيها دخلها لتوفير حاجاتها الغذائية. 

بينما بلغ معدّل التضخّم العام 39.7% في آب/ أغسطس الماضي، شهد التضخّم في قسم الأغذية والمشروبات ارتفاعاً أكبر بلغ 71.9%

وهذا بالضبط ما تعكسه معدّلات التضخّم المسجّلة حالياً، بحيث لم يعد دخل الأسر المصرية الفقيرة كافياً لتلبية احتياجاتها الغذائية حتّى.

وتصبح هذه القدرة المقوّضة أكثر وضوحاً عند معاينة مستويات الأجور في مصر، فبينما كانت تمثّل مخصّصات الأجور في الموازنة العامة للدولة في العام المالي 2014/2015 نحو 27% من المصروفات، تراجعت إلى 15.7% في العام المالي الحالي. وبينما ارتفعت معدّلات التضخّم في العام المالي الماضي بنسبة 20% تقريباً، لم ترتفع مخصّصات الأجور إلّا بنسبة 14.6% في العام المالي الحالي، الذي يبدو واضحاً أنه سيشهد المزيد من الارتفاع في معدّل التضخّم. وهذا يعني أن الأجور الحقيقية تنخفض فعلياً، وتنخفض معها القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية بالنسبة للأسر التي تنفق الجزء الأكبر من دخلها على الغذاء. 

والحقيقة الأخرى هنا هي أن مخصّصات الأجور في الموازنة تذهب للقطاع الأكثر استقراراً وأماناً وظيفياً في الدولة، وهو قطاع العاملين في الحكومة، والذي تطبّق عليه العلاوات الدورية والاجتماعية بشكل منتظم، وهو ما لا يتوفر للعاملين بالقطاع الخاص والعمالة غير المنتظمة الذين يمثلون النسبة الأكبر من العاملين بأجر في مصر، وهي أيضاً النسبة التي تتمتّع بضمانات أقل وأجور أقل ومعدّل زيادة في الأجور أقل.

إن المعنى المباشر لمعّدلات التضخّم التي تشهدها مصر حالياً هو فقدان عدد كبير من الأسر، خصوصاً التي تعتمد على الأجر، القدرة على تدبير احتياجاتها الأساسية ولا سيما الغذاء. فقد تضاعفت أسعار الغذاء الأساسي، مثل الخبز والدقيق وزيت الطعام والخضروات، في خلال العام الماضي. أمّا الدولة في ظل موجة تضخّم لم تشهدها البلاد من قبل، فبدلاً من أن تتخذ إجراءات خاصّة من أجل تخفيف الأعباء عن الفقراء، اتخذت إجراءات عكسية تزيد تلك الأعباء. فعلى الرغم من الارتفاع الحادّ في أسعار السلع الغذائية الرئيسة، أصدر وزير التموين قراراً بحذف الأرز من لائحة السلع التموينية التي يحصل عليها مستحقّو الدعم، كما خفّضت الموازنة العامة مخصّصات دعم السلع التموينية التي يستفيد منها 60 مليون مواطن، من 130 مليار جنيه في العام المالي الماضي، إلى 127.7 مليار جنيه في العام المالي الحالي. وهذا الخفض، على الرغم من كونه ضئيلاً إلا أن أثره كبير، لأن ارتفاع معدّلات التضخّم على هذا النحو يعني أن تثبيت الدعم في حدّ ذاته انخفضت قيمته، وبالتالي تقليصه ولو بنسبة ضئيلة يعدّ تخفيضاً مركباً، وهو ما ينعكس على أكثر الأسر احتياجاً. 

 

الأسباب المباشرة لموجات التضخّم المُتتالية

على الرغم من كلّ التداعيات السلبية لموجة التضخّم الحالية على الشرائح الاجتماعية في مصر، لكنها لم تبلغ ذروتها بعد. 

الأجور الحقيقية تنخفض فعلياً، وتنخفض معها القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية بالنسبة للأسر التي تنفق الجزء الأكبر من دخلها على الغذاء

تعود الأسباب المباشرة لموجات التضخّم المتتالية التي شهدتها مصر في الفترة الأخيرة إلى ارتفاع سعر الصرف وتضخّم الأسعار العالمية. دفعت الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت منذ أكثر من عام أسعار الطاقة إلى الارتفاع وكذلك أسعار القمح والحبوب. وكان تأثيرها على مصر سريعاً وقوياً؛ فمصر مستورد صافي للوقود، وأكبر مستورد للقمح في العالم، وتستورد أيضاً الحبوب والزيوت ومختلف السلع التي تأثّرت أسعارها بالحرب.

