دريملاند: النيوليبرالية التي تحلم بها

  • تتناقض هذه الصورة للانضباط المالي مع صورة التوسّع غير المنضبط والأحلام غير المحدودة، والمثال الأكثر درامية هي عاصمة مصر شديدة النمو. فبينما يتقلّص عجز الحكومة، تتضخّم القاهرة.
     
  • لم يؤدِّ البرنامج النيوليبرالي إلى إقصاء الدولة من السوق، أو إلى الغاء الدعم العام «المُسرف». هذه النتائج هي من وحي الخيال. لقد تمثّل فعله الرئيسي في تركيز المال العام في أيادٍ أخرى مختلفة، بيد أنها قليلة العدد.

النيوليبرالية هي انتصار للوهم السياسي. إنها تمارس فعلاً مزدوج. فبينما تضيق نافذة الحوار السياسي، تَعِد بآفاق لا حدود لها. من جهة، تؤطِّر النقاش العام بلغة الاقتصاد النيوكلاسيكي الغامضة، حيث ينحصر مفهوم الرفاه العام للأمة  في حدود اِنضباط موازنتها المالية والنقدية. ومن جهة أخرى، وعبر تعاميها عن المصالح الفعلية للمجموعات المحدودة أو الجمعية، تشجّع النيوليبرالية الطموحات الكبيرة للتراكم الخاص، وإعادة التوزيع الكارثية للموارد المشتركة.

في مصر، شكّل عقد التسعينيات نجاحاً استثنائياً وانتصاراً للمبادئ النيوليبرالية. إلا أن هذه الصورة للانضباط المالي تتناقض مع صورة التوسّع غير المنضبط والأحلام غير المحدودة. المثال الأكثر درامية هي عاصمة مصر شديدة النمو. فبينما يتقلّص عجز الحكومة، تتضخّم القاهرة. دريم لاند - تتعهّد إعلانات التلفاز التجارية لأكثر مشاريع التطوير العقاري طموحاً - هي «أول مدينة إلكترونية في العالم». بإمكان الراغبين بالشراء الآن التسجيل للحصول على فيلات فخمة مزوّدة بالإنترنت، حيث ترتفع مراكز التسوّق والمتنزهات وملاعب الغولف والبولو في أفق الصحراء غربي أهرامات الجيزة، ولكنّها لا تبعد أكثر من دقائق معدودة عن وسط القاهرة عبر الجسور والطرق الدائرية المُقامة حديثاً. 

تقدّم الدولة الدعم إلى المطوّرين عبر بيعها الأراضي العامة بأثمان زهيدة، وتوفيرها الطرق السريعة والجسور الضرورية في وقت قياسي

أو في طوع المرء سلوك الطريق الدائري في الاتجاه المعاكس، شرقي هضبة المقطم، إلى صحراء القاهرة الجديدة، حيث يُسوّق المضاربون المباني السكنية للعمّال المغتربين، الذين يدّخرون لمستقبلهم في بلدان الخليج. يمكن البدء بالدفع الآن (من دون دفعة مسبقة)  للوكلاء في جدة ودبي. «لا مصانع، ولا تلوث، ولا مشاكل»، هذا هو تعهد الإعلان، ويتخلّله شعار المطور، «مصر التي تحلم بها».

تمثّل خطوط التطوير التي تنتشر عبر الحقول والصحارى كافة المحيطة بالقاهرة الكبرى أكبر انفجار عقاري هائل شهدته مصر. لم يقم أحد باستقصاء ما يحدث، ومع ذلك يمكن القول أنه في خلال أقل من خمس سنوات تضاعفت منطقة العاصمة على أقل تقدير.

تجارة البناء

إن توثّب هؤلاء المطوّرين يتماشى مع توثّب الدولة. فبينما تُضاعف شركات البناء المضاربة من حجم القاهرة، تقترح الحكومة مضاعفة حجم وادي النيل.  في تشرين الأول/ أكتوبر 1996، أعلن الرئيس مبارك عن بعث خطّة تعود إلى الخمسينيات ترمي إلى حفر وادٍ موازٍ، عن طريق ضخّ المياه من بحيرة ناصر في الجنوب عبر قناة ضخمة تجري باتجاه الشمال تخدم في ريّ 2 مليون فدان من الصحراء الغربية.

