ما هي وظيفة ماكنزي؟

في مايو 2013، توافد مائتي ضيف من نيودلهي إلى فندق خمسة نجوم في مدينة صن سيتي في جنوب أفريقيا، مستقلّين طائرة إيرباص حُجزت خصيصاً لهم، من أجل حضور زفاف فيغا غوبتا، الذي كان أقرب إلى كرنفال باذخٍ استمر لأربعة أيام. حصلت الطائرة على إذنٍ بالهبوط في قاعدة عسكرية قريبة، فيما دخل الضيوف إلى المنتجع ببساطة من دون حاجة إلى تأشيرات أو إجراءات، ليجدوا في استقبالهم آتول غوبتا، عمّ العروس، مع 130 طبّاخاً جاؤوا من الهند لكي يعدُّوا الأطعمة النباتية الصينية واليونانية والإيطالية والهندية والمكسيكية والجنوب أفريقية والتايلاندية لضيوف الحفل. حصل الضيوف الأعلى شأناً على خدم شخصيين، وضمّ الحضور من جنوب أفريقيا شخصيات من عينة دودوزيل زوما ابنة رئيس الدولة، وأخيها دودوزان الذي جاء برفقة ملكة جمال جنوب أفريقيا تاتوم كيشوار، بالإضافة إلى واحد من كبار الداعمين الماليين للرئيس، الملياردير ڤيڤيان ريدي، وعدد من الوزراء، ورؤساء المؤسّسات الحكومية الكبيرة مثل الطيران الجنوب أفريقي، وهيئة الضرائب، وشركة الكهرباء الوطنية «إسكوم»، وشركة السكّة الحديد والأنابيب البحرية «ترانسنت»، وكذلك عدد من نجوم الموضة والرياضة والإعلام وسينما بوليوود، وكبار إداريي الجامعات، ومجموعة من كبار شركاء مؤسّسات «ماكنزي» و«ديلويت جنوب أفريقيا» وKPMG التي يعترف رئيسها التنفيذي بحماسه الشديد في رسالة إلكترونية مسرَّبة وجّهها إلى أعمام العروس قائلاً: «لم أرتد حدثاً كهذا قط، ولا أظنني سأفعل أبداً، لأن هذا كان حدثاً للألفية».

كان آتول أوَّل من هاجر من أبناء غوبتا الثلاث إلى جوهانسبرغ، حيث بدأ أعماله في مجال الكمبيوتر في 1994، قبل أن يلحق به سريعاً أخويه الأكبر والأصغر، آجاي وراجش «أو توني» غوبتا، بتشجيع السياسات الصديقة لرجال الأعمال التي أقرّتها حكومة حزب المؤتمر الوطني. استطاع آل غوبتا بناء علاقات مع سياسيي المؤتمر، واستثمروا في الإعلام والبنية التحتية والتليفزيون وتعدين الفحم واليورانيوم. وكان الابن الأصغر، راجش، شريكاً لدودوزان زوما، الذي أسهم بدوره في إدارة عدد من مشروعات غوبتا، ولم يكن وحده في ذلك، إذ استفادت أعمال آل غوبتا كذلك من خدمات دودوزيل، ومن خدمات إحدى زوجات جاكوب زوما شخصياً.

بعد سقوط زوما في 2018، خلُصت لجنة تقصّي الحقائق برئاسة القاضي راي زوندو إلى أن آل غوبتا مارسوا ضغوطاً وتهديدات، ودفعوا رشاوي لسياسيين وموظّفين مدنيين من أجل دعم أعمالهم بمساعدة الرئيس. وصف التقرير الطريقة التي نجح بها تحالف «الزوبتا»، بين آل غوبتا وآل زوما، في تغيير قادة المؤسّسات الحكومية، وتوجيه عقود بمليارات إلى شركات يملكونها سرّاً أو علانية. على سبيل المثال، حصلت شركة صورية مملوكة لآل غوبتا على العقود الخاصّة بمزرعة دواجن مُخصّصة لتقديم الوظائف والغذاء للمجتمعات الفقيرة، لتعيد هذه الشركة تحويل مدفوعات المنحة إلى حسابات بنكية سرّية في الإمارات، وبينما كانت الحيوانات تموت جوعاً في المزرعة، أنفق آل غوبتا هذه النقود على حفل زفاف فيغا. ربما تكون هذه الواقعة الأكثر وقاحة بين مظاهر استيلاء آل غوبتا على الدولة، لكنها ليست الواقعة الأهمّ، فقد تمكّنوا كذلك من تثبيط قدرة مصلحة الضرائب الجنوب أفريقية على جمع الضرائب، وتسبّبوا في إفلاس مشاريع مملوكة للدولة، مثل إسكوم، وشركة الطيران الجنوب أفريقية، وشركة «دينيل» للأسلحة، وتمكّنوا من نهب نحو 32 مليار دولار، أي 10% تقريباً من إجمالي الناتج القومي السنوي لجنوب أفريقيا، بحسب الرئيس الحالي سيريل رامافوزا.

