Preview النتائج السلبية لرفع أسعار الاتصالات

تطوّر كلفة الاتصالات في لبنان:
عندما تعمل الدولة كمُحرِّك لرفع الأسعار ودولرتها

ساهمت الأزمة النقدية في سنتيها الأولتين بإجراء تصحيحٍ غير طوعي لأسعار الاتصالات الخلوية في لبنان، وباتت رخيصة بعدما كانت تعدُّ من الأغلى في العالم، وأدّى ذلك إلى تطوّر القطاع بشكلٍ استثنائي، سواء لناحية زيادة عدد المُشتركين أو نمو استخدامهم لخدمات الخلوي. إلّا أن قرارات رفع الأسعار التي اتُخِذت بدءاً من منتصف العام 2022، من دون أي دراسة علميّة لجدوى هذه الزيادة على نموّ القطاع وبانفصالٍ تامٍّ عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي للبلد، أدّت إلى عكس النموّ المُحقّق في السنوات الأولى من الأزمة، وإخراج نحو 99 ألف مُشترك من الشبكة وحرمانهم من الخدمة. أمّا الهدف فقد كان واضحاً ومُعلناً وهو التمكّن من تأمين الإيرادات المتوقّعة من قطاع الاتصالات الخلوية والمرصودة في الموازنة، وهذا ما يعني استمرار التعامل مع خدمات الخلوي لا بوصفها خدمة يفترض تعميمها على الجميع، وإنّما كضريبة غير مباشرة وأحد مصادر رفد الخزانة العامّة بإيرادات سهلة.  

النتائج السلبية لرفع أسعار الاتصالات

تحت التهويل بانقطاع خدمة الخلوي، قرّرت الحكومة اللبنانية بناءً على اقتراح من وزير الاتصالات جوني قرم تعديل أسعار الاتصالات الخلوية بدءاً من تموز/يوليو 2022. قضى القرار بتخفيض أسعار الاتصالات الخلوية المُحدّدة بالدولار بنسبة 66.67% على أن تدفع وفق سعر الصرف على منصّة صيرفة، وهو سعر مُتحرّك مرتبط بتقلّب أسعار الصرف في السوق ويؤدّي إلى رفع الكلفة المترتبة على المشتركين لا العكس. بدليل أن من كان يتكبَّد 100 دولار أميركي شهرياً على الاتصالات (150 ألف ليرة لبنانية)، بات يدفع 33.33 دولاراً وفق سعر منصّة صيرفة، وهو ما كان يوازي 843 ألف ليرة لبنانية في تاريخ بدء العمل بالقرار، وصولاً إلى مليونين و850 ألف ليرة حالياً، أي ما يشكّل ارتفاعاً للأسعار عند احتسابها بالليرة تراوح بين 462% و1800% في خلال هذه الفترة.

يستمرّ التعامل مع خدمات الخلوي لا بوصفها خدمة يفترض تعميمها على الجميع، وإنّما ضريبة غير مباشرة وأحد مصادر رفد الخزانة العامّة بإيرادات سهلة

لطالما جرى التعامل مع إيرادات الخلوي بوصفها مصدراً لتغذية الخزينة العامّة، وقد سُعّرت بالدولار منذ تسعينيات القرن الماضي خلافاً لكلّ القوانين التي تقضي بتسعير الخدمات العامّة بالعملة المحلّية، واستخدمت لتمويل الموازنة العامّة، وبديلاً عن أي إصلاح جدّي للنظام الضريبي، في تناقض صريح مع السرديَّة السائدة عن رفض فرض ضرائب وأعباء إضافية على السكّان في ظل الأزمة التي تمرّ بها البلاد.

