5 حقائق عن العاملين في القطاع العام اللبناني
«لبنان لا يتحمّل عدم تقليص القطاع العام، فهذا القرار من ركائز الإصلاح».
نقولا الشّماس- رئيس جمعيّة تجّار بيروت
تجسّد تصريحات رئيس جمعيّة تجّار بيروت، نقولا الشمّاس، الكاريكاتور عن الأيديولوجيا المُهيمنة في لبنان، فليس هناك أي أهمّية لإلقاء الحجّة التي تدعم هذا الموقف أو ذاك، للتعامل مع أكبر أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية تواجهها الدولة اللبنانية منذ وقف الأعمال القتالية في الحرب الأهلية وإطلاق عملية إعادة الإعمار في مطلع تسعينيات القرن الماضي. ما يهمُّ فقط هو ترداد «وصفات معيّنة»، والزعم أنها وصفات تقنية «مُحايدة سياسياً»، مثل وصفات الأطباء للأدوية.
يمثّل الحديث المُتكرِّر عن «التخمة في القطاع العام» مثالاً فاقعاً عن هذه الأيديولوجيا المُهيمنة، فالأزمة القائمة، التي تعصف بالاقتصاد والمجتمع، تُقدَّم على أنها أزمة قطاع عام مُتضخّم، كتعبير من تعابير «الفساد السياسي» و«الزبائنية» و«إعادة التوزيع»، أو أنها أزمة «طبقة سياسية» أسرفت في الإنفاق العام لخدمة مصالحها وعمدت إلى حشو إدارات الدولة ومؤسّساتها بالمحاسيب والأزلام. لذلك، يتوجّب «تقليص القطاع العام» كوصفة علاج، أو ركيزة للإصلاح الذي ينشده الجميع!
ولكن الحديث عن القطاع العام هو حديث سياسي بالدرجة الأولى، بمعنى أنه حديث يخصُّ هوية «الدولة»، سياساتها ومؤسّساتها، فما الذي نريده منها؟ هل نريدها دولة اجتماعية، توفّر لمواطنيها ومواطناتها الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتلتزم بتطوير الاقتصاد وتوفير البنية التحتية والخدمات العامّة والأمن والسيادة؟ أم نريدها دولة متقشِّفة، تحصر مهمّتها بالقمع وتجريد السكّان من حقوقهم لمصلحة تراكم رأس المال وتركيز الثروة لدى القلّة السعيدة؟
إن الحديث عن «القطاع العام» لا يتعلّق بحجمه وإنّما بالمطلوب منه، وهذا يعني قبل أي أمر آخر أن «الإصلاح المنشود» يجب أن ينطلق من الإجابة عن السؤال الرئيس: أي دولة نريد؟ ومن يتحمّل كلفة تقليصها أو تضخيمها؟
في الواقع، عبّر سكّان لبنان في محطّات كثيرة وعبر وسائل مختلفة عن شكوى عارمة، بل غاضبة، من تغييب «الدولة» وليس من حضورها. إلّا أن السرديّة الشائعة منذ زمن بعيد تقلب الشكوى رأساً على عقب، فالبديل عن «الدولة القائمة» هو دولة أصغر منها وأقل حضوراً وتدخّلاً وأكثر تحلّلاً من واجباتها كدولة.
أوّلاً؛ نسبة العاملين في القطاع العام دون المتوسِّطات العالمية
كما لا يوجد تعداد سكاني، كذلك لا يوجد مسح شامل لهيكلية الدولة والوظائف التي توفّرها ونوعيّتها. لذلك سنلجأ إلى تقرير بثّته المؤسّسة اللبنانية للإرسال LBCI في 26 أيلول/سبتمبر 2021، تحت عنوان «قطاع عام يأكل ميزانيّة الدولة - فهل صرف الموظّفين هو الحل؟»، وسنتّخذه نموذجاً للإثارة التي ينطوي عليها تضخيم العدد. فوفق الأرقام التي ينسبها التقرير إلى «الشركة الدولية للمعلومات»: يتألّف القطاع العام من 320 ألف موظّفاً، يشكِّلون 25% من القوى العاملة في لبنان. ويضاف إلى هؤلاء 120 ألف متقاعد، يشكّلون عبئاً إضافياً على خزينة الدولة، أي أنّ هناك 440 ألف شخص يتقاضون أجوراً ومعاشات تقاعد من الخزينة العامّة، حسبما ورد في التقرير المذكور.