سجّلت «كاي بي أم جي»، المسؤولة عن تدقيق حسابات آل غوبتا، تكاليف زفاف فيغا غوبتا باعتبارها «مصروفات عمل»، أمّا «بي دبليو سي» التي كانت تدقّق حسابات شركة الطيران الجنوب أفريقية، فأعلنت أن الشركة التزمت بالقانون والتنظيمات، فيما كانت في الواقع تتعرّض لسوء إدارة وسرقة من شركات صورية للزوبتالقد وجدوا في سبيل هذا دعماً كبيراً. يشير تقرير اللجنة إلى تورّط شركات الخدمات والاستشارات العابرة للقارات في فضيحة الزوبتا. على سبيل المثال، عملت شركة بل پوتينغر على حملة «تحرير اقتصادي» باسم آل غوبتا ودودوزان زوما، هاجمت فيها ما أسمته «رأس المال الاحتكاري الأبيض»، الذي يبدو أنه يختلف عن رأس المال الاحتكاري الملوَّن لآل غوبتا. سبق أن كانت بل پوتينغر، التي أفلست الآن، مستشار علاقات عامّة لأشخاص ومؤسّسات كريهة السمعة، من بينوشيه وأسماء الأسد، وصولاً إلى لوكاشينكو وحكومتي مصر والبحرين. أمّا «ساب»، وهي أكبر شركة برمجيات في أوروبا، فكانت تدفع الرشاوي لإحدى الشركات التابعة لآل غوبتا من أجل حقّ استخدام برمجيّاتها لخدمة العملاء في وزارة الريّ والصرف الصحّي الجنوب أفريقية. وأعادت شركة «باين وشركاه» للاستشارات تنظيم عمل مصلحة الضرائب الجنوب أفريقية بطلب شخصي من زوما، الذي كان يقابل أحد شركاء إدارة الشركة باستمرار، وكانت ثمرة إعادة التنظيم هذه فصل عدد من الموظّفين الأكفاء وتقليص قدرة المصلحة على إجراء التحقيقات. كانت KPMG مسؤولة عن تدقيق حسابات آل غوبتا لنحو 15 عاماً، وقد سجّلت تكاليف الزفاف باعتبارها «مصروفات عمل»، أمّا PWC التي كانت تدقّق حسابات شركة الطيران الجنوب أفريقية، فأعلنت أن الشركة التزمت بالقانون والتنظيمات، فيما كانت في الواقع تتعرّض لسوء إدارة متعمّد ونهب من الشركات الصورية للزوبتا، قبل أن تعلن إفلاسها في 2019.

أشار تقرير زوندو كذلك إلى المستشارين الاستراتيجيين لشركة «ماكنزي وشركاه» في ما يتعلّق بواقعة شركة الطيران. فمن الاتهامات التي وجَّهها التقرير لإدارة الشركة أنها «استعانت بمقدِّمي خدمات خارجيين على الرغم من حيازتها للكفاءات الضرورية والمُدرّبة في مختلف الإدارات، وهذه الاستعانة بمقدِّمي الخدمات الإضافيين كان عادة وسيلة لازدهار الفساد». تعاونت «ماكنزي جنوب أفريقيا» كذلك مع اثنين من شركات آل غوبتا الصورية، وهما «ريجيمنتس كابيتال» و«تريليان كابيتال بارتنرز» من أجل ضمان العقود الخاصّة بكلّ من شركتي السكّة الحديد والكهرباء. وفي كلّ مرّة، كان ممثّلي الزوبتا في الشركات المملوكة للدولة يعملون جنباً إلى جنب مع شركات آل غوبتا، ويساعدونهم في تقديم المناقصات، ويعرّفونهم بمنافسيهم من المناقصين، ويلجؤون إلى أنظمة رواتب غير مألوفة من أجل المبالغة في مكافأتهم. كل مشروعات البنية التحتية، خصوصاً عندما تموّلها الدولة، تكون مربحة جدّاً للمستشارين والمخطِّطين والمصمّمين والمهندسين، وعلى الرغم من الادعاءات المستمرّة بأن هذه المشاريع تبدأ وتنتهي من دون استشارة أحد، فإن الدولة لا تكفْ في الواقع عن استشارة أمثال هذه الشركات، التي تزدهر بدورها، وتعمل في رغد.

فتحت ماكنزي، التي تأسّست في شيكاغو في 1926، أوّل مكاتبها خارج الولايات المتّحدة في لندن عام 1959، وسرعان ما عملت على مشاريع في «بي بي سي»، والسكّة الحديد البريطانية، ومصلحة البريد، وهيئة الخدمات الصحّية، وبنك إنكلترا. طُلِب من الشركة أن تعيد التنظيم تارةً، وأن تجد مواطن الكفاءة تارةً، وأن تنتج فائضاً مالياً تارة أخرى، وقد ساعدت «ماكنزي» في تأميم شركة حديد بريطانيا، ثم ساعدت بعد ذلك في خصخصتها. وفي 1967، طلبت إدارة أحواض السفن البريطانية من «ماكنزي» أن تكتب لها تقريراً عن التحوّل إلى نظام النقل بالحاويات. كان عمّال الموانئ في لندن وليفربول مُضربون طوال هذا العام في محاولة لجعل ظروف التوظيف أقل اعتباطية. وهكذا قال وزير العمل آنذاك راي غونتر أمام البرلمان:

«إن ثمة إضراب شامل تقريباً لعمّال الموانئ في ليفربول وبيركنهيد منذ 18 أيلول/ سبتمبر. وصل الإضراب في لندن كذلك إلى موانئ رويال غروب، وموانئ الهند الغربية، وموانئ ميلوال، وبدرجة أقل إلى موانئ لندن وسانت كاترين. تضمّ هذه الإضرابات غير الرسمية نحو 16 ألف عامل، وقد تسببت في تعطيل كبير للتجارة، وخصوصاً حركة التصدير».