وفي الوقت نفسه، تقدّم الدولة الدعم إلى المطوّرين عبر بيعها الأراضي العامة بأثمان زهيدة، وتوفيرها الطرق السريعة والجسور الضرورية في وقت قياسي. وتنخرط الدولة نفسها كمطوّر. فالجيش المصري هو أكبر مقاول منفرد لأحياء القاهرة الجديدة، وهو أكبر بكثير من مقاولي دريم لاند. يشيِّد المقاولون العسكريون آلاف الأفدنة من الوحدات السكنية شرقي محيط المدينة لإنشاء جيوب مدينية للنخبة من الضباط.

كان يفترض بمصر أن تشهد ازدهاراً في بيع الفاكهة والخضراوات إلى أوروبا والخليج، لا تجريف حقولها من أجل بناء طرق دائرية

إذا كانت الدهشة هي أول ما يعتري الإنسان حيال سرعة وحجم تلك التطوّرات، سرعان ما تدفع التناقضات بالمرء إلى التساؤل. فصندوق النقد الدولي ووزارة الاقتصاد لا ينبسان بشفةٍ عن ذلك التضخّم المحموم للعاصمة، وما من التفاتة واحدة إلى دور الدولة في دعم هذا النوع من النيوليبرالية المضاربة. أما المعضلة الأكبر، فتتمثّل في هذه التكيّفات الهيكلية التي كان من المفترض أن تقود إلى طفرة في التصدير وليس في التشييد. كان يفترض بمصر أن تشهد ازدهاراً في بيع الفاكهة والخضراوات إلى أوروبا والخليج، لا تجريف حقولها من أجل بناء طرق دائرية. حلّت العقارات الآن محل الزراعة كثالث أكبر قطاع استثماري غير نفطي بعد الصناعة والسياحة. في الواقع، قد تكون أكبر قطاع غير نفطي، بما أن معظم استثمارات السياحة تذهب إلى بناء القرى السياحية والمنتجعات، أي إلى شكل آخر من العقارات. 

رأس المال غير المنضبط

القصة التقليدية هي أنه بحلول العام 1990 كان الاقتصاد في أزمة أفقدته القدرة على دعم الصناعات العامة الخاسرة، والعملة المبالغ في قيمتها، والإنفاق الحكومي المُسرف، والإصدار التضخّمي للنقود لتغطية عجز الميزانية والمستويات الفلكية من الدين. بعد 15 عاماً من الركود والإصلاحات الجزئية، أُجبرت الحكومة على تبنّي خطة الموازنة الخاصّة بصندوق النقد الدولي في العام 1990-1991، والتي مهّدت انهيار العملة أمام الدولار، وخفّضت ميزانية الحكومة، وقلّلت المعروض النقدي، وخفضت الدعم المالي المقدّم لشركات القطاع العام تمهيداً للخصخصة أو الإغلاق. وقد طبِّقت تلك السياسات المالية «الحكيمة» بشكل أكثر حسماً ممّا كان يطالب به صندوق النقد الدولي. بيد أن القصة أكثر تعقيداً من هذا: من بين أكثر النفقات الحكومية إسرافاً، حلّت مشتريات الأسلحة في الصدارة التي منحتها الولايات المتحدة ودعمتها (كجزء من أسلوبها الخاصّ لدعم الدولة). إن التخلّف الوشيك عن سداد تلك القروض العسكرية، الذي قاد بدوره إلى تعليق المساعدات الأميركية، ساهم في انهيار العام 1990. نشبت الأزمة، ليس بسبب الإسراف فحسب، ولكن أيضاً بسبب الانخفاض الذي شهدته أسعار البترول بعد العام 1985، والتي كانت أكبر مصدر لأرباح الحكومة، وبسبب فقدان التحويلات ومصادر الدخل الأخرى نتيجة حرب الخليج في العامين 1990-1991. أما العامل الجزئي الأهم في التحوّل المالي لمصر، أي الإعفاء من الديون، فقد نجم عن قرار سياسي للولايات المتّحدة وحلفائها.