فما هي تبعات رفع الأسعار؟ سمح انهيار العام 2019 بتصحيح أسعار الاتصالات التي كانت تتألّف من مكوّنات ضريبية وشبه ضريبية، وهي عبارة عن رسوم واشتراكات تفرضها وزارة الاتصالات فيما هي مجّانية في معظم البلدان، ومكوّنات تجاريّة تُشكّل ثلث الفاتورة وتشمل الخدمات كالتخابر والإنترنت، والتي تُعدُّ من الأغلى في العالم. فانهيار سعر صرف الليرة وبقاء إمكانية تسديد الفاتورة على سعر الصرف الرسمي السابق (1507.50 ليرة للدولار) حتى شباط/ فبراير 2023، جعل كلفة استهلاك الاتصالات بمتناول الناس اجتماعياً، ممّا انعكس زيادة على عدد المشتركين بأكثر من نصف مليون مشترك (537,430 مشتركاً) بين عامي 2019 و2021، أي بنسبة 11%. شكّل تعديل الأسعار في النصف الثاني من العام 2022 ارتداداً على هذا النمو الاستثنائي، فانخفض عدد المشتركين بنحو 99 ألف مشترك حتّى الربع الأول من العام 2023، أي في أقل من عام واحد، وهو ما شكّل تراجعاً بنسبة 2%. تعدُّ هذه النتائج المُسجّلة معاكسة لكلّ المعايير العالمية في صناعة الاتصالات، بحسب خبير الاتصالات وسيم منصور. في الواقع، يبلغ المتوسّط العالمي لنمو عدد المشتركين سنوياً نحو 2%، وقد سجّلت الأردن التي تُعدُّ مشابهة للبنان من ناحية مستوى المعيشة، ارتفاعاً بنسبة 5.46%. ما يعني أن لبنان فوّت عليه نمواً بنسبة 4.1%  بالمقارنة مع المستويات العالمية، وبنسبة 7.46% بالمقارنة مع البلدان المشابهة له مثل الأردن. 

انخفض عدد المشتركين بنحو 99 ألف مشترك حتّى الربع الأول من العام 2023، أي في أقل من عام واحد، وهو ما شكّل تراجعاً بنسبة 2%

لا تنحصر تداعيات تعديل الأسعار على عدد المشتركين فحسب، وحرمان الكثير من الناس من حقوقهم في الوصول إلى هذه الخدمة، بل تنعكس أيضاً بتراجع استهلاكهم للإنترنت والاتصالات الصوتية عبر الشبكة. في الواقع، تراجع استخدام الاتصالات عبر الشبكة بنسبة 43% بين نهاية العام 2021 والربع الأول من العام 2023. صحيح أن هذا المعدّل يشهد انخفاضاً على المستوى العالمي لصالح نمو استخدام الإنترنت، إلّا أن التراجع المُسجّل في لبنان يتجاوز المعدّل العالمي (7%). والأسوأ، أنه يأتي بعد تسجيل معدّلات لافتة في العام 2021، حين تراجع استخدام الاتصالات الصوتية بنسبة 5.4% فقط كتعبير عن سلوكيّات المستهلكين وإقبالهم على استخدام خدمات الاتصالات عندما كانت أسعارها مقبولة. 

أمّا بالنسبة لاستهلاك الإنترنت، فالمنحى مشابهٌ. شهدت السوق اللبنانية نمواً في استخدام الإنترنت في السنوات الأولى للانهيار، بلغ نحو 79% في العام 2021 بالمقارنة مع 40% على المستوى العالمي. لكن هذا النمو لم يستمرّ طويلاً وتراجع إلى 41% في الربع الأول من العام 2023، ومن المتوقّع أن ينخفض النمو إلى 8.6% في نهاية العام 2023.

تراجع استخدام الاتصالات عبر الشبكة بنسبة 43% بين نهاية العام 2021 والربع الأول من العام 2023

في خلال الأزمات تُصبح الحاجة إلى الدولة أكثر إلحاحاً بمفهومها الرعائي وأدوارها الاجتماعية والاقتصادية، ولا سيّما على صعيد التسعير، فالمنتظر من الدولة أن تحدِّد أسعار الخدمات التي توفّرها تبعاً للحاجة إليها وليس تبعاً لميزان الربح والخسارة الذي تعمل الشركات الربحية الخاصّة على أساسه. ما يجري في لبنان حالياً هو العكس تماماً، إذ لا تتعامل الدولة مع مواطنيها بمنطق التاجر الساعي وراء الربح فحسب، بل تعمل أيضاً كمُحرّك لرفع الأسعار عموماً ودولرتها، وتسعى إلى تحميل من يفترض بها حمايتهم ودعمهم كلفة تحسين إيرادات الموازنة العامّة.