اقترحت ماكنزي في تقريرها أن التحوّل إلى نظام النقل بالحاويات سيكون ذا أثر ملطّف على قوّة عاملة مضطربة، كانت مطالباتها بتحسين الأجور وظروف العمل تؤدّي إلى تآكل أرباح شركات النقل وإدارة الموانئ. جادلت ماكنزي بأن التحوّل إلى نظام الحاويات سوف يؤدّي إلى توظيف «الموارد بصورة أفضل، عن طريق تحسين لوجستيات الشحن»، وعلاوة على ذلك، «يمكن الاستثمار في المعدّات لتحل محل العمالة الأغلى كلفة»، وبهذا لن يمثّل تقليل العمالة قيمة إضافية فقط، وإنّما سوف يلغي كذلك العامل الإنساني غير المتوقّع من المعادلة.

لم يكن غريباً أن نعمل لسبعين أو ثمانين ساعة في الأسبوع، تعلّمنا تصميم البرمجيات في الأثناء، لكنّنا لم نتعلّم الكثير عن تفاصيل عمل «يو أس إي أي»، مع أن برنامجنا كان يهدف للحلّ محلّ موظفيهمالتحقتُ بشركة أندرسن للاستشارات في مكتبها في هيوستن فور تخرّجي بدرجة بكالوريوس الهندسة في العام 1991. كانت شركات الاستشارات تزور الجامعات مع قدوم فصل الربيع، لاستقطاب الخرّيجين المميزين ذوي الدرجات المرتفعة. أخذوا من جميع التخصّصات، بدءاً من خرّيجي الهندسة وحتّى خرّيجي اللغة الإنكليزية، على أن خرّيجي الكليات التقنية كانوا يبدؤون العمل برواتب تبلغ 27 ألف دولار سنوياً، أكثر ببضعة آلاف من خرّيجي الإنسانيات. وفي الثمانينيات والتسعينيات، كانت الشركات «الست الكبار» («الثمانية الكبار» سابقاً، و«الأربعة الكبار» لاحقاً)، المتخصّصون في المحاسبة والخدمات الاحترافية، يملكون جميعاً إدارة استشارية سمحت لهم بتزويد عملائهم بالنصائح الاستراتيجية وخدمات البرمجيات، بالتوازي مع مهامهم الأصلية المتعلّقة بالتدقيق المحاسبي والضرائب. كانت أندرسن للاستشارات هي الوحيدة آنذاك التي خرجت من رحم شركتها الأم، «آرثر أندرسن»، باسم يختلف اختلافاً طفيفاً.

كان الموظّفون الجُدد لأندرسن للاستشارات يُنقلون إلى مخيّم للبرمجة في سانت تشارلز، إحدى ضواحي شيكاغو. لم يمتلك أي منّا سيارة، لذا اضطررنا إلى قضاء الأسابيع الثلاثة قاطبة في الحرم الجامعي، حيث كنّا نعمل ساعات إضافية، ونثمل حتى الإغماء، ونتعانق سرّاً في عتمة السلالم ومداخل البنايات. لم يهدف المخيّم إلى تعليمنا لغة برمجة فقط (إذ ستنتهي صلاحية «كوبول» (COBOL) بعد فترة وجيزة على أي حال)، ولكنّه كان أقرب إلى عملية تعويد – أو ربما تلقين – على العمل لساعات طويلة جداً، وعلى الظهور بهيئة تعكس القدرة والثقة. عدنا جميعاً بعد ذلك إلى مكاتبنا، ومن هناك تحرّكنا مجدّداً إلى مواقع عملائنا. تمنّى الكثير منا لو أمكنه العمل في مكاتب نيويورك أو شيكاغو، لكن الوظائف هناك كانت محجوزة لخرّيجي جامعات القمّة، أما المكاتب المحلّية فكانت تخدم الأعمال المجاورة لها إقليمياً، ولا تزال هذه الممارسة قائمة حتى اليوم.

أول عملائي مع أندرسن كان «USAA»، وهي شركة تأمين تخدم الجيش الأميركي وقدامى المحاربين وأسرهم مقرّها سان أنطونيو. كنّا نعد لهم برنامج حاسب لخدمة العملاء، نبنيه من الصفر، وكان فريقنا مكوّناً من نحو 24 مستشاراً غيري. لم نحصل على أجور كبيرة، مع أن العميل كان يدفع للشركة مئات الدولارات في الساعة عن كلّ منّا. وقد عملنا لساعات طويلة. لم يكن غريباً أن نعمل لسبعين أو ثمانين ساعة في الأسبوع، تعلّمنا تصميم البرمجيات في الأثناء، لكنّنا لم نتعلّم الكثير عن تفاصيل عمل «USAA»، مع أن برنامجنا كان يهدف للحلّ محلّ موظفيهم.