العامل الثاني هو سعر الصرف. شهد سعر الصرف في مصر تقلّبات درامية منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، حيث ارتفع على مراحل من أقل من 7 جنيهات للدولار الواحد، إلى أكثر من 30 جنيه للدولار. ومع عجز مزمن في الميزان التجاري يتجاوز 40 مليار دولار، واعتماد على الواردات في الغذاء بنسبة تتجاوز 50%، فضلاً عن الاعتماد على الواردات في الطاقة وبعض الخامات ومدخلات الإنتاج، يصبح لأي تغيّر في سعر الصرف تأثيراً مضاعفاً على أسعار المستهلكين.

هناك تأثير آخر لتقلّبات سعر الصرف في مصر. إن ارتفاع الدولار أمام الجنيه، فضلاً عن ضعف الموارد الدولارية وعدم توفرها في الأسواق، يحرم المستهلك المصري من الشعور بتراجع الأسعار العالمية عند حدوثها. على سبيل المثال، أوضحت بيانات منظّمة الأغذية والزراعة (الفاو) أن مؤشّر أسعار الأغذية الذي تصدره المنظّمة سجّل انخفاضاً في آب/أغسطس الماضي بنسبة 2.1%، كما سجّل انخفاضاً بنسبة 24% عن الذروة التي بلغها في آذار/مارس 2022 جرّاء الحرب الروسية الأوكرانية، وانعكس ذلك الانخفاض على أسعار منتجات الألبان والزيوت النباتية واللحوم. والأمر نفسه فيما يتعلّق بأسعار الحبوب، الذي أظهر مؤشّر منظّمة الفاو انخفاضه في آب/أغسطس الماضي بنسبة 0.7% عن الشهر السابق، وسجّل انخفاضاً بنسبة 14.1% عن ذروة الأسعار التي سجّلها في آذار/مارس 2022. لم تنعكس تلك الانخفاضات على أسعار المستهلكين في مصر، فالقفزات التي سجّلها سعر الدولار أمام الجنيه امتصّ أي انخفاض لا بل حوّله إلى ارتفاع كبير في الأسعار.

شهد سعر الصرف في مصر تقلّبات درامية منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، حيث ارتفع على مراحل من أقل من 7 جنيهات للدولار الواحد، إلى أكثر من 30 جنيه للدولار

لا يفسّر ارتفاع سعر الدولار أمام الجنيه وحده معدّلات التضخّم القياسية الحالية، ولكنه يدعم بقوّة التوقّعات باستمرار المنحى التصاعدي للتضخّم، الذي قد يبلغ أرقاماً قياسية جديدة. تبيّن كلّ المؤشّرات أن الدولار سوف يستمرّ في الارتفاع في الفترة المقبلة، إذ يراوح سعره في السوق غير الرسمية للعملات بين 38 و40 جنيه، في مقابل 30.9 جنيه في السوق الرسمية. ومن ناحية أخرى تترقّب الأوساط المالية، المراجعة الثانية لصندوق النقد الدولي في أيلول/سبتمبر الحالي، بعد أن فوّت المراجعة السابقة في آذار/مارس الماضي، وهو ما فسّره المراقبون بإحجام الحكومة المصرية عن تحرير جديد لسعر الصرف يقفز بالدولار إلى مستوى السوق غير الرسمية. تقرّرت مراجعات صندوق النقد وفقاً لاتفاق أبرمه الصندوق مع مصر في نهاية العام الماضي، يفترض أن تحصل الحكومة المصرية بموجبه على قرض بقيمة ثلاث مليارات دولار على دفعات، في مقابل تنفيذ حزمة من توصيات الصندوق في مقدّمتها اعتماد سعر صرف مرن.

سوف يكون سعر الصرف عاملاً أساسياً في تسجيل ارتفاعات جديدة في معدّل التضخم في مصر في الفترة المقبلة، ولكنه لن يكون الوحيد، فمن ناحية، تفادت الحكومة المصرية إعادة تسعير الوقود في دورته ربع السنوية في تموز/يوليو الماضي من دون تعليل الأسباب، ولكن السبب يبدو أوضح من إخفائه: مستويات التضخّم لم تكن تحتمل زيادة جديدة في أسعار الوقود. مع ذلك، من الصعب أن تفوِّت الحكومة الدورة التالية من انعقاد لجنة تسعير الوقود في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، وهو ما قد يعني زيادة جديدة في أسعار الوقود يصاحبها زيادة إضافية على أسعار السلع والخدمات. وهناك أيضاً الارتفاع الموسمي للأسعار بسبب بداية العام الدراسي الجديد في نهاية الشهر الجاري، فإضافة إلى ارتفاع مستلزمات التعليم بأنواعها، سمحت الحكومة للمدارس الخاصة منخفضة المصروفات برفع مصروفاتها بنسبة 25%.

البنك المركزي المصري كان واضحاً في توقّعاته لمعدّلات التضخّم عندما أشار في بيان سابق أن معدّلات التضخّم سوف تستمر في الارتفاع في خلال نصف العام المالي الجاري الأول، أي حتى نهاية العام 2023، وهو ما يتحقّق بالفعل حالياً شهراً تلو الآخر.