خلف ذلك كلّه تكمن قصة أكثر أهمّية. ساهمت الفوضى الناجمة عن التدفقات الدولية غير المنظمة لرأس المال المضارب في توليد أزمة العامين 1990-1991. لم تتمثّل الإصلاحات المالية اللاحقة في التقليص الشديد لدعم الدولة (كما ستخبرنا السردية النيوليبرالية)، ولكن في تغيير المتلقّي لهذا الدعم. منذ العام 1974 زاد عدد البنوك من 7 إلى 98، وانتشرت البنوك التجارية لتمويل الاستثمارات والاستيراد الاستهلاكي في سنوات الطفرة النفطية. منحت البنوك الأربعة الكبيرة المملوكة للدولة غالبية القروض إلى شركات القطاع العام. وتشير التقديرات إلى أن ما لا يقل عن 30% من تلك القروض كانت غير عاملة. لكن بنوك الدولة كانت مالكة جزئياً لبنوك القطاع الخاص، وهو ما أتاح لها توجيه المال العام صوب مجموعة صغيرة وثريّة من روّاد الأعمال من ذوي النفوذ. علماً أن المقترضين الكبار من القطاع الخاص كانوا في مأزق أيضاً.

مصر قد أصبحت تدريجياً رهناً للمصالح الضيّقة لطبقة من المستثمرين ورجال الأعمال، لا سبيل إلى السيطرة على أفعالهم

بحلول العام 1989، شكّلت القروض المتعثّرة نحو 26% من القروض الخاصة والاستثمارية، وأكثر من نصف هذه القروض كانت تخصّ 3% من المتعثّرين فقط. كان العديد من كبار المتعثّرين قادرين على تأجيل المحاكمة القانونية، فيما لاذ العديد منهم بالفرار هرباً من المحاكمة. وقع التعثّر الأكبر في تموز/ يوليو من العام 1991، عندما انهار البنك الدولي للتجارة والائتمان. وتمّ حماية المودعين في الشركة التابعة للبنك الدولي للتجارة والائتمان بواسطة نظام تأمين غير رسمي بين البنوك المصرية، التي اضطرت للمساهمة بنحو 0.5% من ودائعها، وتقاسمت تكلفة 1 مليار جنيه على هيئة قرض من دون فائدة لتعويض الأموال المفقودة.

دلّت هذه الصعوبات على أن مصر قد أصبحت تدريجياً رهناً للمصالح الضيّقة لطبقة من المستثمرين ورجال الأعمال، لا سبيل إلى السيطرة على أفعالهم. مع اندلاع الأزمة المالية العالمية في الأعوام 1997-1999، لم يعد من الممكن يمكن فصل مشاكل الرأسمالية العشوائية (أفضل من مصطلح رأسمالية «المحاسيب»، الذي راج استخدامه مع صندوق النقد الدولي، حيث يشير إلى النضال المتزايد لإخضاع الرأسماليين، داخل وخارج الدولة، إلى القانون والتنظيم) عن المشاكل الناجمة عن رأس المال العالمي المضارب، لاسيما تجارة العملة. بعد التخلي عن الضوابط الدولية  للعملات في العام 1980، ارتفع حجم تداول العملات العالمية من 82.5 مليار دولار في 1980 إلى 270 مليار دولار في العام 1986 و590 مليار دولار في العام 1989، وبحلول العام 1995 وصلت إلى 1.23 تريليون دولار. لقد طغى هذا الانفجار العشوائي للمضاربات على محاولات الحكومات لإدارة العملات المحلية وفقاً للحاجات المحلية للصناعة والتصدير.