كنا نتوقع تدويراً سريعاً وشاملاً للعمالة في أندرسن، فإذا لم تكن قد حصلت على ترقية في آخر عامين، لكي تحمل لقب «سينيور»، فعلى الأرجح سوف تتعرّض للإزاحة من الشركة بهدوء. عندما قابلت مستشاراً آخر لأندرسن في أتلانتا، انتقلت للعيش هناك ووجدت وظيفة مُشابهة في «برايس ووترهاوس»، الذي اندمج لاحقاً مع «كوبرز وليبراند» كي يصبح «PwC». كنت أتولّى مشاريع تصميم برمجيات خدمة العملاء لشركة الهواتف النقّالة المحلّية، وتصميم أنظمة التوزيع والإعلان لجرائد متوسّطة الحجم تابعة لتومسون رويترز في أميركا الشمالية، وأخيراً، ورّبما أفضل شيء، تصميم برمجيّات للمواعدة في عصر ما قبل الإنترنت، مجهّزة للاستخدام في الأكشاك من الباحثين عن الحب.

بينما اشتدّت حدة الحرب الباردة، كانت شركات الاستشارات تلعب دوراً طليعياً في الصراع لصالح النظام الرأسمالي.
بعد أن تركت أندرسن بسنوات عدّة، غيّرت الشركة اسمها إلى «أكسنتور». كان نزاعاً تجارياً قد اندلع بين أندرسن للاستشارات، وبين شركتها الأمّ المتخصّصة في التدقيق المحاسبي، «آرثر أندرسن»، عندما أنشأت هذه الأخيرة مجموعة استشارية خاصّة بها، أصبحت منافساً لأندرسن للاستشارات. تدخّل محكّم تجاري بعد ثلاث سنوات، وقرّر قطع العلاقة بين الشركتين، وفي 2001 اضطرت شركة الاستشارات للتخلّي عن اسم أندرسن. وبعد ذلك بعدة أشهر فقط، سيبدو التخلّي عن الاسم وإعادة تصميم البراند التي كلفت 100 مليون دولار نعمة من السماء، لأن آرثر أندرسن كانت وقتئذ تدقّق حسابات شركة «إنرون» بإهمال كارثي أدّى بالشركتين إلى الإفلاس.

عندما بدأت بالعمل لصالح أندرسن للاستشارات، كنت واحدة من بين 21 ألف موظّف. اليوم يعمل في أكسنتور 721 ألف مستشار حول العالم، ولدى الشركة 10 آلاف شريك إداري، وهي مصنّفة في بورصة نيويورك. يعمل القسم الأعظم من الموظّفين في مجال تثبيت البرمجيات، التي تصمّمها عادة شركات متخصّصة مثل «أوراكل» و«ساب»، أو يتولّون مسائل تخزين البيانات والبنى التحتية من البرمجيات للشركات الكبرى والحكومات.

في الولايات المتّحدة وخارجها، يعمل «الأربعة الكبار» للخدمات الاحترافية، وكذلك أكسنتور، مع شركة «بوز ألن هاملتون»، التي تقدّم استشارات تقنية للحكومات أساساً، بما في ذلك الجيوش وأجهزة الاستخبارات. كان إدوارد سنودن، الذي سرب في 2013 كنزاً من استخبارات الإشارات، وفضح برامج المراقبة الأميركية داخل البلاد وخارجها، مستشاراً لبوز ألن هاملتون في وكالة الأمن القومي الأميركية، وقبلها عميلاً للسي آي إيه. ساعدت بوز ألن كذلك حكومة الإمارات في بناء جهاز استخباراتها، بدعم من الاستخبارات الأميركية، وقدّمت للإماراتيين دروساً في «تنقيب البيانات ومراقبة الويب وغير ذلك من صور الاستخبارات الرقمية»، لكي يستطيعوا، على سبيل المثال، مراقبة تحركات إيران بصورة أفضل.

كان مجال استشارات الإدارة في صوره المختلفة ابناً غير شرعياً لكلّ من مفهوم فريدريك تايلور عن «الإدارة العلمية» وتخطيط السكك الحديد المهووس هندسياً في عصر الكولونيالية الأميركية. ينحدر المخطّطون الاستراتيجيون ذوو المناصب الرفيعة في هذه الشركات من الرافد الأول، فيما يجيء مطوّرو البرمجيات في المكاتب الإقليمية من الرافد الثاني. اشتملت الأعمال الاستراتيجية لهذه الشركات في سنواتها الأولى على الاستشارات المتعلّقة بأجور المديرين، واستبيانات التسويق للمنتجات، وإعادة هيكلة الشركات، ومسائل الميزانية والتشغيل. وعلى الجانب الخاص بالهندسة والمسائل التقنية، تركت الأنظمة الكبيرة والمعقّدة مثل منتجي الطاقة وشركات السكّة الحديد والنقل البحري أنفسها لمجموعة من المتحذلقين ومدّعي المعرفة العلمية، الذين قدّموا لها، مقابل أجر محترم بالطبع، أدلة إرشادية للكفاءة والنمو الاستراتيجي والنجاعة التشغيلية، تحميها قوانين الملكية الفكرية. كان الهدف هو تحصيل أقصى أرباح مُمكنة، وإثراء المديرين والمساهمين، وتقييد النشاط العمّالي. أما خارج الولايات المتّحدة، بينما اشتدّت حدة الحرب الباردة، كانت شركات الاستشارات تلعب دوراً طليعياً في الصراع لصالح النظام الرأسمالي. أشاد تقرير لنيويورك تايمز في العام 1960 بقدرات الشركات الأميركية التي كانت تنتج وتبيع «بحماس عدواني» النصائح المتعلّقة «بأي تخصّص تعرفه؛ السدود، أو المنسوجات، أو الإدارة بصورة عامّة». يقول تقرير التايمز: «بالإضافة إلى استخدامهم من قبل الشركات الأميركية التي تسعى للعمل في أسواق خارجية جديدة، فإن الاستشاريين مطلوبون كذلك بين أصحاب المصلحة الأجانب الذين يودون مقاومة هذه الشركات».