لبنان لا يعاني من كثرة الوظائف في القطاع العام بقدر ما يعاني من طغيان القطاع الخاص على اقتصاده، على عكس السردية الشائعة
لا نعرف مصدر هذه الأرقام، ولكن نشرها عبر وسائل الإعلام المحلّية يأتي مرافقاً دائماً للحديث عن وظائف وهمية «لا يحضر من نال شرف الحصول عليها إلى وظائفهم، وينالون رواتب آخر الشهر». وهذه ليست الحقيقة الكاملة، أو بالأحرى، ليست الحقيقة أبداً.
الفساد في القطاع العام مرئي، واعتماد المحاصصة في التوظيف والعقود والمشتريات هو الأساس الذي يقوم عليه النظام السياسي، أو الترجمة المحلّية لما يُسمّى «الدولة التوافقية». ولكن ليس صحيحاً أن الوظائف في القطاع العام هي كلّها وظائف وهمية، يشغلها موظّفون وهميون، يتقاضون أجوراً ومعاشات تقاعد من دون مقابل.
وفق مسح القوى العاملة والأحوال المعيشية للأسرة (2018-2019)، الذي أنجزته إدارة الإحصاء المركزي بالتعاون مع منظّمة العمل الدولية وتمويل الاتحاد الأوروبي، يقدّر عدد العاملين والعاملات في مؤسّسات حكومية أو مملوكة من الدولة بنحو 217 ألف شخص؛ 157 ألف ذكور و60 ألفاً إناث. ويشكّل هؤلاء الموجودين في الخدمة الفعلية من دون المتقاعدين نحو 13.7% من القوى العاملة، في حين أن 85% يعملون في القطاع الخاص و1.3% غير ذلك.
لا يشمل هذا المسح أكثرية اللاجئين والعمّال الأجانب المقيمين في المخيّمات أو في ورش العمل، وبما أنّ هؤلاء يعملون في القطاع الخاص، فإن حصّة العمالة في هذا القطاع هي أكثر من 85%، وبالتالي تُعتبر هذه النسبة مرتفعة في المقارنات الدولية، وتبيِّن أن حجم الوظائف في القطاع الخاص اللبناني هو أعلى من متوسّطات أكثرية الدول، بما فيها دول منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD. والواضح أن لبنان لا يعاني من كثرة الوظائف في القطاع العام بقدر ما يعاني من طغيان القطاع الخاص على اقتصاده، على عكس السردية الشائعة.
ثانياً؛ 80% من الوظائف في الخدمة العسكرية والهيئة التعليمية
لا تظهر مشكلة القطاع العام في حجم الوظائف التي يخلقها، وإنّما في توزيع هذه الوظائف، إذ أن المسح الشامل في العام 2022، الذي أنجزه مجلس الخدمة المدنية، يبيِّن أن عدد العاملين والعاملات في القطاع العام، من دون القوى العسكرية والأمنية والبعثات الديبلوماسية في الخارج، يبلغ نحو 82,256 شخصاً. وتشير التقديرات إلى أن عديد الجيش والأجهزة الأمنية المختلفة يبلغ نحو 130 ألف شخص، وهذه التقديرات تجعلنا قريبين جدّا من تقديرات إدارة الإحصاء المركزي، ولا سيما إذا أضفنا الوظائف التي لم يشملها مسح مجلس الخدمة المدنية.
وهذا يعني أن 60% من الوظائف في القطاع العام هي في الخدمة العسكرية والأمنية، في حين أن 40% من الوظائف هي في الخدمة المدنية.
وفق مسح مجلس الخدمة المدنية تضمّ الهيئة التعليمية نحو 45,075 أستاذاً وأستاذة. في حين أن 37,181 عاملاً وعاملة (مستخدمون وموظّفون وأُجراء ومتعاقدون وكلّ التسميات الأخرى الواردة في الملاك وغير الواردة) يعملون في كلّ الوزارات والإدارات والمؤسّسات العامّة أو الخاصّة التي تمتلكها الدولة كلّياً أو جزئياً. بالإضافة إلى البلديات الخاضعة لمجلس الخدمة المدنية.
وهذا يعني أن أفراد الهيئة التعليمية يشكّلون الكتلة الأكبر الثانية بعد كتلة العسكر، وتبلغ نسبتهم من مجمل العمالة في القطاع العام نحو 21%، ومن العمالة في الخدمة المدنية نحو 55%.