في مصر، تزامن إلغاء القيود عالمياً مع طفرة في التحويلات الخاصة إلى العملة الأجنبية حيث أرسل العمّال المغتربون مدّخراتهم من بلدان الخليج إلى مصر. تشكّلت أكثر من مئة شركة من شركات إدارة الأموال لتحويل واستثمار تلك الأموال، بينها خمس أو ست شركات تنمو بصورة متسارعة. شركات الاستثمار الإسلامية (سُميت هكذا لأنها ناشدت المودعين من خلال وصف توزيعات الأرباح التي يدفعونها بحصص من الأرباح بدلاً من الفوائد) استثمرت بنجاح في المضاربة بالعملات العالمية، وانتقلت لاحقاً إلى السياحة المحلية، والعقارات، والتصنيع وتجارة السلع الأساسية، والعوائد السابقة على التضخّم. لم تتمكّن البنوك التجارية من القطاعين العام والخاص، الخاضعة لمتطلبات الاحتياطي المرتفعة وأسعار الفائدة الرسمية المنخفضة (اللازمة للتمويل الحكومي للصناعة)، من المنافسة، وكانت تعاني من الجوع المتزايد للعملة الصعبة.

طغى هذا الانفجار العشوائي للمضاربات على محاولات الحكومات لإدارة العملات المحلية وفقاً للحاجات المحلية للصناعة والتصدير

في عامي 1988-1989 تمكّن المصرفيون من إقناع الحكومة أخيراً بالحدّ من شركات الاستثمار. سنّ قانون يقضي بتعليق نشاطاتها لمدة تصل إلى عام. جرى إغلاق الشركات التي أفلست (أو التي تم دفعها إلى الإفلاس في حالات كثيرة)، وأما الشركات الباقية فقد أُعيد تنظيمها كشركات مساهمة وأُجبرت على إيداع أصولها السائلة في البنك. أدّى هذا إلى حماية البنوك وعملائها من ذوي النفوذ، ولكنه تسبّب في حالة من الركود المالي العام لم تستطع البنوك أو العملة الوطنية التعافي منها. وكما يؤكّد تقرير جديد للأمم المتحدة، فإن أفضل مؤشر للأزمات الاقتصادية في بلدان الجنوب ليست التنمية التي تقودها الدولة، وإنما تحرير المالية.

إنقاذ المصرفيين

استجابة للأزمة المالية، تركزت الجهود الجبارة لإصلاحات 1990-1991 على إنقاذ البنوك المصرية. بعد السماح للعملة بالانهيار وقطع المشروعات الاستثمارية العامة، حوّلت الحكومة أموالاً بقيمة 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي إلى البنوك على هيئة أذونات خزانة. وللكشف عن حجم هذا الدعم، يكفي معرفة أن الولايات المتحدة في الفترة نفسها، مدّت الحكومة يد الإنقاذ إلى صناعة المدّخرات والقروض، عبر تحويل مبلغ يصل إلىى 3% من الناتج المحلي الإجمالي في عشر سنوات. وبالقياس إلى الناتج المحلي الإجمالي، كانت خطة الإنقاذ المصرية أكبر بمرتين تقريباً، وجرى تنفيذها في عام واحد. علاوة على ذلك، صرّحت الحكومة أن دخل البنوك من هذه الأموال مُعفى من الضرائب، وهو دعم مالي بلغ 10% إضافية من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 1996-1997. في العام 1998، سعت الحكومة إلى إنهاء الدعم عبر إعادة فرض الضرائب على أرباح البنوك، بيد أن الأخيرة حالت دون إنجاز القانون. غدت البنوك مربحة للغاية، حيث تمتّعت بمعدّلات عائد على السهم بنسبة 20% أو أكثر.

قدّمت الحكومة المزيد من الدعم للقطاع المصرفي، وذلك عبر تشديد القيود على الائتمان لرفع أسعار الفائدة، ودفعها في البداية إلى 14% أعلى من مستويات السوق العالمية. اجتذبت أسعار الفائدة غير السوقية سيْلاً من الرساميل المضاربة من الخارج. وفي الحال فُسر هذا على أنه شاهد على نجاح الانضباط النيوليبرالي.  وتجمّعت الأموال من صناديق استثمارية شديدة التقلّب تسعى إلى الحصول على دخل من الفوائد، التي لم تنجم جاذبيتها عن «أساسيات السوق»، وإنما عن تدخّل الدولة. بعد ذلك بعامين، جرى تخفيض أسعار الفائدة، وانتهت على إثره الطفرة قصيرة الأجل. 