في بورتو ريكو، عملت آرثر دي ليتل لصالح الإدارة الأميركية الكولونيالية، واشتركت في إنشاء منطقة صناعية بعيدة عن تنظيمات وقوانين العمل في 1947، أصبحت هذه المنطقة الصناعية بعد ذلك نموذجاً عالمياً لمناطق تجهيز الصادرات أو المناطق الحرّة.كانت أوائل الشركات التي افتتحت مكاتبها في أوروبا (ماكنزي، وبوز ألن هاملتون، وآرثر دي ليتل) يخدمون شركات أخرى فقط في البداية، لكنهم عملوا كذلك مع الحكومات في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. في بورتو ريكو، عمل ريتشارد بولين من آرثر دي ليتل لصالح الإدارة الأميركية الكولونيالية، واشترك في إنشاء منطقة صناعية بعيدة عن تنظيمات وقوانين العمل في 1947، سماها «مشروع بوتستراب». أصبحت هذه المنطقة الصناعية بعد ذلك نموذجاً عالمياً لمناطق تجهيز الصادرات أو المناطق الحرّة. طوّر بولين استخدام «الماكيلادورا» في سيوداد خواريز على الحدود المكسيكية الأميركية، وتزايد عدد هذه المصانع بصورة هائلة بعد توقيع اتفاقية التجارة الحرّة الأميركية في 1944، وتشتهر تلك المصانع بظروف عملها الاستغلالية، وقد خلّد روبرتو بولانيو حوادث قتل النساء البشعة فيها، خصوصاً من العاملات والناشطات، في روايته العظيمة 2666.

كان عملاء بوز ألن هاملتون في خمسينيات القرن الماضي يعكسون مصالح الولايات المتّحدة في الحرب البادرة. كان العميل السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية، مايلز كوبلاند، وهو والد عازف الدرامز في فريق «ذا بوليس»، ستيوارت كوبلاند، قد وُظف من قبل بوز ألن فور انتهائه من تخطيط انقلابات في سوريا وإيران، وفي 1952، أرسل إلى مصر في مهمة كُلف بها من قبل الاستخبارات وبوز ألن في الآن معاً. كان عمله في بوز ألن يتطلّب منه عمل مسح لممتلكات البنك القومي المصري، فيما أرادت منه وكالة الاستخبارات أن يساعد الرئيس جمال عبد الناصر في إنشاء وكالة جديدة للاستخبارات. في العام نفسه طُلب من بوز ألن أن تنشئ سجّلاً لملكيات الأراضي في الفلبين، حيث كان إدوارد لانسديل، من وكالة الاستخبارات الأميركية، ينظّم مهمّات سرّية ضد انتفاضات فلّاحي الهوكبالاهاب المعدمين. وفي مواجهة المطالب الشيوعية والمناهضة للاستعمار لمصادرة أراضي كبار الملاك، بما فيهم الشركات الأميركية، عملت شركات الاستشارات بدلاً من ذلك على تسويق منافع الإصلاح التدريجي، بما في ذلك توزيع قطع صغيرة من الأراضي لتهدئة الضغط الثوري.

في 1957، طلبت «رويال داتش شل»التي كانت وقتئذ أكبر شركة نفط في العالم، من ماكنزي، أن تعيد تصميم الإدارة بطريقة لا مركزية في مقرّي الشركة في لاهاي ولندن. كان نموذج فكّ المركزية يُقابل بالحماس في كلّ مكان، حتّى أنه وصل إلى الجامعات الأميركية، وبحلول السبعينيات، كانت شركات الاستشارات الكبرى قد «أعادت تصميم معظم الشركات الكبيرة في أوروبا على نمط لا مركزي»، بحسب تعبير مؤرخ شركات الاستشارات، كريستوفر ماكنا. ومن أجل أن تحافظ هذه الشركات على أرباحها، بدأت في التحوّل نحو المؤسّسات الوطنية الكبيرة، لإعادة هيكلة القطاعات الحكومية وإجراء الدراسات الصناعية وتقييم الأسواق العالمية.

وكانت هذه الشركات تنجح حتى عندما تفشل. يكتب والت بوغدانيش ومايكل فورسايث أن إشراف ماكنزي على إعادة هيكلة هيئة الخدمات الصحية الوطنية في 1974 لم يؤدِّ إلّا إلى طوفان من الأوراق وفوضى بيروقراطية، لكن مع ذلك أعيد استخدامهم مرّة تلو أخرى من الحكومة البريطانية، من أجل تقليل العمالة وتنظيم إعادات للهيكلة لم يرحّب بها أحد لكنّها ضاعفت طبقة متوسّطي المديرين. وفّرت تلك الشركات حججاً ممتازة لأيديولوجيي الدولة، على سبيل المثال، قدّم توسّع الخصخصة في عهد تاتشر باعتبار أن الدافع منها هو الحاجة لإدارة جيّدة. ونما عمل ماكنزي في عهد حزب العمّال الجديد، وزادت وتيرته. لاحقاً، سينضمّ بيني داش، مستشار توني بلير الخاص بهيئة الخدمات الصحية الوطنية، إلى ماكنزي، فيما سيصبح أحد شركاء ماكنزي الكبار، وهو ديفيد بينيت، كبير مستشاري توني بلير للسياسات، وبعدها المدير التنفيذي لمؤسسة «مونيتور»، المشرفة على هيئة الخدمات الصحية. إن الممرّات المفتوحة دائماً بين ماكنزي ومؤسسات المراقبة الإشراف وواضعي السياسات وأصحاب الأعمال، هي خاصية أساسية لعالم الاستشارات.