وهذا يعني أن العاملين والعاملات في الخدمة العسكرية والهيئة التعليمية يشكّلون أكثر من 80% من مجمل العمالة في القطاع العام، فهل هذه وظائف وهمية؟ وهل هؤلاء يتقاضون أجورهم ولا يعملون؟
ثالثاً؛ العدد في الأجهزة الأمنية والعسكرية ليس مطروحاً
تتجنّب الهجمات المُتكرِّرة على القطاع العام والدعوات إلى تقليصه تناول حجم المؤسّسات العسكرية والأمنية، بل تحظى هذه المؤسّسات بالتبجيل باعتبارها مؤسّسات ضامنة للاستقرار والوحدة الوطنية. ويتمّ تجاهل تبعيّتها للقوى السياسية المُسيطرة على الدولة، والتركيبة الطائفية وتوازناتها داخل كلّ سلك منها.
60% من الوظائف في القطاع العام هي في الخدمة العسكرية والأمنية، في حين أن 40% من الوظائف هي في الخدمة المدنية
مسألة العدد في الأجهزة الأمنية والعسكرية ليست مطروحة، وبالتالي لا يوجد نقاش عن جدوى توظيف هذا العدد الكبير من العمّال في الخدمة العسكرية، وما إذا كان عدد الملتحقين من عناصر ورتباء وضبّاط يؤمّن الفعالية المطلوبة.
ينحصر النقاش بتقليص القطاع العام العسكري والأمني على ضبط الامتيازات التي يحصل عليها الضبّاط وأسرهم، والأهمّ، إلغاء الامتيازات التي يحصل عليها العسكريون في نظام التقاعد. وبالتالي، نفترض أن عديد العاملين في الخدمة العسكرية مُستثنى من الدعوات إلى تقليص القطاع العام، ما يعني أنها تستهدف عديد العاملين في الخدمة المدنية. ولا يبدو ذلك عبثياً، فالدعوات إلى تقليص القطاع العام تنتمي إلى خيار «الدولة الحارسة»، التي تقتصر وظيفتها على توفير الأمن وحماية النظام وتمكين رأس المال من التراكم عبر فتح الأسواق له ولو بالقوّة.
قد يكون مفيداً في هذا السياق، أن نتذكّر الانتشار الكثيف للجيش والقوى الأمنية لمواكبة إدارة الجامعة الأميركية في بيروت في واحدة من أكبر عمليّات الصرف الجماعي في القطاع الخاص في العام 2021. وكذلك مشاهد اعتداء القوى الأمنية على عمّال شركة رامكو في العام 2020.
رابعاً؛ هل المطروح تقليص عدد المعلِّمين أم تقليص التعليم العام؟
يشكِّل أفراد الهيئة التعليمية الكتلة الأكبر من العاملين في الخدمة المدنية، ويبلغ عددهم نحو 45,075 معلّماً ومعلمة؛ ومنهم 15,420 في التعليم المهني ويتوزّعون على 14 ألف متعاقد و1,420 في الملاك. وتنفق الدولة من ميزانيتها في التعليم المدرسي على 16,828 أستاذاً في الملاك، ونحو 12,827 في التعاقد ويبلغ مجموع هؤلاء 29,655 أستاذاً. أمّا الأساتذة الذين يقعون على نفقة صناديق المدارس والأهل والبلديات فيبلغ عددهم نحو 2,207 أساتذاً، و2,245 مستعاناً بهم.
وبحسب الباحث في مركز الدراسات اللبنانية نعمة نعمة فإن الحاجة الفعلية للأساتذة مرتبطة بعدد الشُعب المدرسية. تحتاج كلّ شُعبة إلى متوسّط 1.4 أستاذاً من ضمنهم الناظر والمدير. وبحسب النشرة الإحصائية التربوية للعام الدراسي 2021-2022 يبلغ عدد الشُعب في المدارس الحكومية 16,904 شُعبات، أي أن الحاجة الفعلية حوالي 23,666 أستاذ.
الدولة مطالبة بزيادة الإنفاق على التعليم، بما في ذلك تجهيز مدارس وشعب جديدة وتوسيع الهيئة التعليمية، وليس العكس، إلا إذا كان المقصود بتقليص القطاع العام هو القضاء على التعليم العام
هنا يظهر فائضٌ في عدد الأساتذة يبلغ حوالي 7 ألاف أستاذ من الذين تنفق عليهم الحكومة من الموازنة العامة. ولكن ما يجدر الإشارة إليه إلى أن الأساتذة المتعاقدون يتقاضون على الساعة. أي أنهم لا يتقاضون بدلات مقابل لا شيء، بل يتقاضون بدل ساعات تدريس فعلية. ولو تمّ تخفيض عدد الأساتذة والمعلّمين ستبقى عدد ساعات التدريس قائمة، وسوف يقوم عدد أقل من الأساتذة بتدريسها. ما يعني أن المبلغ الذي تدفعه الدولة لـ29,655 أستاذاً، سوف تدفع قيمته نفسها لـ23,666 أستاذاً. وإذا كان الفائض حشواً وتعبيراً عن حالة زبائنية إلّا أنه من ناحية الإنفاق العام ليس سوى إعادة توزيع للمبلغ المرصود نفسه على عدد أكبر من المحسوبيات، الذين يحصلون على عمل يؤدونه مقابل الولاء السياسي.