عمدت الدولة إلى تحويل الموارد بعيداً من الزراعة والصناعة والمهام الأساسية للتأهيل والتوظيف. وهي الآن تدعم المموّلين بدلاً من المصانع، والمضاربين بدلاً من المدارس

في العام 1996، صمّمت الحكومة طفرة أخرى قصيرة الأجل من خلال إعلانها عن برنامج خصخصة عنيف. انطلقت في بيع أسهم الشركات المملوكة للدولة في بورصة القاهرة، التي أعادت هيكلتها بغية إقصاء صغار السماسرة وإلغاء الضرائب على الأرباح. مع حلول حزيران/ يونيو 1997، بلغ دخل الحكومة من مبيعات الخصخصة نحو 5.2 مليار جنيه (1.5 مليار دولار). فيما خُصِّص 40% من هذا الدخل لسداد الديون المعدومة في القطاع المصرفي. 

قادت عمليات البيع إلى تسمين البنوك وميزانية الحكومة ممّا نتج عنه طفرة قصيرة الأجل في سوق الأسهم. كان من بين نتائجها أن طرأ تعديل معقّد على العلاقات القائمة بين بارونات الأعمال في القطاع العام وشركائهم في القطاع الخاص. امتلأت الصحف بقصص الخصخصة الزائفة، مثل بيع شركة النصر للسبك في كانون الأول/ ديسمبر 1997، والتي بيعت في واقع الأمر إلى بنوك القطاع العام. وبعد ذلك بعام، دفع مسؤولو الدولة برئيس البورصة إلى الاستقالة بعد أن حاول تحسين المراقبة على شركات التمويل وتداول الأسهم.

لم يستمرّ ازدهار سوق الأسهم لأكثر من 18 شهراً، حيث وصل مؤشر EFG للشركات ذات الرساميل الكبيرة إلى أعلى مستوى له في أيلول/ سبتمبر 1997، ثم فقد ثُلث قيمته خلال الاثني عشر شهراً التالية. مع تراجع سوق الأسهم، أوقفت الحكومة عمليات البيع، وعلّقت الخصخصة بعد صيف العام 1998، ورفضت طلب صندوق النقد الدولي لبدء خصخصة القطاع المالي. وبدلاً من هذا، وبغاية الحدّ من انهيار السوق، التجأت الحكومة إلى مؤسّساتها المالية لاستثمار الأموال العامّة. بين كانون الأول/ ديسمبر وتشرين الأول/ أكتوبر 1998، ضخّت البنوك الكبيرة المملوكة للدولة وصناديق التقاعد وشركات التأمين نحو 600 مليون دولار في السوق، وتكبّدت خسائر فادحة. بهذه العملية، أعادت الدولة شراء الأسهم في غالبية الشركات التي كانت تزعم في الآونة الأخيرة أنها تقوم بخصخصتها. بحلول حزيران/ يونيو 1996، تضاعف تقريباً عدد المؤسّسات العامة الخاسرة؛ وارتفعت الخسائر المُتراكمة من 2 مليار جنيه إلى 12 مليار جنيه. أعادت الحكومة النظر في ماليّتها بقصد إخراج شركات القطاع العام من الحسابات المالية. ومع ذلك، ظل هذا الوضع المتدهور مُحتجباً عن الأنظار. وليس من المُستبعد أن تستمر النيوليبرالية في الادعاء بأنها كانت تستبدل العجز الحكومي بميزانية متوازنة.

الشركات العائلية

لم يؤد البرنامج النيوليبرالي إلى إقصاء الدولة من السوق، أو إلى إلغاء الدعم العام «المُسرف». هذه النتائج هي من وحي الخيال. لقد تمثّل فعله الرئيسي في تركيز المال العام في أيادٍ أخرى مختلفة، بيد أنها قليلة العدد. لقد عمدت الدولة إلى تحويل الموارد بعيداً من الزراعة والصناعة والمهام الأساسية للتأهيل والتوظيف. وهي الآن تدعم المموّلين بدلاً من المصانع، والمضاربين بدلاً من المدارس. وليس من المتعذّر تحديد المستفيدين من الإعانات المالية الجديدة، على الرغم من أن صندوق النقد الدولي لم يعبأ مطلقاً بإثارة هذه المسألة. تقوم البنوك التجارية العامة والخاصة التي أعيد إنعاشها بِمَنْح قروض كبيرة (معفاة من الضرائب) للمشغّلين الكبار. يبلغ الحدّ الأدنى لحجم القرض عادة أكثر من 300 ألف دولار، ويستلزم ضمانات كبيرة وعلاقات قويّة.