كان العميل السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية، مايلز كوبلاند، قد وُظف من بوز ألن فور انتهائه من تخطيط انقلابات في سوريا وإيران، وفي 1952، أرسل إلى مصر في مهمة كُلف بها من قبل الاستخبارات وبوز ألن لعمل مسح لممتلكات البنك القومي المصري، ومساعدة عبد الناصر في إنشاء وكالة جديدة للاستخباراتكتاب بوغدانيش فورسايث هو حكاية مخيفة عن الطريقة التي جعلت ماكنزي بها بيئات العمل غير آمنة، ودمّرت وسائل حماية المستهلكين، وشلّت المؤسّسات الرقابية، وخرّبت منظّمات الرعاية الصحّية والاجتماعية، ونهبت المؤسّسات العامة، وضاءلت القوى العاملة بصورة هائلة فيما رفعت معدل استغلال العمّال. يبدأ الكتاب بسرد مشروع ماكنزي لتخفيض النفقات في شركة الحديد الأميركية، التي ترتّب عليها موت عاملين، ثمّ يحكي الطريقة التي أدّت بها إجراءات مماثلة في «ديزني» إلى مقتل شاب في أحد ألعاب ديزني لاند. وبعد عقود من فهم الناس لآثار التدخين، استمرّت ماكنزي في العمل لصالح منتجي التبغ الكبار، وفيما كان الستار يُرفع عن وباء المخدرات الأميركي، اقترحت ماكنزي على «بيرديو فارما» أن تحدّد مناطق الانتشار حيث يمكنها تسويق مسكّنات «أوكسي كونتين» بصورة أسهل، وفي الوقت نفسه سعت للضغط على أجهزة التنظيم من أجل تخفيف قواعد كتابة الأدوية. يحتشد الكتاب بهذه الأمثلة وغيرها من سلوكيات ماكنزي غير الأخلاقية، بينما يتشدّق خطابها بمصطلحات «القيم» و«الخدمة» كأنها الطبل، صوت عال وجوف خال.

السلعة الأساسية لشركات الاستشارات هذه، سواء من يطوّر البرمجيات أو من يتولّى التنظيم الاستراتيجي، هو لاهوت رأس المال. أول عقائد هذا اللاهوت أن العمّال بلا ثمن، يمكن استبدال الآلات بهم، ويمكن إحلال عمّال آخرين محلهم، يكونون أكثر عرفاناً لأنهم لم يتعرضوا للفصل في دورة التخفيض الأخيرة. العقيدة الثانية أن وجود المديرين جوهري لعمل الشركات، أو الجامعات، أو المنظمات غير الربحية، وأن زيادتهم دائماً أفضل. ساعات العمل الطويلة وريادة أعمال «البوتستراب» هي ما يجعل للحياة معنى. حكم الجدارة شيء حقيقي، والتجارة الحرّة، ورأسمالية عدم التدخّل، وكبح القوانين والتنظيمات، كلّها خطوات أساسية للوصول إلى عالم السوق الحرة المثالي. ثمة عقيدة أخرى مفادها أن هذا العمل يسهم في «خلق تغيير إيجابي ودائم في العالم»، بحسب تعبير ماكنزي تحت عنوان «رسالتنا».

الكثير من عقود هذه الشركات الأعلى ربحاً تكون مُبرمة مع حكومات تمرّ بأزمات حادة. الخدمات الصحية في أثناء جائحة كوفيد مثلاً كانت مصدراً رهيباً للربح، وقد بين تقرير لمنصة «برو بابليكا» منشور في تموز/ يوليو 2020 أن ماكنزي كانت تحقّق أرباحاً تبلغ «100 مليون دولار (وزيادة) مقابل تقديم الاستشارات لحكومة الولايات المتّحدة في استجابتها المتعثّرة لفيروس كورونا»، ومع هذا لم يكن واضحاً «ما الذي جنته الحكومة بالضبط مقابل هذه الأموال». في الوقت نفسه تقريباً، دفعت حكومة المملكة المتحدة لماكنزي 560 ألف جنيه إسترليني مقابل مشروع مدّته ستة أسابيع لكتابة «الرؤية والرسالة» لبرنامج التتبع والمسار الذي كانت ترأسه دايدو هاردنغ، وهي من حملة الألقاب الشرفية المحافظين، وكانت سابقاً مستشاراً في ماكنزي. هذا بينما كان زوجها، جون بنروز، وهو مستشار سابق آخر في ماكنزي وعضو محافظ في البرلمان، «زعيمَ مكافحة الفساد» في وزارة الداخلية. ظهر بنروز في مانشيتات الجرائد وقت الجائحة بسبب محاولته تمرير العفو لأوين باترسون ، وهو عضو برلمان محافظ آخر، مارس ضغوطاً سياسية غير قانونية لصالح شركة خاصة في مجال اختبارات فيروس كورونا.