يلفت نعمة إلى أنّ تكاليف الهدر في زيادة عدد الأساتذة هو في الإدارة، فما تحتاجه لإدارة 33 ألف أستاذ ليس نفسه لإدارة 23 ألفاً، ويضيف إن «ترشيد الإنفاق الحكومي في قطاع التعليم لا يتعلّق بعدد الأساتذة فقط، فمثلاً يوجد في بيروت 56 مدرسة، لكن حوالي 40% من مباني هذه المدارس مستأجرة. في المقابل، يوجد 12 مدرسة ضخمة مشيّدة بمساعدة كويتية من نحو 10 سنوات، تتّسع لكل تلاميذ بيروت وقادرة على استيعاب المزيد». يؤدّي سوء الإدارة إلى إنفاق حكومي على الإيجارات وزيادة التكاليف الإدارية، فضلاً عن خسارة الاستثمار الذي تمّ وضعه في المدارس الـ12.
تفتح مدارس بيروت الباب أمام التفكير في القدرة الاستيعابية للمدارس الرسمية، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية والمالية ودولرة الأقساط في المدارس الخاصّة، ويؤكّد نعمة على «الحاجة إلى عدد أكبر من الشُعب والمدارس، حيث توجد ثغرة في التعليم العام تدفع الناس باتجاه التعليم الخاص».
ووفق النشرة الإحصائية التربوية للعام الدراسي 2021-2022، يستحوذ التعليم الخاص غير المجّاني على 53% من التلامذة في لبنان، وإذا أضفنا التعليم الخاص المجّاني ترتفع حصّة التعليم الخاص إلى 65% من مجمل التلامذة، في حين لا تتجاوز حصّة التعليم الرسمي 31.3%، ويضاف إليها 3.5% في مدارس الأنروا.
إن احترام الحقّ بالتعليم للجميع، والسعي إلى تطبيق قانون إلزامية التعليم ومجّانيته، يعني أن الدولة مطالبة بزيادة الإنفاق على التعليم، بما في ذلك تجهيز مدارس وشعب جديدة وتوسيع الهيئة التعليمية، وليس العكس، إلا إذا كان المقصود بتقليص القطاع العام هو القضاء على التعليم العام ومنع الفقراء وأصحاب الدخل المحدود من الوصول إلى حقّهم في تعليم أولادهم.
خامساً؛ لا فائض في الإدارات العامّة بل شغور هائل في الملاكات
إذا استثنينا أفراد الهيئة التعليمية والبعثات الدبلوماسية في الخارج، يبلغ مجموع العاملين المدنيين في القطاع العام بمختلف تسمياتهم، كموظّفين أو مستخدمين أو أجراء أو متعاقدين، نحو 37,181 عاملاً وعاملة فقط. يشكِّلون جهاز الإدارة العامّة الذي يتولى تشغيل كل الوزارات والمؤسّسات العامة، سواء تلك الخاضعة لمجلس الخدمة المدنية أو غير الخاضعة له، بالإضافة إلى كل الأجهزة الرقابية والقضائية والبلديات العشر الكبرى في لبنان، ويتعيّن على هؤلاء إدارة وتسيير شؤون أكثر من 5,5 مليون مقيم في لبنان، وفق تقديرات شعبة السكّان التابعة للأمم المتّحدة في العام 2022.
وبالاستناد إلى نتائج مسح مجلس الخدمة المدنية، يصل الشغور في الملاك الوظيفي إلى معدّلات مرتفعة جدّاً، تبدأ من 55.9% في المؤسّسات العامة الخاضعة لمجلس الخدمة المدنية، وصولاً إلى 81.9% في البلديات الخاضعة للمجلس، فضلاً عن 71.7% في ملاك الإدارات العامّة.
وتعاني هيئات المراقبة والمحاسبة في القطاع العام من معدّلات شغور خطيرة. ففي ديوان المحاسبة، وهو بمثابة محكمة إدارية تتولّى القضاء المالي ومراقبة استعمال الأموال العامّة، تبلغ نسبة الشغور 53.4%. وكذلك في مجلس الخدمة المدنية نفسه، المسؤول عن تعيين الموظّفين وتدريبهم وتأديبهم وفصلهم من الخدمة، إذ يعاني من شغور بنسبة 66.7%. وينطبق الأمر على الهيئة العليا للتأديب، وهي محكمة تنظر في المخالفات التي يحال إليها الموظّفون، إذ تعاني من شغور بنسبة 50%، أمّا التفتيش المركزي الذي يلعب دور مراقبة الإدارات العامّة عبر التفتيش بكلّ أساليبه وأنواعه. فتصل نسبة الشغور فيه إلى 64.6%.