الأولوية الأولى هي برنامج إصلاح الأراضي طويل المدى، وإعادة توزيع حيازات الأراضي التي تزيد عن خمسة أفدنة

ويتصدّر تلك الزمرة المتنفّذة نحو عشرين مجموعة عملاقة، مثل مجموعة عثمان، ومجموعة بهجت، ومجموعة أوراسكوم. بدأت هذه الشركات العائلية في الغالب كشركات إنشاء، أو وكلاء استيراد وتصدير، إلا أنّ غالبيتها تغلغلت إلى السياحة والعقارات والأغذية والمشروبات، وفي حالاتٍ معينة إلى تصنيع مواد البناء أو التجميع المحلّي للسلع الاستهلاكية مثل الالكترونيات أو السيّارات. إنهم يتمتّعون بالاحتكارات الضخمة أو احتكارات النخبة بوصفهم وكلاء حصريين للسلع والخدمات الخاصّة بالشركات متعدّدة الجنسيات التي تتمركز في الغرب.

مجموعة بهجت، على سبيل المثال، أكبر منتج للتلفزيونات في الشرق الأوسط، وتُهيمن على السوق المصري بدءاً من تجميع الأجزاء الكورية إلى تصنيع غرانديغ وفيليبس وغيرها من العلامات التجارية الخاصّة. وتشتمل الاهتمامات الرئيسية الأخرى للمجموعة على الفنادق وتوفير خدمات الإنترنت، فهي بانية «دريم لاند» المزودة بالإنترنت. يُعرف أحمد بهجت، رأس العائلة، بكونه رائداً للرأسماليين المتنفّذين داخل النظام، وهو ما قد يفسّر الوقت القياسي الذي بنيت فيه الطرق السريعة المؤدّية إلى دريم لاند. تسيطر أوراسكوم، وهي شركة قابضة مملوكة بالكامل لعائلة ساويرس، على إحدى عشرة شركة تابعة، تشمل أكبر الشركات الخاصة للإنشاءات في مصر، وشركات لتصنيع الأسمنت وتوريد الغاز الطبيعي، وأكبر المشروعات السياحية في البلاد (بتمويل جزئي من البنك الدولي)، وشركة لتجارة الأسلحة، فضلاً عن امتلاكها الحقوق المحلّية الحصرية في مجال الهواتف المحمولة، ومايكروسوفت، وماكدونالدز، وغيرها.

تنتج هذه المجموعات العملاقة سلعاً وخدمات بتكلفة يسيرة تستهدف قطاعاً ضيّقاً للغاية من الشعب المصري. تكلّف الوجبة في مطعم ماكدونالدز أكثر ممّا يتحصّل عليه غالبية العمّال في اليوم. تستهلك النزهة العائلية صوب «دريم بارك»، مدينة الملاهي في دريم لاند، متوسّط ال​​أجر الشهري. إن شركة الأهرام للمشروبات، التي تصنع المشروبات الغازية والمياه المُعلّبة والبيرة، تقدّر سوقها المحتملة (بما في ذلك المغتربين والسياح) بنحو 5 أو 6 ملايين شخص، في بلد يبلغ تعداد سكانه 62 مليون نسمة. تتناسب هذه السوق الضيقة مع تلك الشريحة من السكّان التي لها القدرة على توفير، أو حتى التفكير في توفير، مليون سيارة خاصّة في البلاد، ولهذا السبب يركّز المصنعون المحلّيون على تجميع سيارات مرسيدس، وبي إم دبليو، وجيب شيروكي، وغيرها من السيارات الفاخرة. وفضلاً عن تلك النخبة المحدودة من فاحشي الثراء المدعومين من الدولة، يُمكن إدراج ما لا يزيد عن 5% أو 10% من سكّان مصر في خانة الثراء المتواضع.