بحلول أيار/ مايو 2021، كانت الحكومة البريطانية قد دفعت أكثر من 600 مليون إسترليني لشركات الاستشارات في مشاريع مُرتبطة بالجائحة، وأضخم هذه التكاليف هي قيمة عقد «ديلويت» التي بلغت 279 مليون إسترليني، لإنتاج نظام تتبع ومسار. أما أكسنتور وماكنزي فكان ثمّة 32 عقداً في ما بينهما، لكن الكثير من تفاصيل هذه العقود لم تُكشف بعد. وفي هذه الأثناء، دفعت هيئة الخدمات الصحية الوطنية الرقمية، وهي مقدّم الخدمات المعلوماتية الرسمي لهيئة الخدمات الصحية، 15% من ميزانيتها في 2018-2019 إلى أكسنتور في مشاريع للبرمجيات. كان رئيس الهيئة في هذا الوقت، وواحد من مديريها غير التنفيذيين، موظّفين كبار سابقاً في أكسنتور. وفي أيلول/ سبتمبر 2021، تلقّت أكسنتور قرابة 2,6 مليار استرليني من العقود مع الحكومة البريطانية من أجل استشارات البرمجيات والمعدّات وتكنولوجيا المعلومات.

كان نموذج فكّ المركزية يُقابل بالحماس في كلّ مكان، حتّى أنه وصل إلى الجامعات الأميركية، وبحلول السبعينيات، كانت شركات الاستشارات الكبرى قد «أعادت تصميم معظم الشركات الكبيرة في أوروبا على نمط لا مركزي».يقدّم أحد المواقع الحكومية الأميركية على الإنترنت عدد العقود الفيدرالية التي عُقدت مع مختلف الجهات. بالنسبة إلى بعض شركات الاستشارات، فقد ارتفعت قيمة هذه العقود بصورة مستقرة منذ 2009. يظهر الرسم البياني ارتفاعات حادّة في عقود ماكنزي وبوسطن للاستشارات وبوز ألن هاملتون في أثناء ولاية ترامب. دفع جهاز الأمن الداخلي الأميركي والبنتاغون لهذه الشركات بسخاء من أجل «تشغيل تصميم متمركز حول الإنسان»، وتطوير «ثقافة للتحسن المستمرّ»، وغير ذلك من الرطانة الإدارية عديمة المعنى المرصّعة بالألغاز. في كثير من الحالات، توسم هذه العقود بأنها «عرض من مصدر واحد»، بمعنى أن المتعاقد لم يبحث عن مناقصات من جهات منافسة. عقدان من هؤلاء المعقودين مع وكالة المشتريات التابعة للحكومة الأميركية، والتي ترتّب على إثرها أن ربحت ماكنزي مليار دولار بين 2006 و2019. وألغيا في النهاية لأن الشركة رفضت تسليم تدقيق للحسابات.

أمّا أكثر عقود ماكنزي إثارة للجدل مؤخّراً في الولايات المتحدة، فهو العقد المبرم مع وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك، وكان قد اقتُرح أولاً في ولاية أوباما، ثم عُقد من أجل إعادة هيكلة المؤسّسة، لكن مع قدوم ترامب، أصبح للمشروع طبيعة مختلفة تتمثّل في مساعدة الوكالة على إيقاف «الهجرة غير الشرعية». اقترح تقرير ماكنزي المرفوع إلى الوكالة إجراءات لتخفيض النفقات، من بينها تخفيض ميزانيات الغذاء والرعاية الطبية في مؤسسات الاحتجاز، بالإضافة إلى تسريع وتيرة الإجلاء. حصلت ماكنزي كذلك على عقود مع هيئة الجمارك وحماية الحدود من أجل مشاريع «لدعم قدرة الاعتراض والإعاقة» و«برامج لتثبيط الدخول غير القانوني للبلاد». بل إن موضوع أحد العقود كان كلمة واحدة بسيطة: «حاجز». عندما اشتكى المستشارون الأصغر والأقرب لليبرالية في ماكنزي من تولّي الشركة علنياً العمل الوسخ للرئيس المتطرّف في كرهه للمهاجرين، ردّ الشريك المسؤول برسالة مجمّلة عبر البريد الإلكتروني للشركة، يذكِّر العاملين بمن هو رئيسهم.

أما خارج الولايات المتّحدة وأوروبا، فقد انحازت ماكنزي وبوسطن للاستشارات وبوز ألن هاملتون جميعها لصالح محمد بن سلمان، الذي احتكر دفة الحكم في السعودية منذ أصبح أبوه ملكاً في 2015. لكن أعمال بوز ألن في المملكة تسبق هذا التاريخ، ففي 2012، أرسلتها حكومة الولايات المتحدة لإعداد وإرشاد القوات البحرية السعودية. وكذلك لدى الشركة عقداً لتدريب قوات السعودية للحرب الإلكترونية، خصوصاً في مجال «العمليات المعلوماتية».