نسب الشغور المرتفعة في هذه المؤسّسات الرقابية والقضائية تبيِّن أن تغييب الرقابة والمحاسبة يجري عبر عملية مُمنهجة لتفريغ هذه المؤسّسة من القوى العاملة القادرة على القيام بهذه المهام. ويمكن تطبيق هذه القاعدة أيضاً على الإدارات العامّة المختلفة. على سبيل المثال، لا يوجد عددٌ كافٍ من مراقبي الضرائب ما يفسح المجال أكثر للتهرّب الضريبي.
ارتفاع نسبة الشغور، بالنسبة لعضو المجلس الاجتماعي والاقتصادي والبيئي والباحث في الدولية للمعلومات صادق علوية، «لا تحلّ بالتوظيف العشوائي، فهناك وظائف لا تحتاجها الإدارات كوظيفة حاجب أو عامل بطاقة أو مراقب دوام أو عامل نسخ، ولكن الإدارة بحاجة إلى عدد كبير من مدخّلي المعلومات على سبيل المثال». يتوافق كلام علوية مع توصية مجلس الخدمة التي تدعم إلغاء عدد من الوظائف، علماً أن هذه الوظائف بذاتها تعاني من شغورٍ كبيرٍ. ويؤكّد المجلس الحاجة إلى زيادة وظائف في المقابل، حيث «تتطلّب إدارة المرافق العامة في مقابل إلغاء وظائف أو وحدات إدارية، واستحداث وظائف جديدة متخصِّصة تتلائم والمهام المرتقبة لبعض الإدارات والمؤسّسات العامة».
هذا يعني أنّ «إصلاح القطاع العام»، وهو الغطاء الذي تلجأ الدعوات إلى تقليصه، لا يعني تخفيض عدد الموظّفين وأجورهم ومعاشات تقاعدهم، بل العكس تماماً.
تصفية القطاع العام وليس تقليصه
يبحث أصحاب الرساميل بشكل محموم عن أسواق جديدة لمراكمة رساميلهم، وقد وجدوها دائماً في وظائف القطاع العام والاستحواذ على الأصول العامّة. كلّ ما في الأمر أن دعاة تقليص القطاع العام يريدون الاستحواذ على أصول الدولة وممتلكاتها، كما ورد في خطّة التعافي التي اقترحتها جمعية مصارف لبنان إثر الأزمة، ويريدون الاستيلاء على دورها والخدمات التي تقدِّمها كمصدر للأرباح السهلة والاحتكارية.
يبحث أصحاب الرساميل بشكل محموم عن أسواق جديدة لمراكمة رساميلهم، وقد وجدوها دائماً في وظائف القطاع العام والاستحواذ على الأصول العامّة
من هنا يبدو واضحاً أن مطلب تقليص القطاع العام ليس إلا فتح طريق أمام أسواق جديدة للقطاع الخاص في الخدمات العامّة. وتحويل كلّ الحقوق المترتبة عن هذه الخدمات إلى سلع خاضعة في تسعيرها إلى منطق الربح الذي نرى أمثلته في أصحاب المولِّدات والصهاريج ومقدِّمي خدمات الإنترنت وعقود التشغيل والصيانة وجمع النفايات وغيرها.
لا يوجد ما يدعم الإدعاء أن تولّي القطاع الخاص سيوفر على موازنة الدولة، ويقدًّم خدمات أفضل. وفي هذا السياق، ينبِّه علوية من استسهال تلزيم مهام الإدارة إلى القطاع الخاص، موضحاً أن «وزارة المال في تقرير أصدرته في العام 2017 أظهرت أن كلفة تنظيف الإدارات العامّة بواسطة الشركات الخاصة أكبر من الكلفة التي كانت تتكبّدها على العمّال الذين كانوا أجراء وموظّفون في الدولة»، وعلى هذا المنوال تتكلّف البلديات نفقات أكبر حين استبدلت عمّال النظافة بشركة «سوكلين» وشقيقاتها ووريثاتها، وهذا ينطبق على مؤسّسة كهرباء لبنان حين استبدلت عمّال وموظفي المؤسّسة بشركات مقدِّمي الخدمات.