فجوة الإنفاق

ماذا عن الـ 90 أو 95% الآخرين من المصريين؟ انخفضت الأجور الحقيقية في القطاع الصناعي العام بنسبة تصل إلى 8% من 1990-1991 إلى 1995-1996. إلّا أن أجور القطاع العام الأخرى ظلت ثابتة، وما ذلك إلّا لأن الرواتب مازالت أقل من الأجر الكافي. يتحصّل مدرِّس المدرسة، شأنه شأن أي موظّف متعلّم في القطاع العام، على أقل من دولارين في اليوم. إحدى علائم المرحلة تتمثّل في عودة ظهور مطاعم البؤساء في القاهرة، التي تقدّم طعاماً مجّانياً للفقراء، وهو ما فسّرته الصحافة الوطنية على أنه عودة محمودة لنمط الإحسان الخاص بين الموسرين، والذي لم نره منذ أيام العهد الملكي.

جرى تمكين النيوليبرالية في مصر، كما في كل مكان آخر، عن طريق القيود القاسية على الحقوق السياسية

تكشف المسوحات المتعلّقة بإنفاق الأُسَر عن انخفاضٍ حادٍّ في الاستهلاك الحقيقي للفرد بين عامي 1990-1991 و1995-1996. ارتفعت نسبة الأشخاص الذين يعيشون تحت خطّ الفقر في هذه الفترة من نحو 40% (في المناطق الحضرية والريفية) إلى 45% في المناطق الحضرية، وإلى أكثر من 50% في الريف. لا توجد أدلة موثوقة على تغير نصيب الأثرياء من الاستهلاك، لأن الدراسات الاستقصائية تفشل في تسجيل القسم الأعظم من إنفاقهم. إذا استقرأنا مسوح الإنفاق الأسري للفترة 1991-1992 على النطاق الوطني، فإن الأرقام تبيّن أن مجموع السكّان أنفقوا 15 مليار دولار. ومع ذلك، تشير الحسابات القومية إلى أن إجمالي الإنفاق يبلغ 30 مليار دولار. وبعبارة أخرى، نحو نصف الإنفاق الاستهلاكي للبلد لا أثر له في الاستطلاعات. ومن البديهي أن الجزء الأكبر من تلك النفقات المفقودة تخصّ الأسر الأكثر ثراءً. صُنّفتْ هذه الأُسَر ضمن شريحة مَنْ ينفقون أكثر من 14 ألف جنيه (نحو 4 آلاف دولار) سنوياً، وتمثّل هذه الأسر 1.6 مليون شخص أو 3% من السكّان. يشير أحد التقديرات إلى أن هذه المجموعة الصغيرة قد تمثّل نصف مجموع الإنفاق الاستهلاكي.

أما التفاوتات الأكبر فموجودة في الريف، حيث انطلقت الإصلاحات النيوليبرالية للمرة الأولى في العام 1986، مستهدفةً ذوي الحدّ الأدنى من الموارد بشكل مباشر. ألغت الإصلاحات النيوليبرالية الضوابط المنظّمة للإيجار الزراعي كما ألغت تأمين المستأجرين. ومن خلال مراجعة العقد الأول من النيوليبرالية الزراعية، أقرّ الإصلاحيون بأن عواقبها تشمل «البطالة المتزايدة، وانخفاض الأجور الحقيقية، وارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية، وفقدان الأمن الاقتصادي على نطاق واسع». ربما تعيَّن عليهم أن يضيفوا إلى هذه القائمة: ركود النمو الزراعي (الناتج الحقيقي في العام 1992 كان أقل من العام 1986)، والأزمات المتكرّرة المتصلة بنقص الإنتاج والإفراط فيه، ونمو الاحتكارات وتثبيت الأسعار، واستبعاد محاصيل التصدير مثل القطن، والقرار الذي انتهى إليه كل صغار المزارعين بالابتعاد عن محاصيل السوق من أجل التوسّع في زراعة الغذاء لاستهلاكهم الخاص. وهو قرار حصيف بلا ريب، يذكّرنا مرّة أخرى بالطبيعة الوهمية للنجاحات النيوليبرالية!