زوّدت ماكنزي وبوسطن للاستشارات ولي العهد السعودي برطانة الكفاءة الرأسمالية، وقد أصبحت الشركة متداخلة مع عمل الحكومة السعودية إلى حد أن وزارة التخطيط أصبحت تُعرف باسم وزارة ماكنزي. كانت ماكنزي مسؤولة كذلك عن تقرير بشأن التلقي السلبي لسياسات بن سلمان، وقد نشرت في هذا التقرير معلومات مفصّلة عن نقّاد النظام السعودي مع صور لهم. وقد قبضت السلطات السعودية على خالد العلكمي، وقد كان من بين النقّاد الواردين في التقرير، قبل صدور التقرير في 2018. ثم بدأ الهجوم على عمر عبد العزيز، وهو ناقد آخر للنظام مقيم في كندا، بسبب نشره «لعدد من التغريدات السلبية في مواضيع مثل التقشّف والمراسيم الملكية». قُبض على أخوي عبد العزيز في السعودية، واستُخدم برنامج بيغاسوس، الذي تبيعه شركة الاستخبارات الإلكترونية الإسرائيلية «NSO» بصورة واسعة للحكومات العربية القمعية، في التجسّس على هاتف عبد العزيز. كان جمال خاشقجي من بين هؤلاء الذين يتواصل معهم عبد العزيز باستمرار، وقد قتل في القنصلية السعودية في إسطنبول في 2018.

كتاب بوغدانيش وفورسايث هو حكاية مخيفة عن الطريقة التي جعلت ماكنزي بها بيئات العمل غير آمنة، منها مشروع تخفيض النفقات في شركة الحديد الأميركية التي ترتّب عليها موت عاملين، وكذلك الطريقة التي أدّت بها إجراءات مماثلة إلى مقتل شاب في أحد ألعاب ديزني لاندفي 2016، صحب موظّفو ماكنزي وبوسطن للاستشارات خمساً من حاشية محمد بن سلمان في جولة أميركية، حيث أغرق هؤلاء شباب المهندسين ورجال مراكز البحوث وأساطين الإعلام بحديث طويل عن خطط بن سلمان للمملكة. بعد هذا بفترة وجيزة، سوف يكتب توماس فريدمان في نيويورك تايمز قطعة حماسية عن بن سلمان يقول فيها: «أتمنّى نجاحه عن نفسي». رسمت ماكنزي كذلك الخطوط العريضة لرؤية 2030 الخاصّة بالمملكة العربية السعودية، وهي باختصار كرنفال للخصخصة، والإبداع التقني، وقلقلة السوق، وغير ذلك من التفاهات المكررة، ثم أنتجت بوسطن للاستشارات التقرير الأخير. وتُعد «نيوم» جوهرة تاج مشروع بن سلمان، وهي مدينة مستقبلية تُبنى قرب الحدود الأردنية شمال غرب السعودية، وفي العالم الواقعي هي فقط مورد لا ينضب للمستشارين الأجانب، أما في عالم الفانتازيا، فإن خطط نيوم التي خطتها ماكنزي وبوسطن للاستشارات وأوليفر ويمان تشتمل على سيّارات طائرة، وخدم آليين، ومدرسين هولوغراميين، وقمر عملاق مُصنَّع، وشاطئ تضيء رماله في الظلام، ومؤسّسة طبية تهدف إلى «تعديل الجينوم البشري وجعل الناس أقوى». هذا من دون ذكر «ذا لاين»، وهي زوج من البنايات بطول 105 أميال، مصمّم لاستيعاب 9 مليون إنسان. وبحسب المادة التسويقية فهي «ثورة في الحضارة».

تتضمّن الكثير من الملامح الموعودة لهذا المشروع نية واضحة لنزع البشر العاديين من المعادلة الاجتماعية، فالخدم الآليين وسيّارات الأجرة الطائرة ذاتياً لن تنظّم نقابات، والمدرسون الهولوغراميون لن يعطوا الأطفال أي أفكار ثورية. ها هو العالم الجديد الشجاع للانضباط العمّالي قد أصبح هنا بالفعل، بإشراف من شركات الاستشارات وإجراءاتها لتخفيض النفقات والإفلات من الرقابة والتنظيم. يشعر المرء بينما يقرأ كتاب بوغدانيش وفورسايث أنهما يريان في الشركات التي يكتبان عنها تفّاحاً فاسداً في سلّة سليمة. لكن المادة التي يستشهدان بها لا تترك موضعاً للشكّ في أن كلّ الخدمات التي تُقدم باعتبارها مساعدة للشركات والأعمال والجهات الحكومية من أجل العمل بصورة أكثر كفاءة، بما في ذلك خدمات شركات الاستشارات وتدقيق الحسابات وتطوير البرمجيات، كلها تهتمّ بإثراء الرأسماليين وزيادة أرباحهم بعيداً من التدخّلات المزعجة للعمالة ودافعي الضرائب والجهات التنظيمية. وبفضل النموذج المُهيمن الذي أنتجته ماكنزي وغيرها من شركات الاستشارات، فهذه الشركات لا تكتفي فقط باختراع وإعادة اختراع الأعمال والحكومات على هيئة أحلامهم الخاصّة بسوق من دون تدخّل، لكنّهم علاوة على ذلك يرون أن نموذج الإنسان الاقتصادي هو السطر الأخير في تاريخ الذات الحديثة.

نُشِر المقال في London Review of Books في 15 كانون الأول/ديسمبر 2022