الإصلاح من أجل التغيير

ينبغي أن تنطلق الإستراتيجيات البديلة للأجندة النيوليبرالية من الريف. الأولوية الأولى هي برنامج إصلاح الأراضي طويل المدى، وإعادة توزيع حيازات الأراضي التي تزيد عن خمسة أفدنة، ما يقود إلى تحسين فوري في الظروف المعيشية، ويرفع الإنتاج الزراعي، ويؤدّي إلى عكس اتجاه نمو الملكية العقارية والاحتكارات التجارية التي ترتد بالريف إلى ظروف النصف الأول من القرن العشرين. فإن إعادة توزيع الموارد الزراعية كفيلة بأن توفر حافزاً قوياً للاستثمار المحلّي وخلق الثروة. في الوقت الحاضر، ومع استهلاك السلع غير الغذائية الذي يتركّز بشكل كبير بين بالغي الثراء، لا سبيل إلى تلبية الكثير من طلب البلاد على السلع إلّا عن طريق الكماليات المستوردة. ستخلق الثروة الجديدة للأسر العادية طلباً قوياً على الخدمات المحلية والمصنوعات المحلية. بالنظر إلى الأهمية النسبية لتحويلات العاملين من الخليج (في 1996-1997 بلغت 3.26 مليار دولار، أي أكثر من ضعف حجم استثمارات المحفظة الغربية ونحو خمسة أضعاف المستوى التافه للاستثمار المباشر من الشركات العابرة للحدود)، يتبيّن أن هذا هو المستوى الذي تمسّ فيه الحاجة إلى المبادرات الجذرية التي يمكن لها أن تُحدث فرقاً.

أما الأولوية الأخرى فتتمثل في الإصلاح السياسي. فلقد جرى تمكين النيوليبرالية في مصر، كما في كل مكان آخر، عن طريق القيود القاسية على الحقوق السياسية. كان من نتائجها برلماناً قضت المحاكم بأن ما يزيد على المئة من أعضائه انتخبوا بالتزوير، بيد أنه أعلن نفسه فوق القانون في هكذا أمور، برلمانٌ تُحرَم فيه الحفنة القليلة من نواب المعارضة باضطراد متزايد من فرص استجواب الحكومة. لقد كرّست النيوليبرالية نظاماً يحرم المصريين من الحقّ في تنظيم أي معارضة سياسية أو تشكيل اجتماعات سياسية، علاوة على منع أحزاب المعارضة الشرعية القليلة من القيام بأنشطة عامة. تعني النيوليبرالية العسكرة المنتظمة للسلطة، لا سيّما مع انتقال الإدارة بعيداً من الوزارات التي يدار أكثرها الآن بواسطة تكنوقراط، صوب المحافظين، الذين عُيّنت غالبيتهم من المراتب العليا للجيش. كما اشتملت القيود السياسية على الترهيب المتكرّر للعاملين في مجال حقوق الإنسان والصحافيين المعارضين، وذلك عن طريق إغلاق الصحف وإقامة الدعاوى القضائية والسجن. وفي غضون ذلك كله، تصمّ الولايات المتحدة آذانها عن كل دعوة للنقاش العلني عن هذه القضايا، معلنة عن عدم وجود ما يثير القلق باستثناء استمرار النظام وإصلاحاته النيوليبرالية. 

إن ما تمسّ إليه حاجة مصر، ليس تبلور ما يُسمّى بالمجتمع المدني (والذي يعني في كثير من الأحيان إفساح المجال أمام المتعلّمين والأثرياء للتنظيم والتحدّث نيابة عن أولئك الذين يعتبرونهم بحاجة إلى «تطوير»). إن الحاجة الحقيقية هي لردع المسؤولين، داخل النظام وخارجه، عن منع الجيران، وزملاء العمل، والتجمّعات، من الالتقاء ومعالجة المشاكل واتخاذ القرار المُعبّر عن إرادتهم والنقاش حوله، وفضح فساد وظُلَم أولئك الذين يمتلكون الثروة والسلطة. استصلاح الأراضي على سبيل المثال، هذه الفكرة ليست بالجديدة، إنها فقط لا تُرى من خلال النافذة الضيّقة للمخيّلة النيوليبرالية.

نُشِر المقال في MERIP في ربيع 1999